موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ١٥ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٤

كلّلَ الفداء بالصليب

بقلم :
المطران كريكور كوسا - مصر
المطران كريكور اوغسطينوس كوسا، اسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك

المطران كريكور اوغسطينوس كوسا، اسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك

 

إن احتفالنا بعيد ارتفاع الصليب المقدّس في 14 سبتمبر/أيلول هو استمراريّة لتقليد كنسيّ تاريخي.

 

في 14 أيلول من سنة 335 اجتمع حشد غفير من المؤمنين والحجّاج والرهبان والأساقفة في أورشليم، وقد جاؤوا من جميع أنحاء الأمبراطوريّة الرومانيّة، ليحتفلوا بتكريس كنيسة عظيمة أمر الأمبراطور قسطنطين ببنائها حيث صلب السيّد المسيح ودُفن.

 

وقد استمرّ الإحتفال بهذه الذكرى في التاريخ عينه في القرون التالية: تروي المؤرّخة إيجيريا في مذكّرات رحلات حجّها الى الأراضي المقدّسة أن أكثر من خمسين أسقفاً كانوا يجتمعون مع آلاف الحجّاج كلّ سنة للإحتفال لمدّة ثمانية أيّام بهذه الذكرى.

 

كان الحجّاج والمؤمنون الأورشليميّون يحتفلون في تلك الفترة باكتشاف خشبة عود الصليب، وكانوا يقومون برتبة رفع الصليب المقدّس (من هنا اسم العيد حتّى يومنا هذا)، وبما أن مكان الصلب كان يعتبر محور الكون كلّه، لأن منه جاء الخلاص للعالم بأسره، جرت العادة أن يبارك بطريرك أورشليم بالصليب أربعة إتّجاهات العالم، وهو ما تقوم به جميع الكنائس اليوم في رتبة عيد الصليب.

 

وكان الحجّاج يحملون معهم قوارير يملأونها زيتاً، يباركونها بلمسها عود الصليب ويحملونها الى بيوتهم للتبرّك، فصارت عادة تبريك الزّيت، ومع مرّ الأيام استبدل تبريك الزيت بتبريك المياه، التي تقوم بها العديد من الكنائس، ومن بينها الكنيسة المارونيّة، في رتبة قدّاس عيد ارتفاع الصليب المقدّس،  وصارت روما تحتفل بالعيد أيضاً حين كانت الكنيسة تحت رعاية البابا سرجيوس، قبل العام 700.

 

اعتمدت كنيسة القسطنطينيّة هذا العيد في العام 612، وتمّ نقل أجزاء من الصليب المقدّس اليها والى مراكز الكنائس الأخرى. في سنة 614، إحتلّ الفرس أورشليم، ودمّروها وأشعلوا فيها النّار، ووضعوا يدهم على خشبة الصليب، ولكن الإمبراطور هرقل قام بمواجهتهم واسترجع المدينة المقدّسة من بين أيديهم وأجبرهم على إعادة الصليب المقدّس، الّذي أعيد وضعه في كنيسة القبر المقدّس في 21 آذار من سنة 630.

 

إنّما عيد الصليب الّذي نحتفل به نحن أبناء اليوم ليس هو مجرّد تكرار لتقليد تاريخيّ كنسيّ عريق وراسخ في القدم فحسب، بل هو مشاركتنا نحن المؤمنين اليوم بالإيمان الواحد الّذي يجمعنا بالإخوة الّذين سبقونا وأوصلوا إلينا معنى إكرام الصليب المقدّس. وهو من ناحية أخرى عيش لمعنى الصليب في حياتنا، ليس الصليب علامة الألم والعذاب والموت، إنّما علامة الإنتصار الّذي أعطانا إيّاه المسيح بانتصاره هو على الموت، وبانتصار الرّجاء على اليأس.

 

"ما من حبّ أعظم من أن يهب الإنسان نفسه في سبيل أحبّائه". عبارة قالها الرّب يسوع وطبّقها من أجلنا حبّاً بنا ورغبة بخلاصنا، هي عمل حبّ وفعل تضحية ولا أعظم، حقّقها الرّب مجّاناً لأنّه يحبّنا. الصليب بالنسبة لنا هو ضمانة حبّ الله المجّانيّ لكلّ واحد منّا، ولا بدّ أن يصير علامة حبّنا للآخرين وخدمتنا لهم وتضحيتنا من أجلهم. إن لم نضع منطق التضحية والخدمة وبذل الذات موضع التطبيق، يصبح الصليب عقيماً في حياتنا، لا يعطي ثمار الخلاص لإخوتنا الّذين هم في العالم.

 

الصليب هو حبّ الله الآب لنا، آب تألّم هو أيضاً من أجلنا، إذ بذل ابنه الوحيد حبّاً بنا. بالصليب نختبر بنّوتنا للآب السماوي ونوقن أنّه هو أبونا. علامة الصليب التي نكرّمها في كنائسنا، ونضعها فوق أبوابنا وفي صدر بيوتنا وعلى صدرنا فوق قلبنا، هي العلامة التي أعلم من خلالها أنّني ابن ملك سماويّ أحبّني، أراد أن يجعلني إبناً له بالتبنّي، وأن يشركني في ملكوت حبّه الأبديّ.

 

هو رمز الحبّ الّذي يضحيّ، يبذل أثمن ما يملك في سبيل الحبيب: الصليب هو علامة حبّ الآب لنا، الّذي لم يبخل على العالم بابنه في سبيل الخلاص. هو علامة التضحية التي يتعلّم من خلالها كلّ والد ووالدة حسّ التضحية ومعنى أن يكرّسا وجودهما وحياتهما في سبيل أولادهم.

 

في منطق أبينا السماويّ تجد التربية المسيحيّة معناها وغايتها، منه نتعلّم أن تكون حياتنا كلّها مكرّسة لتربية أولادنا، لا من الناحية الجسديّة والثقافيّة فقط، بل من الناحية الروحيّة بالمرتبة الأولى. كلّ عطيّة لنا هي من الله، الّذي لم يكتفِ بأن يعطينا الغذاء والمعرفة، بل أعطانا بالمقام الأوّل أن نحيا بُعدنا الرّوحي، فلا يكون وجودنا مقتصرًا على وجود ماديّ جسديّ مائت، بل أعطانا أن نعي اختلافنا عن المخلوقات الأخرى من ناحية كوننا مخلوقين على صورة الله ومثاله. من خلال الوحي والأنبياء والمرسلين أفهمنا الله قيمتنا، ورغم خطيئتنا بقي وفيّاً، الى أن أرسل ابنه الوحيد متجسّداً، ليقاسي الموت من أجل خلاصنا، هكذا بقي لنا الصليب علامة حبّ الآب لنا، وضمانة قيمة وجودنا، لا ككائنات حيوانيّة، بل كمخلوق يأخذ ملء كرامته من حقيقة وجوده كابن لله، مخلوق على صورته ومُفتدى بدم الإبن.

 

لقد صار الصليب علامة هذه القيمة، وتعبيراً عن حبّ الله لنا.

 

فكيف نربّي نحن الّذين آمنوا بالصليب أولادنا ؟ هل نقدّم لهم منطق الآب السماويّ؟

 

هل نجعلهم يعون قيمتهم كأبناء لله أم أنّهم يكبرون واهمين أن الحياة هي اللّهو واللّذة والمادّة؟

 

هل نضع وجودنا في خدمتهم كرسالة وكمسؤوليّة من الله، كما أن الله وضع كلمته في خدمة خلاصنا وأحبّنا فلم يبخل علينا بابنه؟

 

هل نعلّمهم قيمة الصليب الروحيّة كفعل محبّة وبذل الذّات في سبيل المحتاج والمتألّم أم نربّيهم على الفرديّة والأنانيّة وعدم الإكتراث بالآخر؟

 

هل نحيا الصليب في حياتنا أم نجعله مجرّد أداة زينة في أعناقنا؟

 

هل نجعل الصليب يثمر خلاصاً للإنسانيّة في أيّامنا وبواسطتنا، أم صار مجرّد لحظة تاريخيّة تذكّرنا بحدث قديم إنتهى وعبر؟

 

فالصليب هو علامة حبّ الإبن الّذي وهبنا الخلاص .

 

لصليبك أيُّها المسيح نسجُد وإيه نُبارك، لأنك بصليبك المُقدّس خلَّصتَ العالم .

 

 

صلاة من الطقس الارمني

 

الطروباوية الخاصَّة بعيد إرتفاع الصليب المُقدّس :

 

أيها الشعب المؤمن، لنُرتّل دائماً في الأعالي، ترانيم الظَّفر والبركات للمسيح الملك، الآتي ليُنيرَ الكنيسة المقدسة المصطفاة وليُكللها بالصليب المُقدّس، لنرنّم التسابيح لمجده .اليوم نحن أيضاً نحتفل ببيرمون الصليب الكريم، فلنُقدّم للمخلّص التكريم والتمجيد إلى الآبد.

 

الشماسة والمؤمنين :

 

فلنتوسل إلى الرّبّ بالصليب المُقدّس، لينجينا من الخطايا، ويُيينا بنعمِةِ رحمتهٍ، أيُّها الرّبّ الهنا القدير على كلِّ شيٍ، خلصنا وارحمنا.

 

الأسقف المحتفل:

 

يا رب ارحم، يا رب ارحم، يارب ارحم.

 

أيُّها المسيح إلهُنا، يا حارس المؤمنين ورجاءهم، إحفظ بالسّلام شعبك الحاضر هَهُنا تحت ظلِّ صليبك الكريم المُقدّس، خلصهم من الأعداء المنظورين وغير المنظورين، وأهلهم أن يسبحون ويُمجدّوا أباكَ وروحك القدّوس، الآن وكُلُّ أوانٍ وإلى الداهرين، آمـيـن.