موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١ مارس / آذار ٢٠٢٥

كَيْفَ تُعامِلَ أخَاكَ دون رِيَاء؟

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحَد الثَّامِن مِن السَّنة: كَيْفَ تُعامِلَ أخَاكَ دون رِيَاء؟ (لوقا 6: 39-45)

الأحَد الثَّامِن مِن السَّنة: كَيْفَ تُعامِلَ أخَاكَ دون رِيَاء؟ (لوقا 6: 39-45)

 

النَّصُّ الإنْجيلي (لوقا 6: 39-45)

 

39 وضَرَبَ لَهم مَثَلاً قال: ((أَيَستَطيعُ الأَعمى أَن يَقودَ الأَعمى؟ أَلا يَسقُطُ كِلاهُما في حُفرَة؟ 40 ما مِن تِلميذٍ أَسمى مِن مُعَلِّمِه. كُلُّ تِلميذٍ اكتَمَلَ عِلمُه يَكونُ مِثلَ مُعَلِّمِه. 41 لِماذا تَنظُرُ إِلى القَذى الَّذي في عَينِ أَخيكَ؟ والخَشَبَةُ الّتي في عَينِكَ أَفَلا تأبَهُ لَها؟ 42 كَيفَ يُمكِنُكَ أَن تَقولَ لأَخيكَ: يا أَخي، دَعْني أُخرِجُ القَذى الَّذي في عَينِكَ، وأَنتَ لا تَرى الخَشَبَةَ الَّتي في عَينِكَ؟ أّيُّها المُرائي، أَخرِجِ الخَشَبَةَ مِن عَينِكَ أَوَّلاً، وعِندَئذٍ تُبصِرُ فتُخرِجُ القَذى الَّذي في عَينِ أَخيك. 43 ما مِن شَجَرةٍ طَيِّبَةٍ تُثمِرُ ثَمراً خَبيثاً، ولا مِن شَجَرةٍ خَبيثَةٍ تُثمِرُ ثَمراً طَيِّباً. 44 فكُلُّ شَجَرةٍ تُعرَفُ مِن ثَمَرِها، لِأَنَّه مِنَ الشَّوكِ لا يُجنْى تِين، ولا مِنَ العُلَّيقِ يُقطَفُ عِنَب. 45 الإِنْسانُ الطَّيِّبُ مِنَ الكَنْزِ الطَّيِّبِ في قَلبِه يُخرِجُ ما هُوَ طَيِّب، والإِنْسانُ الخَبيثُ مِن كَنزِه الخَبيثِ يُخرِجُ ما هو خَبيث، فمِن فَيضِ قَلبِه يَتَكَلَّمُ لِسانُه.

 

 

المُقدِّمَة  

 

يُوَجِّهُ السَّيِّدُ المَسِيحُ تَعْلِيمَاتِهِ إِلَى أَتْبَاعِهِ، وَيَدْعُو المَسْؤُولِينَ مِنْهُمْ بِوَجْهٍ خَاصٍّ إِلَى التَّعَامُلِ مَعَ إِخْوَتِهِمْ بِدُونِ رِيَاءِ العَيْنِ وَرِيَاءِ القَلْبِ وَاللِّسَانِ. الرِّيَاءُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ مَصْدَرِ الرُّؤْيَةِ، وَهُوَ القِيَامُ بِالأَعْمَالِ وَالإِتْيَانُ بِهَا فِي سَبِيلِ الحُصُولِ عَلَى إِعْجَابِ النَّاسِ. وَمِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ، فَإِنَّ الرِّيَاءَ يَتَمَثَّلُ فِي كَوْنِ ظَاهِرِ العَمَلِ سَلِيمًا، لَكِنَّ الدَّوَافِعَ وَالنَّوَايَا البَاطِنَةَ غَيْرُ سَلِيمَةٍ، وَيَكُونُ الهَدَفُ مِنْهُ الحُصُولَ عَلَى ثَنَاءِ النَّاسِ وَحَمْدِهِمْ وَإِعْجَابِهِمْ.

 

مُعَامَلَةُ الإِخْوَةِ تَفْرِضُ تَصَرُّفًا أَسْمَى مِنْ ذَلِكَ، وَبِالتَّحْدِيدِ تَطَابُقًا بَيْنَ أَعْمَالِ الإِنْسَانِ وَأَفْكَارِهِ، وَعَدَمَ تَنَاقُضٍ بَيْنَ سُلُوكِهِ الظَّاهِرِ وَفِكْرِهِ البَاطِنِيِّ، وَبَيْنَ أَقْوَالِهِ وَسُلُوكِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ مُنَافِقٌ. لِذَلِكَ، يَجِبُ أَنْ يَتَجَاوَبَ سُلُوكُنَا مَعَ شُعُورِنَا الدَّاخِلِيِّ، وَأَنْ تَصْدُرَ شَعَائِرُنَا الدِّينِيَّةُ عَنْ إِيمَانِنَا الوَطِيدِ. وَمِنْ هُنَا تَكْمُنُ أَهَمِّيَّةُ البَحْثِ فِي وَقَائِعِ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ وَتَطْبِيقَاتِهِ.

 

 

أولاً: تَحليل وَقائع نصِّ إنْجيل لوقا (لوقا 6: 39-45) 

 

 39وضَرَبَ لَهم مَثَلاً قال: "أَيَستَطيعُ الأَعمى أَن يَقودَ الأَعمى؟ أَلا يَسقُطُ كِلاهُما في حُفرَة؟"

 

تُشيرُ عبارةُ "مَثَلًا" في الأصلِ اليونانيِّ (παραβολή) ومعناها "مُقارنة" إلى قولٍ مُختصرٍ يُوضِّحُ قوانينَ السلوكِ ونتائجَهُ بأسلوبٍ مُؤثِّرٍ. ولكلِّ شعبٍ أمثالٌ عديدةٌ تُظهِرُ خصائصَ ذلكَ الشعبِ، وحكمتَهُ، وجَهالتَهُ، وعواطفَهُ، وهَزليّاتِهِ. والمثلُ واقعيٌّ، فهو مُنطبقٌ على الحياةِ وليسَ غريبًا عنها، حتّى وإنْ لم تكُنْ هذهِ الحوادثُ قد وَقَعَتْ بشكلٍ فعليٍّ. وقدِ استخدمَهُ يسوعُ كأسلوبٍ تعليميٍّ وأبدعَ فيهِ. وَرَدَ في إنجيلِ لوقا ثمانيةٌ وعِشرونَ مَثَلًا، علمًا أنّ عشرينَ مَثَلًا ذُكِرَتْ في إنجيلِ متّى، وتسعةُ أمثالٍ في إنجيلِ مرقس، وأمّا يوحنّا فلم يَذكُرْ أمثالًا، وإنّما اختصَّ بذِكرِ مواعِظِ المسيحِ وعَجائِبِهِ.تُشيرُ عبارةُ "أَيَستَطيعُ الأَعمى أَنْ يَقودَ الأَعمى؟" إلى كَيفَ يُمْكن لأَعْمَى يَعرِضُ أَنْ يَكُونَ مُرْشِدًا وَقَائِدًا لِأَعْمَى آخَرَ، فِي حِينٍ إِنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَقُودُهُ. إنه مَثَلٌ وَجَّهَهُ يسوعُ إلى التلاميذِ، خاصَّةً المسؤولينَ منهم، داعيًا إيّاهُم إلى حُسنِ التَّبَصُّرِ في مسؤولياتِهِم، أيْ كيفَ يستطيعُ الأَعمى أنْ يُوجِّهَ أخاهُ الأَعمى إلى طريقِ الرَّبِّ؟ وهُنا تَظهَرُ مُشكلتانِ: الأُولى، كيفَ يَسمَحُ أَعمى لنفسِهِ أنْ يَقودَ أَعمى؟ والمُشكلةُ الثانيةُ، كيفَ سَلَّمَ الأَعمى الثّاني حياتَهُ لأَعمى مِثلِهِ ليَقودَهُ؟ ذَكَرَ لوقا هذا المثلَ وهو سائرٌ بينَ اليهودِ، وهو مُرتبِطٌ بالآيتينِ اللاحقتينِ (لوقا 6: 40، 41)، فيما يُطبِّقُ متّى الإنجيليُّ هذا المثلَ على الفَرِّيسِيِّينَ الذينَ يُضِلُّونَ شَعبَهم "إِنَّهُم عُميانٌ يَقودونَ عُميانًا" (متّى 15: 14). فالأَعمى هو مَن يَحيا حياةَ الخَطيئَةِ (الخَشَبَةُ في عَينِهِ)، فكيفَ يُظهِرُ طريقَ الغَلَبَةِ على الخَطايا للآخَرِ (القَذى في عَينِهِ)؟ أَعمى البَصيرةِ هو غيرُ صادقٍ، ويَتظَاهر خِلافًا لِمَ هو عَليه، ولا يُقَدِّمُ الحَقَّ، ويَنظر إلى شَرِّ الآخر وليس إلى شَرِّه، ولا يَستطيعُ أنْ يَدَّعي هِدايةَ إخوَتِهِ العُميان. فالعُميانُ لا يَقودُهُم إلّا المُبصِرون. والقائدُ الأَعمى يَقودُ شَعبَهُ إلى الهاوِيَة والى الظُّلمِة والخِوفِ مِن رُؤية ذاتهِ؛ لأنّهُ جاهِلٌ، وضالٌّ، وفاسِدٌ. فكيفَ يُمكِنُ للجاهِلِ أنْ يُنيرَ الآخَرين؟ وكيفَ يُمكِنُ للضّالِّ أنْ يُهديَ الآخَرين؟ وكيفَ يُمكِنُ للفاسِدِ أنْ يُصلِحَ الآخَرين؟ إنَّهُ أَعمى البَصيرةِ، ومِنْ هُنا تتَوَلَّدُ "المَقاصِدُ السَّيِّئَةُ، والقَتْلُ، والزِّنى، والفُحْشُ، والسَّرِقَةُ، وشَهادَةُ الزُّورِ، والشَّتائِمُ" (متّى 15: 19). أمَّا عبارةُ "الأَعمى" فتُشيرُ إلى فاقِدِ البَصَرِ، وقد كانَتْ وَصْمَةَ عارٍ، فتمَّ استِبعادُهُم مِنَ الكهنوتِ (الأحبار 21: 18) وهو يُرمَزُ لهُ رُوحيًّا وأَخلاقيًّا بالأَعمى البَصيرةِ، أيْ لا يَمْلك بصيرةً رُوحيَّةٌ صالِحَةٌ. والبَصيرةُ هي ما في القَلبِ، والفِكرِ، والخاطِرِ مِنْ وعيٍ لِلأُمُورِ! وهذا واضِحٌ في أَشَعيا "لا يَعلَمونَ ولا يَفهَمون، لِأَنَّهُ قد غُشِّيَ على عُيونِهِم لِئَلّا يُبصِروا، وعلى قُلوبِهِم لِئَلّا يَفهَموا" (أشَعيا 44: 18). ويُوضِّحُ صاحِبُ المَزامِيرِ مَصيرَهُم "لا يَعلَمونَ ولا يَفهَمون، وفي الظُّلمَةِ يَسيرون" (مزمور 82: 5). فأعمى البَصيرةِ هُنا هو الذي يَعرِفُ عنِ اللهِ، ولَكِنَّهُ لا يَعرِفُ اللهَ، ويَستَغني عَنهُ، فهُوَ أَعمى عنِ اللهِ؛ لأنَّهُ ابتَعَدَ عنِ الحَقِّ، ويفتَقِرُ إلى أيِّ رؤيةٍ روحيَّةٍ أو بَصيرةٍ روحيَّةٍ، وفي هذا الصَّدَدِ يقولُ بولسُ الرَّسولُ عن العُميانِ رُوحيًّا "غَيرِ المُؤمِنينَ الَّذينَ أَعْمى بَصائِرَهُم إِلهُ هذِهِ الدُّنيا" (2 قورنتس 4: 4). فالأَشخاصُ الَّذينَ لا يَعرِفونَ اللهَ عُمْيٌ عنِ الحَقِّ، وإنْ تَبِعتَهُم سَتَسقُطُ في الحُفرةِ. وفي هذا الصَّدَدِ يقولُ القِدِّيسُ أُوغُسطِينُوس في اعتِرافاتِهِ: "عَظيمٌ أَنتَ يا رَبِّي، قَوِيٌّ وقَديرٌ، خَلَقتَ فأَبدَعتَ. خَدَعَتْني نَفسي وقالَتْ أَنتَ غَنِيٌّ عن إِلهي بِكَ. وتَجاهَلْتُ أنِّي مِسكِينٌ، أَعمى". فلا يَكفي دِراسَةُ الدِّينِ والكِتابِ المُقَدَّسِ، بَل يَجِبُ أنْ يَتَجاوَبَ الإنسانُ مَعَ اللهِ نَفسِهِ. وفي هذا الصَّدَدِ جاءَ تَعليمُ بولسَ الرَّسولِ شَديدُ اللّهجةِ: "تُوقِنُ أَنَّكَ قائِدٌ لِلعُمْيانِ، ونُورٌ لِلَّذينَ في الظَّلام، ومُؤَدِّبٌ لِلجُهَّالِ، ومُعَلِّمٌ لِلْبُسَطاءِ، لأَنَّ لَكَ في الشَّريعةِ وَجهَ المَعرِفَةِ والحَقيقَةِ. أَفَتُعلِّمُ غَيرَكَ ولا تُعلِّمُ نَفسَكَ؟ أَتَعِظُ بِالامتِناعِ عَنِ السَّرِقَةِ وتَسرِق؟ أَتَنْهى عنِ الزِّنى وتَزْني؟" (رومة 2: 19-22). يَحذِّرُنا يسوعُ عبرَ هذا المثلِ منِ اتِّباعِ قادةٍ عُميانٍ، فيجبُ علَينا أنْ نَفتحَ عُيونَنا قَبلَ فَواتِ الأوانِ. أمَّا عبارةُ "أَلا يَسقُطُ كِلاهُما في حُفرَة؟" فتُشيرُ إلى الأعمى الذي لم يُحرِّرْ نَفْسَهُ في رَحمَةِ اللهِ، وبالتَّالي ليسَ لَدَيْهِ القُدرَةُ على تَحريرِ الآخَرِ مِنْ ظَلامِهِ الخَاصِّ، فيَجُرُّهُ إلى ظَلامٍ أعمَقَ، فيَقُودُهُ إلى خَارِجِ الطَّرِيقِ. والطَّرِيقُ في الكِتَابِ المُقَدَّسِ هُوَ صُورَةٌ لِطَرِيقِ اللهِ. فَإِذَا كَانَ القَائِدُ مُصَابًا بِالعَمَى، وَغَيْرَ قَادِرٍ عَلَى اتِّبَاعِ يَسُوعَ، الَّذِي هُوَ الطَّرِيقُ (يُوحَنَّا 14: 6)، فَكَيْفَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُرْشِدَ الآخَرِينَ؟ مَنْ لَا يَتَّبِعْ يَسُوعَ، لَا يَسْتَطِعْ أَنْ يُرْشِدَ الآخَرِينَ (لُوقَا 6: 40). وقدِ انتَشَرَ هذا المَثَلُ حتّى على الصَّعيدِ الفَنِّي، فَرَسَمَ الفَنّانُ الهُولَنديُّ بيتر بروغل الأكبر (Pieter Bruegel the Elder) سَنَةَ 1568 لَوحَةً تُجَسِّدُ هذا المَشهَدَ "أعمى يَقُودُ أعمى". وتُوجَدُ هذه اللَّوحةُ حاليًّا في مُتحَفٍ في مَدينَةِ نابولي في إيطاليا. يُحَذِّرُنا يَسوعُ عَبرَ هذا المَثَلِ مِنْ أنْ نَنقادَ إلى أَحَدٍ دُونَ أنْ نَتَحَقَّقَ إلى أَيْنَ نَحْنُ ذاهِبُونَ، وَمَنْ نَتَّبِعُ. فَهُناكَ قادةٌ، وأنبياءُ، ومُعَلِّمونَ كَذَبَةٌ، يُضِلُّونَ الشَّعبَ، فَعَلَينا أَنْ نَفتَحَ عُيُونَنا قَبْلَ فَواتِ الأَوَانِ. يُحَذِّرُنا يَسوعُ مِنْ أَنْ نُصْبِحَ قادَةً عُميانًا. وقد سَبَقَ وَحَذَّرَ إِشَعْيا النَّبِيُّ مِنْ هؤلاءِ العُميانِ في قَولِهِ: " إِسمَعُوا هَذَا أَيُّهَا الأَغْبِيَاءُ، الشَّعْبُ الفاقِدُ اللُّبِّ، الَّذِي لَهُ عُيُونٌ وَلا يُبْصِرُ، وَلَهُ آذَانٌ وَلا يَسْمَعُ" (إِرْميا 5: 21). أمَّا عبارةُ "حُفرَةٌ" في الأصْلِ اليُونانيِّ (βόθυνος) فَمَعناها "حُفرَةٌ عَميقَةٌ"، وتُشيرُ إلى الكَثِيرِ مِنَ الحُفَرِ في فِلَسطينَ. فَقَدْ كانَتْ هُناكَ مَقالِعُ غَيرُ مُحاطةٍ بِسِياجٍ، وأخادِيدُ في المَناطِقِ الصَّخريَّةِ الوعِرَةِ، ومُنحَدَراتٌ على طُولِ جانِبَي الطُّرُقِ، بالإضافةِ إلى آبارٍ جافَّةٍ. أمَّا المَغْزَى الرُّوحِيُّ، فَهُوَ: إنْ تَبِعْتُم مُرشِدًا أعمى، أو شخصًا لا يَعرِفُ اللهَ، أو قائدًا لا يَعرِفُ الطَّريقَ إلى مَلَكُوتِ اللهِ، أو شخصًا لا يَعرِفُ الطَّريقَ إلى اللهِ، ولا يَعرِفُ الدَّربَ المُؤَدِّيَ إلى الخَلاصِ، فَسَتَذهَبُونَ إلى الهَلاكِ. لِذَا، يَجْدُرُ بِكُم أَنْ تَخْتَارُوا بِعِنايَةٍ فائِقَةٍ المُعَلِّمَ الدِّينِيَّ الَّذِي تَتَّبِعُونَهُ.

 

40 ما مِن تِلميذٍ أَسمى مِن مُعَلِّمِه. كُلُّ تِلميذٍ اكتَمَلَ عِلمُه يَكونُ مِثلَ مُعَلِّمِه.

 

تشيرُ عبارةُ "ما مِن تِلميذٍ أَسمى مِن مُعَلِّمِهِ" إلى وَضْعِ التِّلميذِ الذي يُشْبِهُ وَضْعَ مُعَلِّمِهِ، ولِذلِكَ لا بُدَّ لَهُ مِن بَذْلِ الذَّاتِ في خِدْمَةِ إِخْوَتِهِ على مِثالِ مُعَلِّمِهِ يَسوعَ: "ما كانَ الخادِمُ أَعظَمَ مِن سَيِّدِهِ، وَلا كانَ الرَّسُولُ أَعظَمَ مِن مُرسِلِهِ" (يوحَنَّا 13: 16). وتَدُلُّ العِبارَةُ أيضًا على تَحَمُّلِ الاضطهاد مثلَ يَسُوعَ: "أُذْكُرُوا الكَلامَ الَّذي قُلتُهُ لَكُم: ما كانَ الخادِمُ أَعظَمَ مِن سَيِّدِهِ. إِذا اضطَهَدوني فسَيَضطَهِدونَكُم أَيضًا"(يوحَنَّا 15: 20). وبِالتَّالِي، لا يَجوزُ أنْ يَنتَظِرَ التَّلاميذُ مَصِيرًا يَختَلِفُ عَنْ مَصِيرِ مُعَلِّمِهِمُ المَصلُوبِ.أما عبارةُ "تِلميذٍ" فتُشيرُ إلى كُلِّ مَنْ اتَّبَعَ مُعَلِّمًا، مِثلَ إِشَعْيا النَّبِيِّ (8: 16) ويُوحَنَّا المَعمَدانِ (مَتَّى 9: 14)، وتُستَخدَمُ لِكُلِّ المُؤمِنينَ الَّذينَ قَبِلوا تَعاليمَ المَسِيحِ (لُوقا 14: 26)، وبِنَوعٍ خاصٍّ للرُّسُلِ الاثنَي عَشَرَ (مَتَّى 5: 1). وهكذا إَّنَّ "كُلَّ وَاحِدٍ"، إِذَا كَانَ تِلْمِيذًا جَيِّدًا، يُمْكِنُهُ أَنْ يَكُونَ مُرْشِدًا وَدَلِيلًا لِلْآخَرِينَ. أما عبارةُ "أَسمى" في الأصْلِ اليُونانيِّ (ὑπὲρ) تَعني "أَفضَلَ" وتُشيرُ إلى مَعنَى "أَحْسَنُ وأَعْلى مَرْتَبَةً".  وأمّا عبارةُ "كُلُّ تِلميذٍ اكتَمَلَ عِلمُه يَكونُ مِثلَ مُعَلِّمِه" تُشيرُ إلى مُقارَنَةِ التِّلميذِ مَعَ المُعَلِّمِ (يَسُوعَ)، والخادِمِ مَعَ السَّيِّدِ (الرَّبِّ)، فَوَضْعُ الوَاحِدِ يُشبِهُ وَضْعَ الآخَرِ. الغَايَةُ هُنا هِيَ أَنَّهُ لا يُنتَظَرُ مِنَ التِّلميذِ أَنْ يَعرِفَ أَكثَرَ مِن مُعَلِّمِهِ. فَإِنْ كانَ المُعَلِّمُ أَعْمَى، فَإِنَّ التِّلميذَ يَكُونُ أَعْمَى مِثلَهُ. وأَشارَ المَسِيحُ بِذَلِكَ إِلَى أَهَمِّيَّةِ أَنْ يَكُونَ تَلامِيذُهُ مُتَعَلِّمِينَ كُلَّ حَقَائِقِ الإِنْجِيلِ لِكَيْلا يَكُونُوا قادَةً عُمْيَانًا لِلْعُمْيَانِ. أما عبارةُ "اكتَمَلَ عِلمُهُ" فتُشيرُ إلى تَعَلُّمِ التِّلميذِ كُلَّ مَا قَدَرَ مُعَلِّمُهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ إيَّاهُ حَتَّى يَصيرَ كَالمُعَلِّمِ. مَهَمَّةُ التِّلْمِيذِ إِذًا تَتَأَسَّسُ عَلَى التَّكْوِينِ وَالإِعْدَادِ، وَالَّتِي لَا تَعْنِي بِالضَّرُورَةِ الدِّرَاسَاتِ اللَّاهُوتِيَّةَ، بِلْ بِقَدْرِ التَّوَقُّفِ لِلِقَاءِ الرَّبِّ كَتِلْمِيذٍ مُؤْمِنٍ، لِيُعَلِّمَهُ وَيُشَكِّلَهُ بِكَلِمَتِهِ. وأهمُّ ما يُعَلِّمُهُ المُعَلِّمُ الصَّالِحُ لِتِلْمِيذِهِ هو رُؤْيَةُ الذَّاتِ وَالآخَرِينَ في ضَوْءِ رَحْمَةِ اللهِ (لوقا 6: 41-42).  وفي هذا الصَّدَدِ يقولُ البَطْرِيَرْكُ بيير باتيستا بيتسابالا: "فمَنِ اختِبرَتْ رحمةُ اللهِ نَحْوَهُ، ليس بحاجةٍ إلى التظاهرِ خِلافًا لِما هو عليه، لأنَّه يَعْلَمُ أنَّ اللهَ يُحِبُّهُ، ويَغْفِرُ له، ويَقْبَلُهُ على ما هو عليه"(الأحد الثامن من زمن السنة (ج).  يَحُثُّ يَسُوعُ تَلامِيذَهُ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي البُلُوغِ إِلَى الدَّرَجَةِ العَالِيَةِ مِنْ سُلَّمِ العِلْمِ ومعْرفِة الذَّات لِكَي يَكُونُوا قادِرِينَ عَلَى تَبْلِيغِ غَيْرِهِمْ إِلَيْهَا. وكانَ يَسُوعُ مِثَالًا لِلمُعَلِّمِ الفاضِلِ، فَعَمِلَ بِمَا عَلَّمَ بِهِ، فَلَمْ يَكُنْ مُنتَقِدًا وَلا مُتَكَبِّرًا، بَلْ كانَ لَطِيفًا، مُتَواضِعًا، حَلِيمًا. لِذَلِكَ، يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُعَلِّمٍ أَنْ يَتَمَثَّلَ بِالمَسِيحِ فِي كُلِّ ذَلِكَ. رُبَّمَا يُطْرَحُ عَلَيْكَ السُّؤَالُ: "مَنِ الشَّخْصُ الَّذِي تُرِيدُ لِابْنِكَ أَنْ يَتَمَثَّلَ بِهِ؟" لِأَنَّهُ عِنْدَمَا يَنْتَهِي مِنْ تَعْلِيمِهِ سَيَكُونُ مِثْلَ الشَّخْصِ الَّذِي عَلَّمَهُ.  وَإِنْ لَمْ يَكُنِ المُعَلِّمُ يَعْرِفُ اللهَ، وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ الحَقَّ، فَلَنْ يَعْرِفَهُ ابْنُكَ أَيْضًا. وَمَن هُوَ مُعَلِّمُكَ الرُّوحِيُّ؟  إِنَّهُ خِيارٌ خَطِرٌ، بَلْ هُوَ أَخْطَرُ خِيارٍ تَصْنَعُهُ فِي كُلِّ حَيَاتِكَ، بِسَبَبِ عَوَاقِبِهِ الأَبَدِيَّةِ.

 

41 لِماذا تَنظُرُ إلى القَذى الَّذي في عَينِ أَخيكَ؟ والخَشَبَةُ الّتي في عَينِكَ أَفَلا تأبَهُ لَها؟

 

تشيرُ عبارةُ "لِماذا تَنظُرُ إلى القَذى الَّذي في عَينِ أَخيكَ؟" إلى تصرُّفٍ يَنعَتُهُ المَسِيحُ بِالرِّياءِ، أيِ السُّلُوكِ غَيرِ الصَّرِيحِ. يَنقُلُ يَسُوعُ الكَلامَ مِنَ الجَمعِ إلى الأَفْرادِ لِيَنسِبَ كُلٌّ مِنَ السَّامِعِينَ الخِطابَ إلى نَفسِهِ. وَالوَاقِعُ أَنَّنا نُحَاوِلُ أَنْ نُظهِرَ نُفُوسَنا بِعَكسِ ما نَحنُ عَلَيهِ، وَالأَسْوَأُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّنا نُحَاوِلُ تَبرِيرَ نُفُوسِنا عَلَى حِسَابِ سُمعَةِ الآخَرِينَ، وَذَلِكَ بِتَحْوِيلِ الأَنْظَارِ إلى أَخطَاءِ الآخَرِينَ وَنَقدِهِم. النَّقدُ سَهلٌ أَنْ نَنجَرَّ إِلَيهِ، لَكِنَّ الرَّبَّ يَكرَهُ هَذِهِ الخَطِيئَةَ، إِذْ عَاقَبَهَا حَتَّى فِي رِجَالِهِ وَأَنبِيَائِهِ، كَمَريَمَ وَهَارُونَ، عِندَمَا تَكَلَّمَا عَلَى مُوسَى النَّبِيِّ أَخِيهِمَا (خُرُوج 32: 1-6).  أما عبارةُ "لِماذا تَنظُرُ " فتُشيرُ إلى الاسْتِفْهَامِ بِهَدَفِ التَّوبِيخِ، فَكَأَنَّ يَسُوعَ يَقُولُ: "لَا سَبَبَ لَكَ فِي فِعْلِ ذَلِكَ، وَلَا عُذْرَ لَكَ فِيهِ"، مُشِيرًا إِلَى عَادَةِ النَّاسِ العَامَّةِ، وَهِيَ أَنَّ الإِنْسَانَ يَنْتَبِهُ لِعُيُوبِ غَيْرِهِ وَيَغْفَلُ عَنْ عُيُوبِ نَفْسِهِ. أما عبارةُ "القَذى" و"الخَشَبَة"   فشِيرُ إلى اسْتِعَارَةٍ فِيهَا تَضخِيمٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَنْ يَنْتَقِدُ الآخَرِينَ فِي زَلَّةٍ صَغِيرَةٍ، وَلَا يَرَى خَطِيئَتَهُ الكَبِيرَةَ. يُعَلِّقُ القِدِّيسُ كِيرِلُّسُ الكَبِيرُ قَائِلًا: "يُشَبِّهُ يَسُوعُ خَطِيئَةَ الأَخِ بِالقَذَى، أَمَّا حُكمُكَ المُتَهَوِّرُ فَيَحسِبُهُ خَشَبَةً. تَقْرِيبًا، أَصْعَبُ خَطِيئَةٍ يُمْكِنُ مُعَالَجَتُهَا هِيَ إِدَانَةُ أَخِينَاكَ." لَا يَقْصِدُ الرَّبُّ يَسُوعُ هُنَا أَنْ نُغْضِي الطَّرْفَ عَنِ الخَطَإِ، وَلَكِنْ أَلَّا نَنْشَغِلَ بِخَطَايَا الآخَرِينَ مُتَجَاهِلِينَ خَطَايَانَا نَحْنُ، حَيْثُ إِنَّنَا كَثِيرًا مَا نَجِدُ تَبْرِيرًا لِخَطَايَانَا عِنْدَمَا نُوَجِّهُ أَنْظَارَنَا إِلَى نَفْسِ الأَخطَاءِ المَوْجُودَةِ لَدَى الآخَرِينَ. فَأَيُّ قَذًى فِي عَيْنِ الآخَرِينَ مِنَ السَّهْلِ أَنْ نَنْتَقِدَهُ، وَلَكِنَّنَا نَتَغَافَلُ عَنْ الخَشَبَةِ الكَبِيرَةِ الَّتِي فِي عُيُونِنَا. أما عبارةُ "القَذى" في الأصْلِ اليُونَانِيِّ (κάρφος) فتُشِيرُ إِلَى مَا يَحْمِلُهُ الهَوَاءُ مِنْ دَقِيقِ الغُبَارِ وَالتِّبْنِ وَنَحْوِهِمَا، فَيَقَعُ فِي العَيْنِ، وَالمُرَادُ بِهِ هُنَا الذَّنْبُ الصَّغِيرُ وَالخَطَأُ الطَّفِيفُ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ الذِّكْرَ. أما عبارةُ "أَخِيكَ؟" فتُشِيرُ إِلَى كُلِّ إِنْسَانٍ مِثْلَكَ. أ/ا عبارةُ "الخَشَبَةُ الَّتي في عَينِكَ أَفَلا تَأبَهُ لَهَا؟" فتُشِيرُ إِلَى عَدَمِ إِمْكَانِكَ أَنْ تُعَالِجَ الأَخطَاءَ فِي حَيَاةِ شَخْصٍ آخَرَ إِنْ كَانَتْ أَخطَاؤُكَ أَسْوَأَ بِكَثِيرٍ. أما عبارةُ "الخَشَبَةُ" في الأصْلِ اليُونَانِيِّ (δοκός فتُشِيرُ إِلَى الدِّعَامَةِ الخَشَبِيَّةِ الرَّئِيسِيَّةِ فِي البِنَاءِ، وَهِيَ تُرْمِزُ إِلَى الذَّنْبِ الكَبِيرِ وَالخَطَإِ الفَادِحِ، حَيْثُ تُشْبِهُ عَارِضَةَ الخَشَبِ الَّتِي تُوضَعُ كَجِسْرٍ لِبِنَاءِ سَقْفِ البَيْتِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَرَاهَا الإِنْسَانُ فِي عَيْنِهِ، بَلْ يَتَوَقَّفُ عِنْدَ القَذَى فِي عَيْنِ أَخِيهِ، وَهَكَذَا يَظْلِمُهُ. يُبَيِّنُ الفَرْقُ العَظِيمُ بَيْنَ القَذَى وَالخَشَبَةِ قُبْحَ مَا يَأتِيهِ المُرْتَكِبُ الذُّنُوبَ الفَظِيعَةَ مِنْ دِينُونَتِهِ لِلْمُقْتَرِفِ الذُّنُوبَ الصَّغِيرَةَ. ويُعلِّقُ القِدِّيسُ كِيرِلُّسُ الكَبِيرُ: "كَيْفَ يُمْكِنُكَ رُؤْيَةُ القَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ الغَيْرِ وَبِعَيْنِكَ خَشَبَةٌ تَحْجُبُ الرُّؤْيَةَ فَلَا تَرَى شَيْئًا؟". يَقُولُ يَسُوعُ لَنَا كَمَسْؤُولِينَ وَقَادَةِ الكَنِيسَةِ عَبرَ هَذِهِ الآيَةِ أَنْ نَتَبَصَّرَ أَوَّلًا فِي ذَوَاتِنَا وَنَنْظُرَ فِي أَعْمَاقِ حَيَاتِنَا وَدَاخِلِيَّةِ نُفُوسِنَا وَنَنْتَقِدَ ذَوَاتِنَا قَبْلَ أَنْ نَكْشِفَ أَخطَاءَ الغَيْرِ وَقَبْلَ أَنْ نُحَسِّنَ أَوْضَاعَ الآخَرِينَ عَلَى خُطَى اللهِ:"فَإِنَّ اللهَ لَمْ يُرْسِلِ ابْنَهُ إِلَى العَالَمِ لِيَدِينَ العَالَمَ بَلْ لِيُخَلَّصَ بِهِ العَالَمُ" (يُوحَنَّا 3: 17). أمَّا عبارةُ "أَفَلا تَأبَهُ لَهَا؟" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ (οὐ κατανοεῖς) فَتُشِيرُ إِلَى عَدَمِ تَنَبُّهِ الإِنْسَانِ لَهَا، وَعَدَمِ إِدْرَاكِ مَعْنَاهَا وَمَقْصَدِهَا. فَمَنْ هُوَ التِّلْمِيذُ الَّذِي يَتَجَاسَرُ عَلَى إِدَانَةِ أَخِيهِ بَعْدَ سَمَاعِ تَوْبِيخِ يَسُوعَ؟

 

42 كَيفَ يُمكِنُكَ أَن تَقولَ لأَخيكَ: يا أَخي، دَعْني أُخرِجُ القَذى الَّذي في عَينِكَ، وأَنتَ لا تَرى الخَشَبَةَ الَّتي في عَينِكَ؟ أّيُّها المُرائي، أَخرِجِ الخَشَبَةَ مِن عَينِكَ أَوَّلاً، وعِندَئذٍ تُبصِرُ فتُخرِجُ القَذى الَّذي في عَينِ أَخيك.

 

تشيرُ عبارةُ "كَيْفَ يُمكِنُكَ أَنْ تَقُولَ لِأَخِيكَ" إلى سُؤالِ استِنكارٍ وَتَوبِيخٍ، فَكَيفَ يُجِيزُ الإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ أَنْ يَفعَلَ مَا لَا يَحْسُنُ بِهِ؟ وَالمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَستَطِيعُ الأَشرَارُ أَنْ يَحكُمُوا بِالعَدْلِ عَلَى غَيْرِهِم، وَأَنَّ انتِصَارَنَا عَلَى شُرُورِ قُلُوبِنَا شَرْطٌ ضَرُورِيٌّ لِصِحَّةِ حُكْمِنَا عَلَى غَيْرِنَا. أما عبارةُ "أَخِي" تُشيرُ إلى عِدَّةِ مَعَانٍ وَعَلَاقَاتٍ إلى الأَخُ بِمَعْنَى القَرَابَةِ الدَّمَوِيَّةِ: الإِبْنُ فِي عَلاقَتِهِ بِأَبْنَاءِ أَوْ بَنَاتِ نَفْسِ الوَالِدَيْنِ (تَكوين 27: 6)، أَوْ نَفْسِ الأَبِ فَقَطْ (تَكوين 28: 2)، أَوْ نَفْسِ الأُمِّ فَقَطْ (قُضَاة 8: 19). أُطلِقَ أَيْضًا عَلَى القَرِيبِ مِنْ الأُسْرَةِ الوَاحِدَةِ، مِثْلَ ابْنِ الأَخِ (تَكوين 14: 16)، أَوْ مَنْ يَنْتَمِي لِنَفْسِ الجِنْسِ (َحَمْيَا 5: 7)، أَوْ مِنْ أُمَّةٍ قَرِيبَةٍ (تَثْنِيَةُ الاشتِرَاع 23: 7)، أَوْ مِنْ أُمَّةٍ حَلِيفَةٍ (عَامُوس 1: 9). وأُطلِقَ أَيْضًا عَلَى الإِنْسَانِ مِنْ نَفْسِ الدِّينِ الوَاحِدِ، فَكَثِيرًا مَا دُعِيَ المَسِيحِيُّونَ إِخْوَةً (مَتَّى 23: 8). وَقَدْ أُطلِقَ عَلَى الصَّدِيقِ المُحَبَّبِ، كَمَا لُقِّبَ دَاوُدُ وَيُونَاثَانُ بِالأَخَوَيْنِ (2 صَمُوئِيل 1: 26). وَأُطلِقَ أَيْضًا عَلَى أَيِّ إِنْسَانٍ مِنَ الجِنْسِ البَشَرِيِّ، مُرَاعَاةً لِأُخُوَّةِ البَشَرِ (تَكوين 9: 5). أما عبارةُ "دَعْني أُخرِجُ القَذى الَّذي في عَينِكَ، وأَنتَ لا تَرى الخَشَبَةَ الَّتي في عَينِكَ؟" فتُشِيرُ إِلَى أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ فِي عَيْنِهِ قَذًى وَخَشَبَةٌ وَعَمَى، لِذَلِكَ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ القَذَى أَنْ يُزِيلَ مِنْ عَيْنِهِ قَذَاهُ، وَعَلَى صَاحِبِ الخَشَبَةِ أَنْ يُزِيلَ مِنْ عَيْنِهِ الخَشَبَةَ، لِكَيْ تَصِحَّ رُؤْيَةُ الأُمُورِ. ويُعَلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسطِينُوس قَائِلًا: "إِذَا اضْطُرِرْتَ إِلَى الكَشْفِ عَنْ أَخطَاءِ الآخَرِينَ أَوِ انْتِهَارِهِم، فَلْنَنْظُرْ إِلَى أَنْفُسِنَا إِنْ كُنَّا نَرْتَكِبُ نَفْسَ الخَطَايَا، أَوْ سَبَقَ لَنَا ارْتِكَابُهَا. فَإِنْ كُنَّا لَمْ نَرْتَكِبْهَا، فَلْنَعْلَمْ أَنَّنَا بَشَرٌ مُعَرَّضُونَ لِلْخَطِيئَةِ، وَإِنْ كُنَّا قَدْ ارْتَكَبْنَاهَا مِنْ قَبْلُ وَتَحَرَّرْنَا مِنْهَا، فَلْنَذْكُرْ ضَعْفَنَا عَلَى الدَّوَامِ." أما عبارةُ "المُرائي" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ (ὑποκριτά) تَعْنِي "مُمَثِّل"، وَالمُمَثِّلُ لَهُ لُغَتَانِ وَشَخْصِيَّتَانِ، وَهُوَ مُزْدَوِجُ الوَجْهِ. يُطْلَقُ الوَصْفُ فِي الكِتَابِ المُقَدَّسِ عَلَى الإِنْسَانِ الَّذِي يُخْفِي شَخْصِيَّتَهُ الحَقِيقِيَّةَ وَرَاءَ مَظَاهِرَ خَادِعَةٍ، فَيُظْهِرُ نَفْسَهُ بِصُورَةٍ غَيْرِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا، وَيَتَظَاهَرُ بِتَقْوَى لَيْسَتْ لَدَيْهِ، لِذَلِكَ لَا يَحْكُمُ عَلَى الآخَرِينَ بِغَرَضِ حِمَايَتِهِم، بَلْ بِسَبَبِ إِرَادَةٍ شِرِّيرَةٍ عِنْدَهُ. وَقَدِ اسْتُعْمِلَ هُنَا لِمَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ بَارٌّ وَقَاضٍ عَادِلٌ يُوَبِّخُ عَلَى كُلِّ خَطِيئَةٍ يَرَاهَا فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ يَرْتَكِبُ أَفظَعَ مِنْهَا. يَجْدُرُ بِالإِنْسَانِ المُنصِفِ وَالخَيِّرِ وَحْدَهُ تَوْبِيخُ أَخِيهِ عَلَى عُيُوبِهِ. أَمَّا فِعْلُ الأَشرَارِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ تَعَدِّيًا عَلَى دَوْرِ غَيْرِهِم، كَحَالِ المُمَثِّلِ الَّذِي يُخْفِي هُوِيَّتَهُ وَرَاءَ قِنَاعٍ. يُحَذِّرُ يَسُوعُ مِنَ الرِّيَاءِ وَعَدَمِ التَّطَابُقِ بَيْنَ الأَعْمَالِ وَالأَفْكَارِ (مَتَّى 6: 2)، وَالتَّنَاقُضِ بَيْنَ السُّلُوكِ الظَّاهِرِ وَالفِكْرِ البَاطِنِيِّ. يَقُولُ يَسُوعُ فِي تَعْنِيفِهِ لِلْكُتَّبَةِ وَالفَرِّيسِيِّينَ:"أَنتُم، تَبدونَ في ظاهِرِكُم لِلنَّاسِ أَبراراً، وأَمَّا باطِنُكُم فَمُمتَلِئٌ رِياءً وإِثماً" (مَتَّى 23: 28). المُرَائِي يُبْطِنُ الخُبْثَ، كَمَا أَكَّدَ يَسُوعُ: "شَعَرَ يسوعُ بِخُبْثِهِم فقال: ((لِماذا تُحاوِلونَ إِحراجي، أَيُّها المُراؤُون!" (مَتَّى 22: 18). المُرَائِي قَدْ يُصْبِحُ أَعْمَى (لُوقا 6: 42)، وَيَفْسِدُ حُكْمَهُ. وَفِي القُرْآنِ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ؟ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّـهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ" (سُورَةُ الصَّفِّ، آيَةُ 2-3). تشيرُ عبارةُ "أَخرِجِ الخَشَبَةَ مِن عَينِكَ أَوَّلاً" إلى تطهيرِ القَلبِ، وإمَاتَةِ الشَّهَواتِ، وإِصْلاحِ السِّيرَةِ وَتَقْوِيمِهَا، وَإِبْعَادِ الضَّغِينَةِ عَنْكَ أَوَّلًا، فَتُصْبِحُ أَهْلًا لِتَأْدِيبِ مَنْ تُحِبُّ بِالعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ. فَيَجِبُ عَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يَهْتَمَّ بِأَمْرِ خَطَايَاهُ أَكْثَرَ مِمَّا يَهْتَمُّ بِخَطَايَا غَيْرِهِ، وَأَنْ يَتُوبَ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى كُرْسِيِّ القَضَاءِ. وَفِي هَذَا الصَّدَدِ، حَثَّ بُولُسُ الرَّسُولُ تِلْمِيذَهُ طِيمُوثَاوُسَ قَائِلًا: "إِنتَبِهْ لِنَفْسِكَ" (1 طيموثاوس 4: 16)، وَ"احفَظْ نَفْسَكَ طاهِرًا" (1 طيموثاوس 5: 22). يُعَلِّقُ البَابَا فِرَنسِيسُ عَلَى هَذَا المَغْزَى قَائِلًا: "أُنْظُرْ إِلَى نَفْسِكَ فِي المِرْآةِ، لَيْسَ كَيْ تَتَزَيَّنَ، أَوْ لِكَيْ تُخْفِيَ التَّجَاعِيدَ فِي وَجْهِكَ. فَهَذَا لَيْسَ هَدَفَ النَّصِيحَةِ! بَلِ انْظُرْ إِلَى نَفْسِكَ فِي المِرْآةِ لِكَيْ تَرَى ذَاتَكَ عَلَى حَقِيقَتِهَا." مِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ، قَبْلَ أَنْ يُقْدِمَ الإِنْسَانُ عَلَى إِصْلَاحِ عُيُوبِ الآخَرِينَ، عَلَيْهِ فَحْصُ ضَمِيرِهِ وَإِصْلَاحُ نَفْسِهِ وَعَدَمُ التَّهَرُّبِ مِنْ نَفْسِهِ، خَوْفًا مِنْ رُؤْيَتِهَا عَلَى حَقِيقَتِهَا أَمَامَ اللهِ. وَمَنْ اخْتَبَرَ رَحْمَةَ اللهِ لَيْسَ بِحَاجَةٍ إِلَى إِخْفَاءِ نَفْسِهِ، لِيُظْهِرَ نَفْسَهُ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ. فَإِنَّ هَذَا الأَمْرَ يُسَاعِدُهُ عَلَى التَّعَامُلِ مَعَ أَخِيهِ، بِالرَّحْمَةِ الَّتِي تَلَقَّاهَا مِنَ اللهِ، وَاخْتَبَرَهَا فِي نَفْسِهِ. وَفِي هَذَا السِّيَاقِ، يَكْتُبُ المُؤَلِّفُ المَشْهُورُ أَرْنِسْت رِنَانُ: "هَذِهِ هِيَ الدِّيَانَةُ المَسِيحِيَّةُ. وَإِذَا كَانَ فِي الأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ أَجْرَامٌ مَأْهُولَةٌ، فَإِنَّ دِيَانَتَهُمْ لَا تَكُونُ أَرْقَى مِنْهَا مَهْمَا بَلَغُوا مِنَ الارْتِقَاءِ فِي سُلَّمِ الكَمَالِ." أما عبارةُ "عِندَئِذٍ تُبصِرُ" فتُشِيرُ إِلَى أَنَّ الخَطِيئَةَ الَّتِي لاَ تَزَالُ فِي القَلْبِ تُعْمِي البَصِيرَةَ، فَامْتِحَانُ النَّفْسِ اسْتِعْدَادٌ ضَرُورِيٌّ لِلنَّظَرِ فِي أَعْمَالِ الآخَرِينَ. أمَّا عبارةُ "فَتُخرِجُ القَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ" تُشِيرُ إِلَى إِسْعَافِ الإِنْسَانِ أَخَاهُ عَلَى النَّجَاةِ مِنْ ذُنُوبِهِ، بَدَلًا مِنْ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا وَيُجَسِّمَهَا وَيُوَبِّخَهُ عَلَيْهَا. يَدْعُونَا المَسِيحُ إِلَى تَطْهِيرِ أَنْفُسِنَا أَوَّلًا، لِكَيْ نَكُونَ قَادِرِينَ عَلَى إِرْشَادِ الآخَرِينَ بِالحَقِّ وَالمَحَبَّةِ، وَمُعَالَجَةِ ضُعُفِهِمْ بِرَحْمَةٍ وَتَوَاضُعٍ. فَمِنْ غَيْرِ الطُّهْرِ الدَّاخِلِيِّ وَتَقْوِيمِ الذَّاتِ، لَا يُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ مُعَلِّمًا حَقِيقِيًّا لِلْآخَرِينَ. يَدْعُو يَسُوعُ القَادَةَ إِلَى أَنْ يَرَوْا ذَوَاتِهِمْ أَوَّلًا قَبْلَ الحُكْمِ عَلَى الآخَرِ، وَأَنْ يُوَاجِهُوا مَرَضَ العَمَى بَيْنَ مَا يَقُولُونَ وَمَا يَفْعَلُونَ وَيُعَالِجُوا عَمَاهُمْ عَلَى ضَوْءِ كَلِمَةِ اللهِ.

 

43 ما مِن شَجَرةٍ طَيِّبَةٍ تُثمِرُ ثَمراً خَبيثاً، ولا مِن شَجَرةٍ خَبيثَةٍ تُثمِرُ ثَمراً طَيِّباً.

 

تشيرُ عبارةُ "ما مِن شَجَرةٍ طَيِّبَةٍ تُثمِرُ ثَمَراً خَبيثاً" إلى المثل القائل "إنَّ كُلَّ إِنَاءٍ يَنْضَحُ بِمَا فِيهِ"، فَصَاحِبُ القَلبِ وَالنِّيَّةِ الطَّيِّبَةِ يُقَرِّرُ أَعْمَالًا صَالِحَةً وَلَيسَ شِرِّيرَةً. أما عبارةُ "ثَمَراً" تُشِيرُ إِلَى مَا فِي دَاخِلِ الإِنْسَانِ، فَكَلِمَتُهُ تُعَبِّرُ عَنْ اتِّجَاهِهِ وَمَوْقِفِهِ، وَيَقُولُ يَسُوعُ: " مِن ثِمَارِهِم تَعْرِفُونَهُمْ" (مَتَّى 7: 16). وَيُطَبِّقُ يَسُوعُ عَلَى قَلْبِ الإِنْسَانِ مَا قَالَهُ عَنِ الشَّجَرَةِ، فَالثَّمَرَةُ تَدُلُّ عَلَى الشَّجَرَةِ، وَكَمَا أَنَّ الشَّجَرَةَ الرَّدِيئَةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُنْتِجَ إِلَّا ثَمَراً رَدِيئاً، كذلك تَصَرُّفَ الإِنْسَانِ فِي كَلَامِهِ وَأَعْمَالِهِ يَعْكِسُ عُمْقَ شَخْصِيَّتِهِ وَنَوَايَاهُ. لِذَلِكَ، لَا يَجِبُ عَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يُحَاوِلَ الكَذِبَ وَالتَّظَاهُرَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ، وَإِلَّا سَيَسْمَعُ تَوْبِيخَ يَسُوعَ الَّذِي يَقُولُ:"إِليْكُم عَنِّي، أَيُّهَا المَلاعين، إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ المُعَدَّةِ لإِبليسَ وَمَلائِكَتِهِ" (مَتَّى 25: 41). أما عبارةُ "لا مِن شَجَرةٍ خَبيثَةٍ تُثمِرُ ثَمَراً طَيِّباً: فتُشِيرُ إِلَى الإِنْسَانِ المُرَائِي الَّذِي يَتَظَاهَرُ بِالتَّدَيُّنِ، كَمَا جَاءَ فِي تَأْنِيبِ يَسُوعَ لِلفَرِّيسِيِّينَ: "يَا أَوْلَادَ الأَفَاعِي، كَيْفَ لَكُمْ أَنْ تَقُولُوا كَلَاماً طَيِّباً وَأَنْتُمْ خُبَثَاء؟" (مَتَّى 12: 35). وَقَدْ يَكُونُ الإِنْسَانُ مُعَلِّمًا فِي الكَنِيسَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَكُونُ مَخْدُوعًا مِنْ جِهَةِ خَلَاصِهِ الذَّاتِيّ. كَمَا وَرَدَ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى:"فَسَوْفَ يَقُولُ لِي كَثِيرٌ م ِنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ: يَا رَبّ، يَا رَبّ، أَمَّا بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا؟ وَبِاسْمِكَ طَرَدْنَا الشَّيَاطِينَ؟ وَبِاسْمِكَ أَتَيْنَا بِالمُعْجِزَاتِ الكَثِيرَةَ؟"(مَتَّى 7: 22). يَكْشِفُ يَسُوعُ أَنَّ مِقْيَاسَ صَلاَحِ الإِنْسَانِ لَيْسَ فِي مَظْهَرِهِ، وَلَا فِي كَلَامِهِ، وَلَكِنْ فِي ثِمَارِهِ الحَقِيقِيَّةِ. فَالقَلْبُ الصَّالِحُ يُنْتِجُ أَعْمَالًا صَالِحَةً، وَالقَلْبُ الشِّرِّيرُ يُنْتِجُ أَعْمَالًا فَاسِدَةً. لِذَلِكَ، مَنْ كَانَ صَادِقًا فِي إِيمَانِهِ، فَإِنَّ ثِمَارَهُ سَتَكُونُ بَارَّةً وَنَقِيَّةً، وَلَيْسَ مُجَرَّدَ مَظَاهِرَ خَادِعَةً.

 

44 فكُلُّ شَجَرةٍ تُعرَفُ مِن ثَمَرِها، لِأَنَّه مِنَ الشَّوكِ لا يُجنْى تِين، ولا مِنَ العُلَّيقِ يُقطَفُ عِنَب.

 

تشيرُ عبارةُ "فكُلُّ شَجَرةٍ تُعرَفُ مِن ثَمَرِها" إلى البِيئَةِ الفِلَسطِينِيَّةِ، حَيْثُ يُشَاهِدُ المُسَافِرُ فِي بِلَادِنا "عِنَبًا" يُظَلِّلُ "التِّينَ"، وَكِلَاهُمَا يَلتَفُّ حَوْلَهُ "العُلَّيقِ" وَالأَشْوَاكِ، فَلَا يُمَيَّزُ هَذَا مِنْ ذَاكَ إِلَّا بِثِمَارِهِ. وَيُفَسِّرُ بُولُسُ الرَّسُولُ هَذِهِ الظَّاهِرَةَ بِقَوْلِهِ:"إِنَّمَا يَحصُدُ الإِنْسَانُ مَا يَزْرَع. فَمَنْ زَرَعَ لِجَسَدِهِ حَصَدَ مِنَ الجَسَدِ الفَسَادَ، وَمَنْ زَرَعَ لِلرُّوحِ حَصَدَ مِنَ الرُّوحِ الحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ" (غَلَاطِيَّة 6: 7-8). وَيُعَرِّفُ بُولُسُ ثَمَرَ الرُّوحِ فِي قَوْلِهِ:"أَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ المَحَبَّةُ وَالفَرَحُ وَالسَّلَامُ وَالصَّبْرُ وَاللُّطْفُ وَكَرَمُ الأَخْلَاقِ وَالإِيمَانُ وَالوَدَاعَةُ وَالعَفَافُ" (غَلَاطِيَّة 5: 22-23). ويصف يسوع دَورُ المُعَلِّم فِي إِثْمَارِ تَّعْلِيمِهم. إِنَّ المُعَلِّمِينَ يُعرَفُونَ مِنْ نَتَائِجِ تَعْلِيمِهِمْ وَحَيَاتِهِمْ وَحَيَاةِ تَلَامِيذِهِمْ وَتَابِعِيهِمْ، وَمِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ، يُعرَفُ المُعَلِّمُونَ الصَّادِقُونَ بِصَلَاحِ تَعْلِيمِهِمْ. أما عبارةُ "ثَمَرِها" تُشِيرُ إِلَى تَصَرُّفِ الإِنْسَانِ عَلَى مُسْتَوَى القَوْلِ وَالعَمَلِ، وَهَذَا يُعَكِسُ عُمْقَ شَخْصِيَّتِهِ وَحَقِيقَتِهِ الدَّاخِلِيَّةِ. أما عبارةُ "لِأَنَّه مِنَ الشَّوكِ لا يُجنَى تِين، ولا مِنَ العُلَّيقِ يُقطَفُ عِنَب" تُشِيرُ إِلَى الثَّمَرِ الَّذِي يُمَيِّزُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ عَنْ غَيْرِهَا. الشَّوكُ وَالعُلَّيقُ يُثمِرَانِ ثَمَراً يُوَافِقُ طَبِيعَتَهُمَا، فَهُمَا يُثمِرَانِ ثَمَراً رَدِيئاً وَسَامّاً وَمُؤْذِياً. وَكَذَلِكَ، كُلُّ شَجَرَةٍ تُثْمِرُ حَسَبَ جِنْسِهَا، فَكُلُّ إِنْسَانٍ يَحْصُدُ نَتَائِجَ مَا يَزْرَعُهُ، وَكُلُّ أَعْمَالِهِ تَكْشِفُ حَقِيقَتَهُ. وَكَذَلِكَ، لِلْخَطِيئَةِ نَتَائِجُهَا، وَلِلْقَدَاسَةِ نَتَائِجُهَا، فَمِنَ الحَمَاقَةِ أَنْ نَتَوَقَّعَ مِنَ الأَشْرَارِ أَعْمَالًا صَالِحَةً، كَمَا أَنَّهُ مِنَ الجَهْلِ أَنْ نَتَوَقَّعَ أَثْمَارًا جَيِّدَةً مِنَ الأَشْجَارِ الرَّدِيئَةِ. وَهَذَا هُوَ الخَطَرُ الأَخِيرُ الَّذِي يُبَيِّنُهُ يَسُوعُ هُنَا، فَكَمَا يَقُولُ: "لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ، يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ، بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ" (مَتَّى 7: 21).

 

 45 الإِنْسانُ الطَّيِّبُ مِنَ الكَنْزِ الطَّيِّبِ في قَلبِه يُخرِجُ ما هُوَ طَيِّب، والإِنْسانُ الخَبيثُ مِن كَنزِه الخَبيثِ يُخرِجُ ما هو خَبيث، فمِن فَيضِ قَلبِه يَتَكَلَّمُ لِسانُه.

 

تشيرُ عبارةُ "الإِنْسانُ الطَّيِّبُ مِنَ الكَنْزِ الطَّيِّبِ في قَلبِه يُخرِجُ ما هُوَ طَيِّب، والإِنْسانُ الخَبيثُ مِن كَنزِه الخَبيثِ يُخرِجُ ما هو خَبيث" إلى أنَّ أفعالَ الإنسانِ وأقوالَهُ نابعةٌ من قلبِهِ، فهو يُدانُ بناءً على ما يُنتجهُ قلبُهُ. أما عبارةُ "الإِنْسانُ الطَّيِّبُ مِنَ الكَنْزِ الطَّيِّبِ في قَلبِهِ يُخرِجُ ما هُوَ طَيِّب" فتُشيرُ إلى المُعَلِّمِينَ الصَّالِحِينَ الذينَ يَنتُجُ عَنهُم إِثْمَارُ الرُّوحِ، كَمَا وَرَدَ فِي رِسَالَةِ بُولُسَ الرَّسُولِ:"أَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ المَحَبَّةُ وَالفَرَحُ وَالسَّلَامُ وَالصَّبْرُ وَاللُّطْفُ وَكَرَمُ الأَخْلَاقِ وَالإِيمَانُ وَالوَدَاعَةُ وَالعَفَافُ" (غلاطية 5: 22-23). هذهِ الثِّمَارُ لا تَنتُجُ مِنْ قَلبٍ فَاسِدٍ، بَلْ مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ وَنَقِيٍّ. أما عبارةُ "فَمِن فَيضِ القَلْبِ يَتكلَّمُ اللِّسانُ" فتُؤَكِّدُ أَنَّ كَلامَ الإِنْسانِ وَسُلُوكَهُ يَكْشِفَانِ مَا فِي قَلْبِهِ، وكلماتُ الإنسانِ الخارجيَّةُ تَعْتَمِدُ على باطِنِهِ، وتكشفُ ليسَ التزامَنا وجهودَنا فحسب، إنَّما ثمرةَ حياتِنا الحقيقيَّة. فَالكَلِمَةُ الصَّادِرَةُ عَنِ الإِنْسَانِ هِيَ عَكْسُ صُورَةِ قَلبِهِ الدَّاخِلِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ قَلبُهُ نَقِيًّا، فَإِنَّ كَلِمَاتِهِ وَأَفْعَالَهُ سَتَكُونُ نَقِيَّةً وَعَادِلَةً. وقد أوْضح الحَكيم يشوع بن سِيراخ هذه المقولة بقوله: "حِرَاثَةُ الشَّجَرِ تَظْهَرُ مِنْ ثَمَرِهَا، كَذلِكَ تَفَكُّرُ قَلْبِ الإِنْسَانِ يَظْهَرُ مِنْ كَلاَمِهِ، لآ تَمدَحْ رَجُلاً قَبلَ أَن يَتَكلَم" (سيراخ 27: 7-8). فإِنَّه بِهذا يُمتَحَنُ النَّاس. ويَقُولُ المَثَلُ: "كُلُّ إِنَاءٍ بِمَا فِيهِ يَنْضَحُ"، وَقَدْ قَالَ يَسُوعُ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى:"الإِنْسانُ الطَّيِّبُ مِن كَنزِه الطَّيِّبِ يُخرِجُ الطَّيِّب، وَالإِنْسانُ الخَبيثُ مِن كَنزِه الخَبيثِ يُخرِجُ الخَبيث" (مَتَّى 12: 33، 35). أما عبارةُ "قَلْبِهِ" تُشِيرُ إِلَى العُمْقِ الدَّاخِلِيِّ لِلإِنْسَانِ، وَهُوَ مَرْكَزُ العَوَاطِفِ وَالرُّوحِيَّةِ وَالعَقْلِ وَالنِّيَّةِ، كَمَا جَاءَ فِي: "يَا قَوْمُ، أُفِيضُوا قُلُوبَكُمْ أَمَامَهُ" (مَزْمُور 62: 8). فَبِحَسَبِ القَلْبِ تَكُونُ طَبِيعَةُ الإِنْسَانِ، فَهُوَ إِمَّا مُسْتَقِيمٌ وَطَيِّبٌ، أَوْ مُعْوَجٌّ وَخَبِيثٌ (مَزْمُور 101: 4). أما عبارةُ "الإِنْسانُ الخَبيثُ" تُشِيرُ إِلَى المُعَلِّمِينَ الكَاذِبِينَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ التَّقْوَى، وَلَكِنَّ أَعْمَالَهُمْ تُنَاقِضُ كَلَامَهُمْ. فَشَهَادَةُ أَعْمَالِهِمْ أَصْدَقُ مِنْ شَهَادَةِ أَلْسِنَتِهِمْ، وَيُحَذِّرُ يَسُوعُ مِنْ هَؤُلَاءِ قَائِلًا:"يَا أَوْلَادَ الأَفَاعِي، كَيْفَ لَكُمْ أَنْ تَقُولُوا كَلَاماً طَيِّباً وَأَنْتُمْ خُبَثَاء؟" (مَتَّى 12: 34).

 

 

ثانياً: تَطْبيقَات النَّصِّ الإنْجِيلي (لوقا 6: 39-45)  

   

اِنْطِلَاقًا مِنْ تَحْلِيلِ وَقَائِعِ النَّصِّ الْإِنْجِيلِيِّ وَتَفْسِيرِهَا (لُوقَا ٦: ٣٩-٤٥)، يُمْكِنُنَا أَنْ نَسْتَنْتِجَ أَنَّ النَّصَّ يَتَمَحْوَرُ حَوْلَ كَيْفِيَّةِ تَعَامُلِ الْإِنْسَانِ مَعَ أَخِيهِ دُونَ رِيَاءٍ. إِنَّ مِنْ أَكْثَرِ الْأَمْرَاضِ انْتِشَارًا بَيْنَ النَّاسِ هُوَ الرِّيَاءُ، فَعَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ حِمَايَةِ ذَاتِهِ مِنْهُ. وَالرِّيَاءُ قَدْ يَكُونُ بِالْعَيْنِ وَقَدْ يَكُونُ عَنْ طَرِيقِ الْقَلْبِ.

 

 

1) التَّعَامُلُ دُونَ رِيَاءِ العَيْنِ

 

أَعْطَى يَسُوعُ رِسَالَةً لِلتَّلَامِيذِ أَنْ يُصْبِحُوا القَادَةَ وَالمُعَلِّمِينَ الرُّوحِيِّينَ لِلْأَرْضِ كُلِّهَا: "اِذْهَبُوا فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا وَأَعْلِنُوا البِشَارَةَ إِلَى الخَلْقِ أَجْمَعِينَ" (مَرْقُسَ 16: 15). وَهُنَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ أَنْ يَتَعَامَلُوا دُونَ رِيَاءِ العَيْنِ، مُوَضِّحًا ذَلِكَ بِمَثَلٍ: "أَيَسْتَطِيعُ الْأَعْمَى أَنْ يَقُودَ الْأَعْمَى؟ أَلَا يَسْقُطُ كِلَاهُمَا فِي حُفْرَةٍ؟" (لُوقَا 6: 40).

 

أ) التَّمييز

 

المُعَلِّمُ يَكُونُ أَعْمَى البَصِيرَةِ إِذَا لَمْ يُمَيِّزِ الحُرِّيَّةَ مِنَ الإِبَاحِيَّةِ، والنُّورَ مِنَ الظَّلَامِ، لِأَنَّ خَطِيئَةَ الكِبْرِيَاءِ وَالسُّلْطَةِ وَالمَالِ أَعْمَتْ عَيْنَيْهِ. فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ العَمَى، يَكُونُ الإِنْسَانُ لَهُ عَيْنٌ فِعْلًا، وَلَكِنَّ الشِّرِّيرَ خَدَعَهُ، وَدَخَلَ مِنْ خِلَالِ إِرَادَتِهِ وَاسْتَعْبَدَهَا، وَبِالتَّالِي أَصْبَحَ أَعْمَى العَيْنِ، أَعْمَى البَصِيرَةِ؛ لَهُ عَيْنٌ وَلَا يُبْصِرُ، وَلَا يَرَى كَمَا يَقُولُ إِرْمِيَا النَّبِيُّ: "اِسْمَعُوا هَذَا أَيُّهَا الْأَغْبِيَاءُ، الشَّعْبُ الفَاقِدُ اللُّبِّ، الَّذِي لَهُ عُيُونٌ وَلَا يُبْصِرُ، وَلَهُ آذَانٌ وَلَا يَسْمَعُ" (إِرْمِيَا 5: 21).

 

فِي حِينٍ يَتَمَتَّعُ المُعَلِّمُونَ الحَقِيقِيُّونَ بِالتَّطْوِيبِ الإِلَهِيِّ: "طُوبَى لِعُيُونِكُمْ لِأَنَّهَا تُبْصِرُ، وَلِآذَانِكُمْ لِأَنَّهَا تَسْمَعُ" (مَتَّى 13: 11-16). وَأَضَافَ يَسُوعُ قَائِلًا: "مَا مِنْ تِلْمِيذٍ أَسْمَى مِنْ مُعَلِّمِهِ، كُلُّ تِلْمِيذٍ اكْتَمَلَ عِلْمُهُ يَكُونُ مِثْلَ مُعَلِّمِهِ" (لُوقَا 6: 40). فَيَتَوَجَّبُ عَلَى المُعَلِّمِينَ أَنْ يَعْتَادُوا عَلَى طَرِيقَةِ العَيْشِ حَسَبَ الإِنْجِيلِ، وَيَسْتَعِدُّوا لِلْقِيَامِ بِأَيِّ عَمَلٍ صَالِحٍ، وَأَنْ يُنْقِلُوا العَقِيدَةَ الصَّحِيحَةَ، حَوْلَ الخَلَاصِ، وَالمُطَابِقَةَ تَمَامًا لِلحَقِيقَةِ، لِلَّذِينَ سَيُعَلِّمُونَهُمْ، بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا قَدْ تَأَمَّلُوهَا هُمْ نَفْسُهُمْ أَوَّلًا، وَتَرَكُوا النُّورَ الإِلَهِيَّ يُنِيرُ عُقُولَهُمْ، وَإِلَّا يَكُونُوا عُمْيَانًا يَقُودُونَ عُمْيَانًا.

 

ب) عدم التباهي

 

أَرَادَ الرَّبُّ أيضًا أَنْ يُوقِفَ المَيْلَ إِلَى التَّبَاهِي الَّذِي نَجِدُهُ عِنْدَ الكَثِيرِ مِنَ النَّاسِ، وَأَنْ يُثْنِيَهُمْ عَنْ مُنَافَسَةِ مُعَلِّمِيهِمْ. فَقَالَ لَهُمْ: "مَا مِنْ تِلْمِيذٍ أَسْمَى مِنْ مُعَلِّمِهِ". حَتَّى لَوْ تَمَكَّنَ البَعْضُ مِنْ بُلُوغِ دَرَجَةِ فَضِيلَةٍ مُسَاوِيَةٍ لِمُعَلِّمِيهِمْ، عَلَيْهِمْ خَاصَّةً أَنْ يَتَّبِعُوا تَوَاضُعَ المَسِيحِ. وَيُعْطِينَا بُولُسُ الرَّسُولُ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: "اِقْتَدُوا بِي كَمَا أَقْتَدِي أَنَا بِالمَسِيحِ" (1 قُورِنْتُسَ 11: 1).

 

وَإِذَا لَمْ يَسِرِ التِّلْمِيذُ عَلَى خُطَى المُعَلِّمِ يَسُوعَ المَسِيحِ يُصْبِحُ أَعْمَى البَصِيرَةِ، خَاصَّةً إِذَا أَخَذَ يُدِينُ إِخْوَتَهُ الآخَرِينَ. فَيَسُوعُ المُعَلِّمُ الإِلَهِيُّ لَمْ يَأْتِ لِيَدِينَ العَالَمَ، بَلْ لِيُخَلِّصَهُ (يُوحَنَّا ١٢: ٤٧)، فَإِذَا أَخَذَ تِلْمِيذٌ يُدِينُ، فَإِنَّهُ مُذْنِبٌ أَكْثَرَ مِنَ الَّذِي يُدِينُهُ. وَمِنْ هُنَا جَاءَ سُؤَالُ يَسُوعَ مُوَبِّخًا: "لِمَاذَا تَنْظُرُ إِلَى القَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ؟ وَالخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ أَفَلَا تَأبَهُ لَهَا؟" (لُوقَا 6: 41). وَفِي هَذَا الصَّدَدِ قَالَ الشَّاعِرُ المَشْهُورُ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ:

"لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ - عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ

اِبْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا -فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ"

 

لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْقِفَ الإِنْسَانُ عِنْدَ خَطَايَا النَّاسِ، وَيُغْمِضَ عَيْنَهُ عَنْ خَطَايَاهُ. لْيُصْلِحِ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ أَوَّلًا، قَبْلَ أَنْ يُصْلِحَ غَيْرَهُ.

 

ج) التركيز عَلَى خَطَايَا الأنسان نفسه   

 

مَنْ يُرَكِّزُ عَلَى خَطَايَاهُ سَيَرَاهَا كَبِيرَةً "الخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ"، فَيَهْتَمُّ أَنْ يُخْرِجَهَا. وَلَكِنْ مَنْ يَنْسَى نَفْسَهُ وَيُرَكِّزُ عَلَى خَطَايَا الآخَرِينَ، يُدِينُهُمْ وَيَنْسَى أَنْ يُخْرِجَ الخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِهِ. وَالقَذَى هُوَ الذَّرَّاتُ المُتَطَايِرَةُ مِنَ الخَشَبِ عِنْدَ نَشْرِهِ بِالمِنْشَارِ، وَهَذِهِ إِشَارَةٌ لِلْخَطِيئَةِ الصَّغِيرَةِ، فَكَيْفَ نُدِينُ النَّاسَ عَلَى خَطَايَا صَغِيرَةٍ، وَنَحْنُ مُلَوَّثُونَ بِخَطَايَا كَبِيرَةٍ؟ وَلِذَلِكَ يَتَوَجَّبُ عَلَى المُعَلِّمِ أَنْ يَهْتَمَّ بِنَفْسِهِ أَوَّلًا، فَيُصْلِحَ نَفْسَهُ قَبْلَ إِصْلَاحِ تَلَامِيذِهِ. إِذْ كَيْفَ يَسْتَطِيعُ المُرَائِي أَنْ يَنْزِعَ مِنْ عَيْنِهِ الخَشَبَةَ الَّتِي تَمْنَعُهُ مِنَ النَّظَرِ، فِي حِينِ أَنَّهُ لَا يُفَكِّرُ إِلَّا فِي نَزْعِ القَذَى مِنْ عَيْنِ قَرِيبِهِ؟ فَمَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ أَهَمُّ وَأَفْضَلُ مِنْ قَرِيبِهِ، فَهُوَ مُرَاءٍ وَدَجَّالٌ.

 

ه) الابتعاد عن مُرَاءَة العِمَى

 

الأَعْمَى هُوَ المُرَائِي فِي مَفْهُومِ يُوحَنَّا الإِنْجِيلِيِّ، حَيْثُ يَسْتَبْدِلُ لَقَبَ "مُرَاءٍ" بِلَقَبِ "أَعْمَى"، فَخَطِيئَةُ اليَهُودِ فِي نَظَرِ يُوحَنَّا الإِنْجِيلِيِّ تَقُومُ عَلَى قَوْلِهِمْ: "إِنَّنَا نَرَى"، فِي حِينِ أَنَّهُمْ عُمْيَانٌ (يُوحَنَّا ٩: ٤٠). وَيَتَعَوَّدُ المَرْءُ مُغَايَرَةَ مَا فِي القَلْبِ عَمَّا عَلَى الشِّفَتَيْنِ، فَيُخْفِي نِيَّتَهُ الخَبِيثَةَ تَحْتَ شِعَارِ المُهَاوَدَةِ وَالتَّمَسُّكِ بِالشَّكْلِيَّاتِ، وَهَذَا مَا نَدْعُوهُ رِيَاءً أَوْ مُرَاءَاةً.

 

لَيْسَ الرِّيَاءُ الدِّينِيُّ مُجَرَّدَ كَذِبٍ، بَلْ هُوَ أَيْضًا غِشٌّ لِلْغَيْرِ بِقَصْدِ كَسْبِ تَقْدِيرِهِ عَنْ طَرِيقِ مُمَارَسَاتٍ دِينِيَّةٍ لَا تَكُونُ النِّيَّةُ فِيهَا سَلِيمَةً. ويَظْهرُ المُرَائِي كَأَنَّهُ يَعْمَلُ مِنْ أَجْلِ اللهِ، فِي حِينِ أَنَّهُ يَعْمَلُ فِي الوَاقِعِ مِنْ أَجْلِ ذَاتِهِ وَالاِهْتِمَامِ "بِالظُّهُورِ أَمَامَ النَّاسِ"، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ السَّيِّدِ المَسِيحِ: "جَمِيعُ أَعْمَالِهِمْ يَعْمَلُونَهَا لِيَنْظُرَ النَّاسُ إِلَيْهِمْ" (مَتَّى ٢٣: ٥). لِذَلِكَ جَاءَ تَأْنِيبُ يَسُوعَ شَدِيدَ اللهْجَةِ تِجَاهَهُمْ: "أَيُّهَا المُرَاؤُونُ، أَحْسَنَ إِشَعْيَا فِي نُبُوءَتِهِ عَنْكُمْ إِذْ قَالَ: "هَذَا الشَّعْبُ يُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ وَأَمَّا قَلْبُهُ فَبَعِيدٌ مِنِّي. إِنَّهُمْ بِالبَاطِلِ يَعْبُدُونَنِي فَلَيْسَ مَا يُعَلِّمُونَ مِنَ المَذَاهِبِ سِوَى أَحْكَامٍ بَشَرِيَّةٍ" (مَتَّى 15: 7-8). لِذَلِكَ وَصَفَهُمْ يَسُوعُ بِالقُبُورِ: "الوَيْلُ لَكُمْ أَيُّهَا الكَتَبَةُ وَالفِرِّيسِيُّونَ المُرَاؤُونَ، فَإِنَّكُمْ أَشْبَهُ بِالقُبُورِ المُكَلَّسَةِ، يَبْدُو ظَاهِرُهَا جَمِيلًا، وَأَمَّا دَاخِلُهَا فَمُمْتَلِئٌ مِنْ عِظَامِ المَوْتَى وَكُلِّ نَجَاسَةٍ. وَكَذَلِكَ أَنْتُمْ، تَبْدُونَ فِي ظَاهِرِكُمْ لِلنَّاسِ أَبْرَارًا، وَأَمَّا بَاطِنُكُمْ فَمُمْتَلِئٌ رِيَاءً وَإِثْمًا" (مَتَّى 23: 27-28).

 

المُرَائِي الأَعْمَى يُحَاسِبُ النَّاسَ عَلَى التَّعَدِّيَاتِ الوَاهِيَةِ، بَيْنَمَا يَسْمَحُ لِنَفْسِهِ بِارْتِكَابِ المُنْكَرَاتِ وَأَعْظَمِ الشُّرُورِ فُجُورًا. فَيُدِينُ الآخَرِينَ وَيَرْمِيهِمْ بِأَشْنَعِ المَسَاوِئِ وَالعُيُوبِ، وَهُوَ عَنْ نَفْسِهِ أَعْمَى، إِذْ لَا يَنْظُرُ شَيْئًا، لِأَنَّ الخَشَبَةَ فِي عَيْنَيْهِ تَحْجُبُ الضَّوْءَ عَنْهُ. وَيَطْلُبُ مِنَّا يَسُوعُ أَنْ نُطَبِّقَ النَّصَائِحَ عَلَى أَنْفُسِنَا قَبْلَ أَنْ نُمْلِيَهَا عَلَى الآخَرِين.

 

ز) خَطَرُ المُرَائِينَ

 

خَطَرُ المُرَائِينَ هُوَ أَنْ يَنْتَهِيَ بِهِمُ الأَمْرُ إِلَى أَنْ يَحْسِبُوا حَقِيقَةً مَا أَرَادُوا أَنْ يُصَدِّقَهُ الآخَرُونَ: إِنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ أَنْفُسَهُمْ أَبْرَارًا (لُوقَا 18: 9). فيُصْبِحُ المُرَائِي أَشْبَهَ بِمُمَثِّلٍ عَلَى مَسْرَحٍ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الكَلِمَةُ اليُونَانِيَّةُ ὑποκριτά، فَيُوَاصِلُ تَمْثِيلَ دَوْرِهِ بِقَدْرِ مَا تَكُونُ مَكَانَتُهُ ذَاتَ شَأْنٍ وَكَلِمَتُهُ مُطَاعَةً، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ يَسُوعَ عَنْ رِيَاءِ الكَتَبَةِ وَالفِرِّيسِيِّينَ: "إِنَّ الكَتَبَةَ وَالفِرِّيسِيِّينَ عَلَى كُرْسِيِّ مُوسَى جَالِسُونَ، فَافْعَلُوا مَا يَقُولُونَ لَكُمْ وَاحْفَظُوهُ، وَلَكِنْ أَفْعَالَهُمْ لَا تَفْعَلُوا، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ وَلَا يَفْعَلُونَ" (مَتَّى 23: 2-3).

 

مِنَ المَعْلُومِ أَنَّ لِلْقَادَةِ الرُّوحِيِّينَ دَوْرًا لَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى الأَرْضِ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذُوا مَكَانَ اللهِ نَفْسِهِ. فَعِنْدَمَا يَسْتَبْدِلُونَ بِالشَّرِيعَةِ الإِلَهِيَّةِ سُنَنًا بَشَرِيَّةً، يُعْتَبَرُونَ عُمْيَانًا يُرِيدُونَ أَنْ يَقُودُوا غَيْرَهُمْ، كَمَا أَوْضَحَ يَسُوعُ: "لِمَ تُخَالِفُونَ أَنْتُمْ وَصِيَّةَ اللهِ مِنْ أَجْلِ سُنَّتِكُمْ؟"(مَتَّى 15: 3).  وَتَعْلِيمُهُمْ مَا هُوَ إِلَّا خَمِيرَةٌ خَبِيثَةٌ، كَمَا نَبَّهَ يَسُوعُ تَلَامِيذَهُ مِنَ الفِرِّيسِيِّينَ بِقَوْلِهِ: "إِيَّاكُمْ وَخَمِيرَ الفِرِّيسِيِّينَ، أَيِ الرِّيَاءَ" (لُوقَا 12: 1). هؤُلَاءِ العُمْيَانُ، وَإِذَا أَعْمَاهُمُ خُبْثُهُمْ، يَنْبِذُونَ صَلَاحَ يَسُوعَ، وَيَتَمَسَّكُونَ بِأَهْدَابِ شَرِيعَةِ السَّبْتِ لِيَمْنَعُوا عَمَلَ الخَيْرِ فِيهَا، كَمَا أَعْلَنَ يَسُوعُ: "أَيُّهَا المُرَاؤُونَ، أَمَا يَحِلُّ كُلٌّ مِنْكُمْ يَوْمَ السَّبْتِ رِبَاطَ ثَوْرِهِ أَوْ حِمَارِهِ مِنَ المِذْوَدِ، وَيَذْهَبُ بِهِ فَيَسْقِيهِ؟ وَهَذِهِ ابْنَةُ إِبْرَاهِيمَ قَدْ رَبَطَهَا الشَّيْطَانُ مُنْذُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، أَفَمَا كَانَ يَجِبُ أَنْ تُحَلَّ مِنْ هَذَا الرِّبَاطِ يَوْمَ السَّبْتِ؟" (لُوقَا 13: 15-16).

 

إِنْ كَانَ الفِرِّيسِيُّونَ المُرَاؤُونَ يَجْرُؤُونَ عَلَى تَصَوُّرِ يَسُوعَ المَسِيحِ الصَّانِعِ المُعْجِزَاتِ أَنَّهُ "بَعْلَ زَبُولَ سَيِّدُ الشَّيَاطِينِ"، فَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّ القَلْبَ الخَبِيثَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُخْرِجَ كَلِمَةً طَيِّبَةً (مَتَّى 12: 24-34). وَعَلَيْهِ، فَإِنَّ خَطِيئَةَ المُرَائِي الأَسَاسِيَّةَ هِيَ فَسَادُهُ الخَفِيُّ (مَتَّى 23: 27-28). وَكَانَ يَسُوعُ هُنَا يَسْتَخْدِمُ الكَلِمَةَ الآرَامِيَّةَ הַחֲנֵפִים الَّتِي تَعْنِي فِي الكِتَابِ المُقَدَّسِ "فَاسِقٌ، كَافِرٌ"، فَالمُرَائِي يُصْبِحُ فِي نِهَايَتِهِ كَافِرًا.

 

لَم يَكن خَطَرُ الرِّيَاءِ مَحْصُورًا عَلَى الفِرِّيسِيِّينَ، إِنَّمَا يَشْمَلُ الجَمِيعَ أَيْضًا (لُوقَا ١٢: ٥٦). فَالمَسِيحِيُّ هُوَ أَيْضًا عُرْضَةٌ لِأَنْ يُصْبِحَ مُرَائِيًا. فَالرَّسُولُ بُطْرُسُ نَفْسُهُ وَبَرْنَابَا وَبَعْضُ اليَهُودِ لَمْ يَنْجُوا مِنْ هَذَا الخَطَرِ فِي حَادِثِ أَنْطَاكِيَا، الَّذِي جَعَلَهُمْ فِي خِلَافٍ مَعَ بُولُسَ الرَّسُولِ، فَسُلُوكُهُمْ كَانَ رِيَاءً، كَمَا نَقْرَأُ فِي رِسَالَةِ غَلَاطِيَّةَ: "لَمَّا قَدِمَ صَخْرٌ (بُطْرُسُ) إِلَى أَنْطَاكِيَةَ، قَاوَمْتُهُ وَجْهًا لِوَجْهٍ، لِأَنَّهُ كَانَ يَسْتَوْجِبُ اللَّوْمَ. ذَلِكَ أَنَّهُ، قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ قَوْمٌ مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ، كَانَ يُؤَاكِلُ الوَثَنِيِّينَ، فَلَمَّا قَدِمُوا، أَخَذَ يَتَوَارَى وَيَتَنَحَّى خَوْفًا مِنْ أَهْلِ الخِتَانِ، فَجَارَاهُ سَائِرُ اليَهُودِ فِي رِيَائِهِ، حَتَّى إِنَّ بَرْنَابَا انْقَادَ هُوَ أَيْضًا إِلَى رِيَائِهِمْ"(غَلَاطِيَّةَ 2: 12-13).  لِذَلِكَ يُوصِي بُطْرُسُ الرَّسُولُ المُؤْمِنَ أَنْ يَعِيشَ بَعِيدًا عَنِ الرِّيَاءِ، عَالِمًا بِأَنَّ الرِّيَاءَ وَاقِفٌ لَهُ بِالمِرْصَادِ: "أَلْقُوا عَنْكُمْ كُلَّ خُبْثٍ وَكُلَّ غِشٍّ وَكُلَّ أَنْوَاعِ الرِّيَاءِ وَالحَسَدِ وَالنَّمِيمَةِ" (1 بُطْرُسَ 1:2-2). لِأَنَّ الرِّيَاءَ يَقُودُ المُؤْمِنَ إِلَى الاِرْتِدَادِ عَنِ الإِيمَانِ (١ طِيمُوثَاوُسَ 4: 1-2).

 

 

2) التَّعَامُلُ دُونَ رِيَاءِ القَلْبِ

 

لَا يَكْفِي أَنْ نَتَعَامَلَ مَعَ أَخِينَا دُونَ رِيَاءِ العَيْنِ، بَلْ مَطْلُوبٌ مِنَّا أَيْضًا مُعَامَلَتُهُ دُونَ رِيَاءِ القَلْبِ. فِي اللُّغَةِ العِبْرِيَّةِ، لَا يَشْمَلُ مَدْلُولُ القَلْبِ الحَيَاةَ العَاطِفِيَّةَ وَالمَشَاعِرَ فَحَسْبُ، "لِأَنَّكَ سَبَقْتَ فَبَارَكْتَهُ، جَعَلْتَ عَلَى رَأْسِهِ إِكْلِيلًا مِنْ ذَهَبٍ خَالِصٍ" (مَزْمُورُ ٢١: ٣)، إِنَّمَا يُعَبِّرُ أَيْضًا عَنْ "بَاطِنِ" الإِنْسَانِ بِمَا فِيهِ مِنَ الذِّكْرَيَاتِ وَالأَفْكَارِ، وَالمَشَارِيعِ وَالقَرَارَاتِ. فَاللهُ أَعْطَى البَشَرَ "قَلْبًا يُفَكِّرُ" (سِيرَاخ ١٧: ٦)؛ فَقَلْبُ الإِنْسَانِ هُوَ بِالذَّاتِ مَصْدَرُ شَخْصِيَّتِهِ الوَاعِيَةِ، العَاقِلَةِ وَالحُرَّةِ، وَمَوْطِنُ اخْتِيَارَاتِهِ الحَاسِمَةِ، وَاسْتِعْدَادِهِ الدَّاخِلِيِّ. فَمَظْهَرُ الإِنْسَانِ الخَارِجِيُّ يَدُلُّ عَادَةً عَلَى مَا يَعْمُرُ بِهِ قَلْبُهُ. فَيُعْرَفُ مَا فِي القَلْبِ، بِطَرِيقٍ غَيْرِ مُبَاشِرٍ، بِوَاسِطَةِ مَا يَبْدُو عَلَى الوَجْهِ (سِيرَاخ 23: 25)، وَبِمَا تَنْطِقُ بِهِ أَيْضًا الشِّفَتَانِ (أَمْثَال 16: 23)، وَمَا تَشْهَدُ بِهِ الأَفْعَالُ (لُوقَا 6: 44-45).

 

أ) رِيَاءُ الِازْدِوَاجِيَّةِ

 

قَدْ يَكُونُ قَلْبُ الإِنْسَانِ مُنْقَسِمًا، وَبِالتَّالِي يَعِيشُ رِيَاءَ الِازْدِوَاجِيَّةِ؛ فَهُوَ يُعَبِّرُ خَارِجِيًّا عَنْ شَيْءٍ بِخِلَافِ مَا فِي دَاخِلِهِ مِنْ قَرَارَاتٍ وَاسْتِعْدَادَاتٍ. إِنَّهُ يَهْتَمُّ بِالمَظْهَرِ عَلَى حِسَابِ الجَوْهَرِ، وَيَهْتَمُّ بِالطُّقُوسِ عَلَى حِسَابِ السُّلُوكِ، وَيَهْتَمُّ بِالكَلَامِ عَلَى حِسَابِ الفِعْلِ. إِنَّ هَذِهِ الِازْدِوَاجِيَّةَ شَرٌّ عَمِيقٌ يَسْتَنْكِرُهُ الكِتَابُ المُقَدَّسُ بِشِدَّةٍ، كَمَا جَاءَ فِي صَلَاةِ صَاحِبِ المَزَامِيرِ: "لَا تَجُرْنِي مَعَ الأَشْرَارِ وَفَعَلَةِ الآثَامِ، مَنْ يُسَالِمُونَ قَرِيبَهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَالشَّرُّ كَامِنٌ فِي قُلُوبِهِمْ" (مَزْمُورُ 28: 3-4). وَمِنْ هُنَا جَاءَتْ كَلِمَاتُ سَيِّدِنَا يَسُوعَ المَسِيحِ: "الإِنْسَانُ الطَّيِّبُ مِنَ الكَنْزِ الطَّيِّبِ فِي قَلْبِهِ يُخْرِجُ مَا هُوَ طَيِّبٌ، وَالإِنْسَانُ الخَبِيثُ مِنْ كَنْزِهِ الخَبِيثِ يُخْرِجُ مَا هُوَ خَبِيثٌ، فَمِنْ فَيْضِ قَلْبِهِ يَتَكَلَّمُ لِسَانُهُ" (لُوقَا 6: 45). 

 

القَلْبُ، كَمَصْدَرِ النَّوَايَا العَمِيقَةِ لِلإِنْسَانِ، هُوَ الَّذِي يُقَرِّرُ أَعْمَالَنَا الصَّالِحَةَ أَوِ الشِّرِّيرَةَ. "إِنَّ الإِنَاءَ يَنْضَحُ بِمَا فِيهِ" كَمَا يَقُولُ المَثَلُ. القَلْبُ الفَاضِلُ لَا يَصْدُرُ مِنْهُ إِلَّا الإِيجَابِيَّاتُ، وَ"مَا بِيَطْلَعُ مِنَ المَلِيحِ إِلَّا المَلِيحُ". يَدْعُونَا يَسُوعُ أَنْ نُظْهِرَ كَمَا نَحْنُ، لَا رِيَاءَ فِينَا وَلَا فَرِّيسِيَّةَ. وَمِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ، يَجِبُ أَنْ تَتَجَاوَبَ حَرَكَاتُنَا الظَّاهِرِيَّةُ مَعَ شُعُورِنَا الدَّاخِلِيِّ، وَأَنْ تَصْدُرَ شَعَائِرُنَا الدِّينِيَّةُ عَنْ إِيمَانٍ بَاطِنِيٍّ وَطِيدٍ. لِذَلِكَ يَطْلُبُ السَّيِّدُ المَسِيحُ مِنْ تَلَامِيذِهِ فِي مُعَامَلَتِهِمْ مَعَ إِخْوَتِهِمْ دُونَ رِيَاءِ القَلْبِ أَنْ يَكُونُوا شَجَرَةً صَالِحَةً لِيَأْتُوا بِالثَّمَرِ الصَّالِحِ. وَإِذَا أَثْمَرْنَا ثَمَرًا رَدِيئًا، يَأْتِي تَأْنِيبُ يَسُوعَ لَنَا: "لِمَاذَا تَدْعُونَنِي: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ! وَلَا تَعْمَلُونَ بِمَا أَقُولُ؟" (لُوقَا 6: 46). وَلَكِنْ إِنْ كُنَّا نُحِبُّ يَسُوعَ وَنُرِيدُ أَنْ نَتْبَعَهُ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَعْمَلَ بِمَا يَقُولُ، فَنُثْمِرَ ثَمَرًا طَيِّبًا.

 

ب) رِيَاءُ الشِّفَتَيْنِ

 

يُظْهِرُ الإِنْسَانُ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ خِلَالِ الشِّفَتَيْنِ. فَهُمَا فِي خِدْمَةِ القَلْبِ الطَّيِّبِ أَوِ المُنَافِقِ، كَمَا يَقُولُ صَاحِبُ الأَمْثَالِ: "شَفَتَا البَارِّ تَعْرِفَانِ المَرْضِيَّ، وَأَفْوَاهُ الأَشْرَارِ تَعْرِفُ الخَدَائِعَ" (أَمْثَال 10: 32). وَهُمَا تُنَبِّئَانِ بِصِفَاتِ الإِنْسَانِ، إِمَّا بِالنِّعَمِ لَدَى القَلْبِ الطَّيِّبِ، كَمَا قَالَ صَاحِبُ المَزَامِيرِ: "إِنَّكَ أَجْمَلُ بَنِي آدَمَ، وَالظَّرْفُ عَلَى شَفَتَيْكَ انْسَكَبَ" (مَزْمُورُ 45: 39)، أَوْ بِالكَذِبِ لَدَى القَلْبِ الشِّرِّيرِ، كَمَا جَاءَ فِي سِفْرِ الأَمْثَالِ: "فَاسْتَمَالَتْهُ بِكَثْرَةِ فُنُونِهَا، وَاسْتَهْوَتْهُ بِتَمَلُّقِ شَفَتَيْهَا" (أَمْثَال 7: 21)، أَوْ بِالنِّفَاقِ وَالخِدَاعِ وَالنَّمِيمَةِ لَدَى الخَاطِئِ، كَمَا يَقُولُ صَاحِبُ الأَمْثَالِ: "إِنْفِ عَنْكَ خِدَاعَ الفَمِ، وَخُبْثَ الشَّفَتَيْنِ أَبْعِدْهُ عَنْكَ" (أَمْثَال 4: 24).

 

وَتَسْتَطِيعُ الشِّفَتَانِ أَنْ تُخْفِيَا الشَّرَّ الدَّفِينَ وَرَاءَ وَجْهٍ لَطِيفٍ، كَمَا جَاءَ فِي الكِتَابِ المُقَدَّسِ: "الشِّفَاهُ المُتَوَهَّجَةُ وَالقَلْبُ الشِّرِّيرُ فِضَّةٌ ذَاتُ خَبَثٍ عَلَى خَزَفٍ" (أَمْثَال 26: 23). وَقَدْ يَظْهَرُ النِّفَاقُ أَيْضًا لَيْسَ فِي الحِوَارِ مَعَ الإِنْسَانِ فَحَسْبُ، إِنَّمَا فِي الحِوَارِ مَعَ اللهِ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ يَسُوعَ: "هَذَا الشَّعْبُ يُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَبَعِيدٌ مِنِّي" (مَتَّى 15: 8). وَلِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الشِّفَتَيْنِ مُخْلِصَتَيْنِ وَبَارَّتَيْنِ، بَعِيدَتَيْنِ مِنْ كُلِّ كَلِمَةِ خُبْثٍ، لَا بُدَّ مِنَ الطَّاعَةِ وَالأَمَانَةِ للهِ، كَمَا تَرَنَّمَ صَاحِبُ المَزَامِيرِ: "أَقِمْ يَا رَبُّ حَارِسًا عَلَى فَمِي، وَرَاقِبْ بَابَ شَفَتَيَّ" (مَزْمُورُ 141: 3).

 

ج) رِيَاءُ الكَذِبِ

 

يَكشِفُ الإِنسانُ أيضا ما في قَلبِهِ مِن خِلالِ الكَذِبِ. وَالكَذِبُ في مَدْلُولِهِ الوَاسِعِ هُوَ الغِشُّ، وَالخِدَاعُ، وَعَدَمُ مُطَابَقَةِ الفِكْرِ وَاللِّسَانِ: "أَلْسِنَتُهُمْ سِهَامٌ قَاتِلَةٌ فِي أَفْوَاهِهِمْ، يَنْطِقُونَ بِالمَكْرِ وَيُكَلِّمُونَ أَصْدِقَاءَهُمْ بِالسَّلَامِ وَفِي بَوَاطِنِهِمْ يَكْمُنُونَ لَهُمْ" (إِرْمِيَا 9: 7) .

 

يَطْلُبُ يَسُوعُ مِنْ أَتْبَاعِهِ الوُضُوحَ وَالصَّرَاحَةَ: "فَلْيَكُنْ كَلَامُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ، وَلَا لَا. فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مِنَ الشِّرِّيرِ" (مَتَّى 5: 37). وَجَعَلَ بُولُسُ الرَّسُولُ مِنْ كَلَامِ يَسُوعَ قَاعِدَةً لِلسُّلُوكِ (2 قُورِنْتُس 1: 17)؛ لِذَلِكَ يُوصِي المَسِيحِيِّينَ: "لَا يَكْذِبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَقَدْ خَلَعْتُمُ الإِنْسَانَ القَدِيمَ وَخَلَعْتُمْ مَعَهُ أَعْمَالَهُ" (قُولُسِّي 3: 9)، "وَكُفُّوا عَنِ الكَذِبِ ((وَلْيَصْدُقْ كُلٌّ مِنْكُمْ قَرِيبَهُ))، فَإِنَّنَا أَعْضَاءٌ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ" (أَفَسُس 4: 25).

 

الكَذِبُ يَكُونُ بِمَثَابَةِ عَوْدَةٍ إِلَى الطَّبِيعَةِ المُشَوَّهَةِ بِالخَطِيئَةِ، وَيُوقِعُنَا فِي تَنَاقُضٍ مَعَ التَّضَامُنِ بَيْنَنَا فِي المَسِيحِ. وَمِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ، يَنبَغِي عَلَى المُؤْمِنِ الحَقِيقِيِّ أَنْ يَنْبُذَ الكَذِبَ مِنْ حَيَاتِهِ، لِيَصِيرَ فِي وَحْدَةِ شَرِكَةٍ مَعَ إِلَهِ الحَقِّ، كَمَا أَشَارَ صَاحِبُ المَزَامِيرِ فِي صَلَاتِهِ: "يَا رَبُّ، مَنْ يُقِيمُ فِي خَيْمَتِكَ وَمَنْ يَسْكُنُ فِي جَبَلِ قُدْسِكَ؟ السَّالِكُ طَرِيقَ الكَمَالِ وَفَاعِلُ البِرِّ وَالمُتَكَلِّمُ مِنْ قَلْبِهِ بِالحَقِّ" (مَزْمُور 15: 1-2).

 

لَا يَكْمُنُ الكَذِبُ الأَكْبَرُ فِي كَذِبِ الشَّفَتَيْنِ، بَلْ فِي كَذِبِ الحَيَاةِ (1 تَسَالُونِيقِي 1: 9). وَيَكْمُنُ كَذِبُ الحَيَاةِ فِي تَجَاهُلِ الإِلَهِ الحَقِيقِيِّ بِاتِّخَاذِ الكَذِبِ عَادَةً ثَابِتَةً فِي الحَيَاةِ، ذَلِكَ هُوَ مَسْلَكُ الأَشْرَارِ المُحْتَالِينَ، أَعْدَاءِ الإِنْسَانِ الصَّالِحِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ يَشُوعُ بْنُ سِيرَاخ: "لَا يَدْعُكَ النَّاسُ نَمَّامًا وَلَا تَكْمُنْ بِلِسَانِكَ فَإِنَّ لِلسَّارِقِ الخِزْيَ وَعَلَى ذِي اللِّسَانَيْنِ الحُكْمَ الشَّدِيدَ" (سِيرَاخ 5: 14).

 

وَلَيْسَ لَدَيْهِمْ إِلَّا الكَذِبُ تَمْتَلِئُ بِهِ أَفْوَاهُهُمْ، كَمَا يَصِفُهُمْ صَاحِبُ المَزَامِيرِ: "خَطِيئَةُ أَفْوَاهِهِمْ كَلَامُ شِفَاهِهِمْ: فَلْيُؤْخَذُوا فِي تَكَبُّرِهِمْ لِأَنَّهُمْ بِاللَّعْنَةِ وَالكَذِبِ يَتَحَدَّثُونَ" (مَزْمُور 59: 13). وَيَضَعُونَ ثِقَتَهُمْ فِي الكَذِبِ كَمَا جَاءَ فِي نُبُوءَةِ هُوشَعَ: "لَقَدْ حَرَثْتُمُ الشَّرَّ وَحَصَدْتُمُ الظُّلْمَ وَأَكَلْتُم ثَمَرَ الكَذِبِ" (هُوشَعَ 10: 13).

 

إِنَّ التَّجَرُّدَ مِنْ كُلِّ كَذِبٍ هُوَ مَطْلَبٌ أَوَّلِيٌّ مِنْ مَطَالِبِ الحَيَاةِ المَسِيحِيَّةِ، لَا سِيَّمَا مِنْ قِبَلِ حَامِلِي رِسَالَةِ المَسِيحِ وَمُعَلِّمِي الإِنْجِيلِ (1 بُطْرُس 2: 1). وَإِنَّنَا نَقْصِدُ بِذَلِكَ لَا كَذِبَ الشِّفَتَيْنِ فَحَسْبُ، بَلْ أَيْضًا الكَذِبَ الَّذِي تَنْطَوِي عَلَيْهِ كُلُّ الرَّذَائِلِ (رُؤْيَا 21: 8)، وَخَاصَّةً تَجَاهُلَ الحَقِيقَةِ الإِلَهِيَّةِ وَهِيَ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ المَسِيحُ، كَمَا أَشَارَ يُوحَنَّا الرَّسُولُ: "مَنِ الكَذَّابُ إِنْ لَمْ يَكُنْ ذَاكَ الَّذِي يُنْكِرُ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ المَسِيحُ؟ هَذَا هُوَ المَسِيحُ الدَّجَّالُ، ذَلِكَ الَّذِي يُنْكِرُ الآبَ وَالِابْنَ" (1 يُوحَنَّا 2: 22).

 

فِي العَهْدِ القَدِيمِ، قَدْ أَدَانَ الأَنْبِيَاءُ الحَقِيقِيُّونَ الأَنْبِيَاءَ الكَذَبَةَ، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَدَلًا مِنْ "كَلِمَةِ" اللهِ، قَدَّمُوا لِلشَّعْبِ رِسَالَاتٍ خَادِعَةً) إِرْمِيَا 5: 31، حِزْقِيَال 13: 23، وَزَكَرِيَّا 13: 3)، هُمْ مُنْقَادُونَ بِالأَرْوَاحِ الشِّرِّيرَةِ (1 مُلُوك 22: 21).  وَكَانَ مِنَ الأَنْبِيَاءِ الكَذَبَةِ حَنَنِيَا النَّبِيُّ الكَذَّابُ (إِرْمِيَا 28: 1، 12-17)  وَصِدْقِيَا بْنُ كِنْعَانَةَ (1 مُلُوك 22: 11، 24).

 

لَمْ يَتَرَدَّدِ السَّيِّدُ المَسِيحُ فِي العَهْدِ الجَدِيدِ فِي إِدَانَةِ قَادَةِ الشَّعْبِ اليَهُودِيِّ العُمْيَانِ (مَتَّى 23: 16)، هَؤُلَاءِ المُرَاؤُونَ الكَذَّابُونَ، الَّذِينَ رَفَضُوا أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ (يُوحَنَّا 8: 55). كَمَا أَدَانَ كُلَّ الَّذِينَ يُحَرِّضُونَ عَلَى الكَذِبِ وَإِبْعَادِ النَّاسِ عَنِ الإِنْجِيلِ، مِثْلَ:

المَسَحَاءِ الدَّجَّالِينَ (1 يُوحَنَّا 2: 18-28)،

الرُّسُلِ الكَذَبَةِ (رُؤْيَا 2: 2)،

الأَنْبِيَاءِ الكَذَبَةِ (مَتَّى 7: 15)،

المَسَحَاءِ الكَذَبَةِ (مَتَّى 24: 24)،

المُعَلِّمِينَ الكَذَبَةِ (2 طِيمُوثَاوُس 4: 3)،

وَالأَخْوَةِ الكَذَبَة، أَعْدَاءِ الإِنْجِيلِ الحَقِيقِيِّ (غَلَاطِيَّة 2: 4)،

وَأَعْدَاءِ الحَقِّ الإِنْجِيلِيِّ (1 طِيمُوثَاوُس 4: 2).

 

 

الخُلاصَةُ

 

إِنَّ مَن يَبحَثُ عَنِ اللهِ وَيَحمِلُ رِسالَةَ الإِنجِيلِ يَنبَغِي أَن يَتَجَنَّبَ كُلَّ رِيَاءِ وَازدِواجِيَّةٍ (حِكمَةُ 1: 1)، بِحَيثُ لا يَنبَغِي أَن يَتَقَاسَمَ قَلبُهُ شَيءٌ كَمَا جَاءَ فِي تَعلِيمِ يَعقُوبَ الرَّسُولِ: "نَقُّوا قُلوبَكُم يَا ذَوِي النَّفسَينِ" (يَعقُوبَ 4: 8)، أَو مَا يُضَلِّلُ نِيَّتَهُ (سِيرَاخَ 1: 28-30)، أَو يُحِدُّ مِن سَخَائِهِ البَالِغِ حَدَّ المُجَازَفَةِ بِالحَيَاةِ (1 مَكَابِين 2: 37)، أَو يَجعَلَ ثِقَتَهُ فِي حَالَةِ تَرَدُّدٍ (يَعقُوبَ 1: 8). فَيَجِبُ أَن يَتَغَلَّبَ عَلَى كُلِّ اِعوِجَاجٍ فِي سُلُوكِهِ (أَمثَالُ 10: 9) وَفِي كَلَامِهِ (سِيرَاخَ 5: 9).

 

عِلَاوَةً عَلَى ذَلِكَ، يَطلُبُ السَّيِّدُ المَسِيحُ مِن تِلميذِهِ أَن يَنظُرَ إِلَى أَعمَاقِ حَيَاتِهِ، إِلَى دَاخِلِهِ وَيَنتَقِدَ ذَاتَهُ، خَاصَّةً عِندَمَا يُحَاوِلُ أَن يَنظُرَ بِالمِجهَرِ إِلَى ضُعفِ الكَنِيسَةِ وَالكَهَنَةِ وَإِخوَتِهِ الَّذِينَ لَا يُشَاطِرُونَهُ آرَاءَهُ، وَلِيُحَاوِلَ بِالحَرِيِّ أَن يَكشِفَ أَخطَاءَهُ. وَالوَاقِعُ، إِنَّنَا نَفقِدُ القُوَّةَ عَلَى إِصْلَاحِ أَنفُسِنَا عِندَمَا نَنظُرُ دَائِمًا نَحوَ أَخِينَا. إِنَّهُ لَأَمرٌ خَطِيرٌ أَن نَحكُمَ عَلَى إِنسَانٍ مِن أَجلِ خَطِيئَةٍ وَاحِدَةٍ اِرتَكَبَهَا، لِذَلِكَ يَقُولُ المَسِيحُ: "يَا مُرَائِي، أَخرِجْ أَوَّلًا الخَشَبَةَ مِن عَينِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبصِرُ جَيِّدًا أَن تُخرِجَ القَذَى الَّذِي فِي عَينِ أَخِيكَ".

 

يَسُوعُ يُشَبِّهُ خَطِيَّئةَ الأَخِ بِالقَذَى. فَكَيْفَ يُمكِنُكَ نَقدُ الآخَرِينَ وَالكَشفُ عَن سَيِّئَاتِهِم وَشُرُورِهِم وَفَحصُ أَسقَامِهِم وَأَمرَاضِهِم وَأَنتَ شِرِّيرٌ أَثِيمٌ وَمَرِيضٌ سَقِيمٌ؟ بَل كَيفَ يُمكِنُكَ رُؤيَةُ القَذَى الَّذِي فِي عَينِ أَخِيكَ، وَبِعَينِكَ خَشَبَةٌ تَحجُبُ عَينَكَ فَلَا تَرَى شَيئًا؟ فَالأَولَى بِكَ أَن تَنزِعَ عَنكَ عُيُوبَكَ، فَيُمكِنُكَ الحُكمُ بَعدَ ذَلِكَ عَلَى الآخَرِينَ.

 

عَلَينَا مُرَاجَعَةُ الحَيَاةِ، أَن نَعُودَ إِلَى أَعمَاقِ ذَوَاتِنَا قَبلَ نَقدِنَا اللَّاذِعِ لِلآخَرِينَ بِقَصدِ إِظهَارِ أَخطَائِهِم وَعُيُوبِهِم. وَبِكَلِمَةٍ أُخرَى، عَلَينَا إِصلَاحُ ذَوَاتِنَا قَبلَ إِصلَاحِ الآخَرِينَ.

 

فِي حَالِ تَوَجَّبَ عَلَينَا التَّوبِيخُ أَو التَّأدِيبُ، فَلنَحرِصْ حِرصًا شَدِيدًا عَلَى طَرحِ السُّؤَالِ التَّالِي عَلَى أَنفُسِنَا: أَلَم نَقتَرِفْ قَطُّ هَذَا الخَطَأَ ذَاتَهُ؟ وَهَل شُفِينَا مِنهُ؟ حَتَّى لَو لَم يُسبَقْ أَن اِقتَرَفنَا ذَلِكَ الخَطَأَ، فَلنَتَذَكَّرْ أَنَّنَا بَشَرٌ وَأَنَّهُ كَانَ بِوُسعِنَا اِقتِرَافُهُ. أَمَّا إِذَا كُنَّا قَد اِقتَرَفنَا هَذَا الخَطَأَ فِي المَاضِي، فَلنَتَذَكَّرْ هَشَاشَتَنَا حَتَّى يَغدُوَ تَوبِيخُنَا أَو تَأدِيبُنَا مَلِيئًا بِالعَطفِ لَا بِالحِقدِ. لَكِن خِلَالَ عَودَتِنَا إِلَى ذَوَاتِنَا، إِنِ اِكتَشَفنَا فِينَا الخَطَأَ ذَاتَهُ الَّذِي نَلُومُ الآخَرَ عَلَى اِقتِرَافِهِ، فَلنَبكِ مَعَ المُذنِبِ بَدَلًا مِن تَأنِيبِهِ، وَلنَطلُبْ مِنهُ مُشَارَكَتَنَا جُهُودَنَا عِوَضًا عَن إِطَاعَتِنَا.

 

 

الدُّعَاءُ

 

"قَلبًا طَاهِرًا اِخلُقْ فِيَّنَا يَا اللهُ، وَرُوحًا ثَابِتًا جَدِّدْ فِي بَاطِنِنَا."

هَبْ لَنَا رُؤيَةً وَاضِحَةً، فَنَستَطِيعَ أَنْ نُعَامِلَ إِخوَتَنَا دُونَ رِيَاءِ العَينِ وَدُونَ رِيَاءِ القَلبِ، كَيْ نُسَاعِدَهُمْ عَلَى أَنْ يَرَوا الأَشيَاءَ بِوُضُوحٍ، لِلسَّيرِ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الحَقِّ وَالحَيَاةِ.

آمِين.

 

 

قِصَّةٌ وَعِبْرَةٌ: "مِن فَيضِ قَلبِه يَتَكَلَّمُ لِسَانُه" (لوقا 6: 45)

 

يُحكَى أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ يُفَكِّرُونَ كَثِيرًا فِي كَيفِيَّةِ حِمَايَةِ أَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الزَّلَلِ، وَكَيْفَ يَضْمَنُونَ صَوَابَ كَلِمَاتِهِمْ وَتَأثِيرَهَا. وَبَينَمَا هُمْ فِي تَفْكِيرِهِمْ، أَقْبَلَ عَلَيهِمْ مَلَاكٌ مِنَ السَّمَاءِ قَائِلًا: "لَقَدْ سُرَّ اللهُ بِكُمْ وَأَنْتُمْ تُفَكِّرُونَ فِي أَمْرٍ كَهَذَا، وَأَرْسَلَنِي لِأَرَى مَاذَا يَطْلُبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ."

 

ثُمَّ اِتَّجَهَ المَلَاكُ إِلَى الأَوَّلِ وَسَأَلَهُ: مَاذَا تُرِيدُ أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ؟ فَأَجَابَ الأَوَّلُ: "إِنِّي أُخْطِئُ كَثِيرًا فِي كَلَامِي، لِذَلِكَ أُرِيدُ فَمًا مُغْلَقًا. أَعْرِفُ أَنِّي سَوفَ أَخْسَرُ الكَثِيرَ مِنَ الكَلَامِ الجَيِّدِ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ أَقُولَهُ، لَكِنِّي سَأَضْمَنُ أَنِّي لَنْ أُخْطِئَ فِي الكَلَامِ." وَهَكَذَا فَعَلَ لَهُ المَلَاكُ، فَأَعْطَاهُ فَمًا مُغْلَقًا لَا يَنْطِقُ، فَعَاشَ طُولَ عُمُرِهِ أَخْرَسَ، لَا يُخْطِئُ فِي الكَلَامِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ أَيْضًا بِمَا يُفِيدُ.

 

ثُمَّ اِتَّجَهَ المَلَاكُ إِلَى الثَّانِي بِذَاتِ السُّؤَالِ، فَجَاوَبَهُ قَائِلًا: "أَعْطِنِي ذِهْنًا مُتَّقِدًا بِالذَّكَاءِ، وَبِذَلِكَ سَوْفَ يَقِي ذَكَاءُ ذِهْنِي لِسَانِي مِنَ الزَّلَلِ، وسأعرف أن أُميِّزَ بين المفيدِ والمُضِرِّ من الكلام. وكان له هذا، فأعطاه الملاكُ ذِهنًا مُتَّقِدًا بالذَّكاءِ، وكان يُميِّزُ بين المفيدِ من الكلامِ والضَّارِّ بذلك الذِّهنِ المُتَّقِدِ ذكاءً، إلَّا أنَّ مشاعِرَهُ وأحاسيسَهُ كانت تَغلِبُهُ أحيانًا، فينطِقُ بما لا يُريدُ أنْ ينطِقَ، ويقولُ ما يَعرِفُ أنَّه ضارٌّ. لقد كان ذِهنُهُ يُميِّزُ بين المفيدِ والضَّارِّ، أمَّا إرادتُهُ فكانت تَغلِبُهُ أحيانًا.

 

وأخيرًا جاءَ الملاكُ الثَّالثُ بذاتِ السُّؤالِ، فلم يُجِبِ الثَّالثُ على الفَورِ، ولكنَّه فَتَحَ الكتابَ المقدَّسَ على إنجيلِ القدِّيسِ لوقا، وقرأَ بصوتٍ عالٍ: "فمِن فَيضِ قَلبِه يَتَكَلَّمُ لِسانُهُ" (لوقا 6: 45). ثمَّ بدأ يُوجِّهُ كلامَهُ للملاكِ قائلًا: "أعطني قلبًا مُرْضِيًا لدى الله، وبذلك لن أخشى الزَّللَ في الكلام، ولن أفكِّرَ كثيرًا قبل أنْ أنطِقَ، فقلبي الطَّاهرُ سيَضمَنُ لي أنْ أُخرِجَ كلماتٍ نقيَّةً في وقتِها الصَّحيحِ."

 

وقد أعطاهُ الملاكُ ما طَلَبَ، فعاشَ سعيدًا هانئًا. ويُحكَى أنَّ ذلك الشَّخصَ لم يُخطِئْ في كلامِه قَطُّ، بل كان كلُّ كلامِه كلامَ حِكْمَةٍ، وكان بَلسَمًا لكلِّ مُتألِّمٍ، وتشجيعًا لكلِّ ضعيفٍ. وقد كانت أحلى كلماتِهِ تلكَ الَّتي يَتَرَنَّمُ بها، هي تلك الَّتي يقرأُها في الكتابِ المقدَّسِ. وفي كلِّ صباحٍ، كانَ يَتَرَنَّمُ قائلًا: "قَلْبًا طاهِرًا اخلُقْ فيَّ يا أللهُ، ورُوحًا ثابِتًا جَدِّدْ في باطِنِي" (مزمور 51: 12).