موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٤ أغسطس / آب ٢٠٢١

عيد انتقال سيدتنا مريم العذراء، وكيف نعيشه؟

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد العشرون للسنة: عيد انتقال سيدتنا مريم العذراء وكيف نعيشه؟

الأحد العشرون للسنة: عيد انتقال سيدتنا مريم العذراء وكيف نعيشه؟

 

المقدمة

 

من أكثر الأعياد قدماً ومحبة للعذراء مريم الكلية القداسة هو عيد انتقال العذراء لمجد السماوات بالنفس والجسد، أي بكامل كيانها البشري، بكامل شخصها. يُعد انتقال العذراء مريم بالنفس والجسد إلى السماء عقيدة من أهم العقائد المسيحية حول العذراء في الكنيسة الكاثوليكية. والعقيدة معناها حقيقة إيمانية إلزامية، حيث لا يمكن لأحد أن يدَّعي الكثلكة ما لم يؤمن بها.  إن انتقال سيدتنا مريم العذراء هي “ثمرة الكنيسة الأولى وصورتها"، وهي من بين "الثمار الأولى" "لجميع الّذين ينتمون إلى يسوع" والّذين يشاركون في انتصاره (1 قورنتس 15، 20-24). ويُنظر إلى استقبالها في السماء كقوّة القداسة الرحيمة الّتي " رفَعَت الوُضَعاء " (لوقا 1: 52)، وكعلامة لجميع المؤمنين المسيحيّين لوعد الربّ يسوع بأن يتمّ استقبالنا، نحن أيضاً، في الفردوس " وإِذا ذَهَبتُ وأَعددتُ لَكُم مُقاماً أَرجعُ فآخُذُكم إِلَيَّ لِتَكونوا أَنتُم أَيضاً حَيثُ أَنا أَكون" (يوحنّا 14، 3). وهكذا أصبحت مريم  مثال الإيمان والرجاء لنا.

 

عقيدة انتقال سيدتنا مريم العذراء 

 

العقيدة في الكنيسة هي تعاليم إلهيّة مُوحاة، وممحّصة، وثابتة لا تقبل النقاش ولا تتغيّر. العقيدة هي حقيقة إيمانيّة، تخبرنا عن سرّ خلاصنا وعن عمق محبّة الله لنا.

 

لا يحتوي العهد الجديد على أي نص صريح عن موت أو انتقال مريم، لكن تمَّ تفسير بعض المقاطع الكتابية لاهوتياً لوصف المصير النهائي لوالدة يسوع، حيث تلتقي عقيدة انتقال العذراء بمختلف أشكالها مع النظرة المسيحية بكونها أولى المُخلَّصِين.

 

ليس في الكتاب المقدس إثبات قاطع وصريح لانتقال العذراء مريم، إنما هناك دلائل في الإثبات: مريم هي "ممتلئة نعمة" (لوقا 1: 28) . هذه النعمة تضم نعمة عدم التعرض لفساد القبر. فساد القبر هو عاقبة الخطيئة واللعنة التي استوجبتها . ومريم اشتركت في انتصار نسلها يسوع على الشيطان والخطيئة والشهوة والموت، كما جاء في سفر التكوين " أَجعَلُ عَداوةً بَينَكِ  (الحيَّة الشيطانية) وبَينَ المَرأَة وبَينَ نَسْلِكِ ونَسْلِها فهُوَ يَسحَق رأسَكِ وأَنتِ تُصيبينَ عَقِبَه "  ( التكوين 3: 15) ألا يكون من الإنصاف أن مريم التي اشتركت مع يسوع في الانتصار على الخطيئة والشهوة، أن تشترك ايضا في انتصار على الموت في ثمرته التي هي فساد القبر ؟  

 

وبناء على الوصيّة الرّابعة: "أكرم أباك وأمّك!" يسوع الفتى "كان خاضعاً" للعذراء وخطّيبها العفيف القدّيس يوسف. وأكيد أنّ السيّد المسيح، أراد أن يكرم والدته الطّهور، وأن يحفظ من فساد القبر وانحلاله ذلك الجسد البتوليّ الّذي حمله، وحفظها من فساد القبر تلك العذراء الوالدة التي كان قد نزّهها عن انحلال الخطيئة، إذ إنّ "أجرة الخطيئة هي الموت"، " فمَن زَرَعَ لِجَسَدِه حَصَدَ مِنَ الجَسَدِ الفَساد، ومَن زَرَعَ لِلرُّوح حَصَدَ مِنَ الرّوحِ الحَياةَ الأَبدِيَّة" (غلاطية 6: 8)، علمًا أنه ذُكر في  الكتاب المقدس عددٌ من الشخصيات التي رُفعت أو انتقلت بدون موت إلى السماء كالنبي إيليا (2 ملوك 2-11) واخنوخ (التكوين 5: 24).

 

أشار نص سفر الرؤيا إلى مصير سيدتنا مريم العذراء، مصير مجد فائق الوصف لأنها متحدة بشكل كبير بالابن الذي تلقته بالإيمان وولدته في الجسد، وقاسمت بالكمال مجده في السماوات. وفي هذا الصدد جاءت روية القديس يوحنا الرسول “ظَهَرَت آيَةٌ عَظيمَةٌ في السَّماء: اِمرَأَةٌ مُلتَحِفَةٌ بِالشَّمْس والقَمَرُ تَحتَ قَدَمَيها، وعلى رَأسِها إِكْليلٌ مِنِ اثَني عَشَرَ كَوكبًا، حامِلٌ تَصرُخُ مِن أَلَمِ المَخاض .... فوَضَعَتِ ابنًا ذَكرًا، وهو الَّذي سَوفَ يَرْعى جَميعَ الأُمَمِ بِعَصًا مِن حَديد" (رؤيا 12، 1 – 2؛ 5). إن عظمة مريم، أم الله، الممتلئة نعمة، والخاضعة بالكامل لعمل الروح القدس، تعيش في سماء الله بكامل كيانها، نفساً وجسداً. ويعلق البابا بولس السادس " الآية العظيمة التي شهدها يوحنا الحبيب في السماء، قد فهمتها الليتورجيا الكاثوليكية بالنسبة إلى العذراء مريم " (م7/7).

 

هكذا آمنت الكنيسة على مر العصور "أن أُمَّ الله الطاهرة، في ختام حياتها الأرضية، قد نُقِلَتْ نفساً وجسداً إلى المجد السماوي". وهذا ما حدَّده البابا بيوس الثاني عشر في اليوم الأول من شهر تشرين الثاني عام 1950، سنة اليوبيل، عقيدةً إيمانية بشأن انتقال مريم المجيد إلى السماء، الذي يُشيد به عيد اليوم. فقال البابا حينها: "إنها لحقيقة إيمانية أوحى الله بها، أن مريم والدة الإله الدائمة البتولية والمنزَّهة عن كل عيب، بعد إتمامها مسيرة حياتها على الأرض نُقِلَت بجسدها ونفسها إلى المجد السماوي". ويبيّن البابا أن هذا العيد "لا يذكر فقط أن الفساد لم ينلْ من جسد مريم العذراء بل يذكر انتصارها على الموت أيضاً، وتمجيدها في السماء، على مثال ابنها وحيدها يسوع المسيح" (Munificentissimus Deus).

 

توافق هذه العقيدة ما جاء في الكتاب المقدس عن غاية فداء المسيح، الممثلة بالاشتراك معه في قيامته. كما توافق هذه العقيدة تقليد جليل يرجع إلى الكنيسة الأولى يشير إلى "رقاد مريم".  فكانت مريم أولى من تحقَّق فيهم عمل الفداء على أكمل وجه، فإنها لم تختبر فساد القبر بل نُقلت إلى مجد السماء، وغدت فجر الكنيسة المنتصرة في العلياء، وصورتها الكاملة، وعنوان رجاء المؤمنين وتعزية لهم في مسيرتهم على دروب الأرض.

 

نستنتج مما سبق أنَ انتقال العذراء بالنفس والجسد إلى السماء هو ثمرة قيامة المسيح المنتصر على الموت. ونحنُ نرى في انتقال سيدتنا العذراء آية خلاصنا وعلامة رجاءٍ وطيد، بأنّ يسوع المسيح قد غلب الموت فعلا، وأنّه لا سلطان للموت على المؤمنين به.

 

عقيدة الانتقال وعلم اللاهوت

 

أتى هذا الاعتقاد في الكنيسة الكاثوليكية متوافقاً مع الرؤية المسيحية لأمومة مريم البتول الإلهية وقداستها والحبل بها بلا خطيئة.

 

أولاً: بما أن أنها الوالدة المجيدة للمسيح مخلصنا وإلهنا واهب الخلود، فهو يهبها الحياة، وهي تشاركه إلى الأبد في عدم فساد الجسد. فهي متحدة اتحاداً وثيقا بابنها الإلهي وشريكة معه في كل شيء. فكما أنَّ قيامةَ المسيحِ المجيدةَ هي الجزءُ الأهمُّ والأخيرُ في انتصار يسوع المسيح الكاملُ على الخطيئةِ والموتِ، كذلك كانَ يجبُ أن تُختَمَ المعركةُ المشتركةُ التي سارَت فيها مريَمُ البتولُ معًا هي وابنُها، كان يجبُ أن تنتهيَ أيضًا بتمجيدِ جسدِها. كما يقولُ الرسول: "وَمَتَى لَبِسَ هَذَا الكَائِنُ الفَاسِدُ مَا لَيسَ بِفَاسِدٍ، حِينَئِذٍ يَتِمُّ قَولُ الكِتَابِ: قَد ابتَلَعَ النَّصرُ المَوتَ" (1 قورنتس 15: 54).

 

ثانياً: يرى القديس جرمانس من القسطنطينية أن جسد مريم البتول، والدة الإله، نُقل إلى السماء، ليس فقط بسبب أمومتها الإلهية، بل لقداسة خاصة شملت جسدها البتولي، فقال: "جسدك البتولي كلُه مقدسٌ وكله عفيف ولكنه مسكن لله. ولهذا فهو بعيد عن كل انحلال ولا يعود إلى التراب".

 

وأخيراً، الإنسان يموت بسبب الخطيئة المتوارثة منذ آدم، وبصفة أن العذراء لم ترث هذه الخطيئة الأصلية فهي بالتالي لا داعي لموتها. ومن هنا جاء تعليم الكنيسة الكاثوليكية "أن العذراء مريم، التي جنّبها الله وصمات الخطيئة الأصلية، والتي أكملت حياته الأرضية، رُفعت، بالنفس والجسد، إلى مجد السماء، وأعطاها الرب لتكون ملكة الكون، لتكون أكثر تطابقاً مع ابنه، رب الأرباب، المنتصر على الخطيئة والموت"، فنالت لامتيازاتها ألا يمسَّها فساد القبر ونُقلت نفساً وجسداً إلى السماء حيث تجلس الآن ملكة متألقة عن يمين ابنها، ملك الدهور.

 

أما في الكنائس الأرثوذكسية الشرقية فيرون أن الانتقال قد تمّ بعد فترة قصيرة من وفاتها، فعندما توفيت حسب التقليد الشرقي في بستان الزيتون حيث نازع يسوع. وشهد الحدث من بقي حياً من التلاميذ الاثني عشر بعث جسدها بعد ثلاث أيام من جديد حياً وانتقلت نفسها وجسدها إلى السماء، علماً أنه يذكر في الكتاب المقدس عدد من الشخصيات التي رفعت أو انتقلت بدون موت إلى السماء كالنبي ايليا (2 ملوك 2: 11) وأخنوخ (تكوين 5: 20).

 

عقيدة الانتقال وآباء الكنيسة

 

آمن المسيحيون منذ القرون الأولى بانتقال العذراء بالنفس والجسد إلى السماء، كما تُظهر لنا كتابات أباء الكنيسة. إنَّ الآباءَ القدِّيسين ومعلِّمِي الكنيسةِ العظامَ، في عظاتِهم وخُطَبِهم التي وجَّهُوها إلى الشعبِ، في عيدِ انتقالِ والدةِ الإلهِ، تكلَّمُوا على هذا العيدِ وكأنَّه أمرٌ معروفٌ ومقبولٌ. وقد بيَّنُوا بصورةٍ خاصّةٍ أنّ هذا العيدَ لا يَذكرُ فقط أنَّ الفسادَ لم يَنَلْ من جسدِ مريمَ العذراء، بل يذكرُ انتصارَها على الموتِ أيضًا، وتمجيدَها في السماءِ، على مثالِ ابنِها وحيدِها يسوعَ المسيح.

 

ظهرت عقيدة انتقال سيدتنا مريم العذراء في كتابات آباء الكنيسة إذ يقول القديس يوحنا الدمشقي: "كما أن الجسد المقدّس النقي، الذي اتخذه "الكلمة الإلهي" من مريم العذراء، قام في اليوم الثالث هكذا كان يجب أن تُؤخذ مريم من القبر، وأن تجتمع الأم بابنها في السماء" ويتابع القول: "كان لا بد لتلك التي استقبلت في حشاها "الكلمة الإلهي"، أن يتم انتقالها إلى أخدار ابنها... كان لا بد للعروسة التي اختارها الآب، أن تقيم في أخدار السماوات" (PG 96: 742).

 

ويشير القديس يوحنا الدمشقي إلى هذا السر بعظة شهيرة فيقول: " من بقِيَتْ بتولاً في الولادةِ لم ينَلْ منها أيُّ فسادٍ، من الضروريِّ أن يُحفَظَ جسدُها بعدَ الموتِ من كلِّ فسادٍ. ومَن حَملَتِ الخالقَ طفلاً في أحشائِها، من الواجبِ أن تُقِيمَ في المساكنِ الإلهيّةِ. ومن اتّخذَها الآبُ عروسًا، من الواجبِ أن تسكُنَ في الأخدارِ السماويّةِ. ومَن شاهدَتْ ابنَها على الصليبِ، وجازَ في صدرِها سيفُ الألمِ الذي تجنَّبَتْه حينَ الولادةِ، من الضروريِّ أن تشاهدَه جالسًا عن يمينِ الآبِ. من الواجبِ أن يكونَ لوالدةِ الإلهِ كلُّ ما هو لابنِها، وأن تكرِّمَها كلُّ خليقةٍ والدةً وأَمَةً لله" (PG 96: 723).

 

ويرى القدِّيسُ جرمانس من القسطنطينية أنَّ جسدَ مريمَ البتولِ، والدةِ الإلهِ، نُقِلَ إلى السماءِ من غيرِ أن يناَلَه الفسادُ: "أنتِ التي تَظهَرِين في البهاءِ كما هو مكتوبٌ. وجسَدُك البتوليُّ كلُّه مقدَّسٌ وكلُّه عفيفٌ وكلُّه مسكِنٌ لله. ولهذا فهو بعيدٌ عن كلِّ انحلالٍ ولا يعودُ إلى الترابِ. ولكنْ، لأنَّه بشرِيٌّ، كانَ يجبُ أن يتبدَّلَ ليصلَ إلى اللافسادِ في الحياةِ العُليا. ولكنَّه هو نفسُه، الجسدُ الحيُّ والمجيدُ والتامُّ والمزدانُ بالحياةِ الكاملةِ". ويقول طيوتكنوس الليفي" كان يليق بالجسد الذي حمل الله وأسكنه، والذي كان منزَّها عن الفساد ومشرقا بالنور الإلهي، أن يُرفع إلى المجد بنفسه المرضيّة عند الله (م 18/16).

 

أما القديس بطرس دميانوس فيقول: "في صعودها جاء ملك المجد مع أجواق الملائكة والقديسين لملاقاتها بزفةٍ إلهية؛ ويقول القديس فرنسيس السالسي "كان موت العذراء من النعومة بحيث إن ابنها قد اجتذبها بطيب عرفه المقدس فولجت حضنه بلطف" (م23/294). ويقول الأسقف بُوسُّويه "كان حب مريم العذراء الإلهي يزداد تلقائيا، وأخيرا... فاستودعت روحها بين يدي ابنها، بلا مشقَّة وإكراه: بل بوثبة فائقة من الحب الإلهي" (م/23/337). ويُعلق القديس أوغسطينوس "هل يليق بالمسيح أن يترك امَّه فريسة فساد القبر، مثل أي جثمان عادي؟ أما كان ينبغي بالعكس أن يشركه في سر صعوده، فيستبق من أجلها ساعة القيامة والمجد الفائق؟ أليس انتقال العذراء في الخط الطبيعي لامتيازات التي سبقت ورافقت وتبعت أمومة مريم الإلهية؟ (م1/2138). ويضيف الكردينال نيومن "ماتت مريم، كما يعتقد، لان يسوع المسيح المخلص نفسه قد مات. بيد أنها ماتت مثل الآخرين، لكنها لم تمت على طريقتهم (ميتة الخطأة). (م 12/221) لذلك كما يقول بولس الرسول: إن الله قد جنَّبها "فساد الخطيئة" (غلاطية 6: 8). ولهذه الأقوال نجد صدىً في الكتاب المقدس ولاسيما نشيد الأناشيد (10: 2) وفي رؤيا القديس يوحنا (11: 19).

 

عقيدة الانتقال والليتورجيا

 

ظهرت عقيدة انتقال العذراء أيضًا في الطقوس المسيحية المبكرة، فترنّمت الليتورجيّة البيزنطيّة: "لقد انتقلتِ برقادكِ الموقّر إلى الحياة الخالدة محفوفة بالملائكة والرّئاسات والرّسل والأنبياء وسائر الخلائق، يا عروسة الله، الأمّ العذراء والدة الحياة! أمّا نفسك البريئة من العيب، فقد قبِلها ابنك براحتيه الطّاهرتين".

 

وخصَّصت الليتورجيا عيدا خاصاً لها يوم 15 آب يسبقه صوم مدته أربعة عشر يوماً؛ وقد عمّ هذا العيد الإمبراطورية البيزنطية ما بين 588-603، وادخله إلى كنيسة روما البابا تيودورس الأول (642-649)، وهو من الاكليروس الأورشليمي.

 

وأصل العيد أن كنيسة القدس كانت تقيم، منذ القرن الخامس في مثل هذا اليوم، عيداً لوالدة الإِله عُرف فيما بعد بعيد "رقاد مريم"، ثم بعيد "انتقال القديسة مريم"، منذ القرن الثامن. وأكَّدَ كاتبٌ آخَرُ قديمٌ جدًّا: "بما أنّها الوالدةُ المجيدةُ للمسيحِ مخلِّصِنا وإلهِنا واهبِ الخلود، فهو يَهَبُها الحياةَ، وهي تشاركُه إلى الأبدِ في عدمِ فسادِ الجسدِ. أخرجَها من القبرِ، ونقلَها إليه بطريقةٍ هو وحدَه يَعرِفُها" (Munificentissimus Deus. مجلد 42-769).

 

لنفسح المجال لمقاطع الكتاب المقدس التي تعرضها الليتورجيا علينا لكي تهدينا؛ بشكل خاص صورة نجدها في القراءة الأولى، مأخوذة من سفر الرؤيا (11: 19؛ 12: 1-10)، يُردَّد صداها إنجيل لوقا: أي صورة "تابوت العهد" (1 أخبار 15: 3-16).  تغني الكنيسة اليوم الحب العظيم الذي يكنَّه الله لخليقته هذه: لقد اختارها كتابوت عهد، كتلك التي تستمر في ولادة المسيح المخلص وإعطائه للبشرية، كتلك التي تقاسم في السماوات ملء المجد، وفي الوقت عينه، تدعونا لكي نضحي تابوت عهد تحضر فيها كلمة الله، وتتحول وتعيش من حضوره، حضور الله الحي، لكي يستطيع البشر أن يلاقوا في الشخص الآخر قرب الرب ويعيشوا الشركة مع الله ويعرفوا واقع السماوات.

 

وأعلن البابا بيوس الثاني صحة هذه العقيدة في واحد تشرين 1950 مؤكدا:" إنها لحقيقة إيمانية أوحى الله بها، أن مريم والدة الإله البتولية والمنزهة عن كل عيب، بعد إتمامها مسيرة حياتها على الأرض نُقلت بجسدها ونفسها إلى المجد السماوي".

 

يوجز البابا بندكتس الرابع عشر البراهين التي تدعم الإيمان بانتقال مريم العذراء إلى السماء بالجسد والنفس هي : أُمومتها الإلهية،  وبتوليتها الفائقة، وقداستها العظيمة التي تفوق قداسة والبشر والملائكة، واتحادها الوثيق بابنها يسوع وتوافقها وإياه، ومحبة ذلك الابن لامِّه المتفوقة في الكرامة "ز ( م/12138).

 

كيف نعيش عيد الانتقال

 

نعيش عيد انتقال سيدتنا مريم العذراء بتجديد حبنا لمريم، وتكريمها لأجل "العظائم" التي صنعها الكلي القدرة لها وفيها "وما هي سَعَةُ المَجدِ في ميراثِه بَينَ القِدِّيسين " (افسس1: 19). فنحن نتحدث عن مريم ولكن بشكل ما، نحن نتحدث أيضاً عن ذواتنا، عن كل منا: فنحن أيضاً محط محبة الله العظيمة التي خصَّ الله بها مريم بشكل خاص جداً.

 

في عيد الانتقال المجيد هذا ننظر إلى مريم: هي تفتح قلوبنا على الرجاء، رجاء مستقبل مليء بالفرح، وتعلمنا الطريق للوصول إليه: من خلال قبول ابنها بالإيمان؛ لا نخسر أبداً الصداقة معه، بل فلنسمح له أن يُنيرنا وأن يهدينا بكلمته؛ وأن نتبعه كل يوم، حتى في الأوقات التي نظن فيها أن صلباننا قد أضحت ثقيلة.

 

نتعلّمُ أيضا من انتقال العذراء حقيقة الموت، لأنه للمسيحي الموت هو عبورٌ من هذا العالم الزائل، عالم الألم والموت والأهواء إلى عالم النور والحق والجمال، إلى الملكوت السماوي. بعد موت المسيح لم يبق للموتِ سلطانٌ علينا، بل تحوّل الموت بقدرة الله، ليصير عبوراً بسلام، يُشبه الرُقاد والنوم. ننامُ في دنيا الأضاليل لنستيقظ في دنيا الحق، ننامُ بالخوف والوجع، لنستيقظ أمام وجه الله القدوس، حيث لا بكاء ولا صراخ ولا ألم، بل فرح وسلام مع المسيح يسوع القائم من بين الأموات.

 

ونتعلّمُ أيضا حقيقة قيامة الأجساد. فجسدُنا البشري مدعو للمشاركة بالمجد السماوي، انه هيكل الروح القدس (1 قورنتس 6: 19)، وصورة المسيح الفادي. لقد فدانا المسيحُ جسدا ونفسا، لذا فإنّ جسدُنا هذا سيُمجّد يوما بالمسيح، على مثال جسد يسوع ومريم العذراء، إنما في القيامة العامة. نحنُ مدعون لنملك بالمجد مع المسيح الإله الفادي بأجسادنا ونفوسنا.

 

في تأملنا بالعذراء مريم ننال نعمة أخرى: نعمة أن ننظر بالعمق في حياتنا. أجل، لأن وجودنا اليومي، مع مشاكله وآماله، ينال نوراً من أم الله، من مسيرتها الروحية، ومصيرها المجيد: مسيرة وغاية يمكن، لا بل يجب أن يضحيا، بشكل أو بآخر، مسيرتنا وغايتنا. مريم التي انتقلت إلى السماء بالنفس والجسد، تُبيِّن لنا بوضوح أننا في طريقنا نحو بيتنا الحق، شركة الفرح والسلام مع الله.

 

الخلاصة

 

إن عقيدة انتقال مريم العذراء هي تقليدا رسولي يرتكز على وحيٍ إلهي، بحسب المبدأ الذي اعترف به المجمع الفاتيكاني الأول، ولذا، فان البابا بيوس الثاني عشر استطاع إن يعلن انتقل العذراء حقيقة إيمانية بمعنى أنها لا تضاف إلى الإيمان حقيقة جديدة، بل تكشف عما يتضمنه حتما فعل الإيمان.

 

وكما مات يسوع المسيح فعلا، كذلك أمّه مريم العذراء. وكما قام يسوع حقا بالنفس والجسد في اليوم الثالث، كذلك أمّ يسوع، وأمّنا مريم العذراء لم ترَ فسادا في موتها، بل انتقلت بالنفس والجسد إلى عن يمين ابنها بالمجد. فمريم العذراء أمّ الله، وبنعمة خاصّة من ابنها، وعلى مثاله لم تنتظر قيامة الأموات بأجسادهم في اليوم الأخير، بل انتقلت بجسدها بعد موتها إلى الملكوت السماوي.

 

انتقال مريم إلى السماء هو مشاركة فريدة في قيامة ابنها، وتعبير مسبق عن قيامة المسيحيين. الله لا يستطيع أن يترك في سلطة الموت أولئك الذين وضعوا رجاءهم فيه. هكذا رفع مريم وهو يرفع معها جميع البشر، ونحن نشاهد فيها مصيرنا الخاص وكرامتنا المستعادة.

 

كللك جميلة وبهيّة، يا مريم البتول: انتقلتِ من هذا العالم إلى المسيح. إنكِ تتألقين بين جوقات القديسين مثل الشمس في السماء. ومع مريم أمنا وملكتنا تعظم الرب نفوسنا مسبَّحين: " حَطَّ الأَقوِياءَ عنِ العُروش ورفَعَ الوُضَعاء" (لوقا 1: 52).

 

فانتقال العذراء مريم يملانا رجاء بأنّ الله لن يدع أصفياءه يرون فسادا. ويُعزّينا بخاصة في ساعة موتنا، إذ يُفهمنا بأنّ الموت مع المسيح ليس إلاّ رُقاد بسلام كُليّ.

 

 

كنيسة انتقال العذراء أو قبر العذراء

 

التسمية:

 

تقع "كنيسة انتقال العذراء" أو "قبر العذراء" على بُعد 80 م شمالي كنيسة الجسمانية. وسُمّيت "كنيسة انتقال العذراء" أو "قبر العذراء" لوجود القبر التي رقدت فيه العذراء قبل انتقالها إلى السماء بحسب التقليد الأورشليمي. فيقول القديس كيرلس الأورشليمي فإنها قد نقلت من بستان الزيتون إلى القدس. وهناك تقليد افسي مختلف يروي أن يوحنا أخذ مريم العذراء عنده في أفسس حيث أدار كنيستها حتى عهد الإمبراطور تراجان (53– 117) ولكن هذا التقليد لا يطابق أعمال الرسل (1: 19-20).

 

المعالم التاريخية

 

لم يكن الإنجيل الذي روى وفاة العذراء أو موتها إنما "إنجيل انتقال العذراء" أو "رقاد مريم". وهو كتاب منحول، يذكر مزاراً ويعود تاريخ هذا الإنجيل إلى المسيحيين من أصل يهودي في القرن الثاني والثالث ثم تحوّل مكان القبر إلى مزار. وقام المسيحيون من أصل يهودي بتكريم هذا القبر حتى القرن الرابع. ولما انتقل القبر إلى المسيحيين من أصل يوناني وسرياني اخذوا يُكرمون هذا القبر بصفته "قبر العذراء".

 

ومنذ القرن الخامس كانت كنيسة القدس تحج في 15 آب إلى كنيسة كاتسما الواقعة على الطريق بين بيت لحم والقدس للاحتفال بعيد مريم والدة الله. إذ أقامت اكيليا، زوجة الحاكم التي أصبحت شماسه مزار لإكرام "والدة الله الطاهرة الدائمة البتولية"، وذلك في عهد جوفينال الذي أصبح بطريرك (422-458). وكان يذكر في المكان عدة ذكريات: ولادة بنيامين ووفاة رحيل. وكان هو العيد المريمي الوحيد التي كان تقويم الطقسي الأورشليمي يحتفل به وكان كاتسما المزار المريمي الوحيد.

 

وفي منتصف القرن الخامس انتقل الاحتفال إلى مزار العذراء في الجسمانية الذي بناه الإمبراطور ثيوذسيوس الثاني أو زوجته افدوكيا (460). وتمكن هذا المزار الجديد أن يطغي على مزار كاتسما وذلك لأهميته وسهولة الوصول إليه. ولم يحافظ على ذكرى كنيسة والدة الله في كاتسما إلا باحتفال يقام في 13 آب.

 

وبعد مجمع أفسس سنة 431 الذي أعلن عقيدة أمومة مريم الإلهية دشّن أسقف القدس جوفينال كنيسة فوق قبر العذراء، ثم قام الإمبراطور موريسيوس (582-602) بتشييد كنيسة فوق الكنيسة الموجودة هناك. وكانت واجهتها الموجهة إلى الجنوب مزدانة بقنطرتين.

 

وأول وثيقة ذكرت عن مزار فوق قبر العذراء هي وثيقة قبطية، تعود إلى القرن الخامس. وأشار كتاب قراءات القدس 530 إلى وجود قبر العذراء في كنيسة؛ وأما الحاج من بلاشنسيا زار الكنيسة التي بناها الإمبراطور موريسيوس.

 

وفي عام 670 يبدو أن المزار كان يتكوّن من كنيستين مبنيتين فوق بعضهما. الكنيسة السفلى الأولى هي بناء على شكل صليب وفوقها بنى الإمبراطور موريسيوس الكنيسة الدائرية التي رممها مودستوس بعد دمارها على يد الفرس عام 614.  ونحو سنة 715 تكلم القدّيس جرمانوس بطريرك القسطنطينية عن "الجسمانيّة" موقعًا لانتقال السيّدة إلى المجد السرمديّ، وهو مكان نزاع ابنها المخلّص.

 

وفي عهد الصليبيين يروي الراهب الروسي دانيال (1106-1107) أن الصليبيين وجدوا سقف الكنيسة العليا مهدوماً، ربما تمّ هدمه على عهد الخليفة الحاكم بأمر الله (996-1021).

 

وأما الكنيسة السفلى حيث يوجد قبر العذراء فلم يعبث العرب بها لإكرامهم للعذراء والدة "النبي عيسى". ولمَّا أصبح جودفري دي بويون (1060-1100) حاكم مدينة بويون أول ملك على مملكة بيت المقدس في أيام الصليبيين سلّم الرهبان البندكتان إدارة الكنيسة، فأضافوا بعض الدرجات على المدخل الرئيسي. وأعادوا بناء الكنيسة العليا وزّينوا الواجهة ببرجين صغيرين. وبنوا ديراً في القسم الغربي في مكان يُشرف على وادي قدرون.

 

 وقد عثر على جزء منه عام 1937. وكان هناك أسوار وأبراج يحميان الدير والكنيسة. وكانت الأخوية تستلم الأموال الضرورية لصيانة المستشفى الذي ألحقه الرهبان بالدير كي يتمكنوا من استضافة الحجاج والفقراء والمرضى. وزيّن الرهبان قبو وجدران الكنيسة السفلى بالرسومات الزيتية. وأما قبر العذراء فبنوه وفق معايير البناء البيزنطية. فغطُّوا القبر بالرخام والفسيفساء، يعلو القبر بناء مستدير على شكل كأس مغطى بالرخام والذهب والفضة يرتكز على أعمدة.

 

ولما جاء صلاح الدين الأيوبي لم يسلم من الدمار إلا المغارة إكراماُ للعذراء. وعلى أثر الاحتلال التجأ الرهبان إلى طرابلس شمالي عكا ومنها إلى مسينا. فهدم الأيوبيون الكنيسة العليا والمستشفى والدير واستخدموها حجارتها لترميم أسوار القدس.

 

وفي القرن الثالث عشر كان الكهنة من الطقس السرياني يخدمون الكنيسة وفي القرن الرابع عشر أوُكلّت خدمة الكنيسة إلى اللاتين واليونانيين والجورجيين والأحباش واليعاقبة والموارنة ولكل منهم هيكله الخاص لإقامة القداس عليه. وكان للاتين الصلاحية في إقامة الذبيحة الإلهية على قبر العذراء نفسه.

 

وحافظ الفرنسيسكان على المكان منذ القرن الرابع عشر إلى أن طردوا منه عام 1757 وبالرغم من الوثائق التي كانت تخوِّلهم بخدمتها فاستولى عليها الأرمن والروم الأرثوذكس. ولا يجوز إلى اليوم إقامة المراسيم الدينية في كنيسة قبر العذراء إلاّ الروم الأرثوذكس والأرمن والسريان والأقباط وفقا للوضع الراهن  (Statu quo)وأيدت حفريات عامل الآثار الأب بللرمينو باغاتي الفرنسيسكاني هذه الرواية عام 1973 لدى اكتشافه قبر العذراء الذي لم يتم فتحه إلا في العهد الصليبي.

 

المعالم الأثرية:

 

تحتفظ الكنيسة حاليا بصورة عامة بالشكل الذي تركه الصليبيون. للكنيسة فناء مربع الشكل قائم على 35 عامود تضم بينه بئر. وللكنيسة ثلاثة أجنحة: جنوبي وشرقي وغربي.

 

فالجناح الجنوبي يحتوي على 48 درجة تهبط بالزائر إلى كنيسة على شكل صليب لاتيني. ويتكوَّن من ثلاث أقسام: القسم الأول له قبو ذو زاوية بارزة. وأما جداره فيخترقه من الأصل من الشمال نافذة، ومن اليمين باب يربط المزار بمغارة الجسمانية وبالكنيسة العليا.

 

والقسم الثاني له قبو أسطواني على الطراز الروماني ويحوي على مزارين: مزار القديس يوسف على اليسار وهو يضم قبرا لزوجة بلدوين الثاني ملك القدس. ومزار لوالدي العذراء: يواكيم وحنة على اليمين، ويضم رفات الملكة مليزندا، ابنة بلدوين الثاني، وزوجة فلك انجو ملك القدس الصليبي الثالث.

 

أما القسم الثالث من الجناح الجنوبي فيحتوي على كنيسة بيزنطية من القرن (4-5). وهي أقدم الكنائس التي بقيت سليمة في القدس بجانب كنيسة يوحنا المعمدان (القرن 4-5) في مورستان (سوق الدباغة) القدس.

 

وأما الجناح الشرقي فهو يضم قبر العذراء في حين أنه يجب أن يكون القبر في وسط الكنيسة وفق الهندسة المعمارية للكنائس البيزنطية الشكل كما هو الحال بئر يعقوب في نابلس وعامود القديس سمعان في سوريا. لكن بناء الجناح تلائم مع طبيعة الأرض.

 

وقبر سيدتنا مريم العذراء محفور في كتلة صخرية بارزة عن بقية الصخر، يتراوح علوها ما بين 1,50-1,80م. والقبر عبارة عن مصطبة جنائزية فيها كثير من التجاويف، لان الحجاج كان يقتطعون منها كذخيرة بركة. ويغطي القبر لوحة من الرخام من العهد الصليبي يتخللها ثلاث فتحات ليتمكن الحجاج رؤية صخرة القبر ولمسه وتبرك منه. كان المدخل الأصلي للقبر من جهة الغرب ويربط القبر بغرف أخرى.

 

وأما حاليا هناك بابان أحدهما في الجهة الشمالية والآخر في الجهة الغربية يؤديان إلى قبر العذراء حيث سجّي رفاتها المقدس. وقد أعيد فتح القبر عام 1973. ويعلو القبر قبة بُنيت بدلا من السقف الصخري، وفي القبة كوة يتسرب منها الدخان، رمزا لانطلاق العذراء إلى السماء. ومن الملاحظ أيضا أن القبر فصل عن باقي القبور القديمة كما هو الحال قبر المسيح لقداسته؛ وجدار الجناح الشرقي يحتوي على حنية تعود إلى العصر البيزنطي أي الكنيسة الأولى وعلى محراب للمسلمين.

 

أما الجناح الغربي فيحتوي على بئر وينتهي بحنية نصف دائرية كما هو الحال في الجناح الشرقي. قام الأب "باغاتي" بحفريات عام 1972 أثبتت ما جاء في "إنجيل رقاد العذراء" المنحول من القرنين الثاني والثالث، ويقول إن قبر العذراء كان في مقبرة تعود إلى القرن الأول.

 

دعاء:

 

كلُّكِ جميلةُ وبهيّةٌ، يا مريُم البتول، إنَّكِ تتألَّقِين بينَ جوقاتِ القدِّيسين مثلَ الشمسِ في السماء. الملائكةُ يَفرَحون، ورؤساءُ الملائكةِ يسبِّحون لكِ، يا مريمُ البتول. يا مريم سيدتنا، يا من رُفعت اليوم أعلى من جوقات الملائكة، وكُللت مع المسيح إلى الأبد، انظري بنظرة عطوفة وتشفعي بصلاتك لأبنائكِ كي يصبوا إلى الأمور التي في العلى ويكونوا أهلاً لمشاركتكِ مجد القيامة.