موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٤ أغسطس / آب ٢٠٢١

عربون المجدِ الّذي سَيَتجلّى فينا

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
في عيد انتقال السيدة العذراء بالنفس والجسد إلى السماء

في عيد انتقال السيدة العذراء بالنفس والجسد إلى السماء

 

في مِثلِ هذا اليوم من عامِ أَلفَين وثمانية عشرة، اِسْتَلَمتُ مَهامي ككاهنٍ وراعٍ لرعيّة سيّدة الوردية في الكرك. وفي مِثلِ هذا اليوم أيضًا، اِحتفلتُ بِقُدّاسيَ الأوّل على مذبح هذهِ الكنيسةِ المكرّسةِ على اسمِ العذراء المجيدة، قبل أَربع سنين خَلت. خِلالها تَغيّرت أمورٌ كثيرة، وَتَبَدّلتْ أشياءُ كثيرة، مِنها ما كانَ للأفضل، ومنها ما لَم يكن كذلك ربّما! خِلالها أَيضًا وجوهٌ فَقَدنَاها، وَأَحبّةٌ غَادَرونا وانتقلوا بدورِهم...

 

على كلِّ هذهِ السّنوات، بِحُلوِها ومُرِّها، بِسَهلِها وصعبِها، بخيرِها وشرِّها، نَشكرُ الله! سَائِلينَه تعالى، بِشَفاعةِ العظيمةِ في النّساء، الّتي جِئنا اليوم لِنَحتفِلَ سويّة بعيد انتقالِها المجيدِ إلى السّماءِ بالنّفس والجسد، أن يجمعَنَا نحن أيضًا في دار الخُلد، حيثَ هي قَد سَبَقَتنا، لِنَتمتّعَ بالمجدِ الأبدي وبملكوتِ السّلام، الّذي أعدّه لنا نحنُ المباركين، قبلَ إنشاءِ العالم (متّى 34:25).

 

هذا العيدُ أحدُ أَحَبِّ الأعيادِ على قلوبِنا نحنُ المؤمنين، فهوَ قبلَ كلِّ شيء، عربونُ رجاء، ووسيلةٌ بِها نَذكرُ أنَّ حَيَاتَنا لا تَقتصرُ على هذا الدّهر، بل يَنتَظِرُنا: "ما لَم ترَه عينٌ، ولا سَمِعَت بِه أُذنٌ، ولا خَطَرَ على قلبِ بَشرٍ، ذلِك ما أعدَّهُ الله لِلّذينَ يُحبّونَه" (1قورنتوس 9:2). والعذراءُ أمُّنا بانتقالها المجيد، إنّما صارت ضمانة لنا جميعًا لِمَا نَنتَظِرُه: "في الرّجاء فَرِحين، وفي الشِّدةِ صَابرين، وعلى الصّلاة مواظبين" (رومة 12:12)

 

عقيدةُ الانتقال هي تعزيزٌ لإيمانِنا بقيامةِ الموتى وقيامتِنا نحن أيضًا، بَعدَ انقضاءِ هَذهِ الغُربةِ الأرضيّة. فَلِماذا إذا نؤمنُ ونحيا مسيحيّين ونجاهِدُ الجهادَ الرّوحيّ، إنْ كانَت حياتُنا مُقتصِرَةً على هذا الدّهر، وفي هذا العالم فقط؟ هل خُلِقنَا لِنَأكلَ وَنَشرب ثمَّ غدًا نموت؟ هل هذهِ هي الغايةُ من حياتِنا؟ بِئسًا لهذه الحياة إذًا.

 

كلّا أيها الأحبّة، نحنُ هنا اليوم، لأنّنا نؤمن أَنّنا في الغَدِ سنكونُ حيثُ العذراء الآن تكون، حيثُ: "سَيَمسحُ اللهُ كلَّ دَمعةٍ مِن عيونِنا، وللموتِ لَن يَبقى وجودٌ، ولا للحُزن ولا للصُّراخِ ولا للألم" (رؤيا 4:21).

 

أمّا إيمانُنا فيقول: أنَّ اللهَ أَنعَمَ على مريم بإكرامٍ فريد، فَلمْ يسمحْ لِفَسادِ القبور، الّذي يختبرُه كلُّ بشر، أن ينالَ من جَسدِ العذراءِ الطّاهر، بل خَصّها بإنعامٍ حينَ نقلَها إلى حضرتِهِ نفسًا وجسدًا بعدَ رُقادِها. فهذا العيد الّذي يُدعى عيد الانتقال أو عيد رُقادِ السّيدة، يُركّز على حقيقةٍ واحدة: أنَّ الفساد لم يَنَل من العذراء مريم! وهو ما أصبح عقيدةَ إيمانٍ أعلَنَها البابا بيوس الثّاني عشر سنة 1950، حين أعلنَ بِلسانِ الكنيسةِ الجامعة: "إنَّ أمَّ اللهِ الطّاهرة، في خِتامِ حياتِها الأرضيّة، قد نُقِلَت نفسًا وَجسدًا إلى المجدِ السّماوي"

 

أمّا التقليدُ المتداول من أيّام الرسل، فيقول: أنّ مريم اِنتَقَلَت إلى السّماء بعد صعودِ المسيح بخمسة عشر عامًا. إذ أَسلَمَت روحَها ثم دُفِنَت في قبرٍ يَقعُ في منطقة الجسمانية في القُدس. وعلى مَدارِ ثلاثةِ أيّام، كانت تُسمَعُ أصواتُ ترتيلٍ، وتَنبَعِثُ رائحةُ بخورٍ من ذلكَ المكان، الّذي وُضِع فيه جسدُ مريم. بعدها توقَّفت الأصواتُ وانقطَعَت رائحة البخور.

 

خلالَ تلك الفترة كان القدّيس توما غائِبًا يُبشِّرُ في بلادِ الهند. فلمّا عاد طلبَ إلى الرّسلِ فَتحَ القبر، بناءً على رؤيا شاهدها وهو هناك. إذْ رأى جسدَ العذراء محمولًا بينَ يديِّ الملائكةِ. فَلمّا فتحوا القبر، وَجدوا أنَّ الجثمانَ لَم يَكُن في داخِلِه. فَقَرَّرَ الرّسلُ الصّيام، وَاستَمَرَّ صومُهم خمسةَ عشر يومًا، سائلينَ الرّب أن يُنعِمَ عَلَيهم بمشاهدةِ ما حدث. فاستجابَ الربُّ طلبَهم وَأَوحى إليهم بأنَّ جَسَدَ العذراء محفوظٌ في السّموات. فصارَ الصّيام تقليدًا يسيرُ عليه الكثيرون حتّى اليوم، وَأَصبَحَت هذه الحادثة اِحتِفالًا هامًّا نُقيمُه في الخامس عشر من آب، في كلِّ عام.

 

مِن تَقاليد هذا العيدِ مباركة ثمرِ الحقول. والصّحيحُ أنّ هذا كانَ تقليدًا مُتّبعًا منذ القرونِ الأولى للمسيحية. إذ كان المؤمنون يقدّمونَ الخبزَ والنّبيذَ للذّبيحةِ الإلهيّة، بالإضافة إلى تَقديمِهِم محاصيلَ وثمارًا أخرى كالقمح والزّيت والعسل والعنب والتّين، ومُشتقّاتِ الحليب والحيوانات. كما نَجَدُ نصوصًا ليتورجيّة قديمة لمباركة بواكير المحصول: كالعنب والتّين والرّمان. فالكنيسةُ مِن خَلال صلواتِها تُذكِّرُ المؤمنين بأنَّ اللهَ هو الْمعطي، فَجَعَلت من هذه العادة تَعبيرًا عن شكرِ الله على نِعَمِه وعطاياه.

 

وقَد جَرَت العادةُ أن تتمّ رُتبة التّبريك إمّا يومَ عيد التّجلي في السّادس من آب، وإمّا في الخامس عشر من آب يوم عيد الانتقال، وإمّا في الرّابع عشر من أيلول يوم عيدِ ارتفاعِ الصّليب. أي أنَّ تبريك الثّمار كان مرتبطًا بعيدٍ هام يقعُ في فترةِ الصّيف، حين تنضجُ ثمار الحقول. وهذا عمل ليتورجي بامتياز، فهو نشيدُ حَمدٍ لله مُعطي الهباتِ ومُفيضُ المواهب.

 

أيها الأحبّاء، وَعدنا المسيحُ قائِلًا: "إنّي ذاهبٌ لِأُعدَّ لكم مُقامًا" (يوحنّا 2:14). نحن نحيا بموجبِ هذا الوعد، عالِمين أنَّ الّذي وَعَدَ صادقٌ وقولُه حق. وعالِمينَ أيضًا أنَّ مريم قَد أَتمّت شَوطَها، وبَلَغَت ذلك المقام الأبدي، فحيثُ الرّأس هناكَ يكونُ الأعضاء. وليسَ الرّأسُ فقط، بَل الأمُّ أيضًا.