موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٤ سبتمبر / أيلول ٢٠٢١

لأعمالِ يَديكَ أُرنّم

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
لأعمالِ يَديكَ أُرنّم

لأعمالِ يَديكَ أُرنّم

 

إيّها الإخوةُ والأخواتُ الأحبّاء في الْمسيحِ يسوع. قبل أن نخوضَ في غِمارِ النّصِّ الإنجيليّ لهذا الأحدِ الثّالثِ والعشرين من زمن السّنة، دَعُونا نَتَعرّفُ قَليلًا على جغرافيةِ المنطقة الّتي تدورُ فيها أحداثُ هذا الأحد. ولِكي نتعرّف عَليها، دعونا نَرجع إلى الوراء بضعةَ خطوات، وصولًا إلى بدايةِ الفصلِ الأوّل من بشارةِ مرقس.

 

فبعدَ اعتمادِه في مياهِ نهرِ الأردن جنوبًا، عن يدِ يوحنّا المعمدان، وخروجِه إلى البَرية، وَمُعاركتِه إبليس، والانتصارِ على تجارِبه (مرقس 9:1-13). نَرى يسوعَ يَعود إلى الجليل في الشّمالِ الفلسطيني. وهناك على ضفاف طبريا بحرِ الجليل، يختارُ تَلاميذَهُ الأوّلين، وَيُعلّم الجموعَ ويُلقي الأمثال، ويُحاجِجُ فُقهاءَ اليهود وزعماءَهم، ويجري عددًا من معجزاتِ الشّفاء وطردِ الشّياطين، وتسكينِ العاصفة وإطعامِ الجموعِ وإحياءِ الموتى...

 

كلُّ هذا حتّى وَصَلنا إلى الفَصلِ السّابع، الّذي بَدَأنا بِقِراءتِه الأحدَ الماضي. حيث اندَلَعَ الجدالُ في السُّنَن وفي مفهومِ الطّاهر والنَّجِس. بعد ذلك يخرجُ يسوع وَيمضي إلى نواحي صور، ثمّ يمرُّ بِصَيدا، ومجتازًا أراضي المدن العشر، كما يروي إنجيلُ هذا الأحد. وهي مناطقٌ تُعتَبر أَراضٍ نجِسة، تسكنها الأممُ الأغيارُ من غيرِ اليهود، الّذين كانوا مُتَيقِّنين من طهارتِهم، وَيَرون في كلِّ مَن هو غير يهودي (كَتلةَ نجاسة). ومَع ذلك يمضي المسيحُ إليهم، ويُجري شيئًا من أعمالِ النّعمة، مؤكِّدًا بذلك أَنّ رسالة الملكوتِ والخلاص الّتي أتى بها، هي رسالةٌ شموليّةٌ للجميعِ، دون استثناءٍ أو تمييزٍ أو احتكارٍ أو احتقار.

 

ومَا لَفتَ انتباهي في إنجيلِ هذا الأحد هو حَالة الرّجل، الّذي أجرى فيهِ المسيحُ عملَ نعمةٍ ورحمة، قَبل أن يَلْتَقيه، وحالتُه بَعدَ أن لَيقَهُ المسيح. فَالتّبدّلُ الّذي طَرَأَ على حالةِ هذا الإنسان، هو أَمرٌ مثيرٌ للاهتمام، وَجَدير بأنْ نقِفَ عِندَه، مُتَأمّلين فيه. فَقبلَ الّلقاءِ مع المسيح، كانَ الرّجلُ أَصَمًّا فاقدًا لحاسّةِ السَّمَع، مَعقودَ الّلسانِ لا يقدِرُ على الحديث. أمّا بَعدَ الّلقاءِ مع المسيح، أَصبحَ هذا الإنسانُ قَادرًا على الاستماعِ إلى كَلامِ النّعمة، طَليقَ الّلسان، بل أضحى بشيرًا، يُحدّثُ بأعمالِ الرّبِّ وَعجائِبِهِ الّتي صَنعَها له.

 

فَمِنْ إنسانٍ مَربوطٍ مُقيّد بِعَاهةٍ وإعاقةٍ تُلازِمُه، إلى إنسانٍ حُرّ طَليق صحيح، لا يُقيّده قيد، ولا تُكَبِّلُهُ أيّةُ سلسلة، أَجسديّة كانَت أم روحيّة وَنَفسيّة. فالّلقاءُ مع المسيح لا يشفي فقط، بل يُعطي الإنسانَ حُرّيةً بعدَ عبوديّة، ويمنحُهُ عُتقًا وكرامةً بعد ذُلٍّ وهوان.

 

إبراهيم نَاجي في قَصيدتِهِ الأطلال، الّتي غَنّتها أم كلثوم، يقول: (آهِ مِن قَيدِكَ أَدمَى مِعصَمي). فَالقَيدُ هُنا يَعني ألمٌ ومُعاناة وحملٌ ثقيل. وفي لُغة القانون نقول بأنَّ على فُلان قَيد أمني، أي أصبحَ صاحبَ أَسبَقيّات جُرميّة، وَمُراقبتُه صارت أمرًا واجبًا، للحدِّ من حُرّيته وقُدراتِه، لأنّه قد يُشكّل خطرًا على الآخرين. فَالقيدُ أيضًا يعني الرّبط والتّكبيل.

 

أمّا المزمور 116، فيقول: "آهِ يا ربِّ فإنّي عبدُكَ، لَقَد حَلَلتَ قُيودي" (مزمور 16:116). فَالله إلهُ أحرار، وليسَ إلهَ عبيد. وهو لا يدعونا خدمًا وعَبيدًا بعدَ اليوم، بل يدعونا أحبّاء (يوحنّا 15:15). والحبيبُ هو مُختار، لرسالة ومهمّة: "أنا اخترتُكم وأَقمتُكم لِتَذهبوا فَتُثمِروا وَيبقى ثمرُكم" (يوحنّا 16:15). وهذا ما صنعه صديقُنا اليوم، فبعد أن كان عبدًا مُقيَّدًا، صار إنسانًا حُرًّا طليقًا، يُعلِن البشارة ويحدّثُ بأعمالِ الله.

 

أيّها الأحبّاء، تَفَحّصوا بواطِنَكم جَيّدًا، لِيَرى كلُّ واحدٍ منّا ما يحملُ في نَفسِه وروحِه، قَيدًا يُكبّلُه، وإعاقةً تحدُّ مِن حَركتِه، وربّما تُصيبُه بالعجزِ والشّلل! القيدُ قد يكونُ خطيئةً ملازمة لي، طَبعًا غليظًا، سُلوكًا فضًّا، عاداتٍ وممارساتٍ رديئة، ردّاتِ فِعلٍ خَشِنة وعنيفة، أَسلوبَ حديثٍ غير لائِق، أفكارًا وعواطف لا تَحلُّ ولا تجوز... كلُّ هذهِ أَصفادٌ تُقيّدني، وقُضبانٌ تَأسُرُني... تَجعَلُني أَصَمًّا غير قَادِرٍ على الاستماعِ لصوتِ الله في حياتي، معقودَ القلبِ والفكرِ، لا أستطيعُ أن أَبُثَّهُ الحبَّ الصّادقَ الشّريف.

 

قالَ الْمُتنبّي كَذِبًا:

أنا الَّذي نَظَرَ الأعمى إلى أَدَبي                         وَأَسمَعَت كَلِمَاتي مَن بِهِ صَمَمُ

 

ونحنُ نعلمُ أنّ الأعمى لم يُعاين أدبَه، والأصمَّ لم يسمع كَلماتِه. أمّا المسيح فَفَعلَ وعَمِل. فَجَعلَ: "العُميَ يُبصِرون والصُمَّ يسمعون، والموتى يقومون والفقراء يُبشَّرون" (متّى 5:11). إلهُنا عَظيم، مَسيحُنا مُبدعٌ؛ فهو كلمةُ الله الّذي به كانَ كلُّ شيءٍ، وكانَ حَسنًا جِدًّا. وَنَحنُ قِمّةُ إِبْداعِهِ وَأَحْسَنُ خَلائِقه. يُريدنا أَحرارًا مِن كلِّ عُبودية، مُعتَقين من كلِّ قَيد، لا تُكبِّلُنا خطيئة ولا تُقيِّدُنا مَعصية. لِنَستطيعَ نحن أيضًا كهذا الرّجل، أن نَستمعَ إلى كلامِ النّعمة، مُبشّرين بأعمالِ الرّب، بكلِّ فِكرٍ وَقولٍ وفعلٍ صالِح.

 

وفي النّهاية، كانَ هؤلاء اليهود يعتقدون باطِلًا بأنّهم أطهارٌ، وبأنّهم أفضل من غيرهم، لِتَتّضِح حقيقة أخرى مخالفة لذاكَ الوهم. فإنجيل هذا اليوم مع إنجيلِ الأحدِ الماضي، يُعَلِّمنا ألّا نُحقّرَ أحدًا، وألّا نَدّعي نجاسةَ أحد، وألّا نَزعمَ الطّهارةَ والنّقاوة، على حسابِ الآخرين.

 

دعوا الحُكم للحاكم والدّينونة للدّيان، العالِمِ بقلوبِ النّاس وظروفِهم وضمائِرهم. ففي النّهاية، مَن يدري: فَقد يعودُ من رَأينا فيهم أنجاسًا أرجاسًا، إلى بيتِ الآبِ أبرارًا مُخلَّصين، أمّا أنتَ وأنتِ، يا مَن توهّمتَ بأنّكَ نَبعُ نقاوة، قَد تجِدُ نَفسَكَ مُلقىً في الخارجِ، حيث البكاءُ وصريفُ الأسنان.