موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٩ يناير / كانون الثاني ٢٠٢١

عماد يسوع في ضوء إنجيل مرقس

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الاحد الأول للسنة (مرقس1: 7-11)

الاحد الأول للسنة (مرقس1: 7-11)

 

النص الإنجيلي (مرقس1: 7-11)

 

وكانَ يُعلِنُ فيَقول: ((يَأتي بَعدي مَن هو أَقوى مِنيِّ، مَن لَستُ أهلاً لِأَن أَنَحنِيَ فأَفُكَ رِباطَ حِذائِه. 8 أَنا عَمَّدتُكم بِالماء، وأَمَّا هُوَ فيُعَمِّدُكم بِالرُّوحِ القُدُس)). 9 وفي تلِكَ الأيَّام جاءَ يسوعُ مِنَ ناصِرَةِ الجَليل، واعتمد عن يَدِ يوحَنَّا في الأُردُنّ. 10 وبَينَما هو خارِجٌ مِنَ الماء رأَى السَّمَواتِ تَنشَقّ، والرُّوحَ يَنزِلُ علَيه كَأَنَّهُ حَمامةَ. 11 وانطَلَقَ صَوتٌ مِنَ السَّمَواتِ يقول: ((أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضيت)).

 

مقدمة

 

يصف مرقس الإنجيلي عماد الرب يسوع على يد يوحنا المعمدان في نهر الأردنِّ.  ويشكّل هذا العمد في كل الأناجيل نقطة الإنطلاق في حياة يسوع العلنيّة حيث يُعلن انه جاء خادما (مرقس1: 7-11)؛ وغاية خدمته هي خلاص الانسان من الخطيئة والموت مجتذبًا كل نفس من مملكة الظلمة إلى مملكة النور للعيش في بنوَّة لله. ويَلِيَ عيد عماد الرب عيدَ ميلادِ الرَّبِّ، وفي الزَّمنِ نفسِه ولو مع فارقِ السنين بيَن الحادِثتَيْن. ويعلق القديس مكسيمس أسقف طورينو "في عيدِ الميلادِ وُلِدَ يسوع للبشريّة، واليومَ وُلِدَ جديدًا بالأسرار. هناك وُلِدَ من بتول، واليومَ ولِدَ بحسبِ السِّرِّ. هناك ولِدَ إنسانًا فاحتضنته أُمُّه مريم. واليومَ وُلِدَ بحسبِ السِّرِّ فاحتضنه صوتُ اللهِ الآبِ الذي قال: "هَذَا هُوَ ٱبنِي الحَبِيبُ الَّذِي عَنهُ رَضِيْتُ: فَلَهُ ٱسمَعُوا".  أُمُّه ٱستقبلَتْهُ في حضنِها عندَ ميلادِه، والآبُ يَشْهَدُ له الآنَ شهادةً بَنويّة. قدَّمَتْه أُمُّه للمجوسِ ليَسجدوا له، وقدَّمَه الآبُ للشعوبِ لِيَعبُدوه" (العظة 100، في عيد ظهور الرَّبّ).  ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته.

 

أولاً: وقائع النص الانجيلي (مرقس 1:7-11)

 

7 وكانَ يُعلِنُ (يوحنا المعمدان) فيَقول: ((يَأتي بَعدي مَن هو أَقوى مِنيِّ، مَن لَستُ أهلاً لِأَن أَنَحنِيَ فأَفُكَ رِباطَ حِذائِه

 

تشير عبارة " يُعلِنُ " في الأصل اليوناني ἐκήρυσσεν (معناها ينادي باسم الله او يُبشَر) الى كرازة يوحنا المعمدان بالرسالة التي كلّفه الله بها من أجل الشعب كله: حيث أنه من خلال كرازته تمّت النبوءات في يسوع المسيح (مرقس 1: 3). ويُستعمل هذا الفعل للدلالة على إعلان البشارة (مرقس 1: 14)، وكرازة يسوع العلنية (مرقس 1: 38-39)، والاعمال التي حقَّقها الله على يد يسوع المسيح (متى 3: 1)؛ أمَّا عبارة "يَأتي بَعدي "فتشير الى الرتبة كما هو الامر في الموكب (مرقس 1:17)، وهي تبرز التباين القائم بين رتبة يوحنا ويسوع: حيث أن الذي يأتي بعده هو الأقوى في الواقع. وأمَّا الذي يتقدَّم يسوع أي يوحنا المعمدان فليس هو في الواقع سوى خادم. أمَّا عبارة " أَقوى مِنيِّ " فتشير الى شهادة يوحنا المعمدان الذي اعترف ان يسوع اقوى منه، رغماً أنه أتى بعده في التاريخ. وفي هذا الصدد يقول القديس أمبروسيوس، أحد آباء الكنيسة: " لم يقصد يوحنا بهذه المقارنة إثبات أن المسيح أقوى منه، حيث أن لا مقارنة بين ابن الله والإنسان. إذ يوجد أقوياء كثيرون، فإبليس قوي (مرقس 3: 27)، لكن لا يوجد من هو أقوى من المسيح، ودليل على ذلك أن يوحنا لم يشأ أن يقارن نفسه بالمسيح بقوله: " لَستُ أهلاً لِأَن أَنَحنِيَ فأَفُكَ رِباطَ حِذائِه". والقوة هي من صفات المسيح كما أعلن أشعيا النبي " يَحِلُّ علَيه روحُ الرَّبّ روحُ الحِكمَةِ والفَهْم روحُ المَشورَةِ والقُوَّة روحُ المعرفةِ وتَقوى الرَّبّ" (أشعيا 11: 2)؛ وتظهر قوة يسوع في قهره الشياطين (مرقس 3: 27) والمرض والموت؛ حيث تمتع يسوع بقوة الله القدير، وأقام الموتى، ومنح البصر للعُمي، وشفى الكُسْحان والعُرْج كما شهد الجماهير " فَتَعَجَّبَ الجُموعُ لَمَّا رأَوا الخُرسَ يَتَكَلَّمونَ والكُسْحانَ يَصِحُّونَ والعُرْجَ يَمشونَ مَشياً سَوِيّاً والعُميَ يُبصِرون"(متى 15: 31) وهدّأ البحر الهائج (متى 5: 26)، وغفر الخطايا كما صرّح يسوع لما شفى المقعد " فلِكَي تَعلَموا أَنَّ ابنَ الإِنسانِ لَه في الأَرضِ سُلطانٌ يَغْفِرُ بِه الخَطايا" (متى 9: 6)، وغيّر حياة كثيرين مثل بطرس ويعقوب ويوحنا (مرقس 5: 37)؛ امَّا  عبارة "أَنَحنِيَ "  فتشير الى توضيح بان الخادم الذي يحمل في البيت حذاء سيده القادم من السفر لا بدَّ من ان ينحني أولا ويفك رباط حذاءه ، في حين اكتفى متى الإنجيلي بذكره قول يوحنا المعمدان " أَخلَعَ نَعْلَيْه" ( متى 3: 12)  واكتفى كل من لوقا ويوحنا بقوله " فُكَّ رِباطَ حِذائِه" ( يوحنا  1: 27، ولوقا  3: 16). فكل كاتب بالوحي يكتب بأسلوبه وبتعبيره ما يستلمه من الروح القدس. ولهذا تعبيرات الاناجيل الأربعة تختلف باختلاف اسلوب كل كاتب ولكن تتفق في المعني والمضمون والروح. فهم لم يقدموا حرف كلام يوحنا المعمدان ولكن معنى كلامه. لكن تتفق في المعني والمضمون والروح. فهم لم يقدموا حرف كلام يوحنا المعمدان ولكن معني كلامه. فالتعبير فيه تواضع وتوضيح مكانه المسيح العظيمة التي هي اعلى من اي ملك ارضي وهو مناسب للفريسيين المتكبرين ليخضعوا لرئاسة المسيح. أمَّا عبارة "أَفُكَ رِباطَ حِذائِه" فتشير الى ضيافة وقبول لان فك رباط الحذاء هو تعبير عندما يستضيف أحدهم في بيته شخصيه عظيمه فيحل رباط حذاؤه ويقدِّم له ماء للغسل. وهو أحد اعمال العبيد، ويُعد عملً مُذلا، لا يُفرض حتى على عبد يهودي (يوحنا 13: 4-17). إنها إشارة إلى إعلان يوحنا المعمدان عن اكتشاف سر عظمة يسوع الإلهية، وعن عجزه لإدراك سرّ تجسده، كيف صار كلمة الله إنساناً فلا بد من التواضع وهو مناسب للشعب ليقبلوا المسيح.

 

8 أَنا عَمَّدتُكم بِالماء، وأمَّا هُوَ فيُعَمِّدُكم بِالرُّوحِ القُدُس

 

تشير عبارة " عَمَّدتُكم " الى معمودية يوحنا المعمدان المعروضة على جميع الناس، ولا تُمنح الا مرة واحدة، كاستعداد الى معمودية سيدنا يسوع المسيح (مرقس 1: 8) التي تحتوي على التحوُّل الباطني كشرط جوهري لدخول ملكوت السماوات كما صرّح يوحنا المعمدان "توبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّموات" (متى 3: 2). ومعمودية يوحنا تُشبه الاغتسال الذي كان يُمارس في الدين اليهودي للتطهير من النجاسات الطقسية (مرقس 7: 4)؛ وهكذا كان شأن جماعة قمران حيث كان الاغتسال اليومي، المقتصر على الأعضاء الذين نذروا أنفسهم، ويُعبّر عن مثالهم الأعلى في الطهارة، من غير ان يحلَّ محلّ ما يلزم من التحول الباطني، وهم ينتظرون التطهير الجذري (القانون 2: 25-3: 12). ونجد الفرق بين معمودية يوحنا بالماء، ومعمودية يسوع بالروح القدس، إذ يدعو يوحنا الى التوبة، وعلامة التوبة هي المعمودية في الماء استعداداً لمعمودية يسوع بالروح القدس؛ ومن يُقدِم على توبة حقيقية تنفتح عيناه ويعرف المسيح ويؤمن به، فيقبل المعمودية بالماء والروح ويصير من أبناء الله. أمَّا عبارة " فيُعَمِّدُكم بِالرُّوحِ القُدُس " فلا تشير الى المعمودية المسيحية بقدر ما تشير لعمل الخلاص الذي افتتحه يسوع والتطهير والتقديس بالروح القدس. ويُعلن يوحنا المعمدان تفوق معمودية يسوع بالروح القدس على معموديته بالماء " أَنا أُعَمِّدُ في الماء، وبَينَكم مَن لا تَعرِفونَه، ذاكَ الآتي بَعدِي، مَن لَستُ أَهلاً لأَن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه"(يوحنا 3: 26-27). وهكذا يدعو يوحنا المعمدان الى التوبة، وتبديل حياة، وانفتاح على المسيح الآتي وتمهيدا الى عمل الخلاص والتطهير والتقديس الذي يدشّنه يسوع بمعمودية الروح القدس.

 

9 وفي تلِكَ الأيَّام جاءَ يسوعُ مِنَ ناصِرَةِ الجَليل، وأعتمد عن يَدِ يوحَنَّا في الأُردُنّ

 

تشير عبارة " في تلِكَ الأيَّام " الى خدمة يوحنا المعمدان وبدء إعلان رسالة يسوع العلنية حوالي سنة 27، "وكانَ يسوعُ عِندَ بَدءِ رِسالتِه، في نَحوِ الثَّلاثينَ مِن عُمرِه" (لوقا 3: 23). وهو السن الذي يدخل فيه الاحبار الى خدمتهم، وقد قضى حياته السابقة في الناصرة (متى 2: 23). أمَّا عبارة " ناصِرَةِ الجَليل " (اسم عبري נְצָרֶת معناه القضيب) فتشير الى مدينة في الجليل (مرقس 1: 9) وتبعد 138كم الى الشمال من القدس، لم يرد ذكرها في العهد القديم، إنما ورد ذكرها في العهد الجديد وتكرر 29 مرة.  وأول ما ذكرت في الانجيل؛ وكانت حتى ذلك الحين محتقرة " فقالَ نَتَنائيل لفيلبس "أَمِنَ النَّاصِرَةِ يُمكِنُ أَن يَخرُجَ شيء صالِح؟ " (يوحنا 1: 46).  ومع ذلك كانت مسقط رأس يوسف ومريم (لوقا 2: 39)، وسكنا فيها قبل ميلاد يسوع (لوقا 1: 26-27) ورجعا اليها بعد مجيئهما من مصر (متى 2: 23).  وفيها ظهر الملاك لمريم وبشَّرها بانها ستكون أم المسيح (لوقا 1: 26)، وفيها نشأ يسوع وترعرع (لوقا 4: 16) وصرف القسم الأكبر من حياته نحو الثلاثين سنة الأولى (لوقا 3: 23) ولذلك لُقِّب يسوع الناصري نسبة إليها (متى 21: 11)، و "كانَ يسوعُ يَتسامى في الحِكمَةِ والقامَةِ والحُظْوَةِ عِندَ اللهِ والنَّاس "(لوقا 2: 52). ولكنه لم يلبث ان بدأ رسالته من الناصرة حتى رفضه أهلها مرتين (لوقا 4: 28-31، ومتى 4: 13). أمَّا عبارة "أعتمد " في الأصل اليوناني ἐβαπτίσθη فتشير الى تغطيس في الماء مما يدلُّ على موته وتقدمة ذاته، إذ الماء الذي يرمز الى الموت، صار يرمز بقوة الروح الى الحياة، ويدل على خليقة جديدة (التكوين 1: 2). يتلقى يسوع في أثناء اعتماده وحيا خفيَّا هو في مطلع تبشيره، كما كانت دعوة الأنبياء في مطلع رسالتهم: انه النبي الذي ينزل الروح القدس عليه كما أعلن "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ "(لوقا 4: 18) وابن الله والمسيح الذي أنبأ به العهد القديم.  حيث أن معموديته بالماء ما هي إلاّ فرصة سانحة للوحي الذي يلي وهو شهادة الآب "أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضيت" (مرقس 3: 11). أمَّا عبارة " الأُردُنّ " اسم عبري יַּרְדֵּן (معناه المنحدر) فتشير الى نهر الأردن، وهو الغور المنحدر، حيث انه النهر الوحيد في العالم الذي يجري في انخفاض عن سطح البحر في الجزء الأكبر من مجراه. ويُعد من اهم أنهار فلسطين، وينبع من أربعة منابع: بانياس ودان (تل القاضي) والحاصباني وبراغيت، وتبلغ مسافته من جنوب بحيرة طبرية الى البحر الميت نحو 104كم، أمَّا طول مجراه فيبلغ نحو 321كم. وتجد الكنيسة لها في نهر الأردن موضعًا في المسيح يسوع الذي يهبها البنوة من خلال المعمودية، إلاَّ أنَّ مرقس الانجيلي لا يُركّز على معمودية يسوع بقدر ما يركّز على الوحي الذي تبعها (مرقس 1: 10-11). اما عبارة " عن يَدِ يوحَنَّا " فتشير الى اعتبار يوحنا وخدمته في تعميده للمسيح الذي لم يرتكب الخطيئة (متى 1: 21) من ناحية، وتشير الى اتضاع المسيح (متى 3: 15) وإعلان خدمته العلانية بالمعمودية وبحلول الروح القدس عليه من ناحية أخرى. ويعلق بطريرك أورشليم القدّيس صفرونيوس " اليوم قَبِلَ المولود غير المخلوق طوعًا وَضعَ اليد من قبل ذاك الذي خلقَه بنفسه " (نشيد من الطقس البيزنطي لعيد الظهور).

 

10 وبَينَما هو خارِجٌ مِنَ الماء رأَى السَّمَواتِ تَنشَقّ، والرُّوحَ يَنزِلُ علَيه كَأَنَّهُ حَمامةَ

 

عبارة " بَينَما " في الأصل اليوناني εὐθὺς (معناها في الحال او للوقت) تشير الى تعبير مرقس الإنجيلي الذي تكرر 41 مرة في إنجيله.  أمَّا عبارة "خارِجٌ مِنَ الماء" في الأصل اليوناني ἀναβαίνων ἐκ τοῦ ὕδατος (أي صعد من ماء النهر) فتشير الى المعمودية كصعود مع السيد المسيح من القبر لممارسة الحياة العملية بروح القيامة وقوتها. وتدل عبارة "صعود من المياه"، على الخروج من البحر الأحمر، لكن هذا الخروج لا ينطلق تحت قيادة موسى، بل تحت قيادة سيدنا يسوع المسيح مع شعب الله الجديد المولود خلال الخروج الجديد. وبهذا يتحقق لنا ما اشتاق إليه أشعيا النبي القائل: "ذَكَرَ شَعبُه الأَيَّامَ القَديمةَ وموسى. أَينَ الَّذي أَصعَدَهم مِنَ البَحْر مع رُعاةِ غَنَمِه؟ أَينَ الَّذي جَعَلَ في داخِلِه روحَه القُدُّوس؟ الَّذي سَيَّرَ عن يَمينِ موسى ذِراعَ بَهائِه وفَلَقَ المِياهَ أَمامَهم لِيَجعَلَ لَه اسما أَبَدِيّاً"؟ (أشعيا 63: 11-12). وقد ظهر السيد المسيح خارجا حتى يُعلن أنه منطلقٌ بشعبه الجديد المتحد فيه ليهبه "البنوَّة للآب السماوي"‍! هذه هي أرض الميعاد التي يحملنا إليها يشوع الجديد (يسوع) بعبوره بهم نهر الأردن. امَّا عبارة " رأَى " فتشير الى يسوع الذي رأى ذلك، الشخص الوحيد الّذي يُلاحظ هذا الحدث هو يسوع نفسه: هو وحده يرى السماوات مفتوحة ويسمع صوت الآب. ولكن يوحنا الانجيلي قال انه كان علامة ليوحنا المعمدان تحقق بها ان يسوع هو المسيح " وشَهِدَ يوحَنَّا قال: ((رَأَيتُ الرُّوحَ يَنزِلُ مِنَ السَّماءِ كأَنَّه حَمامَة فيَستَقِرُّ علَيهوأَنا لَم أَكُنْ أَعرِفُه، ولكِنَّ الَّذي أَرسَلَني أُعَمِّدُ في الماءِ هو قالَ لي: إِنَّ الَّذي تَرى الرُّوحَ يَنزِلُ فيَستَقِرُّ علَيهِ، هو ذاكَ الَّذي يُعَمِّدُ في الرُّوحِ القُدُس" (يوحنا 1: 32-33).  وأمَّا عبارة " السَّمَواتِ تَنشَقّ" في الأصل اليوناني " σχιζομένους (معناها انشقت كما تنشقُّ قطعة القماش) فتشير الى انفتاح الأرض على السماء للكشف عن الوحي السماوي، ويكمن هذا الوحي في تدخل الله من أجل تحقيق وعوده، كما جاء على لسان أشعيا النبي "لَيتَكَ تَشُقَّ السَّمواتِ وتَنزِل" (اشعيا63: 19). فقد كانت السماوات مغلقة، وما عاد الله يرسل الأنبياء. وذكر فعل تَنشَقّ في إنجيل مرقس مرّة واحدة فقط، عند موت يسوع، "فَانشَقَّ حِجابُ المَقدِسِ شَطْرَيْنِ مِن الأَعلى إِلى الأَسْفَل (مرقس 15، 38). في يسوع اقتربت السماء من الأرض كما صرّح إسطفانس اول شهداء المسيحية " ها إِنِّي أَرى السَّمواتِ مُتَفَتِّحَة، وابنَ الإِنسانِ قائِمًا عن يَمين الله "(اعمال الرسل 7: 56)، ووصل صوت الله الى البشر كما يقول أشعيا النبي " مِن زَمَنٍ بَعيدٍ لم تَتَسَلَّطْ علَينا ولم نُدعَ بآسمِك. لَيتَكَ تَشُقَّ السَّمواتِ وتَنزِل فتَسيلُ الجِبالُ مِن وَجهِكَ " (أشعيا 63: 19)؛ وأمَّا عبارة " الرُّوحَ يَنزِلُ علَيه " فتشير الى نزول الروح القدس على يسوع الذي هو المخلص الموعود به كما تنبا أشعيا: "هُوَذا عَبدِيَ الَّذي أَعضُدُه مُخْتارِيَ الَّذي رَضِيَت عنه نَفْسي قد جَعَلتُ روحي علَيه"(أشعيا 42: 1).  كان نزول الروح القدس على هيئة حمامة اعلانا ان يسوع هو المسيح وشهادة بمسرَّة الله بعمله. أمَّا عبارة " حَمامةَ " فتشير الى الصورة التي ظهر بها الروح كما جاء في انجيل لوقا "نَزَلَ الرُّوحُ القُدُسُ علَيه في صورةِ جِسْمٍ كَأَنَّهُ حَمامَة " (لوقا 3: 22)، وهي تدل على خلق العالم الجديد الذي تمّ في معمودية يسوع، وذلك وفقاً لتقاليد يهودية، إذ كانت ترى حمامة في روح الله المرفرف على المياه كما جاء في بدء سفر التكوين "ورُوحُ اللهِ يُرِفُّ على وَجهِ المِياه" (التكوين 1: 2).  الحمامة هي الروح حلّ على المياه في بدء الخليقة الأولى (التكوين 1: 3) وهو يحلّ الآن على مياه الأردن ليُخرج الخليقة الثانية، أبناء الله. والحمامة تشير الى الرب الذي يُشبه طيراً يغمر فراخه ليحميها " قد رأَيتُم ما صَنَعتُ بالمِصرِيِّين وكَيفَ حَمَلتُكم على أَجنِحَةِ العِقْبان وأَتيتُ بِكُم إِلَيَّ" (خروج 19: 4).   

 

11 وانطَلَقَ صَوتٌ مِنَ السَّمَواتِ يقول: ((أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضيت))

 

 تشير عبارة "انطَلَقَ صَوتٌ" الى إعلان عام ان يسوع هو المسيح ابن الله، واظهارا لمحبة الاب لابنه محبة عظيمة كانت منذ الازل، وإظهارا لرضى الاب أيضا باعتبار يسوع مخلصا للعالم وقبوله تعالى المسيح وسيطاً في وظائفه الثلاثة أي كونه نبيا وكاهنا وملكا. امَّا عبارة " السَّمَواتِ" فتشير الى سماء واحدة، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " ان تعبير السماوات بالجمع فذلك خاصية اللغة العبرية التي جرت فيها العادة ان تعبّر عن السماء الواحدة في صيغة الجمع הַשָּׁמַיִם "كما يوجد في اللاتينية caeli أيضا. أمَّا عبارة " أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضيت" فتشير الى إعلان الآب انَّ يسوع هو ابنه الحبيب وموضوع مسرّته، ويستعيد هذا القول نبوءة ناثان " أَنَّا أَكونُ لَه أبًا وهو يَكون لِيَ ابنًا. " (2 صموئيل 7: 14).  ويدل هذا الإعلان على قبول الآب لتكريس الابن نفسه ومصادقته على السنوات الثلاثين السابقة في حياته غير العلنية. لكن ينبغي ان لا نفهم من هذه الكلمات ان يسوع قد أدرك لأول مرة علاقته الفريدة بالآب، بل كان مُدركاً لها منذ طفولته كما صرّح يسوع لأبويه "ولِمَ بَحثتُما عَنِّي؟ أَلم تَعلَما أَنَّه يَجِبُ عَليَّ أَن أَكونَ عِندَ أَبي؟ " (لوقا 2: 49).  أمَّا عبارة "ابنِيَ الحَبيب" فتشير الى الجمع بين عبارة "انت ابني" كما قال صاحب المزامير " أَنتَ اْبني وأَنا اليَومَ وَلَدتُكَ " (مزمور2: 7) وعبارة "الحَبيب، عَنكَ رَضيت" كما جاء في نص أشعيا " هُوَذا عَبدِيَ الَّذي أَعضُدُه مُخْتارِيَ الَّذي رَضِيَت عنه نَفْسي قد جَعَلتُ روحي علَيه فهو يُبْدي الحَقَّ لِلأُمَم" (أشعيا 42: 1). وهذا استشهاد من نشيد عبد يهوه المتألم في أشعيا يربط عماد الرب يسوع بآلامه وموته وقيامته. أمَّا عبارة " الحَبيب " فتشير الى موضع معزة الله ألاب الخاصة لابنه الوحيد. وقد وردت هذه اللفظة لأول مرة في انجيل مرقس، وقد تكررت في انجيله (41) مرة.  أمَّا عبارة "رَضيت" فتشير الى اختيار الله ليسوع، موضع معزيته الخاصة كي يُحمِّله رسالة معلناً انه ابنه الوحيد. فكان صوت الآب إعلانا رسميا من الآب للابن، وتصديقا لرسالته وتكريساً علنياً لذاته القدوس لدى شعب الله. وعليه يشير مرقس في هذه الآية الى صورتين نبويتين، صورة ابن الملك داود (2 صموئيل 7: 14) وصورة الخادم (العبد) الذي يأخذ على عاتقه خطايا جماعة الناس (أشعيا 53: 12).  أثناء اعتماد يسوع ظهر الله الواحد بثالوثيه الأقدس: الآب والابن والرُّوح القُدُس. الله واحد ولكنه في نفس الوقت ثلاثة أقانيم: الآب يتكلم، والابن يُعمَّد، والروح القدس ينزل على الابن للدلالة على انه المخلص الموعود به (أشعيا 11: 12). فيسوع هو ابنه الحبيب (مزمور 2: 7) وموضع معزة الله الخاصة (أشعيا 42: 1). وما يتطلع اليه إنجيل مرقس هو الخلاص الذي دشّنه يسوع تطهيراً من الخطايا وتقديساً للشعب.

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (مرقس 1: 7-11)

 

 بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (مرقس 1: 7-11)، نستنتج انه يتمحور حول عماد يسوع على يد يوحنا وميزة هذه المعمودية. ومن هنا نطرح سؤالين: لماذا أعتمَّد يسوع على يد يوحنا؟  وما هي ميزة هذا العماد في ضوء إنجيل مرقس؟

 

1) لماذا أعتمد يسوع على يد يوحنا؟

 

ظهر يسوع عند نهر الاردن كواحد من أولئك الكثيرين الذين جاءوا لمعمودية يوحنا. ويُسجل متى الانجيلي دهشة يوحنا المعمدان وتردُّده " جَعلَ يُوحنَّا يُمانِعُه فيَقول: ((أَنا أَحتاجُ إِلى الاِعتِمَادِ عن يَدِكَ، أَوَ أَنتَ تَأتي إِليَّ؟"(متى 3: 14)، ولكن عندما اصرَّ يسوع أمسك يوحنا جسد يسوع وغطّسه بالماء. ويتساءل القديس كيرلس أسقف الاسكندرية: "هل كان المسيح في حاجة إلى العماد المقدس؟ وأية فائدة تعود عليه من ممارسة هذه الفريضة؟ فالمسيح كلمة الله، قدوس كما يصفه النبي أشعيا في مختلف التسابيح " قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوس، رَبُّ القُوَّات، الأَرضُ كُلُّها مَمْلوءَةٌ مِن مَجدِه" (أشعيا 6: 3). لم يكن يسوع خاطئاً كي يعتمد؛ فقد ورد في الكتاب "إنَّه لم يَرتكِبْ خَطيئَةً ولَم يُوجَدْ في فَمِه غِشّ" (1 بطرس 2: 22)، وفي موضع آخر يصفه الكتاب " قُدُّوسٌ بَريءٌ نَقِيٌّ ومُنفَصلٌ عنِ الخاطئين، جُعِلَ أَعْلى مِنَ السَّمَوات" (عبرانيين 7: 26). والكنيسة الاولى بقيت راسخة غير متزعزعة في إيمانها بعصمته المُطلقة عن الخطيئة؛ انما تعمّد يسوع لثلاث غايات:

 

أ) تعمّد يسوع ليتمِّم كلَّ بِرٍ

 

البِرُ هو الامانة للعمل بمشيئة الله كما صرّح يسوع ليوحنا المعمدان: "دَعْني الآنَ وما أُريد، فهكذا يَحسُنُ بِنا أَن نُتِمَّ كُلَّ بِرّ" (متى 3: 15). لقد حنى السيد المسيح رأسه تحت يد يوحنا المعمدان المتواضعة ليكمل كل برّ أي يتمم مشيئة الله (متى 3: 15). ويعلّقَّ القديس يوحنا الذهبي الفم بقوله: "اليدّ التي أكَّد أنَّها غير مستحقة أن تمس حذاءه سحبها المسيح على رأسه!". 

 

ومشيئة الله هي ويُعلن نفسه خادماً. وبإعلان نفسه خادم الرب يكون اول رفض علني ليسوع للحلم اليهودي بمسيح ظافر سياسي كما توضَّح ذلك التجارب الثلاث مع الشيطان (متى4: 1-11). وبصفته خادم الرب تمَّم يسوع نبوءات العهد القديم بمجيئه الى الارض. وهو لم يأت ملكاً ظافرا، بل جاء خادماً، وقد ساعد البشر بإخبارهم عن الله وبشفائهم، والاكثر من ذلك، فإنه قد بذل نفسه عن الخطيئة فقام بأعظم خدمة. واقتداءً بيسوع، يجب ان نكون على استعداد لخدمة الله والآخرين، فالعظمة الحقيقية في ملكوت الله تظهر في الخدمة والتضحية والأمانة وعمل مشيئة الآب.

 

ب) تعمّد يسوع ليتضامن مع الخاطئين

 

تنبأ أشعيا عن تضامن يسوع مع الخطأة بقوله "أُحصِيَ مع العُصاة وهو حَمَلَ خَطايا الكثيرين وشَفَعَ في مَعاصيهم"(أشعيا 53: 12).  يخضع يسوع لإرادة الآب ويجعل ذاته بتواضع في صفوف الخطأة ولإتمام كل بر. باعتماده وضع يسوع نفسه في عداد الخاطئين، ولا أحداً لاحظ وجوده: فهو واحد من الآخرين، واحد بين كثيرين ليتضامن معهم ويخلِّصهم، وهو البار القدوس ابن الله.  إنه حمل الله الذي يحمل خطيئة العالم.

 

وينبئ عماد يسوع في الأردن لعماده في الموت، فهو صورة للمعمودية العظمى التي تكلم عنها يسوع مع ابني زبدى، يعقوب ويوحنا "أَتستطيعانِ أَن تَشرَبا الكأَسَ الَّتي سَأَشرَبُها؟ (متى 20: 22)، هذه المعمودية التي كان عليه ان يجوزها بموته على الصليب من اجل الخطأة. فقد جعل نفسه واحداً معنا في بشريتنا وحمل على نفسه خطايانا.  هو البار الذي صار ذبيحة عن الخطيئة " ذاكَ الَّذي لم يَعرِفِ الخَطيئَة جَعَله اللهُ خَطيئَةً مِن أَجْلِنا كَيما نَصيرَ فيه بِرَّ الله " (2 قورنتس 5: 21)، وصار لعنة لأجلنا كما جاء في تعليم بولس الرسول: "إِنَّ المسيحَ افتَدانا مِن لَعنَةِ الشَّريعة إِذ صارَ لَعنَةً لأَجْلِنا، فقَد وَرَدَ في الكِتاب: "مَلْعونٌ مَن عُلِّقَ على الخَشَبَة" (غلاطية 3: 13)؛ وهكذا جعل حياته العامّة محاطة بين معموديتين: اعتماده في نهر الاردن واعتماده على الصليب.  فعُمَّاده في نهر الاردن كان بمثابة انتمائه إلى شعبه وإعلان التزامه في تقديم رسالة الخلاص لكل الناس. لذلك اوصى يسوع تلاميذه بان يتذكروا رسالة الخلاص الذي قدّمها على الصليب في كل قداس يقيمونه في العالم بقوله لهم " هذه الكَأسُ هي العَهْدُ الجَديدُ بِدَمي الذي يراق عنكم وعن الكثيرين لمغفرة الخطايا. كُلُّمَا شَرِبتُم فاصنَعوه لِذِكْري" (1 قورنتس11: 24-25). 

 

ج) تعمّد يسوع بهدف تكريس نفسه للخدمة

 

باعتماده بدأ يسوع رسميا خدمته العلنية (يوحنا 1: 31-34)؛ وتسلَّم أوراق اعتماده وقبل رسالة الخلاص واستعد للقيام بها.  وكان الغرض من هذه الخدمة مقاومة قوة الشيطان في الآخرين وكسر شوكته ليُخلص الانسان من الخطيئة والموت وليُعيد اليه نعمة الخلاص والحياة الابدية.  فقد كرّس يسوع نفسه بمعموديته لتنفيذ مهمة الخلاص هذه. وقد أكد يوحنا المعمدان بشكل علني مجيء المسيح وبداية رسالته العلنية من خلال تعميده (يوحنا 1: 31 -31). وحلول الروح على يسوع هو تنصيب له، يطابق ما جاء في نبوءة أشعيا: " يَحِلُّ علَيه روحُ الرَّبّ روحُ الحِكمَةِ والفَهْم روحُ المَشورَةِ والقُوَّة روحُ المعرفةِ وتَقوى الرَّبّ" (أشعيا 11: 2).

 

د) تعمَّد يسوع من أجل أن يكونَ لنا مثالاً لإتباعه

 

 تقدّم المسيح أولا الى المعمودية لتسير الشعوب المسيحية من بعده إليها بثقة وإيمان. ويشهد بولس الرسول بذلك بقوله: "فقد ظهرت نعمةُ الله، ينبوعُ الخلاص لجميع الناس، وهي تعلمنا " (طيطس 2:11). إنَّ عماد يسوع هو مثال لعمادنا. أعلن أنه ابن الله في عماده. ونحن، في عمادنا نصبح حقاً أبناء الله.  فالعماد هو الباب الّذي يجب أن يعبرَه كلّ من يرغب في الدخول إلى الحياة الجديدة، في المجد؛ فبالمعمودية ندخل إلى الإسرار الفصحية: نموت ونقوم مع المسيح ونشارك في موته وقيامته كما جاء في تعليم بولس الرسول: "فدُفِنَّا مَعَه في مَوتِه بِالمَعمُودِيَّةِ لِنَحْيا نَحنُ أَيضًا حَياةً جَديدة" (رومة 6: 4) ويتابع بولس الرسول قوله "فإِذا كُنَّا قَد مُتْنا مع المسيح، فإِنَّنا نُؤمِنُ بِأًنَّنا سنَحْيا معَه" (رومة 6: 9). هناك حقيقتان تعملان باستمرار في حياتنا: الموت والحياة. فنحن نموت باستمرار مع المسيح ونحيا معه موتاً يقود إلى الحياة. ان التاريخ الروحي يُصنع من الداخل وليس من الخارج على مثال حبة الحنطة التي تكلم عنها يسوع: " إنَّ حَبَّةَ الحِنطَةِ الَّتي تَقَعُ في الأَرض إِن لَم تَمُتْ تَبقَ وَحدَها. وإذا ماتَت، أَخرَجَت ثَمَراً كثيراً" (يوحنا 12: 24). من الموت تولد الحياة هذا قانون الطبيعة ومن هنا نفهم كلمات يسوع لتلاميذه: "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صليبَه ويَتبَعْني، لأَنَّ الَّذي يُريدُ أَن يُخَلِّصَ حَياتَه يَفقِدُها، وأَمَّا الَّذي يَفقِدُ حَياتَهُ في سبيلي فإِنَّه يَجِدُها" (متى 16: 24-25).

 

ويشكّل سّر المعمودية في الحياة المسيحية المدخل الوحيد إلى عيش أسرار الكنيسة، من خلال هذا السّر يدخل المعتمد إلى حياة الله التي ظهرت بيسوع المسيح، ويدخل يسوع على حياة المُعمَّد، فيصبح الاثنان شخصاً واحداً. ويصبح عمل الخير من طبيعتنا وتصبح القداسة في متناول أيدينا وضمن إمكانياتنا البشرية. إن سار الإنسان وراء يسوع استطاع أن يعيش ويعمل ويتألم ويموت عن ذاته بنوع إنساني حقاً، مسنوداً من الله، مستعداً لخدمة الناس في السّراء والضرّاء طوال حياته وفي ساعة مماته. وفي هذا الصدد قال القديس كيرلس الكبير "فما عُمد المسيح إلا لتعليمنا بأن الإنسان الذي من ذرية داود وهو المتحد بالله الابن عُمِّد وقَبِل الروح القدس مع أنه لم ينفصل قط عن روحه (القدوس) قبل العماد. بل إذ هو المسيح الكلمة ابن الله الوحيد الذي يشترك مع الآب في العظمة والسلطان، لأنه بطبيعته الابن الحقيقي يرسل الروح القدس إلى الخليقة ويهبه لكل من كان جديرًا به، إذ قال حقًا: جَميعُ ما هو لِلآب فهُو لي " (يوحنا 16: 15). والآن أخذنا المسيح مثلنا الأعلى، فلنقترب من نعمة العماد الأقدس حيث يفتح لنا الله الأب أبواب السماوات ويُرسل لنا الروح القدس، الذي يقبلنا كأبناء له، "أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضيت" (مرقس 1: 11). 

 

ه) تعمّد يسوع ليُقدّس ينابيع المياه

 

تعمد يسوع ليقدِّس ماء المعمودية. فالمسيح قدَّسَ مياهَ نهر الأردن قبلَ أن يُقدِّسَنا ومن أجلِ تقديسِنا. وتحوّلت مياه الأردن إلى ينبوع خلاص من خلال حضور الربّ. ويقول القديس مكسيمس، أسقف تورينو " أعتمد يسوع لا ليُقدَّس بالمياه، بل ليُقدِّس المياه، فيُطهَّر بطهارته كل ما تمسُّه المياه" (العظة 100في عيد ظهور الرب 1: 3). وهكذا تعمّد يسوع ليقدّس ينابيع المياه، ولكي تكون المعمودية التي أمر بها المدخل الى ملكوته، والشرط للالتحاق بكنيسته إذ قال ": ما مِن أَحَدٍ يُمكِنَه أَن يَدخُلَ مَلَكوتَ الله إِلاَّ إِذا وُلِدَ مِنَ الماءِ والرُّوح (يوحنا 3: 5)؛ ويقول القديس كيرلس أسقف الاسكندرية: "اعتمد الرب ذاته... لم يُعَّمد ليُطهر، وإنما ليُطهِّر الماء، فإذ نزل إليها المسيح الذي لم يعرف أية خطيئة صار له سلطان على التطهير، وبذلك فإن كل من يدفن في جرن المسيح يترك فيه خطاياه". وفي هذا الصدد يُصرح القديس بروقلوس، أسقف القسطنطينية: "مياه المعمودية، بقوة يسوع من تعمّد فيها تُعيد الحياة الى الموتى". اما العلامة ترتليانوس فيقول "يا لقدرة نعمة المياه في نظر الله ومسيحه لتثبيت المعمودية! لن تجد لن تجد المسيح بدون المياه!". وقبل صعود يسوع الى السماء أوصى تلاميذه أن يُعمِّدوا جميع الأمم بقوله: "اذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم، وعَمِّدوهم بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرُّوحَ القُدُس" (متى 28: 19).

 

2) ما هي ميزة عماد يسوع على يد يوحنا المعمدان؟

 

تميّز عماد يسوع على يد يوحنا المعمدان، من خلال ثلاثة اختبارات، وهي:

 

 الاختبار الأول: "رأَى السَّمَواتِ تَنشَقّ" (مرقس 1: 10)

 

عندما يقول الكتاب المقدس " تَنشَقّ" فإنه يعني بذلك ان هنالك علامة على انه بالإمكان رؤية الامور السماوية (يوحنا 3: 12-13، وأشعيا 64: 1). عندما انشقت السماوات عند عماد السيد المسيح، إنما تحقق ذلك لأجلنا، صارت أبوابها مفتوحة أمامنا، وأصبحت حياتنا الداخلية ذاتها سماوات مفتوحة يسكنها رب السماء كما يقول القديس كيرلس أسقف الاسكندرية: "انفتحت السماوات فاقتربَ الإنسان من الملائكة المقدسين". السماء تتّحد بالأرض، ويتّحد الربّ بالإنسان، ويتكرّر فعل " تَنشَقّ" في إنجيل مرقس مرّة واحدة فقط، عند موت يسوع، ينشق حجاب الهيكل إلى شطرين (مرقس ١٥، ٣٨) من أعلى إلى أسفل (مرقس 15: 38). والحجاب هو رمز الفصل بين الأرض والسماء، بين الربّ والإنسان وبين المقدّس والنجس.

 

ويكتمل "الشقّ" على الصليب، حين يأخذ الربّ لعنتنا على عاتقه، ليعطينا حياته بالمقابل: وهناك، بالتأكيد، سوف يتحطّم كلّ حاجز؛ فشق حجاب الهيكل عند موت المسيح فهو الدلالة على أهمية موت يسوع لتاريخ الخلاص. فالحجاب المُسدل أمام قدس الاقداس قد انشق هو رمز الدخول الحر الى حضرة الله ودخول الوثنيين في الخلاص كما ورد في رسالة العبرانيين "هو لَنا مِثْلُ مِرساةٍ لِلنَّفْسِ أَمينَةٍ مَتينَةٍ تَختَرِقُ الحِجاب"(العبرانيين 6: 19). ويُعلق القديس ايرونيموس بقوله " رأَى السَّمَواتِ تَنشَقّ". تعبير "رأى" يدلّ على أنّ الآخرين لم يروا: نحن أنفسنا الموجودين الآن في هذا المكان، نرى السماوات مفتوحة أو مغلقة، وفقًا لإيماننا. حيث ان الإيمان الكلّيّ يرى السماوات مفتوحة ولكن الإيمان الّذي يشكّ يراها مغلَقة" (عظات حول إنجيل القدّيس مرقس). في يوم اعتماد يسوع انفتح الفردوس أمام البشر وأشرقت لنا شمسُ العدل كما جاء في نبؤه ملاخي " تُشرِقُ لَكمِ، أَيُّها المُتَّقونَ لِآسْمي، شَمسُ البِرِّ، والشِّفاءُ في أَشِعَّتِها، فتَسرَحونَ وتَثِبونَ كعُجولِ المَعلَف" (ملاخي 3: 20).

 

 

الاختبار الثاني: رأى "الرُّوحَ يَنزِلُ علَيه كَأَنَّهُ حَمامةَ" (مرقس 1: 10)

 

الحمامة كانت ظاهرة للعيان وليست مجرد تشبيه مما يؤكده لوقا الانجيلي بإضافة عبارة "في صورةِ جِسْمٍ " (لوقا 3: 22). وهذه الصورة تربطنا بما جاء في سفر التكوين "ورُوحُ اللهِ يُرِفُّ (كطائر) على وَجهِ المِياه" (1: 2). ها هو يرفُّ على مياه الأردن ليُقيم منا نحن الأموات جسدًا حيًا مقدسًا للرأس القدوس النازل في مياه الأردن. إنه الروح الإلهي الذي يُشكل الشعب الجديد خلال الخروج الجديد! إن المسيح قبِلَ الروح، وذلك كإنسان. ومن حيث إنه إنسان أخذ في ذاته الطبيعة الانسانية كلها ليُصلحها كلها ويُعيدها الى كمالها. ولهذا يهب الآن الآب روحه مُجدّدا للابن، لنحصل نحن به على الروح. ويقول القديس كيرلس: "حلّ أولاً على المسيح الذي قبل الروح القدس لا من أجل نفسه بل من أجلنا نحن البشر، لأننا به وفيه ننال "نعمة على نعمة" (يوحنا 1: 16). والروح القدس يهب الحياة الجديدة.

 

اما في انجيل يوحنا فنجد العبارة " شَهِدَ يوحَنَّا قال: "رَأَيتُ الرُّوحَ يَنزِلُ مِنَ السَّماءِ كأَنَّه حَمامَة فيَستَقِرُّ علَيه" (يوحنا 1: 32). ويعلق القديس ايرونيموس على عبارة "يستقرّ، أي لا يعود يرحل. على الرّب يسوع المسيح، نزل الرُّوح القدس واستقرّ؛ بينما على البشر، ينزل لكنّه لا يستقرّ. في الواقع، هل فعلاً نأمل أن يستقرّ الرُّوح القدس علينا عندما نبغض أخانا أو تكون لدينا أفكار سيّئة؟ إذًا، إن كانت لدينا أفكارٌ صالحة، فلنَعلَم أنّ الرُّوح القدس يسكن فينا، ولكن إن كانت لنا أفكارٌ سيّئة، فهذه علامة على أنّ الرُّوح القدس قد انسحب منّا".

 

الاختبار الثالث "سمع صوت الآب يشهد للابن" (مرقس 1: 11)

 

 منذ بداية الحياة العلنية، أعلن ألآب ان يسوع هو ابنه وحبيبه وموضوع مسرَّته: "أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضيت. في العهد القديم سمعنا الصوت الإلهي خلال نبوءة أشعيا: " هُوَذا عَبدِيَ الَّذي أَعضُدُه مُخْتارِيَ الَّذي رَضِيَت عنه نَفْسي قد جَعَلتُ روحي علَيه فهو يُبْدي الحَقَّ لِلأُمَم" (أشعيا 42: 1). والآن جاء الصوت عينه من السماء تأكيدا أن يسوع هو كلمة الله، الابن الوحيد الذي صار خادماً لتحقيق رسالة الخلاص في مياه المعمودية. الشخص الوحيد الّذي يُلاحظ هذا الحدث هو يسوع نفسه: هو وحده يرى السماوات مفتوحة ويسمع صوت الآب (مرقس 1، 10-11).

 

جاء هذا الصوت من أجلنا نحن حتى نُدرك أننا فيه ننعم بسرور الآب السماوي، ونُحسب أبناء له من خلال مياه المعمودية وعمل روحه القدوس. في هذا الصدد يقول القديس كيرلس: "المسيح هو حقًا ابن الله الوحيد، وحيثُ أنهُ صار شبيهاً لنا أعلنت بنوَّته لا من أجل نفسه، لأنه كان ولا يزال وسيبقى الابن، لكن هذه البنوَّة أُعلنت من أجلنا نحن البشر الذين صرنا أبناء الله، لأن المسيح بكرنا وسندنا. إذ ورد في تعليم بولس الرسول "فإِذا كانَ أَحَدٌ في المسيح، فإِنَّه خَلْقٌ جَديد. قد زالتِ الأَشياءُ القَديمة وها قد جاءَت أشياءُ جَديدة" (2 قورنتس 5: 17). وقد اظهرت هذه المعمودية ان يسوع كانت له علاقة فريدة مع بالله. فمعمودية يسوع اثبتت أنه كان حقاً ابن الله، وان الله نفسه يساند رسالته.

 

وظهر الثالوث الاقدس في عماد السيد المسيح ظهورا متمايزًا، غير منفصل: الابن المتجسد خارجا من المياه لكي يهبنا الخروج من خطايانا من أجل الدخولِ به وفيه إلى شركة مجده، والروح القدس نازلاً على شكل حمامة ليُقيم كنيسة المسيح الحمامة الروحية الحاملة سمات سيدها، وصوت الآب صادرًا من السماء مُعلنا بنوَّتنا له في ابنه، ويقيم منا حجارة روحية لبناء الكنيسة الأبدية. وفي هذا الصدد يعلق القديس ايرونيموس "نرى هنا سرّ الثالوث: الرّب يسوع يعتمد، الرُّوح القدس ينزل بشكل حمامة، والآب يتكلّم من أعلى السماء". هكذا ظهر الثالوث القدوس لبنياننا بالله، لذا دعي عيد عماد السيد بعيد الظهور الإلهي، لكن يجب تأكيد ما قاله القديس أوغسطينوس: "هذا ما نتمسك به بحق وبغيرة شديدة، وهو أن الآب والابن والروح القدس ثالوث غير قابل للانفصال، إله واحد لا ثلاثة" (عظات حول إنجيل القدّيس مرقس).

 

وبالرغم من أننا نجد في نص انجيل مرقس إعلانا صريحا للثالوث الاقدس الاَّ ان التركيز النهائي كان على الابن. فمع ان الله ثالوث فإن اول لقاء للإنسان معه يجب ان يكون دائما في المسيح كما صرّح هو نفسه " لأَنَّكُم، بِمَعزِلٍ عَنِّي لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا شيئاً"(يوحنا 15:5). لا توجد "حياة" روحية ممكنة خارج المسيح: خُلق الانسان ليعيش في "المسيح" ابن الله الحي، حبيب الله كما شهد القديس بولس الرسول بقوله "الحَياةُ عِندي هي المسيح" (فيلبي 1: 21).

 

الخلاصة

 

اقتصر مرقس الإنجيلي على خلاصة مناداة يوحنا المعمدان، فكان كلامه على ذلك أقصر من كلام متى الإنجيلي (متى 3: 7-10) وأقصر من كلام لوقا الإنجيلي (لوقا 3: 7-15) ومضمون تلك الخلاصة امران:

 

الأول: ان مقام يوحنا المعمدان دون مقام المسيح، أي انه لم يكن السيد بل العبد، وأن الفرق بينه وبين يسوع المسيح أعظم من الفرق بين السيد وأدنى عبيده.

 

والثاني: ان خدمة يوحنا كانت استعدادا لخدمة المسيح ودونها، ويظهر ذلك خاصة بمقابلة المعمودية بينهما: يوحنا عمَّد أجساد الناس بالماء، وهو مادة بلا حياة وبلا قوة. وامَّا يسوع فعمَّد نفوس الناس بروح مُحيي غير محدود في القدرة. 

 

وغيّر الله تاريخ البشرية بيسوع المسيح.  وقد اعتمد يسوع لا طلبا منه للتوبة عن خطايا، ولا سعيا منه وراء مغفرة عن ذنوب، لان يسوع المسيح، ابن الله، وابن الانسان، هو برئ من كل خطيئة. وهو الذي يغفر للناس الخطايا والذنوب. إنما باعتماده في نهر الأردن قدَّم لنا متى البشير معمودية السيد المسيح بكونها تدشين أو تتويج للملك الحقيقي الذي يبدأ أعماله الملوكية مجتذبًا كل نفس من مملكة الظلمة إلى مملكة النور خلال التمتع بالبنوة لله (متى 3: 13-17).

 

أمَّا مرقس البشير فإذ يقدم لنا السيد المسيح خادم للبشرية لينتشلنا بحبه إلى التمتع بخلاصه، وأعلن في بداية خدمته العلنية انه ابن الله الذي اتحد بالبشرية وتضامن معها الى حد انه قدَّم جسده ليفتديها. وقدَّم لنا مثالا لنتبعه برسم سر المعمودية الذي هو الشرط الوحيد للالتحاق بكنيسته، والمدخل الوحيد الى ملكوته كما جاء في تعليم يسوع لنيقوديمُس "الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكَ: ما مِن أَحَدٍ يُمكِنَه أَن يَدخُلَ مَلَكوتَ الله إِلاَّ إِذا وُلِدَ مِنَ الماءِ والرُّوح" (يوحنا 3: 5). خُلق الانسان ليعيش في الله، في "الروح". 

 

دعاء

 

أيّها الآب، يوم اعتمد يسوع على يد يوحنا في نهر الاردن، سُمع صوتُك، من السماء الذي يشير الـــى سُكنى الكلمة في ديارنا؛ امَّا روحك القدوس فقد نزل عليه كأنه حمامة كي يرى العالم فيه المسيح المرسل الذي يحمل بُشرى الخلاص الى معشر المساكين، لذا إننا نسألك ان نكون أبناء لك حقيقيين وتلاميذاً مخلصين في سماع صوت المسيح ابنك. آمين.