موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
يسعى الإنسانُ دائمًا لأنْ يبدأ، وما إنْ يبدأ حتَّى يركضَ لاهثًا إلى النّهاية. يضعُ الإنسانُ نفسَهُ أمامَ هاتينِ الرَّغبتين، أمامَ أملٍ في بدايةٍ جديدةٍ وفرصةٍ جديدة، وأملٍ في نهايةٍ راضيةٍ مرضيَّة، وبينهما يهربُ تيَّارُ الحياة بسرعةٍ، لا يتكشَّفُ مجراهُ إلَّا لذوي القلوبِ الوديعةِ المتواضعة. إنَّ قلبَ الإنسان، وهو محطُّ رغباتِه وأشواقه، يتعلَّمُ دائمًا أنْ يبحثَ عَنْ هاتينِ المحطّتين، لكنَّه يتوهُ بينهما. يبدأ كُلَّ مرَّةٍ بعزيمةٍ بأنْ "سأعيشُ الحياةَ في ملئها"، وبعدَ بضعِ خطوات، يطلبُ النّهايةَ ليحظى بفرصةٍ ليبدأَ مِنْ جديد، فكيفَ لنا أنْ نحيا؟! ما السَّبيلُ إلى ذلك؟! "أُنظُروا إِلى الغِربانِ كَيفَ لا تَزرَعُ ولا تَحصُد" (لوقا 12: 24). إنَّها لا تنظرُ إلى البداية (لا تزرع) ولا تنتظرُ النّهاية (لا تحصد)، بل هي تحوم في السّماء، تبحثُ عَنْ طعامِها وقتَ جوعِها، وعندَ تعبِها ترمي بنفسِها تحتَ فَيء إحدى الأشجار، وعندَ ألمها تتألَّمُ حتَّى النّهاية، ووقتَ الحبّ تُقدّمَ نفسَها لذاكَ الَّذي مِنْ خلالِهِ ستستمرَّ الحياة، هي ببساطةٍ هي تحيا. "يا قليلي الإيمان" (لوقا 12: 28)، كونوا مثلَ الغربان، فهي تملكُ إيمانًا أكبرَ مِنْ حبَّة الخردل، لكنَّها لا تُريدُ بهِ أنْ تنقلَ الجبال، بل أن تحيا. إنَّنا نُلْبِسُ الحياةَ أوهامًا وأحلامًا وآمالًا، لكنَّها هي قائمةٌ هناكَ في ملئِها وحقيقتِها، عاريةٌ تفتحُ ذراعيها لِكُلّ مَنْ يبحثُ عنها، تطلبُ فقطْ أنْ نُلقي بذواتنا في أحضانِها. "سِرْ في العُرْض" (لوقا 5: 4)، اذْهَب، لا تخف، غامر، امضِ، ألقِ بنفسِك، عِشْ، تعلَّمْ أن تتقبَّلَ الألمَ كما الفرح، فكلاهما عطيَّةُ الحياة، تعلَّمْ الحبَّ كما تتعلَّمُ البغض، فكلاهما طريقٌ نحو قلبِ الحياة. عندها فقط، تختفي البدايات والنّهايات، هناك فقط يختفي الأملُ واليأس، تختفي حسرةُ الماضي وقلقُ المستقبل، فأنتَ غارقٌ في قلبِ الحياة، في قلبِ الله. عندها ستجدُ نورًا، تلمحُ فيهِ وجهَ ابنِ الحياة، وجهَ يسوع، وتُدركُ في أعماقِ كيانِكَ أنَّ هذا الوجهَ هو وجهُ الحياةِ ذاتِها، والَّذي سيغدو وجهَكَ أنتَ أيضًا، يرى مِنْ خلالِهِ الآخرون نطفةً مِنْ كيانِ الله.