موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٦ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢١

فلس الأرملة الفقيرة وروح العطاء

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد الثاني والثلاثون للسنة: فلس الأرملة الفقيرة وروح العطاء (مرقس 12: 38-44)

الأحد الثاني والثلاثون للسنة: فلس الأرملة الفقيرة وروح العطاء (مرقس 12: 38-44)

 

النص الإنجيلي (مرقس 12: 38-44)

 

38 وقالَ في تَعليمِه: ((إِيَّاكُم والكَتَبَة، فإِنَّهم يُحِبُّونَ المَشْيَ بِالجُبَب، وتلَقِّيَ التَّحِيَّاتِ في السَّاحات 39 وصُدورَ المجَالِسِ في المَجامِع، والمَقاعِدَ الأُولى في المَآدِب. 40 يأكُلونَ بُيوتَ الأَرامِل، وهم يُظهِرونَ أَنَّهُم يُطيلونَ الصَّلاة. هؤلاءِ سيَنالُهُمُ العِقابُ الأَشَدّ)). 41 وجلَسَ يسوعُ قُبالَةَ الخِزانَةِ يَنظُرُ كيفَ يُلْقي الجَمعُ في الخِزانَةِ نُقوداً مِن نُحاس. فأَلْقى كثيرٌ مِنَ الأغنِياءِ شَيئاً كثيراً. 42 وجاءَت أَرمَلَةٌ فَقيرةٌ فأَلقَت عُشَرين، أَي فَلْساً. 43 فدَعا تَلاميذَه وقالَ لَهم: ((الحَقَّ أَقولُ لَكُم إِنَّ هذِهِ الأرملة الفَقيرةَ أَلْقَت أَكثَرَ مِن جَميعِ الَّذينَ أَلقَوا في الخِزانَة، 44 لأَنَّهم كُلَّهم أَلْقَوا مِنَ الفاضِلِ عن حاجاتِهم، وأَمَّا هي فإِنَّها مِن حاجَتِها أَلْقَت جَميعَ ما تَملِك، كُلَّ رِزقِها.

 

 

مقدمة

 

يعرض مرقس الإنجيلي لنا حدث "فلس الأرملة" في هيكل اورشليم (مرقس 12: 38-44(، المكان الأمثل للقاء مع الله؛ وهذا النص هو النموذج العظيم الرائع، الذي لفت به المسيح نظر الأجيال كلها، ليُحذِّرنا من روح الرياء والطمع وتظاهر الكتبة والفريسيين، من ناحية، وليُشِّجعنا على العطاء بروح المحبة والإيمان وسخاء الأرملة الفقيرة التي لم تلفت انتباه أحد سوى يسوع (مرقس 12: 41-44).

 

 

أولاً: تحليل وقائع نص إنجيل مرقس (مرقس 12: 38-44)

 

38 قالَ في تَعليمِه: ((إِيَّاكُم والكَتَبَة، فإِنَّهم يُحِبُّونَ المَشْيَ بِالجُبَب، وتلَقِّيَ التَّحِيَّاتِ في السَّاحات

 

تشير عبارة "قالَ في تَعليمِه" إلى جزء من خطاب يسوع الطويل الذي شغل كل الفصل الثالث والعشرين من إنجيل متى. أمَّا عبارة "إِيَّاكُم والكَتَبَة" في الأصل اليوناني (معناها انتبهوا من الكتبة) فتشير إلى الاحتراس من الكتبة وخاصة التحذير من الاقتداء بهم. أمَّا عبارة " الكَتَبَة " في الأصل اليوناني γραμματεύς فتشير إلى علماء الشريعة أو التوراة أو الناموس (لوقا 22: 35) ويُقال لهم "معلمو الشريعة" (لوقا 5: 17) الذين كانوا يفسّرون الكتاب المقدس للشعب، وينتمون إلى حزب الفريسيين (متى 23: 1-7). ويُدعَون "رابي" أي يا معلم، “حاخام" ويقابلها في العربية "حكيم. أخذ عليهم يسوع تشدّدَهم وقساوتَهم وتمسّكهم بالألفاظ دون المعنى، وندّد بهم لأنهم يستعملون معرفتهم الدينية من أجل مصالحهم الشخصية والتسلط على الناس.  وقد وردت كلمة الكتبة 62 مرة في العهد الجديد، منها 57 في الأناجيل الإزائية. أمَّا عبارة "الجُبَب" فتشير إلى الثياب الطويلة المصنوعة من الكتّان التي تصل إلى الأرض والتي اعتاد الملوك والكتبة والكهنة أن يرتدوها دلالة على رئاستهم وقداستهم (خروج 28: 2) والأبهة والعظمة والتباهي. ويشير يسوع هنا إلى الكتبة والفرِّيسيين المُتَزَمِّتُونَ فِي مَا يَخْتَصُّ بالمظهر الخارجي حيث لم يكن يهمَّهم أن يكونوا أتقياء، بل ظهورهم بمظهر التقوى ليحظوا على إعجاب الناس ومديحهم (متى 23: 5). أمَّا عبارة " تلَقِّيَ التَّحِيَّاتِ في السَّاحات" فتشير إلى الكتبة الذين يطلبون الجاهة والوجاهة والامتيازات والتباهي مع الاهتمام إلى رضى الله، ولكن لم يكن كل الكتبة رديئين على حد سواء؛ فقد هنّأ يسوع مثلا أحد الكتبة فقال له " لَستَ بَعيداً مِن مَلَكوتِ الله" (مرقس 12: 34)، وإنما كان معظمهم يميلون للتظاهر والطمع والرياء. لذلك حَذِّر يسوع عامة الشعب من هذا النوع من التدين، وعلّم أن القوة الأخلاقية والروحية أعظم قدراً من المناصب وأزيائها.

 

39 وصُدورَ المجَالِسِ في المَجامِع، والمَقاعِدَ الأُولى في المَآدِب

 

تشير عبارة "صُدورَ المجَالِسِ في المَجامِع" إلى سعي الكتبة وراء مراكز القيادة الدينية وتعاليهم على غيرهم من الناس والظهور لخدمة ذاتهم بدلا من وَلائهم لله في سبيل خدمة الآخرين. وقام المسيح بتنديد بأعمالهم هذه : "الوَيلُ لَكم أَيُّها الفِرِّيسيُّون، فإِنَّكم تُحِبُّونَ صَدرَ المجِلسِ في المَجامِع وتَلَقِّيَ التَّحِيَّاتِ في السَّاحات" (لوقا 11: 43). أمَّا عبارة "المَقاعِدَ الأُولى" في الأصل اليوناني πρωτοκλισίας (ومعناها المُتكآت) فتشير إلى مقاعد الشرف سواء في المجامع أو في المآدب. وهذا الأمر يتعارض مع مبادئ يسوع "إِذا دُعيتَ فامَضِ إلى المَقعَدِ الأَخير، واجلِسْ فيه"(لوقا 14: 10).

 

40 يأكُلونَ بُيوتَ الأَرامِل، وهم يُظهِرونَ أَنَّهُم يُطيلونَ الصَّلاة. هؤلاءِ سيَنالُهُمُ العِقابُ الأَشَدّ

 

 تشير عبارة "يأكُلونَ بُيوتَ الأَرامِل" إلى الكتبة الذين يُحللون لأنفسهم المال الحرام باستغلال الضعفاء خاصة الأرامل بهدف جمع الثروات، وذلك عن طريق إخفاء الطمع عن طريق الرياء والمكر والخبث تحت رداء القداسة (متى 23: 1 -7). وهنا نجد تلميح إلى التناقض بين الكتبة الذين يأكلون بيوت الأرامل، وبين الأرملة الفقيرة التي "ألقت كل ما تملك". ويُعلق البابا فرنسيس " إن الكتبة، علماء الشريعة، يستخدمون سلطتهم كي "يأكُلوا بُيوتَ الأَرامِل"، التي كانت تُعتبر الأشخاص الأكثر ضعفًا والأقل تمتّعًا بالحماية". أمَّا عبارة "يُطيلونَ الصَّلاة" فلا تشير إلى مهاجمة يسوع الكتبة للصلوات الطويلة، بل إلى العِلة في إطالة الصلوات، إذ يتذرّعون بإطالة الصلاة للتظاهر بالتديّن والتقوى. أمَّا عبارة "سيَنالُهُمُ العِقابُ الأَشَدّ" تشير إلى عقاب القادة الدينيين ألأعظم، لأنهم كقادة ومعلمين، يحملون مسؤولية كبيرة في تشكيل إيمان من يعلمونهم. ويحذِّر يسوع عامة الشعب من هذا النوع من الدين المبني على التظاهر والطمع والرياء واستغلال المعرفة الدينية للتسلط على الناس. فالقوة الأخلاقية والروحية أعظم قدرا من مناصب الكتبة والفِرِّيسيُّين وأزيائهم. ويُعلق البابا فرنسيس على هذا النص بقوله "يتّهم يسوع الكتبة، معلّمي الشّريعة، بثلاثة عيوب تظهر في نمط حياتهم: الكبرياء والجشع والنفاق".

 

41 وجلَسَ يسوعُ قُبالَةَ الخِزانَةِ يَنظُرُ كيفَ يُلْقي الجَمعُ في الخِزانَةِ نُقوداً مِن نُحاس. فأَلْقى كثيرٌ مِنَ الأغنِياءِ شَيئاً كثيراً.

 

تشير عبارة "جلَسَ يسوعُ قُبالَةَ الخِزانَةِ" إلى مكان في الهيكل حيث اعتاد يسوع أن يعلم فيه كما يوكّد يوحنا الإنجيلي: "قالَ هذا الكَلامَ عِندَ الخِزانَة وهو يُعَلِّمُ في الهَيكَل" (يوحنا 8: 20). أمَّا عبارة "الخِزانَةِ" في الأصل اليوناني γαζοφυλακίου (مشتقة من العبرية בֵּית הָאוֹצָר معناها بيت الكنز) فتشير إلى صندوق التبرعات في الهيكل، (ملاخي 3: 10)، وهو المكان الذي يلقي فيه الناسُ نقودَ التّقدمة، وبلغ عدد الصناديق ثلاث عشرة صندوقا لها فتحات تشبه الأبواق، وتوضع هذه الصناديق في رواق النساء في الهيكل: سبعة صناديق يضع فيها اليهود الذكور ضريبة الهيكل التي تدفع بالعملة اليهودية، هو شيكل القدس، وستة صناديق تُلقى فيها تقدمات اليهود الاختيارية (التبرعات) لأجل الإنفاق على الهيكل. أمَّا عبارة " يَنظُرُ" في الأصل اليوناني ἐθεώρει فتشير إلى إدامة النظر، ولا يزال المسيح الآن ينظر إلى تقدمات شعبه في الكنيسة ليتحقَّق من محبتهم له (رؤية 1: 12).  أمَّا عبارة "يَنظُرُ كيفَ" فتشير إلى ملاحظة يسوع بدقة للإنسان والدخول في أخفى خفاياه. أمَّا عبارة " الجَمعُ " فتشير إلى الأغنياء والفقراء الذين يأتون في عيد الفصح بالقرابين المفروضة والتقدمات الاختيارية. ومن المرجح انه لم يأتِ أحد فارغ اليدين وفق امر الله "ثَلاثَ مَرَّاتٍ في السَّنَة، يَحضُرُ جَميعُ ذُكْرانِكَ أَمامَ الرَّبِّ إِلهِكَ في المَكانِ الَّذي يَخْتارُه: في عيدِ الفَطير وفي عيدِ الأَسابيعِ وفي عيدِ الأَكواخ، ولا يَحْضروا أَمامَ الرَّبِّ فارغين" (الخروج 23: 15). أمَّا عبارة "أَلْقى كثيرٌ مِنَ الأغنِياءِ شَيئاً كثيراً" فتشير إلى التقدمات النفيسة التي قدَّمها الأغنياء القادمون من القرب والبعد ليحضروا العيد ويقدِّموا قرابينهم. وكان هَمَّهم أن يتبرَّعوا كثيرا ليراهم الناس بالمقارنة مع الأرملة التي القت القليل مما لديها. وكانت فوهة الصندوق على شكل بوق حتى ترن العملات لدى دخولها فيه؛ ويعلو الصوت كلما ثقلت العملة فربما كان هؤلاء الأغنياء يتبرَّعون لكي يستمع الناس إلى ما يلقونه.

 

42 وجاءَت أَرمَلَةٌ فَقيرةٌ فأَلقَت عُشَرين، أَي فَلْساً.

 

تشير عبارة "أَرمَلَةٌ فَقيرةٌ" في الأصل اليوناني πτωχὴ (معناها فقيرة) إلى امرأة أرمَله فقيرة، وهي من اللواتي ذكر المسيح أن الكتبة كانوا يأكلون بيوتهنَّ (مرقس 12: 40). وبكونها فهي منكوبة، إذ مات زوجها، وعرفت طعم الترمل ومرارته وقسوته. ووضع الأرامل عامّة وفي الشرق خاصّة صعب، ليس فقط بسبب الفاقة والضيق المادّي، بل أيضا بسبب القهر والذلّ. ولم يُقال إن هذه الأرملة هي عجوز أو مريضة. إنها امرأة محتاجة في الأصل اليوناني πενιχρὰν (معناها مسكينة) كما جاء وصفها في إنجيل لوقا (لوقا 21: 2)، إذ كانت تملك فلسين، وقيمتهما ربع؛ وقد شهد المسيح أن هذا كل ما كان لديها لمعيشتها. ولم يكن لها مصدرآخر لكسب معيشتها. على أنها كانت مؤمنة بالله، تعرف طريقها إلى الصلاة في بيت الله والتقدمة والعطاء لله؛ ويُعلق الأب ثيوفلاكتيوس "هذه المرأة رمزًا للنفس المؤمنة، وتقدمت لعريسها الجديد بالفلسين أي النفس والجسد، تقدمهما خلال التواضع والنسك، تهبه كل حياتها ليعمل فيها".  أمَّا عبارة فأَلقَت عُشَرين، أَي فَلْساً" في الأصل اليوناني ἔβαλεν λεπτὰ δύο ἐστιν κοδράντης. (معناها القت فلسين أي ربع). الفلس λεπτόν هو عبارة عن قطع صغيرة من المسكوكات اليهودية من النحاس الأحمر ضُرب في أيام هركانوس المكابي. وكان ثمنه يُعادل نصف ثمن القطعة المُسمَّاة ربعاً. وهي من أصغر العملات النحاسية المستعلمة في فلسطين في ذلك الوقت وأقل النقود اليونانية قيمة. ولم يستخدم في الهيكل سوى العملة اليهودية.  وحوّل مرقس الإنجيلي العملة اليهودية (فلس) إلى العملة الرومانية "عُشَرين" في الأصل اليوناني (κοδράντης) وباللاتينية الرومانية quadrans (معناها ربع وهي "رُبْع آس الروماني" وهو عُشر دينار (مرقس 12: 15) ليفهم قُرّاؤه الرومان. وأمَّا لوقا فيذكر فلسين كما ورد في إنجيله " رأَى يسوع أَرمَلَةً مِسكينَةً تُلْقي فيها فَلسَين"(لوقا 21: 2). والفلس التي ألقته الأرملة في صندوق التبرعات صنع منها معلمة ومدرسة.  ويرى القديس أوغسطينوس في الفلسين (رقم 2) إشارة للحب، "فإننا لا نستطيع أن نقترب من مقدسات الله، ولا يتطلع الرب إلى تقدماتنا إن لم تنبع عن قلب مُتسم بالحب لله والناس. بالحب ننعم بالمقدسات وتكريم الرب لنا".

 

43 فدَعا تَلاميذَه وقالَ لَهم: ((الحَقَّ أَقولُ لَكُم إِنَّ هذِهِ الأرملة الفَقيرةَ أَلْقَت أَكثَرَ مِن جَميعِ الَّذينَ أَلقَوا في الخِزانَة

تشير عبارة "فدَعا تَلاميذَه وقالَ لَهم" إلى مدح يسوع عمل الأرملة أمام تلاميذه. لم يكتفِ يسوع بنظره إلى فعل الأرملة، بل أراد أن يلفت انتباه تلاميذه إليها وان يتعلموا منها. ويبدو انه لم يلتفت أحد غير المسيح إليها. أمَّا عبارة "الحَقَّ أَقولُ لَكُم" فتشير إلى أهميّة ما سوف يقوله يسوع (لوقا 4: 24، 9: 27). أمَّا عبارة "أَلْقَت أَكثَرَ مِن جَميعِ الَّذينَ أَلقَوا في الخِزانَة" فتشير إلى مدح يسوع للأرملة الفقيرة في حين لم يُظهر الناس نحوها أدنى اهتمام وعناية ورعاية. أعجب يسوع بتقدمتها حيث حسبها أفضل من مقدمي الذهب والفضة بالرغم من أنها أعطت تقريبا لا شيء بالمقارنة لِمَا قدَّمه الأغنياء. إن تقدمتها زهيدة في عيون الناس لكنها عظيمة في عين الله الذي لا ينظر إلى التقدمة بل إلى الرغبة وإنكار الذات المقترن بها. لآنَّ الرب ينظر إلى روح العطاء وكيفيته، ولا يقدر إلاّ عطاء المحبة، العطاء الحقيقي كما صرّح بولس الرسول: "أَنَّه متَى وُجِدَتِ الرَّغبَة، لَقِيَ المَرءُ قَبولاً حَسَنًا على قَدْرِ ما عِندَه، لا على قَدْرِ ما لَيسَ عِندَه"(2 قورنتس 8: 12) فهل يمكننا أن نتصرّف مع الله بطريقةٍ تحرّك قلب يسوع ومشاعره؟  أمَّا عبارة " جَميعِ " فتشير إلى الأغنياء الذين ورد ذكرهم سابقا (مرقس 12: 41). ولم يذكرهم يسوع قصد لومه إياهم واستخفافا بقرابينهم بل أراد أن يقابل أعمالهم بعمل الأرملة إظهارا لما استحقته من المدح. الأرملة الفقيرة دلّت على سخائها لأنها أعطت ما تحتاج إليه من اجل حياتها. أمَّا الأغنياء فقد أعطوا بأنانية وكبرياء وقصدوا وجوه الناس كي يمدحوهم. هناك فرق شاسع بين أفكار الأرملة وتصرفاتها وأفكار القادة الروحيين وتصرفاتهم. فالذبيحة الصغيرة يقدّمها الشعب الفقير ترضي الله أكثر من التقدمات الكبيرة والمحرقات.

 

44 لأَنَّهم كُلَّهم أَلْقَوا مِنَ الفاضِلِ عن حاجاتِهم، وأَمَّا هي فإِنَّها مِن حاجَتِها أَلْقَت جَميعَ ما تَملِك، كُلَّ رِزقِها

 

تشير عبارة "كُلَّهم" إلى الأغنياء الذين ذُكروا سابقا (مرقس 12: 41). ولم يذكرهم المسيح قصد لومه إيَّاهم أو استخفافا بقرابينهم بل أراد أن يقابل تقدمتهم بتقدمة الأرملة إظهارا لما استحقَّته من المدح. أمَّا عبارة "الفاضِلِ عن حاجاتِهم "فتشير إلى كلّ ما يفيض بعد أن تكون قد أُشبعت كلّ حاجة الإنسان الضرورية.  الأغنياء أعطوا كثيرا ولكن بقي لهم كثيرا. وليس في عملهم شيء من إنكار الذات. ولهذا كانت قرابينهم أقل قيمة في عين الرب. أمَّا عبارة "حاجَتِها" فتشير إلى حالة الأرملة التي أعطت ممّا لا غنى عنه من أجل البقاء على قيد الحياة!  أي كلَّ ما كانت بحاجة له للحياة. إن قيمة العطية في عين الله تُعرف بالنظر إلى ما بقي بعد العطاء. لم يعرف أحد مدى حاجتها سوى يسوع باعتبار ابن الله الذي هو بكل شيء عليم (يوحنا 4: 18). أمَّا عبارة "أَلْقَت جَميعَ ما تَملِك" فتشير إلى الأرملة التي لا ترى إلاَّ الله بصورة حقيقية وواقعية لدرجة أنها تعطيه كل ما تملك وكل حياتها إرضاءً له تعالى لتغتني به وهي واثقة من أنها تُتَمِّم وصيته: "أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قلبِكَ وكُلِّ نَفْسِكَ وكُلِّ ذِهِنكَ وكُلِّ قُوَّتِكَ "(مرقس 12: 30)، وواثقة بأن الله لن يتركها في الضيق. فهي تريد إرضاء الله من خلال تقدمة كل ما تملك ودون الرغبة في الظهور.  جميع ما ضحت به الأرملة بمحبة سيتم استرجاعه بشكل كامل. هذا هو منطق الإنجيل: يكسب حياته فقط من يفقدها. فهناك رباط بين الأرملة التي أعطت كل ما تملك وبين يسوع الذي بذل ذاته من أجل أحبّائه.  وفي هذا الصدد قال بولس الرسول " فأَنتُم تَعلَمونَ جُودَ رَبِّنا يسوعَ المسيح: فقَدِ افتَقَرَ لأَجْلِكُم وهو الغَنِيُّ لِتَغتَنوا بِفَقْرِه" (2 قورنتس 8: 9). وبالتالي، إن أعطت هذه المرأة، الفقيرة أصلاً كل ما تملك، ألا تزداد فقراً؟ في الواقع لا. بإعطائها كل ما لديها تصبح ثرية، لأنها ستشعر بغنى العلاقة التي كوّنتها بنفسها والتي تنعكس في الهبة التي قدّمتها. إن ما نعطيه هو ما يجعلنا أثرياء.  بإعطائها كل ما لديها تصبح ثرية، لأن المرء، إن أحبّ، وهب كل ما يملك للآخر، ولا يشعر في نفس لحظة العطاء بالفقر.  أمَّا عبارة " كُلَّ رِزقِها" في الأصل اليوناني ὅλον τὸν βίον αὐτῆς (معناها كلّ حياتها) فتشير إلى جميع ما تملك لمعيشتها (لوقا 21: 4)، إذ ألقت كلَّ رِزقِها أي حياتها. فيسوع لا يطلب منّا الصدقة بل التضحية.  فقد تصدّقت هذه الأرملة، ليس فقط بشيءٍ عندها بل بحياتها. وهي تذكرنا في أرملة صَرفَت التي "لَيسَ عِنْدها رَغيفٌ إلاَّ مِلء راحَةٍ دَقيقًا في الجَرَّةِ وَشميرًا مِنَ الزَّيتِ في القارورَة"، ومع ذلك شاركت بهما النبي إيليا (1ملوك 17: 12)، كما نتذكر هنا المرأة المنزوفة التي "أنفقت كل معيشتها" (لوقا 8: 43)، وهذا دلالة عن سخاء هذه الأرملة الفقيرة، إذ أعطت ما تحتاج إليه من اجل معيشتها. أرادت أن يكون حُبّها لله كاملاً وبعيداً عن المقاييس والحسابات. حرمت نفسها من كل ما تملك وعرّضت ذاتها للجوع! هذا هو منطق الإنجيل: المرء يكسب حياته فقط عندما يفقدها. الم يقل يسوع " أَمَّا الَّذي يَفقِدُ حَياتَهُ في سبيلي فإِنَّه يَجِدُها" (متى 16: 25).  كان يسوع ينظر: ليس ما يدفعهُ المرء، ولكن ما يتركه لنفسه. هذه الأرملة لم تترك شيئا لنفسها دلالة على سخائها، وهذا الأمر يعارض أنانيّة الكتبة وحبّهم للظهور وظلمهم للضعيف. هذا العمل يدعونا إلى اتخاذ الأرملة مثالاً نقتدي به.

 

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (مرقس 12: 38-44)  

 

بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي (مرقس 12: 38-44) نستنتج انه يتمحور حول نقطتين: العطاء لله وروح العطاء. ومن هنا نتساءل لماذا يُقدِّم الإنسان عطاياه لله؟ وكيف يُقدمها لكي تكون مرضية لدى الله؟

 

1) لماذا يقدِّم الإنسان عطاياه لله؟

 

يُعلّمنا الكتاب المقدّس أن أصل كلّ عطية هي مبادرةَ إلهّية كما جاء في تعليم يعقوب الرسول " فكُلُّ عَطِيَّةٍ صالِحَةٍ وكُلُّ هِبَةٍ كامِلَةٍ تَنزِلُ مِن عَلُ مِن عِندِ أَبي الأَنوار" (يعقوب 1: 17). فالله هو الذي يعطي الجميع قوتاً وحياة "سيأكُلُ الوُضَعاءُ ويَشبَعون ويُسَبِّحُ الرَّبَّ مُلتَمِسوه" (مزمور 22: 27)، وهو أيضاً الذي له المبادرة في عمل الخلاص كما جاء في حوار يسوع مع المرأة السامرية في شكيم " لو كُنتِ تَعرِفينَ عَطاءَ الله ومَن هوَ الَّذي يقولُ لَكِ: اسقيني، لَسَأَلِته أَنتِ فأَعطاكِ ماءً حَيّاً" (يوحنّا 4: 10).

 

كشف لنا الله الآب عن محبته من خلال ابنه "فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة "(يوحنّا 3: 16)، فيتساءل بولس الرسول "إِنَّ الَّذي لم يَضَنَّ بابْنِه نَفسِه، بل أَسلَمَه إلى المَوتِ مِن أَجْلِنا جَميعًا، كَيفَ لا يَهَبُ لَنا معَه كُلَّ شَيء؟" (رومة 8: 32). وحقَّق يسوع عطاء شخصه كاملاً كما جاء في تصريحه "يَفدِيَ بِنَفسِه جَماعَةَ النَّاس" (متّى 20: 28)، وإذ هو خبز السماء الحق الذي يعطيه الآب، فإنه يبذل جسده من أجل حياة العالم "أنا الخبزُ الحَيُّ الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماء مَن يَأكُلْ مِن هذا الخُبزِ يَحيَ لِلأَبَد. والخُبزُ الَّذي سأُعْطيه أَنا هو جَسَدي أَبذِلُه لِيَحيا العالَم" (يوحنّا 6: 51). وبذبيحته، أفاض يسوع علينا الروح القدس الموعود به (أعمال 2: 33)، وهو "هبة الله " العظمى (أعمال 8: 20). وبالتالي يخطأ الإنسان، عندما يدعّي أنّه يسبق النعمة بسخائه (يوحنا 13: 37-38).

 

ومن هذا المنطلق، فان أول موقف ينبغي للإنسان أن يتخذه هو أن ينفتح لعطيّة الله كما علمنا يسوع " مَن لم يَقبَلْ مَلكوتَ اللهِ مِثْلَ الطِّفل، لا يَدخُلْه"(مرقس 10: 15)؛ وعندما يقبل المرء العطية، يصبح أهلاً لسخاء أصيل ولممارسة العطاء بدوره "وإِنَّما عَرَفْنا المَحبَّة بِأَنَّ ذاكَ قد بَذَلَ نفْسَه في سَبيلنِا. فعلَينا نَحنُ أَيضًا أَن نَبذُلَ نُفوسَنا في سَبيلِ إخوَتِنا. (1 يوحنا 3: 16).

 

هدف تقديم الإنسان عطاياه لله هو الاعتراف بسلطانه تعالى والتكفير عن خطاياه وطلب مرضاته. فاعترافا بسلطان الله المطلق ونعمه الوفيرة، قدّم شعب العهد القديم البواكير والعشور (تثنية الاشتراع 26) والذبائح (الأحبار 1). وقدّموا أيضاً عطايا للتكفير عن نقض العهد (الأحبار 4 و5) ولإعادة مرضاة الله عليهم (2 صموئيل 24: 21-25).

 

منذ ذبيحة المسيح، التي هي في الوقت نفسه عطية الله للعالم (يوحنا 3: 16) وعطيّة العالم لله (عبرانيين 8: 3، 9: 14)، لا يحتاج البشر أن يقدموا عطايا أخرى. هذه الذبيحة الكاملة كافية إلى الأبد كما جاء في تعليم صاحب الرسالة إلى العبرانيين "لا حاجَةَ بِه (المسيح) إلى أن يُقَرِّبَ كعُظَماءِ الكَهَنَةِ كُلَّ يَومٍ ذَبائِحَ لخَطاياه أَوَّلا، ثُمَّ لِخَطايا الشَّعْب، لأَنَّه فَعَلَ ذلِكَ مَرَّةً واحِدة، حينَ قَرَّبَ نَفْسَه" (عبرانيين 7: 27). ولكن، على البشر أن يتّحدوا بهذه الذبيحة. وإذ يقدّمون أنفسهم لله (رومة 12: 1) يضعون ذواتهم تحت تصرفه لخدمة الآخرين كما جاء في تعليم بولس الرسول "بِفَضلِ المَحَبَّةِ اخدِموا بَعضُكم بَعضًا" لأَنَّ تمامَ الشَّريعةِ كُلِّها في هذهِ الكَلِمةِ الواحِدة: أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ" (غلاطية 5: 13-14)، لأننا لم ننل النعمة كهديّة نحتجزها لأنفسنا، بل هي تُعطى لتُثْمر" (يوحنا 15: 5).

 

تقودنا عطية الله في يسوع المسيح إلى أبعد من ذلك، تقودنا إلى بذل الذات "وإِنَّما عَرَفْنا المَحبَّة بِأَنَّ ذاكَ قد بَذَلَ نفْسَه في سَبيلنِا. فعلَينا نَحنُ أَيضًا أَن نَبذُلَ نُفوسَنا في سَبيلِ إِخوَتِنا"(1 يوحنا 3: 16)، بموجب تعليم يسوع “لَيسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعظمُ مِن أَن يَبذِلَ نَفَسَه في سَبيلِ أَحِبَّائِه " (يوحنا 15: 13). لذلك فإنّ المسيحي مدعو لأن يعتبر كل ما يناله من خيرات مادية أو روحية بمثابة غنى ائتمنه الله عليه لخدمة الآخرين كما جاء في تعليم بطرس الرسول " لْيَخْدُمْ بَعضُكم بَعضًا، كُلُّ واحِدٍ بما نالَ مِنَ المَوهِبَة كما يَحسُنُ بِالوُكَلاءِ الصَّالِحينَ على نِعمَةِ اللهِ المُتَنَوِّعَة"(1 بطرس 4: 10). وقصارى القول، تقوم " السَّعادَةُ في العَطاءِ أَعظَمُ مِنها في الأَخْذ "(أعمال 20: 35). وهذا ما يوضحه مثل "فلس الأرملة" (مرقس 12: 41-44).

 

 

2) كيف يقدّم الإنسان عطاياه لله كي تكون مرضية لدى الله؟

 

يُقدم لنا إنجيل مرقس مثلا ملموسا في قصة فلس الأرملة مُبيِّنا مقارنة بين فلس الأرملة وغنى الكتبة وقيمة فلس الأرملة ومكافأتها.

 

أ) مقارنة بين فلس الأرملة وغنى الأغنياء

 

يلفت يسوع انتباه التلاميذ إلى تناقض الأغنياء الذين أعطوا بتفاخرٍ كبير "مِنَ الفاضِلِ عن حاجاتِهم"، وبين الأرملة التي أعطت من حاجتها، بتحفّظ وتواضع كما ورد في الإنجيل: " فأَلْقى كثيرٌ مِنَ الأغنِياءِ شَيئاً كثيراً. وجاءَت أَرمَلَةٌ فَقيرةٌ فأَلقَت عُشَرين، أَي فَلْساً" (مرقس 12: 41-42).  ولم يكن غرض المرأة أن تتباهَى بكونها تعطي شيئًا، ولكن كان هدفها أنبل من مجرد العطاء، وهو أن تعطي كل ما تستطيع، فحين كان هم الكتبة والفِرِّيسيُّين الأغنياء الوحيد أن ينظر الناس إليهم ويمتدحوهم. إذ كان الكتبة والفِرِّيسيُّون شخصيات مليئة من ذاتها وتسعى إلى لفت الانتباه وإثارة الإعجاب وتعزيز مكانتها (مرقس 12: 38-40)، عكس شخصية الأرملة الفقيرة التي لم تلفت انتباه أحد سوى يسوع (مرقس 12: 41 -44). فهي تعيش حسب قول الرب: " إِيَّاُكم أَن تَعمَلوا بِرَّكم بِمَرأًى مِنَ النَّاس لِكَي يَنظُروا إِليكم، فلا يكونَ لكُم أَجرٌ عندَ أَبيكُمُ الَّذي في السَّمَوات" (متى 6: 1).

 

بيّن يسوع أن قلْوب الكتبة والفِرِّيسيُّين مملوءٌ رياءً بالرغم من كل معرفتهم بالكتاب المقدس والعلوم الدينية، أمَّا هذه المرأة الأرملة فهي لا تعرف شيئا، لكن قلبها مملوءٌ حبًا. الكتبة هم أغنياء جشعون يأكلون أموال الأرامل، وأمَّا هذه الأرملة الفقيرة أعطت من معيشتها وحاجتها.  ترك هؤلاء الكتبة والفريسيين الاهتمام بتنفيذ الوصايا إلى الاهتمام بالمظاهر ومدح الناس. طلبوا الزينة الخارجية التي تخفي حياة داخلية فارغة بلا عمل. وأصبحوا لا يبحثون سوى عن أنفسهم. فالقيمة لا تأتي مِن الكمِّيّة، بل من الرّوح، كما يشرح بولس ذلك: إن ما يقدّمونه، هم يقدّمونه للشيطان لا لله: "فإِنِّي لا أُريدُ أَن تَكونوا شُرَكاءَ الشَّياطين" (1 قورنتس 20:10) ويكمّل " لا تَنسَوُا الإِحْسانَ والمُشارَكة، فإِنَّ اللهَ يَرتَضي مِثْلَ هذِه الذَّبائِح" (العبرانيين 16:13). نعم صدقة بسيطة صادرة من القلب، لها قيمة أكثر من ملايين، صاحبها ليس بحاجة لها ويقدّمها ليمدحه الناس عليها.

 

يطالب الكتبة والفِرِّيسيُّون الآخرين بالعطاء ليغتنوا هم. وهي تعطي وهي الفقيرة. أرملة في بساطة عبادتها المتواضعة أعطت الرب كل ما عندها. أعطت كلّ ما تملك بكلّ إيمان وثقة برحمته تعالى، من غير تفكير بمصروف الغد، ويُعلق القديس قبريانس الشهيد "الفقيرة التي كان يليق بها أن تأخذ أعطت". فالفقير هو ليس ذاك الّذي لا يملك إلاّ القليل، لكنه يفعل به خيرا، بل الفقير هو ذاك الغني، الذي يملك الكثير، لكنه لا يفعل به شيئاً على مثال ذاك الشاب الغني الذي رفض ابتاع يسوع (مرقس 10: 17). فالغِنى ليس خطيئة، بل الخطيئة هي أنَّ الغني لا يعمل بماله خيرا.

 

ب) قيمة فلس الأرملة

 

ما يهم يسوع بالدرجة الأولى ليس ما يعطيه الناس بل كيف يعطونه. ليس المهم عند يسوع الكم بل الكيف.  يسوع ينظر إلى كيف نعطي لا "كم" نعطي. فالمعيار ليس بالعدد أو الكمية إنما بكفية العطاء. ويُعلق البابا فرنسيس "إنّها ليست مسألة "محفظة نقود" إنّما مسألة قلب.  وهذا ما وجده في هذه المرأة، أرملة فقيرة تضع فلسين قيمتهما لا شيء. أمَّا بالنسبة إليها، فما أعطته هو كنز كبير؛ لأنها أعطت بحب وسخاء قلبها ما كانت تحتاج إليه من أجل معيشتها. يعلق المطران كريكور أوغسطينوس كوسا أسقف الإسكندرية للأرمن الكاثوليك "مقياس الحكم عند المعلّم الإلهي ليس الكميّة بل النوعيّة، ليست الجيوب التي تُعطي من فائضها بل القلوب التي تمنح ذاتها". لو كانت محبّة القريب تُقاس بالمال والدولارات، لكان الأغنياء من الأوائل في ملكوت الله، لكن كل هذا، ما له قيمة، أمام تعليم يسوع في إنجيل اليوم.

 

لا ينظر يسوع كم نعطي، فهو غني لا يحتاج لأموالنا، لأن كل شيء به وله قد خُلق يوحنا 1: 3). الرب الوارث لكل شيء، خالق الكل، وحافظ الكل. له ثروة الأرض، والبحر ملكه، من فيضه يُغنِي ويُطعِم الملايين، ومن جوده يشبع الجميع ويَفضل عنهم (متى 14: 13 -21). لم يكن ينظر إلى العطايا أيُا كانت قيمتها، لكنه كان ينظر إلى الأغنياء وإلى الأرملة أيضا، مهتمًا بالقلب لا بالعطية. لذلك فإنَّ ما هو الأمر الهام لدى الله هو كيف يعطي الناس تقادمهم أكثر من اهتمامه ما يعطيه الناس.  والنقود في حد ذاتها لا قيمة لها في ملكوت الله إنما يسوع ينظر إلى دوافع المتبرِّعين كما صرّح بولس الرسول "لأَنَّه متَى وُجِدَتِ الرَّغبَة، لَقِيَ المَرءُ قَبولاً حَسَنًا " (2 قورنتس 8: 12).

 

 الله فاحص القلوب والكلى (رؤية 2: 32) ينظر لحال القلب والدوافع والطريقة التي نتصرف بها. وبهذا فإن العطاء هو عطاء القلب الداخلي. فالأرملة الفقيرة كان مالها قليل وحبها عظيم. وقد عبرّت عن حبِّها وعطاء ذاتها، فرَضِي الله عنها أكثر من رضاه على أغنياء الذين عملوا ما في وسعهم لكي يرى الناس "سخاءهم".

 

نستنتج مما سبق أن قيمة كل عطاء حقيقي هو التضحية. وبموجب ذلك إن قيمة العطية ليست بمقدارها بل بالروح التي قُدِّمت من أجلها. وفي هذا الصدد يعلّق القديس أمبروسيوس على عطاء الأرملة فيقول: " ليس الاعتبار في الكمية التي قدمتها، وإنما في الكمية التي تركتها لنفسها، فإنه لم يعطِ أحد أكثر منها إذ لم تترك لنفسها شيئًا أنّها ألقت أكثر لأن الله يطلب الإيمان لا المال"، يطلب الحب لا النقود. فالعطية التي تقدم بتذمر أو للافتخار، تفقد قيمتها. ويُعلق البابا فرنسيس "حرمت الأرملة نفسها من كلّ شيء. لقد فهمت في فقرها بأنّها عندما تملك الله، تملك كلّ شيء؛ إنّها تشعر بأنّها محبوبة كليًّا من قِبَلِه وتحبُّه هي بدورها كليًّا".

 

ج) مكافأة فلس الأرملة

 

ما هي مكافأة الأرملة الفقيرة؟ أولا: تقبل الرب تقدمة الأرملة لآنها أعطت من حاجتها وبقلب فرح متجرد؛ عكس الكتبة أو الفريسيين الذين أعطوا تقدمتهم من فائضهم وبأنانية وكبرياء لكي يروهم الناس. في هذا الصدد يقول يسوع "إيَّاُكم أَن تَعمَلوا بِرَّكم بِمَرأًى مِنَ النَّاس لِكَي يَنظُروا إِليكم، فلا يكونَ لكُم أَجرٌ عندَ أَبيكُمُ الَّذي في السَّمَوات " (متى 6: 1). لان الأجر عند المسيح لا يُقاس بكمية المال، وإنما يُقاس بما يرافق العطاء من الحب والإيمان، فأعطت الأرملة قليلا، فكان قليلها في عيني الرب كثيراً بسبب حبها وإيمانها.

 

 ثانيا: كافأ السيد المسيح الأرملة عندما امتدح كرمها، إنها تفوقت بالعطاء على الجميع " أَلْقَت أَكثَرَ مِن جَميعِ الَّذينَ أَلقَوا في الخِزانَة" (مرقس 12: 43)؛ ثالثا: الرب باركها وأنقذ حياتها كما عمل مع أرملة " صَرفَتَ صَيدون" التي قدّمت لإيليا النبي آخر ما تملك وآخر ما تبقى لها فباركها الرب وأنقذ حياتها وحياة ابنها من الهلاك والجوع (1ملوك 17: 10-16).  ورابعا: نالت الأرملة الحياة الأبدية، وذلك بناء على وعد يسوع للرسل "الحَقَّ أَقولُ لَكم: ما مِن أَحَدٍ تَرَكَ بَيتاً أَو إِخوَةً أَو أَخَواتٍ أَو أُمَّا أَو أَباً أَو بَنينَ أَو حُقولاً مِن أَجْلي وأَجْلِ البِشارَة إِلاَّ نالَ الآنَ في هذهِ الدُّنْيا مِائةَ ضِعْفٍ مِنَ البُيوتِ والإِخوَةِ والأَخَواتِ والأُمَّهاتِ والبَنينَ والحُقولِ مع الاضطِهادات، ونالَ في الآخِرَةِ الحَياةَ الأَبَدِيَّة" (مرقس 10: 30).

 

 

3) عبرة فلس الأرملة

 

نبّه يسوع تلاميذه على عمل الأرملة الفقيرة (مرقس 12: 43) لكي يُقدِّم لهم ولنا تعاليم وبعض التحذيرات.  ومن أهم هذه التعاليم هي:   

 

يعلمنا يسوع من خلال عطاء الأرملة الفقيرة مفهوم العطاء الحقيقي. إنه عطاء القلب الداخلي الذي يفرِّح قلب الله، وليس مجرد العطاء الظاهر أو العطاء الكثير. ويُعلق القديس أوغسطينوس " قليل هو مال الأرملة الفقيرة، لكن عظيم هو حبها". إنّها قدّمت للربّ ما لديها، ما هي بأمسّ الحاجة إليه، وكأنّها تقول للربّ: ما من شيءٍ أنا بأمسّ الحاجة إليه أكثر منك. إنّها لم تنل فيضًا من المال بعد ذلك، لكنّها نالت ما هو أثمن من ذلك: تقدير الربّ الشديد لما فعلته". ولذلك إن العطاء الحقيقي في نظر يسوع هو عطاء القلب قبل أن يكون عطاء اليد التي تبحث عمّن يراها فتكون أخذت أجْرَها. ومن هذا المنطلق، العطايا الصغيرة مرضية عند الله أكثر من العطايا الكبيرة، عندما نقدمها بدافع الاعتراف بفضل الله. وأوضح العلامة أوغسطينوس "مثل هذه التقدمات لا تُقدر بوزنها، بل بالإرادة الصالحة التي قُدمت بها". فإنَّ الفقرَ لن يكونَ مانعًا دونَ العمل بوصية العطاء (الصدقة للفقراء وتقديم العشر للكنيسة) هذا ما بيَّنَتْهُ الأرملة التي قدَّمَتْ الفَلسَيْن.

 

يُعلمنا يسوع أن قيمة العطية ليست بمقدارها بل بالروح التي قُدِّمت فيها.  إن الله ينظر إلى كل عطية إلى غاية معطيها. فان كانت غايته إظهار محبته لله تعالى فتقدمته مقبولة. فلا يجوز إدانة الأشخاص وأعمالهم حسب الظاهر، لان النيّة هي التي تقيّمهم. القلب الذي يتقدّم كلّ عطيّة هو جوهر الأعمال. لأنّ العطاء لا يختصّ بالتقدمة، بل يختصّ بالمُعطي ونيته. وفي هذا الصدد يقول القديس كيرلس الكبير "ليس فقط الغني ينال نعمة من الله بتقديمه ثمرًا للإخوة، وإنما أيضًا يهب نعمة للذي يقدم قليلًا لأنه يملك القليل، ولا يخسر الأخير شيئًا بسبب قلة ما يملكه". فإن الله ناظر الكل يمدح استعداد الفقير ويقبل نيته ويجعل عطاءه مساويًا للغني، بل بالحري يهبه إكليلًا أعظم كرامة مما للغني". أن الأجر عند يسوع، لا يُقاس بكمية النقود، وإنما يُقاس الأجر بما يرافق العطاء من الحب والإيمان لوجه الله تعالى. فالعطية التي نُقدّم للتظاهر أو للافتخار، تفقد قيمتها.  ويعلق القديس أمبروسيوس"كانت هذه الأرملة غنية، لأنها ألقت فلسين في الخزانة، وقد قال عنها المسيح: هذه الأرملة الفقيرة ألقت أكثر من الجميع؛ لأن الله يطلب الإيمان لا المال".

 

يُعلمنا يسوع أن تكون عطاؤنا صادقا منسجما مع عقيدتنا. أن نقدم لله أو للكنيسة تبرعاتنا وصدقاتنا حتى عندما لا يكون هناك من يرانا من الناس كما أعلن يسوع " إِيَّاُكم أَن تَعمَلوا بِرَّكم بِمَرأًى مِنَ النَّاس لِكَي يَنظُروا إِليكم، فلا يكونَ لكُم أَجرٌ عندَ أَبيكُمُ الَّذي في السَّمَوات...  أَمَّا أَنتَ، فإِذا تصَدَّقْتَ، فلا تَعلَمْ شِمالُكَ ما تَفعَلُ يَمينُكَ، لِتكونَ صَدَقَتُكَ في الخُفْيَة، وأَبوكَ الَّذي يَرى في الخُفْيَةِ يُجازيك" (متى 6: 1-4)

 

ويُعلمنا يسوع أنّ الدنيا لا تساوي شيئًا وأنّ كلّ ما فيها " باطلُ الأَباطيل، كما جاء في سفر الجامِعة" باطلُ الأَباطيل كل شيَءٍ باطِل" (الجامعة 1: 1).  لذلك أوصانا يسوع" لا تَكنِزوا لأَنفُسِكُم كُنوزاً في الأَرض، حَيثُ يُفسِدُ السُّوسُ والصَّدَأ، ويَنقُبُ السَّارِقونَ فيَسرِقونبلِ اكنِزوا لأَنفُسِكُم كُنوزاً في السَّماء، حيَثُ لا يُفْسِدُ السُّوسُ والعُثّ، ولا يَنقُبُ السَّارِقونَ فيَسرِقوا" (متّى 6: 19-20). ويُعلق القديس أوغسطينوس " أي شيء يا إخوة أكثر قدرة من أنه ليس فقط زكا اشترى ملكوت السماوات بنصف أمواله (لوقا 19: 8)، وإنما اشترته الأرملة بفلسين، ليملك الاثنان نصيبًا متساويًا؟".

 

يعلمنا يسوع أخير اعتماد الأرملة الفقيرة الكبير والكامل على الله. إنها تملك الثقة الكاملة بعنايته تعالى. ألم يَقُلْ يسوع "أُنظُرُوا إلى طُيورِ السَّماءِ كَيفَ لا تَزرَعُ ولا تَحصُدُ ولا تَخزُنُ في الأَهراء، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَرزُقُها. أَفَلَسْتُم أَنتُم أَثْمَنَ مِنها كثيراً؟ " (متى 6: 26).  هذه الأرملة عندما " أَلْقَت جَميعَ ما تَملِك، كُلَّ رِزقِها" (مرقس 12: 43) كشفت عن عظمة تقتها واتكالها على الله. لأنها أعطت كل شيء دون تحفظ أو اضطرار أو شكوى أو ضيق بل جَعَلَتْ رَجَاءَهَا فِي اللهِ. ويُعلق القديس ايرينيوس الأسقف "الذين نالوا الحرية فإنَّهم يُخصِّصون كلَّ ما هو لهم لخدمةِ الرب، ويُقدِّمونه بفرحٍ وسخاء، يُقدِّمون كلَّ شيء، وليس فقط القليلَ ممّا يملِكون، لأنَّهم يَرْجُون ما هو أفضلُ وأثمن، مثلَ الأرملة الفقيرةِ التي ألقَتْ كلَّ معيشتِها في خزانةِ الله".

 

يُعلمنا يسوع أن نعطي. لقد أعطت آخر شيء تملكه. أفرغت جيبها لله. أفرغت ذاتها من ذاتها فامتلأت من نعمة الله التي لا يحصل عليها إلاّ الفقراء. الفقيرة صارت مليئة بنعم الله، وأفرغت جيبها بالكامل في سبيله تعالى، فملأها الله ببركته ونعمته، أمَّا الأغنياء فصاروا فارغين كما ورد في نشيد تعظم "َشَبعَ الجِياعَ مِنَ الخَيرات والأَغنِياءُ صرَفَهم فارِغين " (لوقا 1: 53). قد تقول لي: "ليس لديّ ما أعطيه". هذا غيرُ صحيح. فنحن نملك كنوزًا لم تنضبْ بعد: نملكُ أوقات الفراغ والقلبَ والبسمةَ والنصيحة، نملكُ الثقافةَ والسلامَ والكلمةَ لنُقنع مَن معه أن يعطِي مَن ليس معه، وعندَها يمكنُ القولُ عنّا، كما عن الجماعةِ المسيحيّة الأولى: " لَم يَكُنْ فيهمِ مُحتاج" (أعمال الرسل 4، 34).

 

يعلمنا يسوع أخيرا، انه يجب على كل منا أن يكرم الله من ماله، لأننا كلنا وكلاء، وكل ما لنا لله، وذلك فرض على الأغنياء والفقراء. وان عين الله على المؤمنين في وقت تقديم عطاياهم كما عينيه عليهم في وقت صلواتهم. ويقيس محبتهم إياه بتلك العطايا وينظر ليمدح ويُجزي المُستحقِّين منهم.  إذ ينظر الله في كل عطية إلى غاية مُعطيها، فإذا كانت غايته إظهار محبة الله تعالى فتقدمته مقبولة والاّ فلا.  وان من أنكر ذاته في تقدمته لله هو الذي يرضيه كل الرضى. وان الثقة بعناية الله كما فعلت الأرملة بتقديمها كل معيشتها هي مما يسرُّ الله. وان الله لا يحتقر التقدمة مهما كانت صغيرة. وأنّ ثروتنا لا تأتينا ممَّا نحتفظ به، بل ممَّا نتقاسمه.

 

واهم التحذيرات التي يقدّمها لنا يسوع من خلال حدث فلس الأرملة، هي:

 

يُحذِّرنا يسوع من العطايا والتقادم والتبرعات التي تقدَّم لله ليس إكراما له، بل للظهور أمام الناس. فالرب يكره الرياء والنفاق وروح الفرِّيسيَّة والاعوجاج والازدواجية، والشكليات التظاهرية، والكبرياء والمجد الباطل والبخل وحب المال. لأن المال يلعب دوره الأعظم في حياة الناس في كل زمان ومكان، فهو الذي يكشف عن أخلاق الناس وأفكارهم وطباعهم. نحن لا نستطيع أن نكذب على الله الذي يعرف القلوب كما يترنم صاحب المزامير " أَلم يَكُنِ اللهُ قد عَلِمَ بِذلِكَ وهُو العالِمُ بِخَفايا القُلوب" (مزمور 44: 22).

 

يُحذِّرنا يسوع أيضا من المتبرعين الذين يُحبُّون أن يظهروا بأنهم أتقياء ليحضوا بمدح الناس لهم، بينما هم في الحقيقة زائفون متظاهرون. فالمتبرع يكون زائفا متى كان الدافع إلى فعله هو أن يرانا الناس أو أن يحترمونا فإتباع يسوع لا يُعرفون بهذه المظاهر، تقول لنا المسيحيّة إنّ الأساس هو إنكار الذات لا تعظيمها.

 

يُحذِّرنا يسوع من موقف الرياء الكتبة والفرَّيسيين الذين كانوا يعرفون الكتب المقدسة، ولكنهم لم يعيشوا بمقتضاها. فهمّهم مجرد ظهورهم بمظهر التقوى ليحوزوا إعجاب الناس ومديحهم. وهنا يحذنا يسوع من الفصل بين الفكر والعمل، من معرفة دينية دون ممارسة، من معرفة دون سلوك. فالمطلوب أن نعيش بما نؤمن به وان أفعالنا تطابق عقائدنا. فعلينا أن نجتهد أن نعلِّم بما نؤمن، وان نعمل بما نعلّم.  

 

يُحذِّرنا يسوع من مظاهر الكتبة والفرِّيسيين لانَّ حياتهم الداخلية فاسدة (متى 23: 25-26)، يتظاهرون بالتقوى لتغطية إثمهم ورياءهم كما جاء في تعنيف يسوع لهم " الوَيلُ لَكم أَيُّها الكَتَبَةُ والفِرِّيسيُّونَ المُراؤون، فإِنَّكم أَشبَهُ بِالقُبورِ المُكَلَّسَة، يَبدو ظاهِرُها جَميلاً، وأَمَّا داخِلُها فمُمتَلِئٌ من عِظامِ المَوتى وكُلِّ نَجاسَة.  وكَذَلِك أَنتُم، تَبدونَ في ظاهِرِكُم لِلنَّاسِ أَبراراً، وأَمَّا باطِنُكُم فَمُمتَلِئٌ رِياءً وإِثماً" (متى 23: 27-28). 

 

يُحذِّرنا يسوع أخيراً من عقاب الكتبة والفرِّيسيين لأنهم يحملون مسؤولية عظيمة في تشكيل إيمان من يُعلموهم. فهم يحمّلون الناس بقوانين ثقيلة، بينما هم ينسون الله الذي يجب أن يعبدوه. وقد ضللت أطماعهم ودوافعهم الشريرة الكثيرين. إن أفظع عقوبات الله تنتظر هؤلاء لأن كان ينبغي عليهم إن يعيشوا كقدوة في العطاء والتقوى. وبالعكس يستغلون موقع المسؤولية لخداع الآخرين. ومن هذا المنطلق، يتوجب علينا إن نستغل مسؤوليتنا لمساعدة الغير وليس لنفوسنا مهما كانت الثقة التي أعطيت لنا من خلال مسؤولياتنا. 

 

 

الخلاصة

 

كان يسوع يعلم تلاميذه حقيقة العطاء. إن العطاء ليس بكميته بل بنية المُعطي.  فالأرملة أعطت مبلغا قليلا جدا ولكنها أعطت أكثر من كل الباقين، لأنها أعطت كل ما عندها. ليست المسألة كم نعطي ولكن كيف نعطي وماذا تركنا لنفوسنا.  لقد عبَّرت الأرملة عن حبّها وعطاء ذاتها، فرضي الله عنها أكثر من رضاه على الأغنياء الذين يعملون ما بوسعهم لا ليرى الله تقدمتهم بل ليرى الناس تبرعاتهم سخاءهم فيمتدحوهم.

 

فتحت الأرملة الفقيرة الباب أمام جميع المؤمنين لإدراك مفهوم العطاء الحقيقي. وأصبحت لنا معلمة في العطاء بل مثالاً لكمال المؤمن المسيحيّ الملتزم الذي يعكس حياة يسوع المعطاء إنه عطاء القلب الداخلي الذي يفرِّح قلب الله، وليس مجرد العطاء الظاهر. أن عين الرب تلاحظ كيف نعطي. فالرب لا ينظر فقط إلى ما نعطي، بل ينظر كيف نعطي. ويُعلق الطوباوي الأخ إسطفان. إن "الله يراني... ويراك ويراهم... يرى كل الذين لا يظنون أحداً يهتم بهم".

 

وأخيرا، من يعطي، يتوجب عليه أولا ألاَّ يتظاهر بأنه يعطي أكثر مما يعطي حقيقةً. وثانيا من يعطي ألاّ يعطي الرب أكثر مما يملك. إن الأرملة لم تلقِ في الخزانة ثلاثة فلوس. إنها أعطت فلسين تملكهما. وثالثا لنعطي بدافع الاعتراف بفضل الله والتكفير عن خطايانا وطلب مرضاته. وأخيرا من يعطي فليعطي فرحا كما جاء في تعليمات بولس الرسول "فلْيُعْطِ كُلُّ امرِئٍ ما نَوى في قَلْبِه، لا آسِفًا ولا مُكْرَهًا. لأَنَّ اللهَ يُحِبُّ مَن أَعْطى مُتَهَلِّلاً " (2 قورنتس 9: 7). العطاء الحقيقيّ هو عطاء كل ما نملك. بسخاء وتواضع. بمحبة وفرح، لكن يا للأسف اليوم نرى بعض الأثرياء يشكون ويبكون ويولولون كي لا يتبرّعوا بالفتات الذي يتساقط من موائدهم لقريبهم المسكين.

 

 

دعاء

 

أيها الآب السماوي، نسألك باسم يسوع، إن تهبنا نعمة العطاء والكرم كي نعطي الفاضل عن حاجتنا إلى الذين هم في أمس الحاجة إليه لوجه الله دون سواه، وأن نتقاسم خيراتنا وما في حاجتنا بحب وسخاء على خطى الأرملة الفقيرة التي ألقت في الخزانة من حاجتها. فنكون على صورة ابن الله بالذات وجوده " رَبِّنا يسوعَ المسيح الذيِ افتَقَرَ لأَجْلِنا وهو الغَنِيُّ لِتَغتَني بِفَقْرِه" (2 قورنتس 8:9).

 

 

قصة حقيقية: الفقير والأم تريزا

 

قالت الأم تريزا دي كالكوتا: " كنت ماراً وإذا بشحّاذ يوقفني، قال: كل الناس يهدونك أشياء كثيرة، وأنا اليوم أريد أن أهديك شيئاً. قال هذا ومدّ عليها (29) مليم، مضيفا: "هذا كل ما أتاني اليوم، فأنا أهديك إياها".

 

تفاجأت الأم تريزا بقصّته وقالت في نفسها: إن أخذتها منه، فهو لا يقدر أن يشتري عشاءً لنفسه، وإن رفضتها فهو سيحسب ذلك إهانة مني له. فقالت: " مددت يدي وأخذت تقدمته". وعلقت: لقد فرح الشحاذ فرحاً لا أستطيع وصفه. فإعطاء شيء ضروري هو تقدمة كبيرة، مقبولة عند الله. وَأَنْ تُعْطي، وَأَنْتَ في قمَّة الاحتياج هُوَ العطاء الأكبَر! فالعطاء ليس من الفاضل عنّا بل من حاجتنا الضرورية. " السَّعادَةُ في العَطاءِ أَعظَمُ مِنها في الأَخْذ" (أعمال الرسل 35:20).