موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٣ يناير / كانون الثاني ٢٠٢١

كَمُجيرِ أمّ عامر

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
يوحنّا رجلٌ صِنديدٌ شجاع نطقَ بالحق

يوحنّا رجلٌ صِنديدٌ شجاع نطقَ بالحق

 

ذَكَّرني خبرُ اعتقالِ يوحّنا المعمدان، والّذي جَاءَ ذِكرُه عابرًا سريعًا في مقدّمة النّص، في ثلاثِ كلمات فقط، وربّما لَم يَلتَفِت إليه كثيرون، بِبَيتِ الشّعرِ ذائِع الصّيت، الّذي خاطبَ فيه المتنبّي، الحاكمَ سيفَ الدّولة الحَمداني، لَمَّا قالَ لَهُ مُعاتِبًا:

 

يا أعدَلَ النّاسِ إلاّ في مُعامَلَتي        فيكَ الخِصامُ وَأنتَ الخصْمُ وَالحكَمُ!

 

هذا أمرٌ مؤلِمٌ وصعب! أن تتلَقّى الضّربةَ والصّفعةَ والطّعنة وأن يقعَ عليكَ الظّلمُ والجور والباطل، من الّذينَ كُنتَ يومًا تجعلُهم مَوضِعَ ثِقتِكَ ومحطّ احترامِك، أو تُقابلهم بكلمةٍ طيّبة وبمشورة حسنة. ولَكن، الخبرةَ البشريةَ البَديهيّة، تُعلّمنا أنّ الانقلاباتِ المفاجئة غير المتوقّعة، هي ليست فقط من طبيعةِ الأحزاب أو السّاسة، إنّما هي أيضًا من صلب العلاقاتِ الإنسانية الدّارِجة، بل سُنّة من سُننِ التّعاملِ بينَ النّاس. فأليفُ اليومِ عدوّ الغَد، وأنيسُ الصّباح غريمُ المساء، وإن مَدحوكَ اليوم ذمّوكَ غدًا!

 

يُوحنّا المعمدان كان ينصحُ هيرودسَ الملك، يُوجِّهُهُ ويُرشِدُه إلى ما يَعمل، وَيَنهاهُ عمّا ما لا يجبُ أن يَعمل. وبالرّغم من الحَيرةِ الّتي كانَ يُلقيها في نفسِه، إلّا أن هيرودس كانَ يَسَرّه الإصغاءُ إلى يوحنّا (مرقس 17:6-20). ومَع ذلك، وبالرّغمِ من هذا السّرور، إلّا أنّه انقلبَ عَليه آخر الأمر، ولَم يُنصفه، مُراعاةً لِيَمينٍ أقسمَه لِبُنَيّةٍ يافعة خَطَفَت أَلبَابَه هي وأمّها، وَرَاحَ يوحنّا ضحيةَ ذلك! لِذلك، نرى المتنبّي يقول أيضًا في ذاتِ القصيدة:

 

إذا رَأيْتَ نُيُوبَ اللّيْثِ بارِزَةً                  فَلا تَظُنّنّ أنّ اللّيْثَ يَبْتَسِمُ

 

فَالغَدرُ خصلةٌ قبيحةٌ متجذّرة، كَنَخر الأسنان، في بعضِ النّاس، وليس الكلُّ شيمتُه الوفاءُ. والسّذاجة المطلقة لا تَنفع بل تضَر! لذلك، وإن كانَ المسيحُ قَد طلبَ منّا أن نكون طيّبينَ بُسطاء كالحمائِم، إلّا أنّه طلبَ منّا أيضًا أن نكونَ حاذقين صاحينَ كالحيّات (متّى 16:10). وهذِه حكمةٌ جَسّدتها العرب في المثلِ القائِل: اِتّقِ شرَّ مَن أَحسَنتَ إليه!

 

يوحنّا المعمدان لم يُسئ القول لم يُخطِئ التّصرّف، لم ينطِق بقبيح أو سفيه. إنّما هيرودس هو الّذي أساءَ وظلم، وأتى بكلِّ قبيح، وصنعَ كلَّ شائن، وفَعلَ ما لا يحلُّ فِعلُه! وعندها، كانت النّتيجةُ الدّامية عندمَا دَفعَ يوحنّا الثّمنَ برأسِه، مُقَدّمًا على طبقٍ لباغيةٍ، تريد الاستحواذ على مُلكِ طاغية!

 

هذا الأمرُ المرّ يحصلُ في كلّ مكان، وفي كلِّ زمان. يحدثُ أيضًا في رَعايانا، بينَ الرّعاةِ والمؤمنين، وبين المؤمنين أنفسهم، وفي مجتمعاتِنا الكنسيّة البشرية، الّتي هي ليست بعد مدينة فاضلة مئة بالمئة، إنّما يشوبها ضعف النّاس أيضًا! فالمصالحُ قد تتصادمُ ولا تتلاقَى، والرّؤى قد تَتضارَب ولا تَنسَجم. والحديثُ الّذي يُقال، والفعلُ الّذي يُمارَس قد يُزعِج، قَد يضعُ بلبلة ويزرعُ حَيرة، ليسَ لِعَيبٍ في القولِ أو في طبيعةِ الفِعل، إنّما قد لا يروقُ للبعض أن يُقالَ كذا أو أن يُفعلَ كذا، لإنّ الرّياح جاءَت مخالفة لما تشتهي سُفنُه! تمامًا كما لَم يَرُق كلامُ يوحنّا لامرأةِ أخيه القبيحة، فَحَقَدَت حتّى أَجهَزَت عليه. ولكن، لا بدّ للحقِ أن يُنطَقَ، مُتَمَنّينَ لَه على الرّائين، كما على السّامعين، أن يَفهَموه ويُدرِكوه!

 

يقول الأديبُ جبران خليل جبران: (الحقُّ يحتاجُ إلى رَجُلَين: رجلٌ يَنطقُ بِهِ وَرجلٌ يَفهَمُهُ). يوحنّا رجلٌ صِنديدٌ شجاع نطقَ بالحق، أمّا هيرودس فَرِعديد جبان، لَم يفهم أو ادّعى عدمَ الفَهم، إرضاءٍ لامرأة لَعَقت عَقلَه! القضيةُ يا أحبّة، تَكمن في القدرة على الفهم، أو بكلمات أخرى في التّقبل والقبول بما هو حقٌّ وعَدل، لا في النّطق!

 

لِذلك، مجدّدًا نعودُ إلى المتنبّي، الّذي قَتَلُه بيتٌ من نفس القصيدة، إذ قالَ مادِحًا نفسَه أمامَ سيف الدّولة:

 

الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفُني                  والسّيفُ والرّمحُ والقرطاسُ والقلَمُ

 

فكانَ قولُه هذا سببًا لِقتله فيما بَعد. ويوحنّا كان لسانُه قولُه سببًا لقتله! وأنت أيضًا، إن نَطقت بكلمة حقٍّ، أو اتّخذت موقفًا مُعيّنًا، تعارِض فيه جماعة أو تنتقِد شخصًا، عليكَ أن تتحمّل العواقب، والّتي قد لا تَسرّك أحيانًا كثيرة! فَمِن غيرِ المعقول، أن تُبلبِلَ وتُزلزِل وتُقلقِلَ الآخرين، وتهزّ كيانَهم وتُخضخِضَ أركانَهم، وأن تظلَّ أنتَ قابِعًا بسلام. كلّا، لَن يتركوك بسلام، سوف يدسّون لك الدّسائس، ويحفرون لك الحفرَ والمكائِد، انتقامًا حتّى يجهزوا عليك! وهذا ما تُخبرنا به أيضًا خبرةُ الأصفياء والأنبياء في الكتابِ المقدّس، بدءً مِن إرميا، وصولًا إلى المعمدان، وتتويجًا بالمسيح نفسِه. وأنتَ يا قائل الحقّ، لست أفضل حالٍ منهم!

 

مِن مِنكم سَمِع بقصّة (أمّ عامر). سَأَقُصّها عليكم، فهي قصّة تناسب الحَدث، إذ تحمِل في بطنِها وجوفِها، عبرة لِمن يَعتبِر!

 

يُحكى أنّ جماعةً من العَرب قَد خَرَجَت لِلصّيد. فَتَراءَت لهم ضبعٌ فَطَارَدوها. وَكانت العربُ تُسمّي الضّبع وتُكنّيها (أمّ عامر). وَكان يومها الجوُّ لاهِبًا حارًّا. فَدَخَلت الضبعُ مستجيرةً بيبتِ أعرابي. فَخرج الأعرابيُّ، فَرآها متعبةً مُنهكةً من الفِرار. فَصاحَ بِالقوم: ((ما شَأنُكُم؟)) قالوا: ((صَيدُنا وطَريدتُنا)).

 

فأجابَهم الأعرابيّ قائِلًا: ((إِنّها قَد أَصبَحَت في جِواري، وَلَن تَصِلوا إليها، مَا ثَبِتَ قَائِمُ سَيفـي في يَدِي)). فَانصرف الصّيادون. ثمّ مالَ الأعرابيّ بِنَظرِه إلى الضّبعِ، فَرأها جائعةً. فَقام إلى شَاتِه فَحَلَبَهَا، وَقَدَّمَ لِلضّبعِ الماءَ وَالّلبن. فَشَرِبَت الضّبعُ، حتّى استرجَعت قواها، وعَادَت إليها عافيتُها.

 

فَلّمَا دَنا الّليل، نامَ الأعرابي مُطمئنَّ البال قريرَ العَين، فخورًا بما قدّم للضبع من الحماية لَمّا استجارت بِه. لكنّ طَبعَ أمِّ عامر لا يتغيّر ولا يتبدّل! فالضّبعُ ضبع، مَهمَا قابَلتَهُ من الإحسان والإنعام! فنظرت أمُّ عامر إلى الأعرابيّ المستريحِ في فراشِه بسلام، فَوَجَدَتهُ نائمًا! فَوَثَبت عَليهِ، وَبَقَرَت بَطنَه أي شَقَّتهُ، وَشَرِبت من دَمهِ، وأكلتَ من لحمِه، حتّى طَقطَقَت عِظامَه، وَتَركته سابِحًا في مستنقعٍ أحمرٍ قاني.

 

وفي الصّباح أَقبلَ ابنُ عَمّ الأعرابي يَطلبُهُ على عادتِه. فَوَجَدَهُ قتيلًا مُضَرّجًا بِدمائِه. فَاقتفى أثرَ الضّبعِ حتّى وَجَدَها، فَرماها بسهمٍ وَأَردَاهَا قَتيلَة. وَأَنشَدَ يَقول:

 

وَمَنْ يَصنع المعروفَ في غَيرِ أَهلِهِ                     يُلاقي الّذي لَاقـَى مُجيرُ أم ِّ عَامِر

فَقُلْ لِذَوي المعروفِ هَذَا جزاءُ مَنْ                    بَدَا يَصنَعُ المعروفَ في غَيرِ شَاكِر