موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٢٣ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠١٦

على هذه الصخرة، ابني كنيستي

بقلم :
منويل طنوس - الأردن

مرت سنوات وعقود والإنسان يبحث عن وجود الله في حياته، ففي العهد القديم ومنذ بداية الخليقة كان الله يخاطب الإنسان من خلال الأنبياء الذين مروا على هذه الأرض على مدى العصور، ورأينا كثيراً من البشر من قبلوا دعوة الله ومنهم من رفضها، ومع مرور الوقت ومع بداية العهد الجديد تحديداً خاطب الله الإنسان عن طريق ابنه الوحيد الذي أرسله إلى هذا العالم من أجل خلاص الإنسان، وفي حياته العلنية أسس المسيح الكنيسة الأولى عندما وعد يسوع تلاميذه بتأسيس كنيسته على صخرة الإيمان وكان ذلك أثناء حديثه إلى بطرس "طوبى لك يا سمعان بن يونا، ليس اللحم والدم كشفا لك هذا بل أبي الذي في السموات، وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً فى السماوات وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً فى السماوات" (متى 16: 17-19) المسيح هو رأس الكنيسة، هذا الأمر لا جدل فيه، ونحن كمؤمنيين أعضاء في جسد المسيح الواحد، لكن لماذا وجه المسيح هذا الكلام لبطرس؟ ما المقصود بالصخرة؟ وما الذي يريده المسيح هنا؟ ما العبرة الروحية من هذا الكلام؟ لنبدأ من عند بطرس، عندما قال يسوع لتلاميذه "وانتم من تقولون أني أنا؟ فأجاب سمعان بطرس وقال أنت هو المسيح ابن الله الحي" (متى 16: (16، هذا الرد كان واضحاً هو الإيمان بأن المسيح أنه إبن الله الحي أي الله المتجسد بصورة إنسان (ابن الله) الذي سكن بيينا (الحي بيننا)، هنا بطرس يشهد على لاهوت يسوع وكان هذا الاعتراف الأول بعد يوحنا المعمدان بالوحي الإهي، ففي هذل السياق كان رد بطرس عظيماً مبني على قوة إيمانه وبنعمة خاصة من الروح القدس تسلم بطرس إعلاناً من الأب السماوي بما نطق به وهذا واضحاً في قول المسيح له "طوبى لك يا سمعان بن يونا، ليس اللحم والدم كشفا لك هذا بل أبي الذي في السموات". ومن الجانب الأخر رد يسوع على بطرس "أنت بطرس (الصخر)، وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي...." (متى 16: 17)، إختلف تفسير هذه الآية بين الكنائس المسيحية، فالكنيسة الكاثوليكية إستندت إلى هذا النص وبنت عليها تعاليمها القائل بأن خلفاء بطرس هم من يرثون الرئاسة، أما الكنيسة الأرثوذكسية ترى أن جميع الأساقفة المعترفين بالإيمان القويم في أبرشيتهم هم خلفاء بطرس وخلفاء سائر الرسل، أما بعض المفسرون لا ينكرون ما كان لبطرس من أهمية في نشأة الكنيسة، لكنهم يرون أن يسوع هنا لا يستهدف إلا شخص بطرس، لكن دعونا نتأمل قليلاً في هذه التفسيرات لنجد القاسم المشترك ونأخذ العبرة والجوهر لا الحرف، كلنا نعلم ونتفق أن المسيح هو رأس الكنيسة، وأن المسيح أراد أن يبني كنيسته على صخرة الإيمان، فالكنيسة هي الجماعة الجديدة التي أسسها المسيح والتي أصبح بطرس صخرتها، حيث أعلن المسيح للتلاميذ جميعاً أن سمعان بن يونا هو "صخر" والتي تعني "بطرس"، ليكون بطرس صخرة إيمان التي سيبني عليها كنيسته من ناحية وليؤكد على الإيمان الذي شهد به بطرس هو أن المسيح ابن الله الحي من ناحية أخرى، هذا الإيمان الذي يقود كنيسة المسيح إلى أبد الأبدين، هذا الإيمان الذي قاد بطرس ورفاقه (أقصد تلاميذ المسيح) لنشر الكرازة في أرجاء المسكونة كما رأينا في أعمال الرسل، الذي بدوره يقود خدام الكنيسة إلى يومنا هذا، ففي هذه الكلمات أيضاً شبّه الرب كنيسته بالبناء وإن المؤمنين هم الأحجار الحية التى تُكوّن هذا البناء، حيث إستخدم الرب بطرس في ضم الآلاف إلى الكنيسة ليكونوا أحجاراً حية ثمينة فى هيكله العظيم، وقد رأينا في أعمال الرسل كيف كان كالصخرة الثابتة فلم يتراجع عن نشر رسالة المسيح رغم الإضطهاد والحبس الذي تعرّض له، لكن بطرس لم يكن الوحيد فرأينا أيضاً في أعمال الرسل كيف إستخدم الرب جميع الرسل والتلاميذ الذين كانوا صخرة إيمان في كنيسته، حيث نشروا الرسالة والبشارة في أنحاء المسكونة رغم كل الظروف والإضطهادات، وهذه رسالة موجهة لكل عضو في كنيسة المسيح أن نكون كالصخرة، نعم كالصخرة، فإن الرب يريد أن يستخدمك أنت أيضاً فى بناء كنيسته لتكون إحدى الأحجار الحية الجديدة في هيكله العظيم. "أبواب الجحيم لن تقوى عليها"، لقد أسس يسوع كنيسته على الصخرة، لن يستطيع أحد مهما كانت الظروف أن يقوى عليها، لكنه لم يكتفي بذلك، فبعد صعوده إلى السماء وفي يوم العنصرة تحديداً، حل الروح القدس على التلاميذ وكانت مريم العذراء معهم، فكانت هنا بداية رسالة التلاميذ لنشر كنيسة المسيح، فأصبحوا يعملون ويتكلمون بلغة الروح القدس، وأهم ما كان يميز تلك الكنيسة أنها كانت تعمل بروح واحدة دون وجود أي خِلاف بينهم، حيث رأينا كيف كان الرسل في حياة مشتركة وفي وحدانية كاملة ومن أجل هذا كانوا في قوة عظيمة، ورغم أن إبليس بمحاولات عديدة أراد أن يقسم الكنيسة لكن روح الوحدانية التي كانت تؤلف بين الرسل لم تدع الفرصة لإبليس أن يتمكن منها، المسيح إنتصر على الموت (أبواب الجحيم) في سر الخلاص على الصليب وقيامته من الأموات، كذلك كنيسته التي يقودها منذ الأزل بصلواتها وتسابيحها تهاجم أبواب الجحيم وتنتصر على الشيطان رغم الظروف التي من حولها، حيث أعطى المسيح سلطان الحل والربط لكنيسته ذلك بالوعد الذي أعطاه يسوع لبطرس وللكنيسة جمعاء، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً فى السماوات وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً فى السماوات، إذن المسيح من خلال كنيسته يحل ويربط، والربط هو لمن يصر على خطيئته، والحل هو لمن يتوب ويعترف بخطاياه، فكل إنسان يتوب ويعترف بخطاياه ويؤمن بأن المسيح إبن الله الحي يكون له نصيب في الحياة الأبدية وستفتح له ملكوت السماوات. لكل عصر وزمان مشكلاته وتحدياته وأزماته وأيضاً حسناته وميزاته، وإذا كنا نتحدث عن التحديات التي تواجه الكنيسة اليوم فما هي إلا واقع وأحداث أو تجارب متأزمة تواجهها الكنيسة مهما كانت الظروف، وتحاول الخروج منها بحلول مناسبة دون خسائر، مع أن هذه التحديات التي تواجه الكنيسة تؤثر على جماعة المؤمنيين لأننا بالنهاية بشر، نتأثر بالظروف التي من حولنا، فالإضطهاد التي تواجهه الكنيسة اليوم ليس أمراً جديداً، حيث أن الصراع بين الكنيسة والعالم موجود في كل جيل ومازال مستمر حتى يومنا هذا، فرأينا كيف إضطهدوا المسيح في حياته وصلبوه، ثم إضطهدوا الكنيسة التي أسسها، وإضطهدوا التلاميذ والرسل في وقت كانت البشارة مستمرة في نشر الثقافة المسيحية في العالم، واليوم يضطهدون الكنيسة وأبناءها بطرق بشعة لا علاقة لها بالإنسانية، حيث يبدو أنّ العالم ينتصر عليها، أمّا في الواقع، فهي الّتي تنتصر، غالباً ما يفقد أعضاؤها الأمل بسبب الظروف التي من حولها، لكنّ الكنيسة باقية. في هذا الوقت، أمور كثيرة تمتحن إيماننا، فإننا لا نرى المستقبل، لا نرى أنّ ما يبدو الآن انتصاراً وتباهياً لن يدوم طويلاً، نرى اليوم فلاسفة وعشائر تتمدّد وتزدهر، الدول والمدن تؤسَّس وتنهار، الأمم تنتشر وتتقلّص، كذلك نرى التحالفات والأحزاب والمؤسّسات والفلسفات والبدع والهرطقات كلها تصنع وتنحلّ، كلٍ منهم لهم زمنهم، أمّا الكنيسة فهي أزليّة، مهما كانت الظروف فهي باقية، موجودة ومنتشرة في أرجاء المسكونة كلها على مدى الزمان منذ أن تأسست. وفي سياقٍ أخر لقد واجهت الكنيسة تحديات كثيرة في الأونة الأخيرة مع وجود الجمعات المتطرفة التي هدمت كثير من الكنائس التاريخية في الشرق الأوسط والعالم، التي تعبر عن حضارتنا المسيحية، ومن هنا ما الذي نحتاجه نحن المؤمنين في هذا الوقت لاسيما أن الكنيسة لا بل المسيحيين جميعاً يواجهون آلام الهجرة من أوطانهم حاملين صليب المسيح من بلدٍ إلى آخر بإيمانهم القوي الصامد لمواجهة كل الصعوبات وكأنهم يبنون كنيسة حية في قلوبهم يملؤها الإيمان بالمسيح يسوع الحي، كما قال البابا فرنسيس "نحتاج كنيسة قادرة على بث الدفء وتحريك القلوب"، في ظل هذه التحديات التي أمامنا يجب علينا جميعاً أن نتحد مع المسيح في الصلاة من أجل شرقنا الجريح الذي ينزف آلماً على أبنائه، وبذلك نحن نحتاج إلى أن نبني كنيسة البشر وليس كنيسة الحجر، فالكنيسة هي مجموعة من المؤمنين تصلي مع بعضها البعض في أي مكان إجتمعت، فإذا هدموا كنائسنا فهذا الأمر لا يوقفنا إنما يعطينا قوة ويزيدنا إيماناً بربنا يسوع المسيح. نحن اليوم جزءً من الكنيسة المجاهدة على هذه الأرض الفانية، الكنيسة التي تجمع أبنائها حول مائدة الرب، تصلي مع بعضها البعض وتقدم قرابينها إلى الله، ومن هنا فليَسطع نورنا وليشع بالأعمال الصالحة على هذه الأرض وننشر ثقافة المحبة والسلام بين البشر، حتى يأتي الوقت الذي ينقلنا الله من ظلمة هذا العالم إلى النور والمحبّة الأبديّين حيث كنيسة السماء، وإن حفظنا تعاليم المسيح وعملنا بها، لن تتمكن خِدع الشرير الكاذبة من هزمِنا أبداً، وبصفتنا خداماً متيقظين في كنيسة المخلص، سوف نَملكُ مع يسوع المسيح المُنتَصِر وتبقى كنيستنا منتصرة ولن يقوى عليها أبواب الجحيم ولن يكن للموت عليها من سلطان، هيا يا كنيسة المسيح نرجم أبواب الجحيم معاً بالصلاة والإيمان بغض النظر عن الفرق المذهبي المسيحي، لأن في الدفاع عن الحياة نعطي المعنى الحقيقي للوحدة المسكونية في العالم وبها ندافع عن أي حقّ إنسان بالحياة بغض النظر ايضاً عن إيمانه، طائفته أو ديانته، فليس من شأننا أن نحكم على فلان وندين فلان، إن هذا شأن الله وحده، وليس شأننا، ففي هذا العصر هنالك شرّ كبير تواجهه الكنيسة، البدع والهرطقات والإنقسامات من جهة وآفات العصر مثل الإجهاض، والمخدرات والزواج المثلي، والإرهاب الذي يهددها دوماً من جهة آخرى، التي يجب العمل على إيقاف هذه المشاكل بطرق سلمية وإنسانية ولا ندع أبواب الجحيم ان تقوى علينا مهما كان الثمن، ومن هنا يجب السعي إلى وحدة الكنيسة، وحدة الطوائف المسيحية التي نحن بحاجة ماسة إلى ذلك في أسرع وقت، لترجع كنائسنا على مثال الكنيسة الأولى التي أسسها المسيح التي لا تعرف الشقاق ولا الإنقسام، بل تعمل بروحٍ واحدة وقلبٍ واحد في كنيسة المسيح من أجل مواجهة كل هذه الظروف. أجل، أبواب الجحيم لن تقوى عليك يا كنيسة المسيح، لأنها بُنيت على صخرة الإيمان، إنها الصخرة التي لا تعرف الهزيمة، تصلي وتسجد لملك السلام، وتحمل صليب المسيح أينما وجدت، فما بني على الصخر لا يتزعزع أبداً، إنها القلب الذي يجمع أبناء الله الذي ينبض بمحبة وسلام المسيح، إنها عروس المسيح الذي كللها بالمجد والكرامة، وألبسها الحرية، حرية أبناء الله، وعقيدتها هي الحب الطاهر الذي يعشق العطاء حتى بذل النفس من أجل الآخرين، إحملي صليبك دائماً وأبداً، لأنه القوة التي تجعلنا نقف أمام كل شر وخطيئة، أصبري وإزرعي السلام والمحبة في القلوب المغلقة، إفرحي وأقرعي أجراسك في حميع أنحاء المسكونة، إنهضي ولا تقلقي، إن الله معك منذ الأزل، وحتى نهاية العالم.