موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النَّص الإنجيلي (يُوحَنَّا 20: 19-31)
19 وفي مَساءِ ذلك اليَومِ، يومِ الأحد، كانَ التَّلاميذُ في دارٍ أُغْلِقَتْ أَبوابُها خَوفًا مِنَ اليَهود، فجاءَ يسوعُ ووَقَفَ بَينَهم وقالَ لَهم: ((السَّلامُ علَيكم!)) 20 قالَ ذلك، وأَراهم يَدَيهِ وجَنبَه ففَرِحَ التَّلاميذُ لِمُشاهَدَتِهمِ الرَّبّ. 21 فقالَ لَهم ثانِيَةً: ((السَّلامُ علَيكم! كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضًا)). 22 قالَ هذا ونَفَخَ فيهم وقالَ لَهم: ((خُذوا الرُّوحَ القُدُس. 23 مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم، ومَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم)). 24 على أَنَّ توما أَحَدَ الاثَنْي عَشَر، ويُقالُ له التَّوأَم، لم يَكُنْ مَعَهم حِينَ جاءَ يسوع. 25 فقالَ لَه سائِرُ التَّلاميذ: ((رأَينا الرَّبّ)). فقالَ لَهم: ((إِذا لم أُبصِرْ أَثَرَ المِسمارَينِ في يَدَيهِ، وأَضَعْ إِصبَعي في مَكانِ المِسمارَين، ويدي في جَنْبِه، لن أُومِن)). 26 وبَعدَ ثَمانِيةِ أَيَّامٍ كانَ التَّلاميذُ في البَيتِ مَرَّةً أُخْرى، وكانَ توما معَهم. فجاءَ يسوعُ والأبوابُ مُغلَقَة، فوَقَفَ بَينَهم وقال: ((السَّلامُ علَيكم))! 27 ثُمَّ قالَ لِتوما: ((هَاتِ إِصبَعَكَ إلى هُنا فَانظُرْ يَدَيَّ، وهاتِ يَدَكَ فضَعْها في جَنْبي، ولا تكُنْ غَيرَ مُؤمِنٍ بل كُنْ مُؤمِنًا)). 28 أَجابَه توما: ((رَبِّي وإِلهي!)) 29 فقالَ له يسوع: ((أَلِأَنَّكَ رَأَيتَني آمَنتَ؟ طوبى لِلَّذينَ يؤمِنونَ ولَم يَرَوا)). 30 وأتى يسوعُ أَمامَ التَّلاميذ بِآياتٍ أُخرى كثيرة لم تُكتَبْ في هذا الكِتاب، 31 وإِنَّما كُتِبَت هذه لِتُؤمِنوا بِأَنَّ يسوعَ هو المسيحُ ابنُ الله، ولِتَكونَ لَكم إِذا آمَنتُمُ الحياةُ بِاسمِه.
مُقدِّمَة
في الأحَد الثَّاني للفصح، أحد توما، أو أحد الرَّحمة الإلهيّة، كما خصَّصه القديس يوحنا بولس، بسبب ظهور يسوع الحميم خاصة لأجل توما. وفي الواقع، يصف يُوحَنَّا الإنجيلي ظهور يسوع القائم من الأموات على مرحلتين لتلاميذه دون توما وظهوره للتلاميذ مع توما، إذ “أَراهم المسيح يَدَيهِ وجَنبَه" (يُوحَنَّا 20: 19-31). وهدف هذا الظُّهور هو حمل قرَّاءه على الإيمان بالمسيح القائم من الموت حتى وان كانوا بين أولئك الذين "لم يروا". إنَّه نصٌ يتعلق بإيماننا بشخص يسوع المسيح الإله والإنسان. هذا الواقع المُتمثِّل بقصة إيمان توما الرَّسول لم يكن الأول ولن يكون الأخير. فقد سبقه أشخاص وشعوب لم يتوصلوا إلى الإيمان بالله إلاّ بعدما رأوا ولمسوا الآيات التي تؤكِّد لهم وجوده الحَي. ومن هنا تكمن أهميَّة البحث في وقائع النَّص الإنجيلي وتطبيقاته.
أولًا: وقائع النَّص الإنجيلي (يُوحَنَّا 20: 19-31)
19 وفي مَساءِ ذلك اليَومِ، يومِ الأحَد، كانَ التَّلاميذُ في دارٍ أُغْلِقَتْ أَبوابُها خَوفًا مِنَ اليَهود، فجاءَ يسوعُ ووَقَفَ بَينَهم وقالَ لَهم: السَّلامُ علَيكم!
تشير عبارة "ذلك اليَومِ، يومِ الأحَد" إلى يوم دون تحديد، وهو يوم القِيامَة حيث أنَّه يوم الحياة الجديدة والخلق الجديد، هو يوم الرب المُهيب الّذي غيَّر مجرى البشريّة. هو يوم تعظيم الرّبّ الّذي منح خلاصه وانتصاره على الموت والألم والشرّ في المسيح القائم، كما يترنم صاحب المزامير "هذا هو اليَومُ الَّذي صَنَعَه الرَّبُّ فلنبتَهِجْ ونَفرَحْ فيه. امنح الخَلاصَ، يا رَبُّ، اْمنَحْ امنح النَّصرَ يا رَبُّ اْمنَحْ " (المزامير 118: 24-25). أمَّا عبارة "يومِ الأحَد" باليونانيَّة μιᾷ σαββάτων (ومعناه أول الأسبوع) فتشير إلى يوم الأحَد ويُسمَّى اليوم الثَّامن بعد نهاية الأسبوع السابق. ويُشدِّد إنجيل يُوحَنَّا على وحدة الزَّمن حيث حدث ظهور يسوع لتلاميذه في نفس اليوم الذي ظهر فيه لمَريم المِجدَلِيَّةُ (يُوحَنَّا 20: 1)، وظهر للنِّسوة في ذات اليوم (متى 28: 9)، كما ظهر لتلميذي عِمَّاوُس أيضًا في نفس اليوم(عمواس) (لوقا 24: 13). يشعر التَّلاميذ المجتمعون أنَّ يسوع حاضرٌ بينهم في مساء يوم الأحَد. وهكذا كان المؤمنون يجتمعون وما زالوا في مثل هذا اليوم. ومن هذا المنطلق، استبدلت الكنيسة السَّبت بالأحَد للتذكير بقيامة الرَّبّ. وهكذا إن اليوم الثَّامن هو بدء أسبوع جديد وزمن جديد في حياة الرُّسُل والكنيسة التي بدأت تظهر ملامحها، وتتكّون صورتها بفضل سّر موت الرَّبّ يسوع وقيامته من أجل خلاص البشر. أمَّا عبارة "كانَ التَّلاميذُ" فتشير إلى التلاميذ العشرة، دون يهوذا الإسخريوطي وتوما والى غيرهم من المؤمنين (لوقا 24: 33). أمَّا عبارة "دارٍ" فتشير إلى العلية، المكان الذي لجأوا إليه عند موت يسوع والذي أغلقوا فيه الباب على أنفسهم فيه. أمَّا عبارة "أُغْلِقَتْ أَبوابُها" فتشير إلى أكثر من باب، ولعَلَّه كان للعِليَّة أكثر من باب، أو ربما يقصد أن باب البيت كان مغلقًا كما كان باب العِليَّة، إذ كان التَّلاميذ في رُعبٍ، ولم يكتفوا بغلق باب الدَّار الخارجي، لأنَّ إغلاق الأبواب علامة على خوف التَّلاميذ. وهذه الأبواب المُغلقة ستُفتح يوم العنصرة بحلول الرُّوح القُدُس. لم يذكر إنجيل يُوحَنَّا موضع اجتماع الرُّسُل لكنَّنا نعلم أنَّه كان في اورشليم، والأرجح أنَّه كان في العِليَّة التي أكلوا فيها الفصح مع يسوع مُعلمهم (مرقس 14: 13-15). أمَّا عبارة "خَوفًا مِنَ اليَهود" فتشير إلى خوف التَّلاميذ من ملاحقة اليهود لهم، كما لاحقوا يسوع قبلًا، ومعاملتهم لهم، كما عاملوه، وتوجيه تُهمة سرقة الجسد إليهم، لأنَّ اليهود ادَّعوا أن تلاميذه جاءوا ليلًا وسرقوا الجسد (متى 28:11 –15). مع أن رؤساء اليهود لم يقتربوا إليهم منذ قال لهم يسوع لدى القبض عليه في بستان الجسمانيَّة: "دَعُوا هؤلاءِ يَذهَبون" (يُوحَنَّا 18: 8). فقد كان هدف رؤساء اليهود هو "يسوع" نفسه، لذا لا قيمة للتَّحرك ضد أتباعه ما دام هو نفسه قد مات في عارٍ على الصَّليب، ولم يَعد له وجود. فالهدف الأساسي من الصَّلب لم يكن إعدام شخص ما، بل كان بعث الخوف في قلوب عامّة الشَّعب. ولا شكّ أن التَّلاميذ قد فهموا الرَّسالة. فإنّ الشَّيء المُشترك الوحيد بين التَّلاميذ هو الخوف. لقد كانوا يخشون أنّ الّذين فعلوا ذلك مع يسوع يُمكنهم أن يفعلوا ذات الشَّيء معهم أيضًا، علمًا أنَّ الخوف يؤدِّي إلى الغضب، والغضب يؤدّي إلى الكراهيَّة، والكراهيَّة تؤدّي إلى المُعاناة داخل حدود غرفة أبوابها مُغلقة. إن الخوف يوصد باب الحياة، هذه هي خبرة التَّلاميذ بعد موت يسوع؛ وهنا يُعلق فرانكلين روزفلت " أن الشَّيء الوحيد الذي يجدر بنا الخوف منه هو الخوف نفسه". أمَّا عبارة "جاءَ يسوعُ" فتشير إلى مجيء المسيح القائم المُتكرِّر بين خاصته (يُوحَنَّا 14: 3، 16: 16، 1: 9)، والرُّجوع إليهم لقيادتهم ومرافقتهم، كما يرافق الرَّاعي خرافه (يُوحَنَّا 14: 3-18)؛ ومجيئه والأبواب مغلقة تؤكد أنَّ جسده القائم من الأموات له طبيعة جديدة، لأنّه لم يُعد خاضعًا لنفس قوانين الطَّبيعة، كما كان قبل موته، حيث يخترق الجدران والحواجز (يُوحَنَّا 20: 26)، بل أصبح ممكنًا له الدُّخول والأبواب مُغلقة. وهو غير مُقيّد بحدود الزَّمان والمكان. وهذا لا يعني أنَّه كان شبحًا أو خيالاً بل " جِسْمًا رُوحِيًّا"، كما سمَّاه بولس الرَّسول (1 قورنتس 15: 44). وهذا هو ظهور المسيح الأول لكل التَّلاميذ. أمَّا فعل "وقف" فيشير إلى وِقْفة القِيامَة حيث يتجلى القائم بجسده المُمَجَّد الّذي يتحاور وينظر بعينيه بأعيّن تلاميذه في لقائه الأوّل بعد عبوره الآلام والموت والقيامة. وقف يسوع في وسطهم والأبواب مُغلقه لم يكن بعملٍ معجزي، لأنَّ هذه هي طبيعة الجسم القائم من الأموات، إنَّما ما أراد يسوع تأكيده هنا هو أنَّه قام بذات الجِسم، لكنَّه بجسم مُمجَّد. وبهذا يؤكد يسوع المسيح حضورَه في كلّ مكان، حضورًا غير خاضع لشريعة المكان والزَّمان والحدود الماديَّة، وغير مُقيّد بالحاجات الماديّة والبيولوجيّة، ولا بقوانين الطَّبيعة كالجاذبيّة الأرضيَّة. أنَّه الجسد هو بذاته لابسٌ عدم الفساد، كما جاء في رِسَالة بولس الرَّسول " فلا بُدَّ لِهذا الكائِنِ الفاسِدِ أَن يَلبَسَ ما لَيسَ بِفاسِد، ولِهذا الكائِنِ الفاني أَن يَلبَسَ الخُلود"(1 قورنتس 15: 53)؛ ويُعلق القديس أوغسطينوس حول "طبيعة الجسد المُقام" بقوله "على أي حال، أيا كانت طبيعة الجسد الرُّوحاني، ومهما كانت عظمة نعمته، أخشى أن أتحدث في هذا، لأننا لا زلنا لا نحمل أية خبرة بخصوص هذه الحقيقة". أمَّا عبارة "بَينَهم" في الأصل اليوناني μέσος (معناه وسطهم) فتشير إلى يسوع القائم الذي كان قريبًا للكلِّ بنفس الدَّرجة؛ إنه يبادر فيأتي أولًا إلينا، ونحن نذهب إلى لقائه، ومجيئه يملأ قلوبنا تعزية ًوشجاعة. يشرح لنا يُوحَنَّا الإنجيلي هنا كيف يُدخل يسوع الاثني عشر رسولا في ملء رِسَالة الفصح. وأمَّا عبارة "السَّلامُ علَيكم!" فتشير إلى أول تحيَّة يوجِّهها السَّيد المسيح لتلاميذه بعد قيامته عند ظهوره لهم حاملا بشرى السَّلام بعدما صالح بموته العَالَم مع الله، وهو سلام مطابق لكلامه في خطابه الوادعي " السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم" (يُوحَنَّا 14: 27)، وكما سبق أن علم تلاميذه أن يعلموا قائلًا " أَيَّ بَيتٍ دَخَلتُم، فقولوا أَوَّلًا: السَّلامُ على هذا البَيت" (لوقا 10: 5). كلمات يسوع ليست مجرد تحيَّة، بل هي بركة. تحيَّة سلام يسوع هي بركة غير عاديَّة تحمل قوة لتنزع خوف التلاميذ وانغلاقهم؛ وهي تحيَّة سلام يحتاجون إليها بعد خوف يوم الجمعة العظيمة. هذا السَّلام مرتبطٌ بشخص يسوع، ويدل على الخلاص الذي يمنحه يسوع لتلاميذه، فلا داعي للاضطراب والقلق والفزع. هذا السَّلام الذي وعدهم به، والذي يُبدِّد كلَّ اضطراب أحدثه رحيله عنهم كما قال لهم يسوع "لا تَضْطَرِبْ قُلوبُكم. إنَّكم تُؤمِنونَ بِاللهِ فآمِنوا بي أَيضًا" (يُوحَنَّا 14: 1). هذا السلام هو الثمرة الأولى لعيد الفصح، والخلاص، والعطية الأولى التي وهبها القائم من بين الأموات لكنيسته. وهذا السَّلام هو ثمر القِيامَة، سلام داخلي مع الله، ومع الإنسان نفسه ومع إخوته؛ وهو عطيَّة مجانيَّة، وهو إتمام وعود يسوع في كلامه الأخير "سَلامي أُعْطيكم" (يُوحَنَّا 14: 27). ويختلف هذا السَّلام عن أي سلام أرضي يتفاوض عليه البشر، فهو السَّلام الذي نرجوه عندما نُرنِّم " المَجْد لله في العُلى وعلى الأرض السَّلام ". وعَّرف بولس الرَّسول هذا السَّلام بقوله: "سلامَ اللهِ الَّذي يَفوقُ كُلَّ إِدراكٍ يَحفَظُ قُلوبَكم وأَذْهانَكم في المسيحِ يسوع" (فيلبي4 :7). "وقَد حَقَّقَ السَّلامَ بِدَمِ صَليبِه" (كولسي 1 :20)، "المسيح هو سلامنا" (أفسس 2 :14). هذا هو سَلام المسيح، ليس سَلامًا سياسيًا، أو نفسياً، أو اجتماعيًا: إنَّه سلامٌ "لاهوتي"، السلام الذي يأتي من معرفة أننا لم نعد أعداء، لا للآب ولا لبعضنا البعض، ومن معرفة أننا جميعًا متساوون وأحرار في الخلاص. فحضور يسوع الحي بين تلاميذه َقَلَبَ الحُزن إلى فرح، والخَوف إلى شجاعة، وخيبة الأمل إلى رجاء. كذلك فإن حضوره غيّر نظرتهم إلى أنفسهم وإلى العَالَم وإلى المستقبل، حيث دعاهم الرَّبّ إلى مُهمَّة تغيير العَالَم.
20 قالَ ذلك، وأَراهم يَدَيهِ وجَنبَه ففَرِحَ التَّلاميذُ لِمُشاهَدَتِهمِ الرَّبّ
تشير عبارة "قالَ ذلك، وأَراهم" إلى حوار يسوع الذي يجذب حاستيّ البصر والسمع من خلال القول والفعل. أمَّا عبارة "أَراهم" فتشير إلى رؤية أعمق للابن المُتجسد والمُمجّد. ولماذا ألحّ يسوع القائم على رؤية تلاميذه جراحه؟ للتأكيد بأنَّه هو الّذي تألم ومات مصلوبًا، وهو الحيّ القائم أمامهم، فهو الّذي عبر مسيرة الألم وتكللّت بقيامته. أراد يُوحَنَّا الإنجيلي أن يُظهر الفرق بين كيفية رؤية يسوع في المرحلة الجديدة التي سيعيشها التَّلاميذ بدءً من تمجيده حيث قال لهم قبل موته: " بَعدَ قَليلٍ لا تَرَونَني ثُمَّ بَعدَ قَليلٍ تُشاهِدونَني" (يُوحَنَّا 16: 16). أمَّا عبارة" "يَدَيهِ وجَنبَه" فتشير إلى جسد المسيح المَصلوب الذي هو ذات جسد المسيح القائم من الموت؛ فالمسيح المَصلوب هو مسيح القِيامَة، هو ألان حيٌ ويحمل آثار الصَّلب. ويُعلق القديس أوغسطينوس: "تبقى جراحات في المسيح، لا كنقائصٍ وعيوبٍ في الجسد بل كعلامات ظاهرة تكشف عن سرّ حبِّه وعلامة للمَجْد والكرامة". لقد أصبحت علامات الألم والعذاب قنوات للرحمة والمغفرة وبالتالي باعث للفرح. وفيما انفرد يُوحَنَّا الإنجيلي في ذكر جنبه الطَّعين، لم يذكر الرِّجلين كما فعل لوقا (لوقا 24: 37). وبهذه التَّفاصيل يؤكِّد يسوع لتلاميذه أنَّه ذات الجسد، إذ يحمل ذات جراحات الصَّليب، لكنَّه جسد مُمجَّد. فيسوع الآن جسم حيَّ ممجدٌ وآثار جراحاته شهادة حيَّة لقيامته، وبهذا الأمر يُعطي يسوع علامات على حقيقة قيامته ويتغلب على قِلة إيمان الاثني عشر (أعمال الرُّسُل 1: 3). ومن هذا المنطلق، شَدِّد يُوحَنَّا الإنجيلي هنا على الصِّلة القائمة بين يسوع النَّاصري التَّاريخي المتألم، "قَدِ ابتُلِيَ هو نَفسُه بِالآلام، فهو قادِرٌ على إِغاثَةِ المُبتَلَين" (عبرانيين 2: 18) ويسوع القائم من بين الأموات، يسوع الإيمان الذي مع تلاميذه للأبد، كما قال لهم قبل صعود إلى السَّماء "هاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إلى نِهايةِ العَالَم" (متى 28: 20)، وأراد يُوحَنَّا الإنجيلي أيضًا إقامة صِلة بين حادثة الطَّعن بالحربة وحدث العليَّة، أنَّه الحمل الفصحى الذبيح على الجلجلة الذي يعود إلى ذويه حاملا ثمار ذبيحته. وفي سفر الرُّؤيا يبدو أنَّ الحمل ذبيحًا أي حاملا في جسمه آثار ذبيحته من اجل خلاص البشر كما وصفه صاحب الرُّؤية "حَمَلًا قائِمًا كأَنَّه ذَبيح" (رؤيا 5: 6). فهناك تواصل بين يسوع الذي تألم ويسوع القائم وهو الآن حي مع تلاميذه. أمَّا عبارة " فَرِحَ التَّلاميذُ " فتشير إلى العطيَّة الثَّانية التي وهبها القائم من بين الأموات لتلاميذه هي الفرح. وهذا الفرح هو فرح الرَّبِّ ذاته، فرح انتقاله من الموت إلى الحياة، هذا الفرح ناتج عن اختبار التلاميذ ورؤيتهم يسوع القائم من الموت، وهذا الفرح هو إتمام وعد يسوع الذي قطعه لتلاميذه في حديثه الأخير معهم " سأَعودُ فأَراكُم فتَفَرحُ قُلوبُكم" (يُوحَنَّا 16: 22). ويُعلق القديس يُوحَنَّا الذهبي الفم "ما قاله يسوع قبل الصَّلب: "سأَعودُ فأَراكُم فتَفَرحُ قُلوبُكم وما مِن أَحَدٍ يسلُبُكم هذا الفَرَح" (يُوحَنَّا 16: 22) قد تحقَّق الآن عمليًا. هذا كله دفعهم إلى الإيمان الصَّادق"؛ أمَّا عبارة " مُشاهَدَتِهمِ الرَّبّ" فتشير إلى لقاء المسيح القائم من الموت كمصدر فرح للتلاميذ كتتميم لوعده "لِيَكونَ بِكُم فَرَحي فيَكونَ فَرحُكم تامًّا" (يُوحَنَّا 15: 11). لِمَ لا ندخل نحن أيضًا في نهر هذا الفرح؟ لنقبل عطية السلام والفرح من الرَّبِّ، لأنَّه لم يقم من أجل نفسه، بل قام من أجلنا، ليمنحنا نحن أيضًا القيامة والسلام والفرح.
21 فقالَ لَهم ثانِيَةً: السَّلامُ علَيكم! كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضًا
تشير عبارة "ثانِيَةً" إلى تأكيد عطيَّة السَّلام لتلاميذه ويقوِّيهم لكي يشهدوا للعالم بقيامة المسيح المجيدة. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم: "لأنَّ التلاميذ كانوا في مواجهة مستمرة مع اليهود غير المؤمنين، كثيرًا ما كان يخاطبهم بـ "السَّلامُ علَيكم!"، ويقويهم في الإيمان ويمنحهم العزاء.". أمَّا عبارة "السَّلامُ علَيكم!" فتشير إلى تكرار السَّلام الذي يجلبه يسوع لتلاميذه كثمرة قيامته لزيادة التَّأكيد؛ هذا السَّلام الذي قد وعدهم به والذي يُبدّد كل اضطراب أحدثه رحيله عنهم، "الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: ستَبكون وتَنتَحِبون، وأَمَّا العَالَم فَيَفَرح. ستَحزَنون ولكِنَّ حُزنكم سيَنقَلِبُ فَرَحًا" (يُوحَنَّا 16: 20)؛ وهذا السَّلام هو سلام ابن الله المنتصر على العَالَم والموت، سلام لا يستطيع العَالَم أن يمنحه" السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم. لا أُعْطي أَنا كما يُعْطي العَالَم" (يُوحَنَّا 14: 27). ويهدف هذا السَّلام هنا لا لتبديد خوف التَّلاميذ، بل لإعدادهم وتأهيلهم للإرساليَّة كي يتشجعوا ويتشدَّدوا في مهام المستقبل فيُرسلهم للكرازة ولحمل إنجيل الخلاص للعالم؛ إنَّه سلام ابن الله المنتصر على العَالَم والموت. إنَّه السَّلام الذي لا يستطيع العَالَم أن يمنحه. هو " سلامَ اللهِ الَّذي يَفوقُ كُلَّ إِدراكٍ " (فيلبّي 4: 7). فهل نفهم ضرورة السَّلام الباطن؟ وهل نسعى لكي نضعه ونحفظه في نفوسنا؟ وما الفائدة إن علمنا يسوع بأنّ هذا السَّلام جيّد، إذا لم نسهرْ عليه؟ أمَّا عبارة "كما" في الأصل اليوناني καθὼς فتشير إلى العلاقة الخاصة بالآب والابن وعلاقة الآب بنا، من ناحية، وتبيّن طريقة إشراك الابن لتلاميذه في تلك الألفة الحميمة القائمة في حياة الله من ناحية أخرى. أمَّا عبارة "كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضًا" فتشير إلى يسوع رسول الله الوحيد لعمل الفداء (العبرانيين 3: 1)، وجعل تلاميذه سفراء وشركاءه في تبشير العَالَم بأخبار القِيامَة المُفرحة وبسلامه كما صرّح لهم "اِذهَبوا في العَالَم كُلِّه، وأَعلِنوا البِشارَةَ إلى الخَلْقِ أَجمَعين"(مرقس 16:15). وقد نشأت هذه الرِّسالة عن حدث الفصح. وتقوم هذه البشارة بإعلان " بِاسمِه التَّوبَةُ وغُفرانُ الخَطايا لِجَميعِ الأُمَم" (لوقا 24: 47). المسيح اخذ من الله كلام المصالحة وأعطاها إلى تلاميذه لينادوا بها وينوبون عنه في عمله على الأرض كما جاء في تعليم بولس الرَّسول " فنَحنُ سُفَراءُ في سَبيلِ المسيح وكأَنَّ اللهَ يَعِظُ بِأَلسِنَتِنا. فنَسأَلُكُم بِاسمِ المسيح أَن تَدَعوا اللّهَ يُصالِحُكُم"(2 قورنتس 5: 20).
22 قالَ هذا ونَفَخَ فيهم وقالَ لَهم: خُذوا الرُّوحَ القُدُس
تشير عبارة "قالَ هذا" إلى كلام الذي يهيئ عملا هاما؛ أمَّا عبارة "نَفَخَ فيهم" في الأصل اليوناني ἐνεφύσησεν (من فعلἐμφυσάω معناه نفخ في وجوههم) فتشير إلى خلق الإنسان في البدء كما جاء في سفر التَّكوين "جَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ الإِنسانَ تُرابًا مِنَ الأَرض ونَفخَ في أَنفِه نَسَمَةَ حَياة، فصارَ الإِنسانُ نَفْسًا حَّيَة" (تكوين 2: 7)؛ فكما في الخلق الأول نفخ الله في الإنسان نسمة الحياة كهبة الحياة الجسديَّة ، كذلك بنفخة نسمة المسيح ينال الإنسان من الله هبة الحياة الأبديَّة. فالفعل نفخ يُوحي بخلق جديد أمام قيامة حقيقيَّة كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "اللهِ الَّذي يُحيِي الأَموات ويَدعو إلى الوُجودِ غَيرَ المَوجود"(رومة 4: 17). وهب يسوع تلاميذه نفخة الرُّوح القُدُس لينالوا إمكانيَّة العمل الرَّسولي والخدمة بإعطائهم سلطان الحل والرَّبط (متى 16: 19). إنَّه تدشين الخلق الجديد، وبها يكون الفصح هو نقطة انطلاق لعَالَمٍ جديدٍ. وهذه النَّفخة وُهبت للتلاميذ، لكنها تنتقل لخلفائهم بوضع اليد (أعمال الرُّسُل 13: 2-3). ويُعلق القديس ايرينيوس "كما أنّ الله قد نفخ روحه في الجسد الذي كوّنه، منح الحياة لكل أعضاء الجسد، هكذا أعطى الرُّوح للكنيسة. فحيث الكنيسة هناك يكون روح الله هناك أيضًا". أمَّا عبارة " خُذوا الرُّوحَ القُدُس " فتشير إلى عطية روح المسيح الذي يعطي تلاميذه حياة جديدة. ينبثق الرُّوح القُدُس من الابن كانبثاقه من الآب. ويُعلق بطريرك أورشليم القدّيس كيرِلُّس " لقد أصبحتم مسحاء بما أنّكم نلتم علامة الرُّوح القُدُس. وكلّ ما حصل لكم هو صورة لما حصل للرّب يسوع المسيح الذي خُلقتم على صورته " (تعليم مسيحيّ، 21: 1-3). وأمَّا عبارة "الرُّوحَ القُدُس" فتشير إلى روح الله، الأقنوم الثَّالث في الثَّالوث. وقد سُمِّي روحا، لأنّه مبدع الحياة، ودُعي قدوسًا، لان من ضمن عمله تقديس المؤمنين، إذ يُحيِّي المائتين بالخطايا والآثام ويُقدِّسهم ويُطهِّرهم، وبالتَّالي يُؤهِّلهم لتمجيد الله وللتمتع به إلى الأبد كما اختبره بولس الرَّسول "شَريعةَ الرُّوحِ الَّذي يَهَبُ الحَياةَ في يسوعَ المسيح قد حَرَّرَتْني مِن شَريعَةِ الخَطيئَةِ والمَوت" (رومة 8: 2)، ونال الرُّسُل هنا قوة الإدراك للأمور المختصَّة بالمسيح وملكوته أي فهم النُّبوءات المُتعلقة به وضرورة موته وقيامته لإتمام عمل الفداء كما جاء في إنجيل لوقا " حينَئِذٍ فَتحَ أَذْهانَهم لِيَفهَموا الكُتُب، وقالَ لَهم: كُتِبَ أَنَّ المَسيحَ يَتأَلَّمُ ويقومُ مِن بَينِ الأَمواتِ في اليَومِ الثَّالِث" (لوقا 24: 45-46). فالرُّوح القُدُس هو قوة الخلاص لغفران الخطايا والذي يُمكّن التَّلاميذ من الشهادة للمسيح: "مَتى جاءَ المُؤَيِّدُ الَّذي أُرسِلُه إِلَيكُم مِن لَدُنِ الآب رُوحُ الحَقِّ المُنبَثِقُ مِنَ الآب فهُو يَشهَدُ لي وأَنتُم أَيضًا تَشهَدون لأَنَّكُم مَعي مُنذُ البَدْء"(يُوحَنَّا 15: 26-27). وكان هذا العطاء الخاص للتلاميذ بالامتلاء من الرُّوح القُدُس عربون لِمَا سيختبره المؤمنون في يوم العنصرة (أعمال الرُّسُل 2). ويُعلق البابا القديس يُوحَنَّا بولس الثَّاني في رسالته العامة الرَّبّ وواهب الحياة "إنّ الرُّوح القُدُس الذي، في أعماق لله، هو أقنومٌ وهبة، قد أُعطيَ للتلاميذ وللكنيسة بطريقة جديدة، ومن خلالهم للبشريّةِ وللعالمِ أجمع" (رقم 23). ويليق بالذي يُرسل رسلا أن يعطيهم قوة لكي ينشروا رسالته، والمسيح أعطى رسله القوة بهبته لهم الرُّوح القُدُس.
23 مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم، ومَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم
تشير عبارة "مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم" إلى سلطان غفران الخطايا الذي اؤكله يسوع لرسله، وهو الحِلّ أي توسيطهم بنوال الغفران الإلهي من خلال سرّ المصالحة وإعلان التوبة. هذا السُّلطان الذي طالما شكك كتبة اليهود كما جاء في حوار يسوع مع المُقعد "قالَ يسوعُ لِلمُقعَد: ((ثِقْ يا بُنَيَّ، غُفِرَت لكَ خَطاياك. فقالَ بَعضُ الكَتَبَةِ في أَنْفُسِهم: إِنَّ هذا لَيُجَدِّف " (متى 9: 2-3). وسلطان غفران الخطايا هو عطاء المسيح القائم من الموت إلى كنيسته. ويُعلق المجمع الفاتيكاني الثَّاني " تُؤمنُ الكنيسة بأن الرَّبّ يسوع المسيح الذي مات وقام من أجلِ الجميع، يُقدِّمُ للإنسان بواسطةِ روحه القدوس النُّورَ والقوةَ ليستطيع أن يجاوبَ على دعوته السَّاميَّة. وهي مرتكزة ارتكازًا نهائيًا على الرَّبّ يسوع المسيح الذي هو أمسُ واليوم وإلى الأبد والذي قال "مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم" (فرح ورجاء دستور رعائي في "الكنيسة في عالم اليوم" الأعداد 9 و10). لقد كسب المسيح للكنيسة بدمه ووهبها بواسطة روحه القدوس، سلطانا يغفر الخطايا بواسطة كهنته. فمن يغفر هو الله وحده، ولكن إذا قلنا الكاهن يغفر فهذا يعنى أن الرُّوح القُدُس السَّاكن في الكاهن هو الذي يغفر أو يُمسك الخطايا، ويوضِّح القديس أمبروسيوس هذا الأمر" انظروا أن الخطايا تُغفر بالرُّوح القُدُس، أمَّا البشر فيستخدمون خدمتهم لغفران الخطايا، أنَّهم لا يغفرون الخطايا باسمهم بل باسم الآب والابن والرُّوح القُدُس؛ فالخدمة من جانب الإنسان والعطيَّة من سلطان العليّ". فالكاهن يغفر الخطيئة بالرُّوح القُدُس أو يُمسكها. ويُعلق البابا فرنسيس "ليست مغفرة خطايانا أمرًا يمكننا أن نعطيه لأنفسنا، لأن المغفرة تُطلب من آخر ونحن في الاعتراف نطلب المغفرة من يسوع، مغفرة خطايانا ليست ثمرة جهودنا، إنما هي عطيَّة من الرُّوح القُدُس الذي يملأ من فيض الرَّحمة والنّعمة المُتدفّق من قلب المسيح المصلوب والقائم من الموت، ولذا على الكاهن أن لا يسئ استخدام هذا السُّلطان، حيث يمارسه حسب هواه، إنما بحسب الرُّوح القُدُس الذي يستمدَّ منه السُّلطان ويخضع له". أمَّا عبارة "مَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم" فتشير إلى الغفران الذي ليس لكل واحد، بل الأمر يتوقف على اختباره هل هو تائب؟ أم غير تائب؟ أعطى يسوع المسيح تلاميذه نعمة الرُّوح القُدُس وقوة لمغفرة الخطايا، للتائبين، ولكن ترك أولئك الذين ليس لديهم توبة صادقة دون مغفرة. ينبع سرّ التَّوبة والمصالحة أو الاعتراف مباشرة من السِّرّ الفصحيّ. إنَّ الاختلاف في تفسير هذه الآية لا يدور حول طبيعة السُّلطان الذي يمنحه يسوع لتلاميذه (متى 16: 19) بقدر ما يدور حول تحديد الذين يمارسون هذه السُّلطان. فالسُّلطة الممنوحة هي إعلان المغفرة على أساس موت المسيح الذي حمل الخطايا، كما ورد في إنجيل متى "ما رَبطتُم في الأَرضِ رُبِطَ في السَّماء، وما حَلَلتُم في الأَرضِ حُلَّ في السَّماء"(متى 18: 18)؛ أمَّا فيما يتعلق بهؤلاء الذين يمارسون هذه السُّلطة فالتَّقليد الكاثوليكي يعتقد أنَّ المقصود هم الكهنة. وقد مُنحوا السُّلطة بفضل شركتهم الوثيقة معه أن يتصرَّفوا باسمه، كوكلاء في غفران الخطايا أو إمساكها، فقد منحهم السَّيد المسيح القائم من الموت السُّلطان الكهنوتي لمغفرة الخطايا. وأمَّا التَّقليد البروتستانتي فيعتقد بان المقصود "الذي هو أداة الرُّوح القُدُس" وذلك بحسب ما جاء في قول بطرس الرَّسول "بِأَنَّ كُلَّ مَن آمَنَ به يَنالُ بِاسمِه غُفرانَ الخَطايا" (أعمال الرُّسُل 10: 43). يُعلن الرَّبّ يسوع للتلاميذ عن سلطانهم لمغفرة خطايا النَّاس. ولا يمكن للإنسان أن ينال رِسَالة الغفران إلى أن يقبل مُعطي الغفران، أي يسوع المسيح. فالكاهن في سر الاعتراف أو المصالحة لا يمثّل المسيح فقط وإنَّما يمثّل أيضًا الجماعة المؤمنة بأسرها (الكنيسة) التي تجد نفسها في ضعف كلّ فردٍ من أفرادها، تصغي إلى توبته وتتصالح معه، تشجّعه وترافقه في مسيرة التَّوبة والنُّضوج الإنساني والمسيحي. بالاعتراف يغمُرنا ألله ويفرح بعودتنا كما فرح الأب في ابنه الضال (لوقا 15: 11-32)؛ لِنسِرْ إذًا على هذه الدَّرب! تشير هذه الآية إلى إعطاء الرَّبّ موهبة الكهنوت لتلاميذه بسلطان الرُّوح القُدُس بصورة مُميَّزة عن حلول الرُّوح القُدُس في يوم العنصرة، وهذه الموهبة هي لسلطان مغفرة الخطايا. قام الرَّبّ، وقيامته هي حياة وسلام وغفران للجميع.
24 على أَنَّ توما أَحَدَ الاثَنْي عَشَر، ويُقالُ له التَّوأَم، لم يَكُنْ مَعَهم حِينَ جاءَ يسوع
تشير عبارة "توما" إلى اسم آرامي תוֹמָא وفي اليونانيَّة Δίδυμος (معناه توأم)، والظَّاهر أنَّه كان ذا مزاج سوداوي، كما ظهر في عدم ثقته هنا في شهادة الجماعة الرَّسوليَّة لقيامة الرَّبّ (يُوحَنَّا 20: 27)، وكان توما يميل إلى الشَّكِّ والخوف وإلياس كما يظهره من كلامه " قالَ توما الَّذي يُقالُ لَه التَّوأَمُ لِسائِرِ التَّلاميذ: فَلْنَمْضِ نَحنُ أَيضًا لِنَموتَ معَه" (يُوحَنَّا 11:16)؛ وهو أحد الاثني عشر رسولًا (متى 10: 3)؛ وقد قام توما بدور على جانب من الأهميَّة في إنجيل يُوحَنَّا: حبًا بيسوع كان توما مستعدًا للذهاب معه حتى الموت (يُوحَنَّا 11: 16). وكان يتمتّع ببعض السُّلطة لدى الرُّسُل (يُوحَنَّا 11: 16). وهو واحد من المجموعة التي تراءى لهم يسوع في الجليل (سمعان بطرس، نتنائيل، ابنا زبدى واثنان آخران) بعد قيامته (يُوحَنَّا 21: 2)، وكان مع البقيَّة في العليَّة في أورشليم بعد صعود يسوع إلى السَّماء (أعمال الرُّسُل 1: 13). ويفيد التَّقليد أن توما كان بعد ذلك عاملًا في برثيا والفرس، وأنَّه بشَّر في الهند، ومات هناك شهيدًا. ويوجد مكان قرب مدراس يسمّى الآن جبل القديس توما، ولا يزال كثيرون في الشَّرق يدعون أنَّهم من مسيحي الكنائس التي أسسها هذا الرَّسول ولا سيما سكان الملبار بالهند، وهم مسيحيون يتبعون طقس الكنيسة السِّريانيَّة. ويُقال إنَّه دُفن في الرَّها في شمال بلاد ما بين النَّهر سنة 230 م. وبعد سقوط تلك المدينة بيد الأتراك، نُقل جثمانه لمكان آمن في جزيرة خيوس 1144م، ومن ثمة وصل جثمان مار توما الرَّسول في 1258 أورتونا Ortona في إيطاليا مع قائد عسكري أسمه ليوني. وسرعان ما أصبح المكان الذي وضع فيه جثمان القديس مركزًا روحيًا هاما لإكرامه. وقد اكتشف سنة 1945 في نجع حمادي بصعيد مصر مخطوطات غنوصيَّة مكتوبة باللغة القبطيَّة وجدت ومن ضمنها نسخة من إنجيل ابوكريفا يُدعى "إنجيل توما"، والاعتقاد العام عند العلماء أن نسبته إلى الرَّسول غير صحيحة وأنَّه من كتابات الغنوصيين، وهذه المخطوطة ترجع إلى القرن الخامس الميلادي. أمَّا عبارة " لم يَكُنْ مَعَهم حِينَ جاءَ يسوع " فتشير إلى ضياع على توما أول فرصة لظهور المسيح أمام جماعة التَّلاميذ ونيل سلامه وفرحه. ولم تُذكر علة غياب توما.
25 فقالَ لَه سائِرُ التَّلاميذ: رأَينا الرَّبّ. فقالَ لَهم: إِذا لم أُبصِرْ أَثَرَ المِسمارَينِ في يَدَيهِ، وأَضَعْ إِصبَعي في مَكانِ المِسمارَين، ويدي في جَنْبِه، لن أُومِن
عبارة "رأَينا الرَّبّ" في الأصل اليونانيἙωράκαμεν (من فعل ὁράω معناها نظر بوعي وإيمان) تشير إلى شهادة عشرة من الرُّسُل بما شاهدوه بعيونهم، فكان يجب على توما أن يكتفي بها. أمَّا عبارة "إِذا لم أُبصِرْ أَثَرَ المِسمارَينِ في يَدَيهِ، وأَضَعْ إِصبَعي في مَكانِ المِسمارَين، ويدي في جَنْبِه" فتشير إلى عدم تصديق توما للوهلة الأولى الرُّسُل، أن الرَّبّ يسوع قد ظهر في غيابه، وطلب توما دليلًا لتثبيت إيمانه بقيامة الرَّبّ المسيح شرطين. الشَّرط الأول: " إِذا لم أُبصِرْ"، وهذا يدل على أهميَّة النَّظر بوعي لكي نؤمن، والنَّظر يذكِّرنا برواية الحيَّة النُّحاسيَّة في الصَّحراء (عدد 2: 4-9). فهل نعرف كيف نرفع أنظارنا، كي نرى محبّة الآب غير المحدودة وغير المتناهيَّة في ابن الإنسان المصلوب والقائم من الموت؟ والشَّرط الثَّاني "أَضَعْ إِصبَعي"؛ أنَّه يطلبُ بُرهانًا خاصًّا به. فكان من طبع توما ألاَّ يترك تساؤلا داخله ولا يسأل عنه (يُوحَنَّا 14: 5). يريد توما أن يبصر (فعل ὁράω)، أي أن يرى ويختبرَ بنفسه ويلمس. إنَّه يفرض على المسيح شروط إيمانه. إنّه يطلب دليلا على ذلك، ويضرب عرض الحائط سمو حريَّة الله المطلقة في عطائه. ويعلق الأسقف باسيليوس السَّلوقيّ "أغلق أذنيه عن سماع شهادة لتلاميذ وأراد فتح عينيه... فأطلق شكّه، آملًا أن تتحقّق رغبته، وقال" لن تتبدّد شكوكي إلا حين أراه". أمَّا عبارة " جَنْبِه " فتشير إلى جنبه المطعون بالحربة كما ورد في إنجيل يُوحَنَّا " واحِدًا مِنَ الجُنودِ طَعَنه بِحَربَةٍ في جَنبِه، فخرَجَ لِوَقتِه دَمٌ وماء" (يُوحَنَّا 19: 34)؛ أمَّا عبارة "لن أُومِن" فتشير إلى رفض توما تصديق أقوال الجماعة الرَّسوليَّة عن رؤيتهم للمسيح، ورفضه الثِّقة بشهادتِهم حيث لا تكفيه شهادة الغير. إنَّه يريد بُرهانًا شخصيًا حسيًّا وعمليًّا ليؤمن. فمعرفته السابقة عن يسوع، قبل الآلام، لم تكن كافية. ما يحتاجه توما الآن هو معرفة يسوع ما "أصبح" عليه الرَّبُّ من خلال قيامته. إنه إله المستحيل الذي شق طريقًا لم تتصوره البشرية على الإطلاق. ويُمثل توما جميع الذين شكَّوا ويشكُّون بقيامة يسوع، ويريدون أن يروا ويلمسوا كي يؤمنوا. توما شكَّ وما آمن قبل أن يرى. ويقول أوغسطينوس إن "توما شكَّ على أنَّه لا يجب أن نشكَّ نحن". الواقع يحتاج البعض إلى الشَّك قبل أن يؤمنوا. فإن أدَّى الشَّك إلى سؤال، والسُّؤال إلى جواب، وكان الجواب مقبولا، فالشَّك يعمّق الإيمان. لقد كان شكّ توما إيجابيًّا بقصد الحصول على رؤيَّة للرّب. أمَّا إذا أصبح الشَّك عنادًا وصار العناد أسلوب حياة، فالشَّكُّ هنا يضرُّ بالإيمان. إن غاية يُوحَنَّا الإنجيلي من ذكر شك توما بيان أنَّه لم يكن الرُّسُل متوقعين قيامة المسيح ومُستعدين إن يقتنعوا بحقيقتها إلاَّ بعد الشَّكِّ. شكَّ توما لكيلا نشكُّ نحن. هل من المُمكن أن نؤمن دون أن نرى؟
26 وبَعدَ ثَمانِيةِ أَيَّامٍ كانَ التَّلاميذُ في البَيتِ مَرَّةً أُخْرى، وكانَ توما معَهم. فجاءَ يسوعُ والأبوابُ مُغلَقَة، فوَقَفَ بَينَهم وقال: السَّلامُ علَيكم!
تشير عبارة "ثَمانِيةِ أَيَّامٍ" إلى أسبوع كامل حسب اصطلاح اليهود فكان ذلك اليوم الأحَد. وهو الأحَد الأول بعد القِيامَة حيث أعلن السَّيد المسيح نفسه لتوما ـ إذ يحسب اليهود اليوم الأول والثَّامن. ويُعلق القديس يُوحَنَّا الذهبي الفم "إن قلتَ: ولِم لم يظهر السَّيد المسيح لتوما في الحال، بل بعد ثمانيَّة أيام؟ أجبتك: حتى يُعلن له التَّلاميذ ذلك فيما بعد ويسمع منهم هذا القول بعينه، ويلتهب بشوقٍ أكثر، ويصير فيما بعد أكثر تصديقًا". ويدل رقم 8 على بداية جديدة، أسبوع جديد لذلك يشير للأبديَّة والسَّماويات والحياة الرُّوحيَّة والإنسان الجديد وخاصة يدل على المسيح ليس في تجسده ولكن المسيح السَّماوي والأبدي. وقد ورد في العهد الجديد 8 معجزات إقامة من الموت، هؤلاء قاموا وبدأوا حياة جديدة. السَّيد المسيح أقام 3 (ابن أرملة نائين (لوقا 7: 11-17)، ابنة يائيرس (متى 9:18-26) ولعازر (يُوحَنَّا 11: 1-44)؛ وبطرس الرَّسول أقام طابيثة (أعمال الرُّسُل 9: 36-42) وبولس الرَّسول أقام أَفطيخُس (أعمال الرُّسُل 20: 7-12). عاش التَّلاميذ القِيامَة أسبوعا كاملا، فهي بداية جديدة بعد سبعة أيام فلا مجال للشك. أمَّا عبارة " في البَيتِ مَرَّةً أُخْرى" في الأصل اليونانيπάλιν ἦσαν ἔσω (معناها كان التَّلاميذ أيضا داخلا) فتشير إلى بيت والأرجح أنَّه هو العليَّة) البيت الذي كانوا مجتمعين فيه في اورشليم يوم الأحَد الماضي. أمَّا عبارة " كانَ توما معَهم" فتشير إلى المسيح الذي أتى إلى رسله حينئذٍ لكي يتراءى للتلاميذ وتوما معهم. وقبول الرُّسُل توما معهم بالرغم عدم تصديقهم دليل على لطفهم له. أمَّا عبارة " الأبوابُ مُغلَقَة" فتشير إلى العِلة نفسها التي كانت في الأحَد السَّابق (يُوحَنَّا 20: 19). أمَّا عبارة " فوَقَفَ بَينَهم " فتشير إلى قدوم يسوع دون أن يُنبئهم ودون أن يشعروا به. أمَّا عبارة " السَّلامُ علَيكم!" فتشير إلى تحيَّة يسوع القائم للجميع كما سبق دون أن يستثني توما.
27 ثُمَّ قالَ لِتوما: هَاتِ إِصبَعَكَ إلى هُنا فَانظُرْ يَدَيَّ، وهاتِ يَدَكَ فضَعْها في جَنْبي، ولا تكُنْ غَيرَ مُؤمِنٍ بل كُنْ مُؤمِنًا
تشير عبارة "هَاتِ إِصبَعَكَ إلى هُنا فَانظُرْ يَدَيَّ، وهاتِ يَدَكَ فضَعْها في جَنْبي" إلى دعوة يسوع توما إلى وضع إصبعه في إثر المسامير في يديه للتحقق من علامات قيامته. تتَّضح هنا العلاقة بين هوية يسوع المصلوب والمسيح القائم من بين الأموات. واستخدم يسوع نفس الكلمات التي استخدمها توما كشرط لإيمانه. إن بعض الآباء القديسين يذكرون أن توما وضع إصبعه في يَدَيَّ الرَّبِّ ويَدَه في جَنبه، ولهذا يُسمى عيد اليوم أيضًا "لمسة توما". اظهر يسوع بهذه الكلمات أنَّه عرف كل ما حدث بين توما والرُّسُل (يُوحَنَّا 20: 25). كشف المسيح له أدلة آلامه في يديه وجنبه قائلا له "َانظُرْ" في الأصل اليوناني ἴδε (من فعل ὁράω, ) أي اختبر بنفسك. فلم يكن يسوع شبحا أو طيفا أو خيالا، بل كان ممكنا لمسه. كشف المسيح لتوما جراحه، الّتي لم تختفِ بعد القِيامَة كي نتمكّن من أن نحبه دومًا كمصلوب الذي يُواصل بذل حياته من أجلنا. ويُعلق القديس ايرونيموس "سيكون لنا بعد القِيامَة ذات الجسم والدَّم والعظام". إن قيامة الرَّبّ يسوع قيامة حقيقيَّة وماديَّة، فيسوع القائم هو ليس روحا غير مجسَّدة. بل "جَسَدِ مَجيد بما لَه مِن قُدرَةٍ يُخضِعُ بِها لِنَفْسِه كُلَّ شيَء" (فيلبي 3: 21). وأطلق عليه القديس بولس "جسمًا روحيًا" (1قورنتس 15: 44). ويتفرّد الإنجيليّ يُوحَنَّا بظهور يسوع لتلاميذه ولتوما. وفي هذا النَّصّ يُشدّد يُوحَنَّا على حقيقة الظُّهور وواقعه التَّاريخيّ. فيسوع القائم هُوَ نفسه الذي مات في الأمسِ مُسَمَّرًا ومطعونا بحربة في جنبه. وهذا برهان على صحة دعوى المسيح أنَّه إله كما هو إنسان. ويُعلق البابا القدّيس يُوحَنَّا بولس الثَّاني قبيل وفاته عام 2005 "علامات آلام يسوع المُوجعة المطبوعة في جسده بطريقة لا تُمحى حتّى بعد القِيامَة. فهذه الجراحات المُمجّدة الّتي دعا توما غير المؤمن إلى أن يلمسها، بعد ثمانيَّة أيّامٍ، تكشف عن رحمة الله، الّذي "أَحبَّ العَالَم حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد" (يُوحَنَّا 3: 16). أختبر توما حقيقة الرَّحمة الإلهيَّة، تلك الرَّحمة التي لها وجه ملموس، وجه يسوع، يسوع القائم من بين الأموات. فهل نفقد الثِّقة في الرَّحمة الإلهيَّة؟ أمَّا عبارة "هاتِ يَدَكَ فضَعْها في جَنْبي" فتشير إلى جرح المسيح الواسع حتى إنَّه يسع يد توما الرَّسول. ويُعلق القدّيس توماس دو فيلنوف "طوبى لليد التي بحثت عن أسرار قلب الرَّبّ يسوع المسيح. فأيّ غنى لا تجده هناك؟"(عظة للأحد الثَّاني للفصح). تعامل يسوع مع باحترام والمَحبَّة والرَّأفة مع شَكَّ توما ومشاعره. أمَّا عبارة " ولا تكُنْ غَيرَ مُؤمِنٍ بل كُنْ مُؤمِنًا " فتشير إلى امر المسيح لتوما للعبور من عدم الإيمان إلى الإيمان كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "أَنَّنا نَسيرُ في الإِيمانِ لا في العِيان" (2 قورنتس 5: 7). ويُعلق باسيليوس السلوقيّ "لمسه توما، وانهار كلّ ارتيابه؛ فامتلأ بالإيمان الصَّادق وبكلّ الحبّ الذي يستحقّه الله منّا، فصرخ: "ربّي وإلهي!" (عظة عن القِيامَة). ومن يختبر صداقة يسوع لا يمكنه إلا العبور من خلال جراحات يسوع إلى الإيمان، ولا يكتفي بالنَّظر إليها من الخارج، بل يختبرها من الدَّاخل فيعرف من هو المسيح المصلوب والقائم من الموت. ليس هناك عذرا لشك توما لأنَّه سمع بأذنيه المسيح يقول " ويقومَ في اليومِ الثَّالث" (متى 16: 21)، وكان شاهده منذ بضعة أسابيع يقيم لعازر من الموت (يُوحَنَّا 11: 43). منذ ذلك الوقت، نستطيع أن نتعرّف إلى الرَّبّ يسوع ليس فقط من خلال وجهه، بل أيضًا من خلال جراحاته. ويُعلق القدّيس أوغسطينوس: "ألم يكن باستطاعة الرَّبّ أن يقوم من بين الأموات من دون آثار تلك الجراحات؟ إلاّ أنَّه عاين في قلوب الرُّسُل جراحات لا تقوى على شفائها سوى آثار جراحاته التي طُبعت على جسده" (العظة 88).
28 أَجابَه توما: رَبِّي وإِلهي!
تشير عبارة " رَبِّي وإِلهي " إلى كلمات اليهودي في العهد القديم אֲדֹנִי וֵאלֹהָי وردت في سفر المزامير " استَيْقِظْ وقُمْ لِحَقَي لقضِيَّتي يا إِلهي وسَيَديיְהוָה אֱלֹהָי" (مزمور 35: 23)، وقد ردَّدها توما عن المسيح فتحققت بشارة القديس يُوحَنَّا " والكَلِمَةُ هوَ الله"(يُوحَنَّا 1: 1). ويدل هذا الهتاف على أنّ الإيمان هو علاقة شخصيَّة خاصة وعميقة، ولا أحد يستطيع أن يقوم بها عنه. ما أن رأى توما الرَّبّ أمامه وسمع صوته حتى شعر بعدم الحاجة لوضع إصبعه في مكان المسامير ولمس جراحات سيِّده؛ فلقد كانت كلمات الرَّبّ كافية لتغيير قلبه وعقله وكل كيانه. وبلحظة انتقل توما من حالة الشَّك إلى اليقين، وأعلن في الحال إيمانه به وفرحه وعبادته، صارخًا: "ربي وإلهي". عبِّر جوابه عن سيادة المسيح ولاهوته معلنا أنَّ يسوع القائم هو الله ذاته، هو الرَّبّ وهو الإله المُتجسد. ويمثل هذا الجواب قمة في إعلان الإيمان المسيحي كما جاء في تعليم بولس الرَّسول: "يَشهَدَ كُلُّ لِسانٍ أَنَّ يسوعَ المسيحَ هو الرَّبّ تَمْجيدًا للهِ الآب." (فيلبي 2: 11). وهكذا انتقل توما من أقصى الشَّكِّ (لن أؤمن) إلى أقصى الإيمان واليقين "رَبِّي وإِلهي". وقد جمع توما بين لقبي "رب" و "إله" (يُوحَنَّا1: 1 و18)، واعترف أنَّ هذا الرَّبّ هو ربّه، وأنّ هذا الإله هو إلهه، ولسان حاله ما قاله بولس الرَّسول: "أَعرِفَهُ وأَعرِفَ قُوَّةَ قِيامتِه" (فيلبي 3: 19). فذاك الذي هو ربنا يسوع المسيح هو أيضًا الله. ويعلق أسقف قسطنطينيَّة بروكلس: "صاح توما أمام الرَّبّ متأملًا اتّحاد طبيعتيه" (العظة 1). وكان هذا الاعتراف آخر شهادة في إنجيل يُوحَنَّا. نحن أمام أعظم اعتراف إيماني بلاهوت المسيح، ويُنشد في الليتورجيا: ذاك الذي هو ربنا يسوع المسيح هو أيضا الله سبحانه تعالى. والجدير بالذكر أنَّ إيمان توما مبني على مشاهدة أدلَّة ملموسة لآلام يسوع. فقد رأى في يسوع آثار الصَّلب فآمن بألوهيّته، ويُعلق القدّيس أوغسطينوس: "شاهد توما يسوع الإنسان ولمسه، لكنّه أعلن عن إيمانه بالله الذي لم يره ولم يلمسه. لكن ما رآه ولمسه جعله يعلن إيمانه بِمَنْ شَكّ فيه سابقًا". ومن هذا المنطلق، الإيمان المسيحي مرتكز على الإيمان بقيامة يسوع "الرَّبّ وإله "، الذي منها يستمدّ قوّته بوجه كلّ الصِّعاب كما اختبره بولس الرَّسول بقوله: " فمَن يَفصِلُنا عن مَحبَّةِ المسيح؟ أَشِدَّةٌ أَم ضِيقٌ أَمِ اضْطِهادٌ أَم جُوعٌ أَم عُرْيٌ أَم خَطَرٌ أَم سَيْف؟" (رومة 8: 35). ويعتبر هتاف يسوع وإعلانه برهان على لاهوت المسيح، لأنَّ توما خاطب المسيح في حضرة الرُّسُل، ولم يعترضه المسيح بل مدحه. هل نؤمن بقوة قيامة يسوع، هل نؤمن بانتصاره على الخطيئة والخوف والشَّك والموت؟ هل نريد أن ندخل في علاقة مع الرِّب يسوع على خطى رسله وتوما؟ هل نحمل بداخلنا الإيمان الذي عبَّر عنه توما؟
29 فقالَ له يسوع: أَلِأَنَّكَ رَأَيتَني آمَنتَ؟ طوبى لِلَّذينَ يؤمِنونَ ولَم يَرَوا
تشير عبارة "أَلِأَنَّكَ رَأَيتَني آمَنتَ؟ " رَأَيتَني في الأصل اليوناني ἑώρακά (من فعل ὁράω, ) فتشير إلى ظنِّ توما أنَّه سيؤمن إذا رأى أثر المسامير في يديه ورأى جنبه المطعون، كذلك قد يظن البعض أنَّهم سيؤمنون بيسوع إذا رأوا علامة أو معجزة معيَّنة، كما قال يسوع إلى عامل الملك في كفرناحوم " إِذا لم تَرَوا الآياتِ والأَعاجيبَ لا تُؤمِنون؟" (يُوحَنَّا 4: 48). وفي الواقع آمن الرُّسُل، لأنَّهُم رأُوا الماءَ يتحوَّلُ خمرًا في قانا الجَليل (يُوحَنَّا 2: 1-12)، وآمنُوا لأنَّهُم رأُوا يسُوعَ يُهَدِّئُ العاصِفَة (متى 8: 23-27)، ويشفِي المرضى: الأبرص (متى 8: 1-4)، ابنة الكنعانيَّة (متى 15: 21-28)، والأصم (مرقس 7: 31-31)، والأعمى في بيت صيدا (مرقس 8: 22-26)، والمُقعَد عند بركة الغنم (يُوحَنَّا 5: 1-9)، والمرأة المنزوفة (متى 9: 20-22)، ويُقيمُ لِعازارَ منَ المَوت (يُوحَنَّا 11: 1-44) لهذا آمنُوا. ويُعلق البابا غريغوريوس: " لم يقلْ له السَّيد: "لأنَّك لمستَ جراحاتي آمنت"، وإنَّما قال لأنَّك رأيتني، فرؤيته للسيد المسيح جذبته للإيمان". ومن هذا المنطلق، لا يكفي الإيمان المقتصر على المطالبة بالمعجزات، بل الإيمان، دون تحفظ، بيسوع وبكلامه يؤدي إلى الحياة. لأنَّه قد يرى الإنسان الآيات، ومع ذلك لا يؤمن، كما حدث مع بعض اليهود " أَتى يسوعُ بِجَميعِ هذهِ الآياتِ بمرأى مِنهم، ولَم يُؤمِنوا بِه" (يُوحَنَّا 12: 37). أمَّا عبارة " آمَنتَ " فتشير إلى مدح المسيح لتوما على اقتناعه بقيامته المجيدة بشهادة حواسه وعلى اعترافه بناء على ذلك بأنَّه ربُّه والهُه. لكن إيمان توما المبني على شهادة الحواس هو أدني مراتب الإيمان. أمَّا عبارة "طوبى لِلَّذينَ يؤمِنونَ ولَم يَرَوا" فتشير إلى تطويبة الإيمان الذي لا يستند إلى الرؤية بل إلى شهادة الذي رأى، شهادة شهود عيان للقيامة والكنيسة. ويُعلق القديس ايرينيوس: "الكنيسة تحفظ هذا الإيمان بكل دقِّة كأنَّها تعيش في مكان واحد، وتؤمن إيمانًا واحدًا، لها قلبًا واحدًا وروحًا واحدًا. وباتفاق تام تبشّر الكنيسة بهذا الإيمان وتُعلّمه وتمنحه، كأنَّها تملكُ للنطق به فمًا واحدًا". وإمكانِنا أن نُسمِّي قَول يسُوع هذا لتُوما بالتَّطويبَةِ التَّاسِعة. قد كانت الرؤية الجسديَّة بالنِّسبة لتوما أساسًا للإيمان. أمَّا اليوم فإن الإيمان هو الأساس لرؤية الرَّبّ يسوع. فالإيمان الحقيقي لا يأتي من النَّظر، إنما من السَّمع كما جاء في تعليم بولس الرَّسول: "الإِيمانُ مِنَ السَّماع، والسَّماعُ يَكونُ سَماعَ كَلاَم ٍ على المسيح" (رومة 10: 17). ولذلك فان الإيمان يكمن في الثِّقة بكلمة الآخر بدلًا من طلب البراهين. إنَّه إيمان، كما يقول القديس بطرس، بالمسيح:" ذلك الَّذي لا تَرَونَه وتُحِبُّونَه، وإلى الآنَ لَم تَرَوه وتؤمِنونَ بِه" (1 بطرس 1: 8). لا شكَّ بأن زمن الرؤية قد انتهى حيث كان يسوع يجول فلسطين. ولكنَّه سيعود كما يُعلن لنا يُوحَنَّا الإنجيلي. فيسوع يُطوِّب الذين يُؤمنون به، ولم يروه قائمًا من الموت، بل يصدِّقون شهادة الذين رأوا وقد اختارهم هو لكي يكونوا شهودًا له، كما ورد في عظة بطرس الرَّسول الأولى "فيَسوعُ هذا قد أَقامَه اللّه، ونَحنُ بِأَجمَعِنا شُهودٌ على ذلك" (أعمال الرُّسُل 2: 32). بالإيمان بشهادة شهود العيان يتصل المؤمنون على عبر العصور بالمسيح القائم من الموت. ونجد هنا دعوة صامتة من يُوحَنَّا الإنجيلي إلى تصديق شهادته هو، لأنَّه هو واحد من الذين رأوا الرَّبَّ، كما صرَّح هو نفسه قائلا: "ذاك الَّذي كانَ مُنذُ البَدْء ذاك الَّذي سَمِعناه ذاك الَّذي رَأَيناهُ بِعَينَينا ذاكَ الَّذي تَأَمَّلناه ولَمَسَتْه يَدانا مِن كَلِمَةِ الحَياة" (1يُوحَنَّا 1: 1)؛ ومن هنا تأتي أهميَّة الشِّهادة في إنجيل يُوحَنَّا: "جاءَ شاهِدًا لِيَشهَدَ لِلنَّور فَيُؤمِنَ عن شَهادتِه جَميعُ النَّاس" (يُوحَنَّا 1: 7). أمَّا الأدلة الحسِّية فليست كافية للإيمان. وفي هذا الصَّدد كتب بولس الرَّسول عن إبراهيم: "هو أَبٌ لَنا عِندَ الَّذي بِه آمَن، ...آمَنَ راجِيًا على غَيرِ رَجاء فأَصبَحَ أَبًا لِعَدَدٍ كَبيرٍ مِنَ الأُمَمِ ... فلِهذا حُسِبَ لَه ذلِك بِرًّا. ولَيَس مِن أَجْلِه وَحدَه كُتِبَ ((حُسِبَ لَه بل مِن أَجْلِنا أَيضًا نَحنُ الَّذينَ يُحْسَبُ لَنا الإِيمانُ بِرًّا لأَنَّنا نُؤمِنُ بمَن أَقامَ مِن بَينِ الأَمواتِ يسوعَ ربَّنا الَّذي أُسلِمَ إلى المَوتِ مِن أَجْلِ زَلاَّتِنا وأُقيمَ مِن أَجْلِ بِرِّنا" (رومة 4: 17-25). ومن هذا المنطلق، فانَّ الإيمان لا يقوم بعد اليوم على العِيان أو الرؤية، بل على شهادة الذين عاينوا ورأوا. فلدينا كل برهان نطلبه، فالإنسان يستطيع أن يلتقي يسوع من خلال تعليم وشهادة جماعة التَّلاميذ أي الكنيسة. إنَّ يسوع لم يُظهر ذاته لتوما عندما كان خارج جماعة التَّلاميذ بلْ أظهر ذاته له عندما كان مُجتمعًا معهم. أنّ الخبرة الإيمانيّة الشَّخصيّة لا يمكن أن تحدث سوى داخل الجماعة، مع الآخرين الّذين يسيرون معي في الإيمان. قال أحد القدّيسين: "لا يمكن للإنسان أن يَخلص بمفرده". فمن أراد أنْ يؤمن به فليؤمن بكنيسته. ويُعلّق القديس ايرينيوس على إيمان الكنيسة: " الكنيسة تحفظ هذا الإيمان بكل دقِّة كأنَّها تعيش في مكان واحد، وتؤمن إيمانًا واحدًا، ولها قلبٌ واحدٌ وروحٌ واحدٌ. وباتّفاقٍ تام تُبشّر بهذا الإيمان وتعلّمه وتمنحه، كأنَّها تملكُ للنطق به فمًا واحدًا". فالإيمانُ المسيحيُّ المَبني على الشِّهادة لا على العيان، لا يقلُّ بشيءٍ عن إيمانِ الرُّسُل أنفسهم. وأمَّا مَن أراد كنيسة بلا عيب فيبقيَ دون كنيسة. هذا ما كان يردِّدُه اللاهوتيّ الأب إيف كُونغار قائلاً: " فإن كنّا نبحث عن كنيسة معصومةٍ من الهَفوات حتى نلتزمها، فلن نلتزم". فعلى الرّغم من صُعوبة إيمان توما بالقِيامَة، بقي توما في جماعة الرُّسُل ولم ينفصل عنها، وهذا ما قاده إلى الإيمان بيسوع قائلاً: "ربِّي وإلهي". وقد سُؤلَ مرّة عالمٌ في الرَّياضيات والفلك: هل تعتقد أن الكون لا نهاية له؟ أجاب: بالتَّأكيد. قيل له: وما الذي يؤكّد لك ذلك؟ أجاب: لأني أؤمن وأصدّق ما تعلّمته. كذلك الإيمان بالمسيح من خلال تعليم الكنيسة يدخل المسيحيون في اتحاد وثيق بالمسيح القائم من الموت (يُوحَنَّا 17: 20). على الإنسان أن يُخضع حكمته لحكمة الله وان يكتشف الرَّبَّ من خلال العلامات التي يُعطيها إيّاه هو عن حضوره وعن حُبِّه. هذا هو الإيمان المستحق الطُّوبى، هو مفتاح للولوج في أعماق المسيح وسر حياته. بالإيمان نسلك لا بالعيان. والمسيح هنا يُطوِّب من يؤمن دون أن يرى عبر كل الدُّهور. فالإيمان هو بُرْهانُ الحَقائِقِ الَّتي لا تُرى (العبرانيين 11: 1). وهو الثِّقة بالرَّبّ الإله. هل حقًّا لدينا الإيمان. هل ننظر إليه بعيون الإيمان؟ هل نؤمن به مُخلصًا ورَبًا لحياتنا؟ هل نصرخ إليه مثلما صرخ توما: رَبِّي وَإِلَهِي؟ هل لدينا ثقة كافية بالرَّبّ تسمح لنا بأن نفتح الأبواب له ونُخبر العَالَم بأفضل بشرى يسمعها حتّى الآن؟
30 وأتى يسوعُ أَمامَ التَّلاميذ بِآياتٍ أُخرى كثيرة لم تُكتَبْ في هذا الكِتاب
تشير عبارة " أَمامَ التَّلاميذ " إلى رسل المسيح الاثني عشر الذين اختارهم ليرافقوه في التَّبشير وليروا أعماله ويسمعوا تعليمه لخيرهم ولخير العَالَم بشهادتهم له. أمَّا عبارة " آياتٍ" في الأصل اليوناني σημεῖα وبالعبريَّة אותות (خروج 10: 1) فتشير إلى الرمز الذي يدل على خارقة دينيَّة؛ فالآية هي عمل يوصل إلى حقيقة. فظهور يسوع يُبيِّن حقيقة أنَّه ابن الله الحيّ الأبدي. والمعجزة هي آية تمتاز بوجه خاص بالكشف عن قدرة الله ومَجْده وشعاع قداسته وسموِّه. وهي تدعو إلى الإيمان. أمَّا عبارة " ِآياتٍ أُخرى" فتشير إلى آيات لم يذكرها الإنجيل بل اختار منها فقط سبع آيات، وكان أولها معجزة الخمر في عرس قانا الجليل، كما أكّد ذلك يُوحَنَّا الإنجيلي: "هذِه أُولى آياتِ يسوع أَتى بها في قانا الجَليل، فأَظهَرَ مَجْده فَآمَنَ بِه تَلاميذُه" (يُوحَنَّا 2:11)، ثم شفاء المقعد عن بركة الغنم (يُوحَنَّا 5: 1-9)، وشفاء الأعمى في اورشليم (9: 1-38)، وإحياء لعازر (يُوحَنَّا 11: 1-44). أمَّا عبارة " لم تُكتَبْ في هذا الكِتاب" فتشير إلى عدم كتابة قصة حياة المسيح كلِّها في هذه البشارة؛ إنَّما ما دوَّنه يُوحَنَّا الإنجيلي ليس سوى القليل من أحداث كثيرة جرت في حياة يسوع على الأرض. لكن ما كُتب هو كلُّ ما نحتاج معرفته لنؤمنَ بأن يسوع هو المسيح ابن الله الذي به نلنا الحياة الأبديَّة. وكانت هذه الآية خاتمة الإنجيل.
31 وإِنَّما كُتِبَت هذه لِتُؤمِنوا بِأَنَّ يسوعَ هو المسيحُ ابنُ الله، ولِتَكونَ لَكم إِذا آمَنتُمُ الحياةُ بِاسمِه
تشير عبارة " كُتِبَت هذه لِتُؤمِنوا " إلى الدَّعوة إلى الإيمان، والتَّقدم فيه عند الذين تمّ انتماؤهم إلى جماعة المؤمنين، فالإيمان هو هدف الإنجيل. لم يقصد يُوحَنَّا الإنجيلي أن يكتب تاريخًا كاملا لحياة المسيح على الأرض بل الاقتصار على ذكر بعض معجزاته وتعاليمه لإظهار مَجْد المسيح ولتثبّيت إيمان المؤمنين به وتوطيد حياتهم الرُّوحيَّة. أمَّا عبارة " بأَنَّ يسوعَ هو المسيحُ ابنُ الله " فتشير إلى برهان على صحة قيامة المسيح الذي هو من النَّاصرة والذي ولدته العذراء، وصُلب وقام، هو المسيح ابن الله، المسيح الذي تنبَّأ عنه كل الأنبياء، رجاء الشُّعوب كلها، وذلك لتثبيت إيمان المؤمنين. أمَّا عبارة "لِتَكونَ لَكم إِذا آمَنتُمُ الحياةُ بِاسمِه" فتشير إلى الحياة الأبديَّة عن طريق الإيمان بيسوع الذي هو المسيح وابن الله، كما جاء في بدء إنجيل مرقس: " بَدءُ بِشارَةِ يسوعَ المسيحِ آبنِ الله" (مرقس 1: 1). والإيمان بيسوع ليس مجرد اعتقاد، بل معرفة حقيقيَّة تهَب حياة أبديَّة. الإيمان بالمسيح المعترف به في منزلة ابن الله، والاعتراف برسالته، يهب الذين يؤمنون حقًا الحياة الأبديَّة بالاتحاد به "فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العَالَم حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة" (يُوحَنَّا 3: 16). والإيمان بيسوع يقوم على الاعتراف أن يسوع هو المسيح وابن الله، كما أعترف بطرس الرَّسول: "َنتَ المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ" (متى 16: 16). ويقود هذا الإيمان بيسوع إلى الحياة. فهناك صلة وبين الإيمان والحياة. فغاية بشارة يُوحَنَّا هو تثبيت مَجْد يسوع المسيح كونه مصدر الحياة الأبديَّة. أمَّا صيغة "آمَنتُمُ " في الأصل اليوناني πιστεύοντες فتشير صيغتها إلى الاستمراريَّة، أي إلى إيمانٍ عاملٍ مستمرٍ. والإيمان في هذا المفهوم هو قبول المسيح والثِّقة فيه وإعطائه السِّيادة على حياة المؤمن به ليقودها. وبهذا الإيمان ينال الإنسان الحياة الأبديَّة التي ظهرت في قيامة المسيح. يخبرنا يوحنا الإنجيلي أنَّه من خلال الإيمان بيسوع، ابن الله، يُمكن أن تكون لنا الحياة باسمه. ويعلق البابا فرنسيس:" يدعى يسوع كل واحد منّا إلى ملْ الحياة أي في العيش إلى الأبد بحب دون حدود"(عظة 7/4/2024). أمَّا عبارة "بِاسمِه" فتشير في العهد القديم إلى اسم الله الجلالة الذي لا يُلفظ (خروج 3: 15). وبذلك تتجلى ربوبيَّة الله في يسوع في تواضعه العظيم. ويدلُّ الاسم هنا على شخص المسيح القائم من الموت وحضوره الفعّال وقدراته وقوته وصفاته ووظائفه: "يسوع" معناه مخلص و "عمانوئيل" معناه الله معنا والملك والنَّبي والكاهن. فالمسيح بفدائه أعطانا حياة أبديَّة. لأنَّه هو الحياة. وهذا الاسم هو الذي يهب الخلاص للبشر، كما جاء في كلام بطرس في المجلس: "لا خَلاصَ بأَحَدٍ غَيرِه، لأنَّه ما مِنِ اسمٍ آخَرَ تَحتَ السَّماءِ أُطلِقَ على أَحَدِ النَّاسِ نَنالُ بِه الخَلاص " (أعمال الرُّسُل 4: 12). ومن اجل هذا الاسم يَلقى الرُّسُل العذاب (أعمال الرُّسُل 5:41) وفيه يعمَّد المؤمنون (أعمال الرُّسُل 2: 38) وإياه يدعون (أعمال الرُّسُل 9: 14). وليست المعجزات إلاَّ دليل لهذا الخَلاص.
ثانيًا: تطبيقات النَّص الإنجيلي (يُوحَنَّا 20: 19-31)
بعد دراسة موجزة عن وقائع النَّص الإنجيلي وتحليله (يُوحَنَّا 20: 19-31)، يمكن الاستنتاج أنَّه يتمحور حول مفهوم ظهور المسيح القائم من بين الأموات وميزات ظهوره.
1) مفهوم ظهور المسيح القائم من بين الأموات
تختلف الظُّهورات عن الرُّؤيا، حيث أنَّ الرُّؤيا تركِّز على المَجْد وتكشف عن الأمور السِّريَّة والأمور السَّماويَّة وتعرض مشاهد خارقة. أمَّا الظُّهور فهو وسيلة من وسائل التَّعبير عن وحي الله، الذي بواسطتها تُصبح الكائنات غير المنظورة بطبعها حاضرة بشكل منظور. وإن أقدم قائمة لظهورات يسوع القائم من بين الأموات يقدّمها لنا القديس بولس في سنة (55 م)، انطلاقًا من تقليد كان قد تسلّمه قبل ذلك، فطبقًا لاعتراف الإيمان القديم هذا "تَراءَى يسوع لِصَخْرٍ فالاْثَني عَشَر، ثُمَّ تَراءَى لأَكثَرَ مِن خَمْسِمِائَةِ أَخٍ معًا لا يَزالُ مُعظَمُهُم حَيًّا وبَعضُهُم ماتوا، ثُمَّ تَراءَى لِيَعْقوب، ثُمَّ لِجَميعِ الرُّسُل، حتَّى تَراءَى آخِرَ الأَمرِ لي أَيضًا أَنا السِّقْط " (1 قورنتس 15: 5-8).
لا تُورد الأناجيل من هذه القائمة إلاَّ الظُّهورين الأوَّلين لسمعان بطرس (لوقا 24: 34)، وللأحد عشر (يُوحَنَّا 20: 19-29) الذين انضَمً إليهم بعضُ التَّلاميذ الأَخرين (لوقا 24: 33-50). ومع ذلك، تَذكر الأناجِيل ظهورات أخرى لبعض الأفراد: لمريم وللنسوة (يُوحَنَّا 20: 11-18)، ولتلميذي عمّاوس (لوقا 24: 13-35)، ولسبعة رُسل على شاطئ البُحيرة (يُوحَنَّا 21: 1-23). وقد تندرج هذه الظُّهورات المختلفة تحت نوعين: عامة وخاصة. العامة هي ظهورات رسميَّة لجماعة الرُّسُل أو التَّلاميذ بصفة عامة تستهدف بيان رِسَالة لتأسيس الكنيسة، أمَّا الظُّهورات الخاصة تدور روايتها حول التَّعرّف على المسيح الذي ظهر.
لم تكن الظُّهورات ضروريَّة للرُّسل والتَّلاميذ، إنَّما يكفي أن يكونوا قد أُخبروا من قبل وبرهنوا على ذلك، كما حدث مع تلميذي عِمواس " لمَّا رَجَعا تلميذا عمواس وأَخبرَا الآخَرين، فلَم يُصَدِّقوهما (مرقس 16: 13). وكان جدير بفهمهم للكتب المقدّسة أن يقودهم نحو الإيمان بالقِيامَة (يُوحَنَّا 20: 9). فالظُّهورات تستجيب لاحتياجات إيمان ما زال ناقصًا. من ناحية أخرى، كانت الظُّهورات ضروريَّة، حيث أنَّ الذين كانوا قد عاشوا مع يسوع النَّاصري، كان ينبغي عليهم أن يكونوا الشُّهود الوحيدين والمُختارين ليسوع المسيح، وأن تنغرس بصورة تاريخيَّة نقطة الانطلاق في الإيمان المسيحي وفي الكنيسة. لذلك يمكن القول بأن التَّلاميذ رأوا الرَّبّ حيًّا في اختبار تاريخي، حيث أنَّ إيمانهم نوع ما كان نتيجة لرُؤية العَين، لذلك فهم شهود عيان للمسيح القائم من الموت.
2) ميزات ظهور المسيح القائم من بين الأموات
هناك ثلاث ميزات لظهورات يسوع القائم من الأموات لتلاميذه، وهي: المبادرة والتَّعرُّف وحمل الرِّسالة.
المِيزة الأولى: مبادرة يسوع القائم من بين الأموات: يسوع هو الذي يُبادر ويتقدَّم وسط أناس لا يتوقّعون ظهوره. حيث أنَّه الشَّخص الذي يأخذ المبادرة ويذهب إلى توما ويدعوه لرؤية جروحه ولمسها بيده. ثم يضيف قائلا: "لا تكُنْ غَيرَ مُؤمِنٍ بل كُنْ مُؤمِنًا"(يُوحَنَّا 20: 27). إن موضوع المبادرة من جانب القائم من بين الأموات يُعبّر عنها مدلول فعل ὤφθη "أي تراءَى"، كما وصف بولس الرَّسول "المسيح تَراءَى لِصَخْرٍ فالاثني عَشَر، ثُمَّ تَراءَى لأَكثَرَ مِن خَمْسِمِائَةِ أَخٍ معًا لا يَزالُ مُعظَمُهُم حَيًّا وبَعضُهُم ماتوا، ثُمَّ تَراءَى لِيَعْقوب، ثُمَّ لِجَميعِ الرُّسُل، حتَّى تَراءَى آخِرَ الأَمرِ لي أَيضًا (1 قورنتس 15: 5) ومعناه أن روايات الظُّهور تصف اختبارات واقعيَّة عاشها فعلًا التَّلاميذ.
تتطابق هذه الظُّهورات مع تطلّعات البشارة الأولى: الله قد تدخل، فأقام يسوع، وقد أعطاه أن يُظهر نفسه حيًا بعد موته. فالقِيامَة ليست حدثًا أسطوريًا بل هي اختبار تاريخي واقعي عاشه المسيح أمام تلاميذه وأصبح الإيمان هو نتيجة لهذا اللقاء. نستنتج من كل ذلك أنَّ يسوع أزال الشُّكوك التَّي كانت في أذهان الرُّسُل، وأعطاهم علامة عن واقع قيامته، وافهمهم الكتب المقدسة وحدَّد مهمَّتهم كشهود للقيامة. فحضور يسوع الحي يجعل منهم شهوده في العَالَم.
المِيزة الثَّانيَّة: تعرّف التَّلاميذ على يسوع القائم من الموت
أخذ التَّلاميذ يكتشفون ذاتيَّة الكائن الذي يبادرهم بظهوره. إنه هو يسوع النَّاصري الذي عرفوا حياته وموته؛ وهو الآن ليس ميِّتًا بل حيّ، وفيه تتم النُّبوة. أمَّا أسلوب هذا التَّعرّف يتدرّجُ في البداية حيث يرى الرُّسُل في يسوع الذي يظهر لهم شخصًا عاديًا، إمَّا مسافرًا كما حدث مع تلميذي عمّاوس (لوقا 24: 15 16) أو مع التلاميذ على شاطئ بحيرة طبريَّة (يُوحَنَّا 21: 4-5)، وإمَّا بستانيًا كما حدث لدى ترائيه لمريم المجدليَّة (يُوحَنَّا 20: 15)، ثم يعرفون أنَّه الرَّبّ. وهذا التَّعرّف حرّ حيث يتوجب على التَّلاميذ أن يؤمنوا بالقِيامَة أو أن يرفضوا الإيمان، كما هو الحال بالنِّسبة للتلاميذ عندما ظهر يسوع لهم في أورَشَليم: يُوحَنَّا الحبيب آمن بقيامة يسوع، أمَّا توما فلم يُؤمن (يُوحَنَّا 20: 25-29)، كذلك الأمر لدى ظهور يسوع لتلاميذه في الجليل: البعض آمن والبعض شكّ، كما جاء في أنجيل متى "فلَمَّا رَأَوهُ سَجَدوا له، ولكِنَّ بَعضَهُمُ ارْتابوا" (متى 28: 17). ويعلق بِندِكتُس السَّادس عشر:" إنّ حالة توما الرَّسول مُهمّة بالنِّسبة إلينا لثلاثة أسباب على الأقلّ: أوّلًا، لأنَّه يُشجّعنا في أوقاتنا الصَّعبة. ثانيًا، لأنَّه يُبيّن لنا أن أيّ شكّ يمكن أن يؤدّي إلى مخرجٍ مُضيء. ثالثًا وأخيرًا، لأنّ الكلمات التي وجّهها الرَّبّ يسوع إلى توما تذكّرنا "ألأنّكَ رَأَيتَني آمَنتَ؟ طوبى للذينَ يؤمِنونَ ولَم يَرَوا" (يُوحَنَّا 20: 29) بالمعنى الحقيقي للإيمان النَّاضج، وتُشجّعنا على الاستمرار بالاتحاد بشخص الرَّبّ يسوع المسيح في مسيرتنا رغم الصُّعوبات" (المقابلة العامّة بتاريخ 27/09/2006).
أخيرًا، بما أنَّ الرَّبّ يَظهر عادة لمجموعة من الأشخاص، حيث أنَّه كان من المُتيسَّر تبادل التَّأكد من حقيقة الظُّهور. فتمكَّن التَّلاميذ من أن يتعرفوا على حقيقة يسوع القائم. فمن جهة، أن القائم من بين الأموات لا يخضع بأوضاع الحياة الأرضيَّة العاديّة، فهو مثل الله في ظهوراته في العهد القديم (تكوين 18: 2)، يَظهر ثم يختفي حسبما يشاء. من جهة أخرى، أنَّه ليس شبحًا، ولذا كان الإلحاح على لمس يسوع والأكل معه. ولذلك فإن جسم يسوع القائم من الأموات هو جسم حقيقي. ولكنَّه "جسم روحاني" كما يقول بولس الرَّسول (1 قورنتس 15: 44-49)، لأنَّه جسد تحّول بالرُّوح: "وُلِدَ مِن نَسْلِ داوُدَ بِحَسَبِ الطَّبيعةِ البَشَرِيَّة، وجُعِلَ ابنَ اللهِ في القُدرَةِ، بِحَسَبِ روحِ القَداسة، بِقِيامتِه مِن بَينِ الأَموات" (رومة 1: 4). ويعلق القديس أوغسطينوس: "أيا كانت طبيعة الجسد الرُّوحاني، ومهما كانت عظمة نعمته، أخشى أن أتحدث في هذا، لأننا لا زلنا لا نحمل أية خبرة بخصوص هذه الحقيقة".
الجسم يُطلقُ على البدن الذي فيه حياةٌ وروحٌ وحركة. وأمَّا الجسدُ فيطلق على التِّمثالِ الجامد، أو بدن الإنسان بعدَ وفاته وخروجِ روحِه. ويتردد يسوع الحي القائم بالمجيء أكثر من مرة بين تلاميذه والرُّجوع إليهم ليقودهم ويرافقهم كما يرافق الرَّاعي خرافه (يُوحَنَّا 14: 3-18). عاد يسوع إلى عَالَمنا إلاَّ أنَّه هو من عَالَم آخر. وهذا لا يعني أنَّه جسدٌ آخرٌ غير الذي لنا، إنَّما هو بذاته لابسًا عدم الفساد (1قورنتس 15: 53) ويعلق القديس أوغسطينوس: "الجسد يخضع للروح ولا يعود يوجد ما يرثيه الرَّسول بقوله: "الجَسَدَ يَشتَهي ما يُخالِفُ الرُّوح، والرُّوحَ يَشتَهي ما يُخالِفُ الجَسَد" (غلاطيَّة 5: 17).
نستنتج مما سبق أنَّ قيامة يسوع ليست عودة إلى الحياة الأرضيَّة، بل هي دخول في الحياة التي لا تعرف الموت من بعد، كما يصرّح بولس الرَّسول: "نَعلَمُ أَنَّ المسيح، بَعدَما أُقيمَ مِن بَينِ الأَموات، لن يَموتَ بعدَ ذلِك ولن يَكونَ لِلمَوتِ علَيه مِن سُلطان" (رومة 6: 9) وبفضل مبادرة المسيح بعد القِيامَة، أصبح التَّلاميذ في مأمن من الوقوع في أي وهـــم من شأنه تشكيكهم في صحَّة وحقيقة لقائهم " بالحي". وبفضل "رؤيتهم" إيَّاه يربط التلاميذ هذا الاختبار بالماضي الذي عاشوه برفقته، وبسماعهم إيَّاه يواجهون وفي أيامنا لا يعرف المؤمن معنى الظُّهورات إلا من خلال الكرازة التي تقوم بها الكنيسة حول جسد المسيح.
المِيزة الثَّالثة: حمل رِسَالة المسيح القائم من بين الأموات.
تعرف التَّلاميذ على الرَّبّ وتمتعوا بمشاهدة المسيح القائم وحضوره تتميمُا لوعده لهم بحضوره "حضور إلى الأبد" (متى 28: 20). فدعاهم يسوع القائم ليكونوا شهودًا له ويواصلوا عمله في الحلِّ والرَّبط بحمل رِسَالة الخلاص وبناء الكنيسة (يُوحَنَّا 20: 22-23). فحضور يسوع ليس هدفه الاستقرار معهم، إنَّما تحميلهم رِسَالة. إنَّه يسوع النَّاصري الذي سبق فعاشوا معه (أعمال 2: 21-22)، وبعد ظهوره لهم والتَّعرف عليه دعاهم لينشروا إنجيله في العَالَم أجمع. قائلا لهم:" كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضًا" (يُوحَنَّا 20: 21).
من هذا المنطلق، تحوّل أتباع يسوع من تلاميذ (الشَّخص الّذي يتعلّم) في غرفة مُغلقة أبوابها إلى رسل (الشَّخص الّذي يُرسل) غرفة مفتوحة أبوابها بعد اليوم. وما هذه الرِسَالة إلاّ رِسَالة الابن الذي أرسله الآب إلى العَالَم ليخلصه، كما ورد في صلاة يسوع الكهنوتيَّة: "كَمَا أَرسَلَتني إلى العَالَم فكَذلِكَ أَنا أَرسَلتُهم إلى العَالَم" (يُوحَنَّا 17: 18). ويُعلق أحد مفسّري الكتاب المقدس: "لا يوجد إلاّ رِسَالة واحدة من السَّماء إلى الأرض، وهي رِسَالة يسوع. ورِسَالة التَّلاميذ هي متضمنة في رِسَالة يسوع، ومكمّلة لها". فيسوع يُخبر تلاميذه باي سلطان قد أتمَّ عمله، ويُوكل إليهم نشر خبر الخلاص في كل أنحاء العَالَم. ويُحدَّد يسوع مهمة الرُّسُل ليكونوا شهودًا لقيامته حيث يُوكل عمله إلى تلاميذه الذين يتولُّون نشر أخبار الخلاص السَّارة في كل العَالَم. ويُعلق أحد مفسري الكتاب المقدس: "إنَّ المسيح يطلب من تلاميذه: اخرجوا مني كخروج الشُّعاع من الشَّمس، وكخروج النَّهر من النَّبع، وكما أنَّني أذيع اسم الآب كذلك أذيعوا أنتم اسمي".
هذه الوجوه الثَّلاثة لها علاقة حيويَّة متبادلة فما بينها. حاضرنا يتجدَّد باستمرار بمبادرة من القائم من بين الأموات، ونحن مدعوُّون دومًا للتَّعرف على شخص يسوع النَّاصري، الذي يدعونا أن نكون شهودًا لقيامته وحمل إنجيله وبناء المستقبل، والمستقبل هو الكنيسة. ويعلق البابا فرنسيس: " ينفخ الرُّوح القُدُس القوّة لإعلان البشارة الجديدة بجرأة، بصوت عالٍ، في كلّ زمان وفي كلّ مكان، وحتّى في عكس التَّيّار...إنّ الرَّبّ يسوع يريد مُبشّرين يُعلنون البُشرى السَّارّة ليس فقط بكلامهم، بل خاصّةً بحياتهم المتجلّيَّة بحضور الله" (الإرشاد الرَّسولي "فرح الإنجيل، عدد 259). لنوجّه دعاءنا للرُّوح القُدُس كي يأتي من أجل أن يُجدِّد ويُحرّك ويدفع الكنيسة لتبشّر جميع الشُّعوب.
خُلاصة
يتفرّد الإنجيليّ يُوحَنَّا برواية ظهور يسوع لتلاميذه ولتوما. فإن الأبعاد الثَّلاثة لحضور القائم من الأموات تتوفر من جديد. وتأتي المبادرة دائمًا من الله، وبمعنى أدقّ من المسيح بعد قيامته. لكن المسيح يتكلّم اليوم من خلال الكرازة الحاليَّة. فيسوع النَّاصري يكشف عن نفسه، ولكن من خلال الاختبار التَّاريخي للرُّسل وتوما. فيسوع القائم هو نفسه الذي مات في الأمس مُسمّرًا ومطعونًا بحربة في جنبه، إلاّ أنَّه من عالم آخر غير خاضع لقوانين عالمنا هذا. وإذا به يدخل والأبواب مُغلقة، وفجأة يقف في وسطهم، ويجلب لتلاميذه السَّلام ثمرة قيامته. هذا السَّلام الذي قد وعدهم به والذي يُبدّد كلَّ اضطراب أحدثه رحيله عنهم. هو سلام ابن الله المُنتصر على العَالَم والموت، أنَّه السَّلام الذي لا يستطيع العَالَم أن يمنحه. ويُعلق القدّيس فرنسيس دي سال " ظهرَ المخلِّص للرسل ليُعزِّيَهم في حزنهم، وقالَ لهم: "السَّلام عليكم". وكأنّه أرادَ أن يقول: "لماذا أنتم خائفون ومفجوعون هكذا؟ إن كنتم تشكّون في صحّة ما قلتُه لكم عن قيامتي، فَكونوا بسلام، ليَكنْ السَّلام فيكم، لأنّني قُمْتُ من الموت. انظروا إلى يديّ، المسوا جراحي، أنا هو بنفسي، لا تخافوا، فَليَكنْ فيكم سلام" (مقالة عن حبّ الله).
رفض توما أن يثق بشهادة الجماعة الرَّسوليّة: "رأينا الرَّبّ". إنَّه يطلب برهانًا خاصًا به. ويريد أن يختبر بنفسه ويطلب أن يرى ويلمس. إنه يفرض على المسيح شروط إيمانه. ظهر للتلاميذ بعد ثمانية أيام وكان توما معهم. ودون أن يلتفت إلى التَّلميذ المعاند أراه جراحاته ودعاه لأن يضع يده فيها. خجل توما ولم يجد إلاّ كلمة واحدة: "ربّي وإلهي!" وأقرّ بضعفه واعترف بسيادة يسوع الإلهيَّة، فانتقل من أقصى الشَّكّ إلى أقصى الإيمان واليقين. ويسوع يستخلص العبرة من الحدث فيقول لتوما: "آمنت لأنك رأيتني؟" فطوبى للذين يؤمنون ولم يروا". لا يكفي أن يروِي الآخرون لنا هذه الخبرة، بل لا بُدَّ لنا من خبرة إيمان شخصيَّة؛ وهذه الخبرة تتم داخل الجماعة الذين يسيرون معًا في الإيمان. وخير مثال على ذلك عبور توما من عدم الإيمان إلى الإيمان كما أوصاه يسوع "لا تكُنْ غَيرَ مُؤمِنٍ بل كُنْ مُؤمِنًا" (يُوحَنَّا 20: 27)، لكن هذه العبور لم يتم دون لمس بيديه جراح الرَّبّ القائم وسط جماعة الرُّسُل المؤمنة به.
لا يزال المسيح القائم من الأموات اليوم حاضرًا بناء على وعده: "هاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إلى نِهايةِ العَالَم" (متى 28: 20)، وذلك بواسطة الكنيسة الحيَّة، جسده السِّري، وهو يجعل البشر دائمًا يعرفونه عند كسر الخبز (لوقا 24: 35). ويُعلق البابا القديس يُوحَنَّا بولس السَّادس: "إنّ الرَّبّ القائم يهب حُبّه كعطيَّة للإنسانيَّة، الّتي تظهر أحيانًا أنَّها ضائعة وتحت سيطرة قوى الشَّرّ، والأنانيَّة والخوف؛ يهب حُبّه الّذي يسامح، الّذي يصالح ويفتح النَّفس من جديد للرَّجاء. فالحُبّ هو الّذي يجعل القلوب تتوب، والحُب ُّهو الّذي يمنح السَّلام. كم العَالَم بحاجة للفَهم ولاستقبال الرَّحمة الإلهيَّة!".
دعاء
أيها الآب السَّماوي، نطلب إليك باسم ابنك يسوع أن تنفخ فينا روحك القدُّوس فيتُبدَّد خوفنا، ويقوى إيماننا في قيامة ابنك يسوع، فنتمكّن أن ننظر إلى جراحاته المقدسة فننال الشَّفاء والسَّلام وفرح القِيامَة، ونعلن بُشرى القِيامَة المجيدة للعَالَم ونحن نردِّد كلمات توما ذاتها: "ربّي وإلهي" آمين
شهادة المؤرِّخ يوسيفوس فلافيوس (28-100م) عن قيامة يسوع المسيح
لم ينكر قادة اليهود قيامة يسوع وعودته إلى الحياة (أعمال الرُّسُل 4: 2-21) لكن أيضا شهد على ذلك المؤرخ يوسيفوس فلافيوس. كان "فلافيوس" مؤرّخًا يهوديًا ثم صار رومانيًا، وربط نفسه بسلالة "فلافيوس". عاش في القُدُس عندما توفي السَّيد المسيح، واشتهر بكتبه عن تاريخ الأوضاع والأحْداث في فلسطين خلال القرن الأول للميلاد لدى ظهور الدِّيانة المسيحيَّة. "والفضل ما شهدت به الأعداء كما يقول الشَّاعر العباسي، إذ لا يصدر من العدو عادة إلاّ كلّ ما هو سلبي يُنسبه إلى عدوّه. لذلك تكون شهادة العدو نزيهة تُقرّ بالواقع التَّاريخي بصدق وأمانة دون تحيّز ومحاباة، وهذه هي شهادته عن يسوع المسيح:
"كان في اليهوديَّة رجلًا اسمه يسوع، وكان إنسانًا حكيمًا، وإذا كان شرعًا أن يدعى إنسان، لأنَّه كان يقوم بأعمال رائعة؛ هو معلم من هؤلاء الرِّجال الذي قبلوا الحقيقة بفرح. وقد جذَب إليه الكثير من اليهود والوثنيين. كان هو المسيح. وتلبية لطلب من الرِّجال الوجهاء اليهود بيننا أعدمه بيلاطس على الصَّليب. أمَّا أولئك الذين أحبوه في البداية لم يتركوه؛ لأنَّه ظهر لهم حيّا مرة أخرى في ثالث يوم من موته؛ كما تنبأ الأنبياء عن ذلك وعن عشرات الأحْداث الرَّائعة الأخرى بشأنه. والجماعة المسيحيَّة التي سُمِّيت باسمه لم تنقرض في هذا اليوم" (Antiquities of the Jews, 18:63-64).