موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
لا يصحُّ لي أنا الغريبُ المقيمُ في لبنان، أنْ أتحدَّثَ وأُحلّلَ وأُبدي رأيي فيما حدثَ ويحدثُ فيها هذهِ الأيَّام، فيكفي لبنانَ أهلُهُ الَّذينَ يتكلَّمونُ ويصرخون، لكنّي أودُّ أنْ أتأمَّلَ في الأحداثِ الأخيرةِ الَّتي عاشَها لبنان. بدأتِ القصَّةُ يومَ الثَّالثَ عشرَ مِنْ تشرينَ الأوَّل/ أكتوبر الماضي، عندما اندلَعَتِ الحرائقُ مُعلنةً رفضَها لما يحدثُ لهذا البلدِ العزيز. صورتانِ معزّيتانِ تولَّدتا فيَّ جرَّاءَ هذا المشهد المريع؛ الأُولى كانَتْ صورةَ طارق الطّيّب محمَّد بو العزيزيّ الَّذي أحرقَ نفسَهُ في تونِس في كانونُ الثَّاني/ يناير 2011، مُعلنًا بذلكَ نهايةَ حقبةٍ وانطلاقَ فترةٍ ربيعيَّةٍ عربيَّةٍ جديدةٍ حَلُمْنا جميعًا بأنَّها ستكونُ فترةَ التَّغييرِ في بلادِنا، ربيعَ يقظةِ الشُّعوبِ لتقومَ وتأخذُ مكانَها في صُنِعِ مستقبلها ومستقبلِ الأجيالِ مِنْ بعدِها. أمَّا الصُّورةُ الثَّانية، فكانَتْ صورةً بيبليَّة، صورةَ تجلّي اللهِ لموسى على جبلِ حوريب، صورةَ النَّارِ الإلهيَّةِ المضطرمةِ الَّتي "رأتْ مذلَّةَ الشَّعب، وسَمِعَتْ صُراخَه، وعَلِمَتْ بآلامِه، فنزَلَتْ لِتُنْقذَه" (خروج 3: 7).
فعلًا، بعدَ أيَّامٍ معدودةٍ وتحديدًا ليلةَ الخميسِ السَّابعَ عشرَ مِنْ تشرينِ الأوَّل/ أكتوبر، انتفضَ اللهُ ومعهُ جمهورٌ غفيرٌ مِنَ الشَّعبِ اللبنانيّ، قطعوا الشَّوارعِ وأقفلوا البلدَ مطالبينَ بالتَّغييرِ والحصولِ على كرامتِهم، انطلقَتِ الاحتجاجاتُ في معظمِ السَّاحاتِ اللبنانيَّة، مِنْ طرابلس، وصولًا إلى بيروتَ حتَّى صيدا وصور، انضمَّ العديدُ مِنَ طُلَّابِ الجامعاتِ والمدارسِ لهذهِ الاحتجاجاتِ على مدى أسابيعَ عديدة. بدأَ تدريجيًّا يظهرُ خطابٌ جديد: "إنَّهمُ ليسوا ثوَّار، إنَّهم مدعومونَ مِنَ السَّفارات"، "إنَّهم تابعون للحزبِ الفلانيّ يتظاهرونَ انتقامًا مِنَ الحزبِ العلتانيّ"... ولا يزالُ هذا الخطابُ حيًّا إلى الآن.
كلَّما أعلنَ النَّاسُ مطالبَهم ونزلوا السَّاحات، كُلَّما قسَّى اللهُ قلوبَ فراعنةِ لبنان (خروج 7: 13)، فهم كثيرون! ولم يستمعوا للنَّاس ولا لمطالبهم، ولا لاقتراحِ أيّ محاولةٍ للتَّغيير، فلمْ يكنْ إلَّا أنَّ بدأتِ الضَّربات. لقد ذكرَ الكتابُ المقدَّسُ عشرَ ضرباتٍ حلَّتْ في أرضِ مصر، إلى أنْ تحرَّرَ الشَّعبُ العبرانيّ ورَحَلَ مِنْ هناك، أمَّا هنا فلا نعلمُ إلى الآن مقدارَ الضَّرباتِ الَّتي ستحلُّ بلبنان؛ هوى الوضعُ الاقتصاديُّ نحوَ الحضيض، فقدَتْ العملةُ الوطنيَّةُ قيمتَها ولا تزالُ إلى الآن بلا سيطرة، فقدَ النَّاسُ مدَّخراتِ أعوامِ تعبهم وودائعهم، خسرَ الكثيرُ الكثيرُ وظائفهم، والبعضُ الآخرُ يقبضُ نصفَ راتبِهِ وأقل، سقطَ بعضُ الأبكارِ موتى أمامَ عيونِ نسائهمِ وعائلاتهم، وأخيرًا حلَّتْ ضربةُ كورونا الَّتي التهمَتْ الأخضرَ واليابس.
كُلُّ هذا يُعدُّ بسيطًا أمامَ أزمةٍ كُبرى يحياها اللبنانيُّون، فقدانُ الرَّجاء، ليسَ هناكَ مِنْ مستقبل، وهذا يعيشُهُ الجميعُ مِنَ الصَّغيرِ إلى الكبير؛ طلبةُ المدارسِ والجامعات، الَّذينَ لا يعلمونَ مصيرَ دراستهم، الموظّفونَ الَّذينَ يقبلونَ الفتاتَ المقدَّمَ لهم ليُعيلوا ذواتَهم وعائلاتَهم، والشَّبابُ الَّذي لا يملكُ أيَّ أملٍ لمستقبلٍ قريب، لا عملٌ ولا زواجٌ ولا حياة، والكهلانُ الَّذين أرادوا الرَّاحةَ في أواخرِ أيَّامهم يبدأونَ التَّعبَ مِنْ جديد لأنَّهم إمَّا حُجِزَتْ أموالُهم في البنوكِ أو إنَّهم لا يملكونُ أي ادّخارٍ يحيونَ مِنْ خلالِهِ ما تبقَّى مِنْ حيواتهم.
أمامَ كُلّ هذا الوضعِ المأساويّ الَّذي يعيشُهُ لبنان، لم يبقى أمامَنا إلَّا ذبيحةُ الفصح، ذبيحةُ النَّجاةِ والخروجِ والعبور، لقد قدَّمَ العديدُ مِنَ الشَّبابِ أرواحَهم حتَّى الآن، وخَسِرَ آخرونُ بصرَهم، ولا تزالُ قلَّةٌ قليلةٌ تؤمنُ بالثُّورة، فقدْ ابتلَعها زعماءُ الأحزابِ وتاجروا بها، وقدَّموا أنفسَهم على أنَّهم مُخلِّصي لبنان ومُنقذيه.
لا أملكُ أنا المغتربُ المقيمُ في لبنان، والَّذي لا يملكُ لا ذهبًا ولا فضَّةً إلَّا أنْ أقولَ معَ رُسِلِ المسيحِ القائمِ مِنَ القبر: "يا لبنان، أبرأكَ يسوعُ المسيح، فقُم وأصلِحْ فراشَكَ بيَدِك" (أعمالُ الرُّسل 9: 34).