موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
لم أستطع فهم سبب اصرار البطريرك بشارة الراعي على زيارة الأراضي المقدسة، رغم الانتقادات الشديدة من البعض والمعارضة والتحذير في حالة تنفيذ قرار زيارته، إلا بعد أن قابلته وهو يلتقي بأبنائه في بلادنا ، شعرت كم يحبهم ، وكيف كانوا يبادلونه الحب بحب أكبر، ولم أرَ بحياتي شخصاً يحبّه الناس كما يحب الموارنة راعيهم البطريرك بشارة الراعي. التقى بكل أبنائه، لم يتخلّ عن أيّ إبنٍ من أبنائه ، التقاهم جميعاً رغم اختلافهم، رغم أن زيارته لبعض الأبناء يمكن أن تسبب له الانتقادات وربما أكثر من ذلك، ولكن هل يمكن أن يتخلّى الأب عن أبنائه؟! زار أهل برعم واللبنانيين المقيمين في اسرائيل، زار حيفا وعسفيا وعكا والجش ، تحدث مع ابنائه بمحبة الأب الذي يشعر بالحنين لإبنائه، لم ينكر أبوّته لأيّ ابن من أبنائه. عندما وصل الى مدينة حيفا، استقبله الأهالي بالأهازيج والزغاريد، جابت المسيرة المحتفلة بقدومه شوارع المدينة، صلّوا معاً، تناولوا وجبة العشاء معاً، وفي كفر برعم أثار قضيّة المهجّرين وحقهم بالعودة الى قراهم. قرأت الانتقادات التي وُجّهت للبطريرك بسبب زيارته للبنانيين المقيمين في اسرائيل، ولم يكتف غبطته بالزيارة والصلاة معهم، بل صرّح ببعض الأمور التي أثارت حفيظة البعض، وهنا نحتاج الى وقفة تأمل وتفكير عميقين. وأنا هنا لا أريد أن أدافع عن موقف البطريرك، بقدر ما أوّد تحليل ومحاولة فهم سبب اتخاذه مثل هذا القرار، رغم ادراكه التام للتداعيات التي ممكن أن تثيرها مثل هذه التصريحات. أولاً، دعونا نفهم موقف الأب الذي يريد أن يجمع كافة أبنائه تحت كنفه، حتى لو أخطأ بعضهم ، فالأب لا يتخلّى عن ابنائه. فهذا الأب تحدّى كل الصعاب وجاء الى هنا ليلتقي بأبنائه ، ليدعم صمودهم، ليدعم بقائهم على أرض وطنهم وفي الأراضي المقدسة . جاء الى أبناء برعم المهجّرين ليدافع عن حقهم الشرعي بالعودة الى قريتهم التي هُجّروا عنها عنوة وبدون حق. وجاء أيضاً الى اللبنانيين المقيمين في اسرائيل ليعيدهم الى وطنهم الأم لبنان. ثانياً، دعونا نطرح القضيّة بموضوعية وبعيداً عن العواطف والشعارات التي نرددها دون أن نفكّر بها أحياناً. أريد أن أسألكم من لم يُخطىء من اللبنانيين بحق لبنان، الخلافات بين اللبنانيين في تعريف من هو اللبناني الوطني الحقيقي لا يمكن حسمها والاجماع عليها، زد على ذلك أن منطق القوّة هناك هو الذي يفرض الواقع ويخوّن من يشاء ويرفع من شأن من يشاء. لبنان خليط عجيب غريب من التناقضات والصراعات ، والتدخلّات الأجنبية من قبل دول عربية وأجنبية في الشؤون الداخلية في لبنان ، جعلت منه بلداً مُستباحاً. واليوم ، ربما هنالك فئات كثيرة تعتقد ما يعتقده الراعي بالنسبة لقضية اللبنانيين المقيمين في اسرائيل وأفراد جيش لحد، ولكنهم لا يجرؤون بالقول علانية بما يفكرون كما فعل البطريرك بشارة الراعي. دعا البطريرك الى المصالحة من أجل ايجاد حلول للقضايا العالقة في لبنان، وقبل أن يتحدّث عن المصالحة أعلن أنه هنالك من يطعن لبنان في داخل لبنان، مثل الذين يحاربون الدولة والوطن والمؤسسات، ويعطلون رئاسة الجمهورية ويُفقرون اللبنانيين. وهنا أريد التأكيد مرّة أخرى، أنا لست بصدد الدفاع عن موقف البطريرك الراعي، بقدر ما هي محاولة لفهم وتحليل موقفه، فنحن وللأسف في معظم نقاشاتنا لا نعتمد التحليل، إنما نلجأ الى الصراخ وترديد الشعارات واطلاق الاتهامات ، وكأننا بهذا نفرض رأينا على الطرف الآخر. للأسف نحن نفتقد الحوار الفكري العقلاني، وأصبحنا قبليين شلليين، وهناك من يردد من ورائنا ما نقول دون أن يُفكّر بما يقول. في العدد الصادر بتاريخ 23 أيّار 2014 من جريدة "حيفا" أشرت في زاويتي الأسبوعية "سطّر يا قلم" بأن تداعيات زيارة الراعي للبلاد سياسية شئنا أم أبينا، وأنه ما علينا إلا الانتظار لمعرفة نتائج هذه الزيارة. فلم تكد زيارة البطريرك تنتهي حتى بدأنا نقرأ ونسمع انتقادات لزيارته وتوجيه اتهامات له، مثل: تهمة التطبيع مع اسرائيل، و"منحه صك براءة لعملاء ميليشيا لحد"، وقيل عنه بأنه تجاوز بهذا كل الخطوط الحمراء. وحتى مجموعة وثيقة "كايروس فلسطين"، وهي مجموعة شخصيات دينية ولاهوتية وعلمانية مسيحية ذات مصداقيه لاهوتية واجتماعية عالية في المجتمع الفلسطيني وتدير معظمها مؤسسات مسيحية وعلمانية، حذّرت من استغلال هذه الزيارة لمآرب سياسية من قبل السلطات الاسرائيلية رغم أنّها لم تشكك مطلقاً ولو للحظة بنوايا غبطة البطريرك وأكدّت على مساندته الداعمة لقضية الشعب الفلسطيني. ووضّح البيان في بنده الثاني سبب التخوّف من استغلال هذه الزيارة، حيث ورد "إننا كفلسطينيين مسيحيين نتوق لرؤية ومقابلة مرجعياتنا ورموزنا الدينية، إلا أننا وفي الوقت نفسه لا نريد أن تُوظف أو تستعمل هذه الرغبة كوسيلة أو مدخل لإثارة الارتباك والشك في أوساطنا ونحن نخوض مواجهة ضارية مع الاحتلال الإسرائيلي دفاعا عن حقوقنا الوطنية وحقوقنا الدينية مسيحيين ومسلمين. فنحن في المبادرة المسيحية الفلسطينية كايروس ومنذ إطلاق هذه المبادرة في عام 2009، وجّهنا نداء وعلى كل المستويات إلى جميع المرجعيات الدينية المسيحية والكنائس في العالم كي تتخذ موقفا وخطوات حازمة في مواجهة الاحتلال ومنع تشكيل أي غطاء معنوي أو أخلاقي أو ديني لممارساته وسياساته العدوانية المستمرة علينا وعلى كل شعبنا منذ أكثر من 66 عاما". إذاً مهما حاولنا أن ننفي الجانب السياسي لهذه الزيارة، إلا أن السياسة تلاحقنا في كل مكان وتدخل دون استئذان، فكل تصرّف وكل خطوة بغض النظر عن هدفها، هنالك من يترصّد ويتربّص للانقضاض عليها وانجاز المكاسب، وهنالك من يتوثّب لمهاجمة هذه الخطوة إذا كان من الخاسرين.