موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١٠ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٠

ظهر رجل أرسله الله، اسمه يوحنا

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
ظهر رجل أرسله الله، اسمه يوحنا

ظهر رجل أرسله الله، اسمه يوحنا

 

الأحد الثالث للمجيء (يو 1: 6-8 و19-28)

 

المسارح والتمثيل وإقامة الألعاب الترفيهية كانت من ضمن الحياة في المستعمرات اليونانية كما والرّومانية. نفهم ذلك من خلال المسارح الكبيرة التي تركوها لنا، والمعروفة تحت اسم (المدرّجات الرّومانيّة) وذلك لتسلية الشعب، وإبعاد أنظاره عن بذخ حكامه وفُسقهم. هذا وقد برزت وجوهُ ممثلين وأبطال رياضة في ذلك الزّمان، كما الحال في هوليوود اليوم أو في الألعاب الأولومبية في زماننا. بهذا المعنى برزت شخصية، قبل ظهور المسيح المخلّص، على المسرح الدّيني، ألا وهي شخصية يوحنا. المنصّة والمسرح، ما كانت ساحة الهيكل في أورشليم، حيث كانت يوميا تعج بالزوار، كساحة الفاتيكان اليوم، بل صحراء ضفة نهر الأردن الشرقية، حوالى 30كم شرقا من أورشليم حيث اُكْتِشِفَتْ أشْهَرُ آثار في العالم، وهي مكان عماد يسوع من يوحنا. فكما نقرأ في مرقس: "وخرج إليه جميعُ كورة اليهودية وأهلُ أورشليم واعتمدوا جميعهم منه، في نهر الأردن معترفين بخطاياهم" (مر 1: 5).

 

في الثمانينات من القرن الماضي، حيث انتشرت محطات التلفزيون وراحت تضارِب على بعضها البعض وتحاول اسستقطاب مشاهدين، اهتمّت أكثر المحطات ببرامج شعبية، وهي المقابلات والحديث عن أي موضوع يهمُّ المستمعين، فكان المشاهد يُمضي ساعات بعد الظهر يتنقل من محطة إلى محطة، لسماع أراءٍ وأفكارٍ ودردشات عمّا هبّ ودب. هذه المحطّة عرفها يوحنا واستغلّها لإيصال رسالته: "كان رجل مرسل من الله اسمه يوحنا" (يو 1: 6), موضوع كرازته كان على الجرح، أي مجيء المخلص، والشروط المطلوبة لاستقباله والتّعرُّف عليه. فهل يا ترى أتقن يوحنا دوره بدِقّة، حتى يستأهِل مديح المسيح له. لم يولد بين نساء العالمين أعظم منه، فهو ليس فقط نبي بل وأعظم من نبي. ألم يعبّر عن ذلك الرسّام الألماني Matthias Grünwald قبل 500 سنة برسمته المشهورة ليوحنا، بإصبعه الطويل الضخم، الذي يُشير فيه على يسوع، حينما قال: هوذا حمل الله... يظهر إصبعه كبيرا، لأنه يشير على النبي الأعظم الذي سيأتي بعده. يشير به على ذاك الذي سيقول عنه بطرس: "ليس بأحد غيرِه الخلاص، لأنَّ ليس إسمٌ آخرٌ تحت السّماء، قد أُعطي بين النّاس، به ينبغي أن يخلص" (أعمال 4: 12). هو نور العالم، والذي سيضيء كلَّ إنسانٍ آتٍ إلى العالم. هذه الشهادة عن يسوع، أنه المخلّص، يجب أن تبقى حيّة في العالم وفي الكنيسة. أما يوحنا الذي يجب أن يبشِّر به، فهو كلُّ مسيحي، معمّد ومثبَّت، عليه أن يشهد له في قوله وفي حياته.

 

كطالب في السبعينات من القرن الماضي سافرت بسيارتي من روما إلى ألمانيا، وكان أغرب ما شاهدت على  نقطة التفتيش للعبور إلى ألمانيا، انني من بعيد رُحت أشاهد شخصا واقفا يُشير باصبعٍ مضيء، الأرقام 1 أو 2 أو 3، وهي نقاط التفتيش الفارغة، ليأخذها السائق. ولمّا اقتربت من هذا الشخص إذا به فقط تمثال ألكتروني مُبرمَج، مرتبط بكمرةِ مُراقبة، تريك خط السير، الذي يجب أن تأخذه للتفتيش. فهذا التمثال أو الصنم المُجهّز بتعليمات ألكترونية واضحة، يقف أمامنا في زمان المجيء بشخص حي، هو يوحنا المعمدان، يشير علينا بصوته وتعليمه، ماذا علينا أن نفعل، لنعيّد عيد الميلاد بأمان وسلام.

 

في زمن المجيء تُقدّم لنا الكنيسة وجوه أنبياء عديدين، اختارهم الله، على مدار التاريخ السابق لميلاد ابنه المخلص، لكي لا ينسى البشر أن الله، بعد خطيئة آدم وحواء أبوينا الأوّلين، والتي مسّت جميع أبنائهم وعدهم بمخلّص. من هؤلاء الأنبياء مثلا أشعيا، الذي تُسمِعُنا الكنيسة صوته في رسائل هذه الآحاد. نبوآته التي جاءت لأكثر من 450 سنة قبل ميلاد المخلص، وهو لم يكن رآه، تصف بالتفصيل مجرى حياة هذا المخلص. أمه ستحبل به وتبقى عذراء. بمجيئه ستتم عجائب: العمي يبصرون والصم يسمعون والبكم ينطقون والموتى يقومون... أما وصفه لموته على الصليب فهو دقيق كما لو كان حاضرا. وهذا إرميا الذي قد بعث قليلا من الأمل بنبوءته "الشعب السالك في الظلمة سيرى نورا". بعد كل هؤلاء الأنبياء جاء آخِرُهم يوحنا. وهو النبي السابق، الذي كان واقفا على ظفاف نهر الأردن، يعلّم، ويشير على الناس الذين أتوا لقبول معمودية التوبة منه، واستشارتَه عن كيفية التحضير، لاستقبال المخلِّص المنتظر، كما والتّعرُّف عليه، هو كان بينهم لكنهم لم يكونوا عرفوه بعد. يوحنا أخر أنبياء العهد القديم، وأوّلهم في العهد الجديد، قد أُرْسِل ليهيء الطريق ليسوع، ويشهد للنور، الذي سيشع على العالم بدخول يسوع إليه. إن منظره الخارجي لم يكن قادرا أن يُقنع الناس، أنه أكبر أنبياء الله، كما قال عنه يسوع: "الحق أقول لكم، لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان" (متى 11:11). "لباسه كان من وبر الإبل، وعلى حقويه منطقة من جلد، وكان طعامه جراداً وعسلاُ بريّاً" (متى 3: 4) ومن علامات النبي، كما قالت التوراة في مكان آخر، انه كان مُحرَّماً عليه، شربُ الخمور وقصُّ شعره.

 

هذا ولأنه كان يُبشِّرُ بحماس، وجواباته مُقنعة، للذين كانوا يسألونه، افتكره  الكثيرون أنّه هو النّبيُّ المنتظر، وإذ لم تكن هناك من إثباتاتٍ واضحة، أرسلوا له يسألونه: من أنت؟ فأعطاهم الجواب الحاسم: أنا لست المسيح. هو يأتي بعدي، وأنا لا أستحق أن أحلَّ سير حذاءه. أنا جئت لأشهد للنور، أعدّوا طريق الرب. توبوا فقد اقترب ملكوت الله. اصنعوا سبله قويمة (متى 3: 3). هذه بعض من جواباته، ليُزيل الشك من عقولهم، ويوجّه أنظارَهم إلى النبي المنتظر. إن الفريسيين في مجمع كفرناحوم ـخطِؤا اليوم، إذ لم يكتشفوا في يسوع إلا ابن مريم ويوسف النّجار. لقد حاول يوحنا منذ البداية أن يضع لهم الصورة الحقيقية عن المخلِّص. هو ابن الله الأبدي: أنظروا! هوذا حمل الله، الذي يحمل خطايا العالم (يو 1: 29).

 

كلمات يوحنا هذه، هي أول كرزة  واضحة مقنعة عن يسوع. أسمعها وحَمَلَها بصوته قدام جماهير متلهّفة لسماع أي خبر عن مجيء المخلّص المنتظر. وفي هذه الوعظة يشهد يوحنا ويؤكِّد، بل ويعترف للعالم أن هذا المُخلِّص المنتظر، هو ابن الله. إنّ يوحنا لم يقصد أن يكسب شهرة لنفسه على حساب المخلّص، الذي سيأتي بعده: أنا فقط صوت ينادي! وما أراد من السامعين أن يسمعوه فقط، بل أشار بإصبعه عليه: هوذا... فيا حبّذا لو تحلّينا بروح يوحنا هذه الأيام، بل ولبسنا روحه، لنبشّر للأجيال الناشئة، بحياتنا وأمثالنا وأقوالنا، من هو يسوع، الذي نتحضر للإحتفال بعيد ميلاده. المهم تفهيم الأجيال من هو يسوع، وما هو سبب ميلاده. هو جَلَبَ إلى العالم ما كان ينقصه، أي المحبة والسلام والعدالة والحرّية والتآخي، هذا وللدفاع عن هذه القيم العالية فقد ضحى لها في آخر حياته بنفسه، ومات على الصليب. فإن كانت هذه القيم تهمّنا نحن أيضا، فيجب أن ندافع عنها. إن بوسع المسيحي، إتمامَ الكثير لحماية ديانة يسوع ونشرها في محيط حياته، إذ مهمّتُه أن يشهد للنور كيوحنا. من الخطأ أن ننتظر من الكنيسة أن تقوم بهذا العمل وحدها، كأننا غير مسؤولين. ألكنيسة هي ليست الحجارة المائتة بل نحن حجارتها الحية

 

الّذين سمعوه يبشّر بجدّية، إفتكروه النّبي المنتظر، لكنه أبعد الشبهة عن نفسه وقال: أنا لست النور بل جئتُ لأشهد للنور، كالتمثال المنير الذي ذكرته قي البداية. وما أنا إلاّ صوتُ صارخ في البرية، أعدّوا طريق الرب. أما النّبي المنتظر فهو بينكم، لكنكم لم تعرفوه بعد.، بهذه العبارة هو يضرب على الوتر، ليزيد في فضوليتهم. هذا ونتساءل: لماذا هم لم يكونوا تعرّفوا عليه؟ ألم يحدث معنا مرّة نفس المشهد؟ بأننا نكون قد تواعدنا على لقاء شخص في اجتماع، وبعد التحية نسأل هل أتى فلان فنحن على موعد، علما بأننا نكون قد سلّمنا على هذا الشخص وما عرفناه، والسبب أنه كان في رأسنا تصوّر خاص، للتّعرّف عليه. وهكذا المستمعون ليوحنا، كانوا قد شاهدوا يسوع وكانوا لا يزالون يتساءلون. أين هو؟ فقال يوحنا كلمته المشهورة: هو بينكم وأنتم لا تعرفوه! وبالتالي هذا ما عناه يسوع نفسه، حينما أظهر نفسه، في المرضى والعطشى والجوعانين والمتألمين، إذ كلَّ ما فعلتم لهؤلاء، فلي فعلتموه. إذن هو دائما موجود بيننا، ولكننا لا نتعرّف عليه! لأننا ننتظر علامات واضحة. هكذا اليهود هم لم يتعرّفوا على يسوع، لأنهم في وضعهم تحت عبودية المستعمر الرّوماني، كانوا ينتظرون قائدا ثائرا يُحرِّرُهم، ويُرجِع لهم مدينتهم بهيكلها، بقوة عسكرية، ويعيد لهم بناء ملكوت أبيهم داؤود الكبير. وكانت عيونهم شاغرة وأذانهم ناطرة، كلمةً تقود إلى انقلاب عسكري مسلّح، بقيادة المخلِّص المنتظر، لذا فهم أخطأوا الهدفَ زتوقُّعاتِه. بدل أن يروا قائدا، هم سمعوا يوحنا يقول: توبوا...(متى 3. 2)  الشعب كان ينتظر كلمات غير هذه الكلمات. كانوا ينتظرون سماع كلمات ثورية مثل كلمات تشي جيفارا أو فيدل كاسترو أو عرفات: ثورة! ثورة حتى النصر! أو انتفاظة تلو الأخرى! لكن يوحنا، كأنه غريب، ازدادت كلماته حدّة وتهديدا، إن لم يتوبوا. "يا أولاد الأفاعي! إنه ليس فخر لكم أن تدّعوا أنّكم أولاد إبراهيم! ها قد وُضِعَت الفأسُ على أصل الشجرة. فكل شجرة لا تثمر ثمرا جيّدا تُقطع وتُلقى في النار... إن هو أتى ولم يجدكم تائبين، فبيده المذرى، به يُنقي القمح عن القش، ويرميه بنار لا تنطفئ أبدا" (متى 3: 10-12). فمِن كلماته هذه الغيورة، نشاهد، كم كان يوحنا متحمّسا لوظيفته، ويريد أن تلاقي كلماتُه تفاعلا بل تجاوبا عند الشعب: ما أنا إلا صوت صارخ في البرية.

 

أليس شرفًا أن يكون  المسيحي صوت الله في هذا العالم؟ كانوا ينتظرونه بعيونهم الجسدية، لكن الكاتب الفرنسي saint- Exupery قد قال: الإنسان لا يشاهد جيداً إلا بعين القلب. لماذا لا نتعرّف على يسوع اليوم بيننا؟ للسبب عينه: أننا ننتظر منه أن يزيل أوّلاً كلّ ما نُعاني من مظالم وأمراض وحروب وفقر وجوع، حتّى نُعلن إيماننا به. نحن نطلب عجائب حتى نؤمن، لكن هل هذا صحيح؟ أما طَلَبَ اليهود منه أن ينزل عن الصليب أوّلا حتّى يؤمنوا به؟ إنني لمتأكِّدٌ، أنّه حتّى ولو نزل، لما آمنوا به. أما كانوا رأوا عجائب كثيرة أُخرى منه؟ فلماذا لم يؤمنوا؟ هو سيزيل كلَّ استعمار، لكن عاى طريقته. فانتظارنا فاشل، كانتظار الشعب لمسيح سياسي. هذا ولا ننسى، أنّه لسماع صوت الله وأنبيائه، هناك شرط أساسي وهو: التوبة ونقاوة القلب، إذ ما من مانع أكبر، لسماع صوت الله، مثل مانع الخطيئة. ماذا علينا أن نعمل لنحصل على الخلاص؟ سألت الجماهير يوحنا. وهنا برز يوحنا بين جميع الأنبياء برسالته الخاصة. أن ينبّه الناس إلى ضرورة التوبة.

 

فهذه كانت مهمة النبي: أن يُخبر برسالة وُضِعَت في قلبه، ينطقها كاملة صحيحة بفمه. من لا يتذكر هنا اعتذار إرميا، حينما اختاره يهوى ليبشّر، فاعتذر بأنه لا يُتقِن النّطق. فأجابه يهوى: أنا قد وضعت كلمتي فيك، فما عليك إلا أن توصلها، إذ أنا هو الذي يتكلم بلسانك (إرميا 1: 4).

 

ونحن اليوم أبناء البشارة الجديدة، عالمنا أشبه بعالم ما قبل البشارة، عالم لا يُسمع فيه إلا صوت البكاء والعويل، عالم لم نعد نرى فيه إلا الوباء والموت، عالم لم نعد نؤمن بقدرة الله الخلاصية، وكثيراً ما نضن أن صلاتنا ما هي إلا كلمات، لا يكاد صداها يصل أعلى من سقف الكنائس فوق رؤوسنا.

 

عالمنا هو هو، سواء في زمان يوحنا قبل ألفي سنة، أو اليوم في القرن الحادي والعشرين، بحاجة إلى الله وبحاجة للتبشير، إذ ما إنسان يأتي إلى العالم، يكون عارفا بأي شيء عن الله، بل عليه أن يتعلّم كل شيء، كما يتعلم كل طفل ابتداءً بالرّوضة. نعم عالمنا بحاجة إلى أنبياء في كل زمان، ينقلون له كلمة الله، التي يضعها في قلوبهم ويسمعونا إياها بفم الله.

 

ما أحوجنا اليوم لصوت يوحنا القديم الجديد، يصرخ في صحراء قلوبنا وعقولنا، فنحن ولو لم نكن في عبودية عسكرية كشعب إسرائيل، لكنَّنا حالياً مستعبَدين ومُحاطين من أزمات، الواحدة تلوى الأخرى، آخرها أزمة الفايروس كرونا، التي تشدُّ العالم على خُنّاقه وتُلزم المليارات من جميع بلدان وسكان العالم، إلى العيش المنزوي في بيوتهم، خوفا من العدوى. فالحركة كلها متعطِّلة، علميًّا وعمليًّا، لا مدارس، لا مصانع، لا حركة سير اعتياديّة، لا تقدم مالي أو اقتصادي. فقط ألصيدليّات والمستشفيات وأسواق الأغذية فاتحة أبوابَها. أمَا حالتنا هذه، أتعسُ من حالة إسرائيل في منفاه، أمَا نحن بحاجة إلى نبيّ يُعزينا، والأهم من ذلك، ماذا سيقول لنا هذا النبي؟ لا أظن أن أي نبيّ، سيحيد عمّن سبقوه، إذ كلُّهم نادوا وقالوا: التوبى هي مفتاح التّعرُّف على المخلِّص المنتظر، إذ الله هو الذي يضع رسالته في قلب الأنبياء مرسليه، وهو الذي ينطق بها على لسانهم، اختصرها يسوع بأوّل كلماتٍ نقلها لنا الإنجيليّون، وهي : توبوا فقد اقترب ملكوت الله . نحن في وقت انتظار ميلاد يسوع بيننا، فأرى من المناسب أن نسمع رسالة يوحنا من جديد، إذ هي صوت أكبر أنبيا الله: أعدُّوا طريق الرب في قلوبكم واجعلوا سبله قويمة.

 

بالإختصار، إن حل أزماتنا ومشاكلنا ومضايقاتنا وأمراضنا لها حل واحد: أن نتوب ونرجع إلى الله، الذي هو الوحيد، االذي بيده مفتاح الحل، ويقدر أن يُخلِّص العالم من كل عبودية واستعباد ووباء.

 

سأل طالب معلّمه الرابّي: ماذا علي أن أعمل كي أخلص؟ أجابه المعلم: تُبْ في آخر يوم في حياتك؟ ومتى هو أخر يوم في حياتي" سأل الطالب مستفسرا من جديد؟ كل يوم هو آخر يوم في حياتك، أجاب الرّابّي! فالتوبة إذن هي أنجع وسيلة للخلاص، ولا يجوز تأجيلها، بل يجب ممارستها في آخر يوم في حياتنا، وكل يوم جديد هو آخر يوم في حياتنا. آمين

 

 

يوحنا آخر أنبياء العهد القديم

 

على دُفْعاتٍ أرسلَ الله لِشعبِهِ عِدَّةَ أنبياء

يُوجِّهونَهُ لعملِ الخَيرِ بل تحاشِي الرّياء

 

آخِرُهمْ كان يوحنّا المعمدانُ ابْنُ زكريا

كلامُهُ لا مظْهرُهُ كان يُشِعُّ نوراً سِرِّيا

 

هذا الكلامُ اخْتَرقَ عُقولَ وقُلوبَ السّامعين

حتّى افْتَكروا أنَّهُ المُخلِّصُ المُنتظرُ المُبين

 

في الإنجيلِ نقرأُ يوحنّا المعمدانُ ما كانَ النّور

بلْ كان شاهِداً للنٌّورِ الّذي سَيَظْهَرُ بَعْدَ شهور

 

بِهِ سَتنقلِبُ الظُّلْمَةُ إلى بريقٍ داخِليٍّ يُجدّدهم

هذا النّورُ كان عِندهُمْ وعنِ السّوءِ سيبعدهم

 

وغُيومُ خطاياهُمْ ومُخالفاتُهُمْ لِوصايا الله العديدة

كانَتْ أَعْمَتْهُم عَنْ رُؤيةِ هذا النّورِ لِبدايَةٍ جديدة

 

ولمّا جاءَ إلى خاصَّتِهِ لا لمْ تتعرَّفْ خاصَّتُهُ عليه

أمَّا الّذينَ تعرَّفوا عليهِ وآمنوا قدْ دَعاهُمْ أَبناءَ أبيه

 

هُمْ ما وُلِدوا مِنْ بَشَرٍ بلْ وِلادَتُهُمْ مِنْ حِضْنِ الله

الّذي اخْتارَهُمْ للشّهادَةِ والعِبادَةِ بالحُبِّ والصّلاه

 

وحتّى هُمْ لا يَنسوهُ أَرْسَل ابْنَهُ لَهُمْ وسكنَ بينهم

أظَهرَ حُبَّهُ الّذي هَدَفُهُ كانَ مَعْ أبيهِ أن يصلحهم

 

وإذِ الكلمةُ صارَ جسداً وحلَّ بيننا فالخبرُ تحققا

والآبُ مَجَّدَهُ فصارَ تبشيرُهُ مملوءً نِعمةً وحقا

 

هذا ما نادى بهِ يوحنّا للتَّعرُّفِ على أساسِ الدّين

وكَمُرْسَلٍ من الله قد هَيَّأ قلوبَ النّاسِ المستعدين

 

موسى أَعطى لِشعبِهِ النّاموسَ وَهْوَ كلامٌ لا عمل

لا يُطهِّرُ القلوبَ فالتّطْهيرُ نعمةٌ مِنَ الله فيها أمل

 

يوحنّا كانَ مِثالاً في العيشِ وصاحِبَ رِسالَةٍ دينية

صَدَّقَتْهُ الجماهيرُ فأظْهرَ مِنهُمْ كثيرونُ حُسْنَ النية

 

تابُوا واعْتَرفوا بِزلّاتِهمْ وقَبِلوا مِنْهُ بِمَعْمودِيَّةَ التوبه

لذا قد صاروا على رأسِ المبشِّرينَ برِسالَةِ المحبة

 

 

يا يوحنا!

 

لَكَ الفضلُ الكبيرُ في تحضيرِ القُلوبِ للمسيح

لذا قال عَنْكَ أنتَ لَسْتَ قّصْبَةً في مهبِّ الريح

 

ذاعَ صِيتُكَ في الجليلِ وعلى ضِفافِ نَهْرِ الأردن

جاءَكَ جُمْهورُ التّائبين مِنْ جُنودٍ وَجُباةٍ مِنَ المدن

 

ماذا نعملُ؟ سـألوكَ لِنَتَعرَّفَ على النّبيِّ المنتظر

قُلْتَ تُوبوا ولا تَظْلُموا فَشَرُّكُمْ بَيْنَ النّاسِ انتشر

 

وفي عِظاتِكَ وَرَدَتْ أقسى الكَلِماتُ بالفريسيين

أولادَ الأفاعيْ أسمَيْتَهُمْ لِخُبْثِهمْ أمامَ المستمعين

 

ثمّ ألْحَقْتَ كلامَكَ بِغسلِ الجبينِ بِعلامَةِ التّطهير

وبِغَسْلِ الجبينِ بِماءِ العُمّادِ نحنُ ابناءَ الله نصير

 

وفجأة وقف قدّامك مَنْ هو ليس بحاجة لعمّاد

لكنّه أصرّ على قُبولِهِ فَهْوَ كذا نيابَةً عنّا أراد

 

ولمّا خرج من النَّهرِ فوقَهُ السّماءُ انفتحت

وأثْبَتَتْ أنّهَ ابنُ الله فالجماهيرُ كلُّها فرحت

 

 

يا يوحنا!

 

ترَكْتَ الصّحراءَ ورُحْتَ إلى المُدُنِ عنه تنادي

يا جماهيرُ يأتي بعدي مَنْ كان قبلي هو قيادي

 

كرَّسْتَ باقي حياتِكَ لِفَتْحِ القُلوبِ ونَبْذِ العداوات

والعيشِ حَسْبَ وصايا الله العشرَلا بالمخالفات

 

إثمروا ثماراً شَهيَّةً وإلا فالفأسُ على أساسِ الشجرة

الّتي لا تُعطي ثمراً تُقطَعُ وتُلقى في النّارِ المُحتسرة

 

لا تظنّوا أنَّكُمْ ستَخْلصون لأنّكُمْ أبناءُ إبراهيمَ الخليل

فَرَبُّكُمْ قادِرٌ أنْ يُقيمِ مِنَ الحِجارَةِ أبناءً له مِنَ الجليل

 

ولمّا جاءَ دورُكَ أنْ تَحْمي الزّواجَ كما يسوعُ فعل

وَجَدّتَّ هيرودسَ بالفُسْقِ غارقاً وزوجةَ أخيه شمل

 

لا يَحِقُّ الطّلاقُ لا للملوكِ ولا لأيِّ مُواطِنٍ بسيط

فكيفَ يَحِقُّ لكَ الزّواجُ من إمرأة أخيك أنتَ فريد

 

فاغتاظَ هيرودسُ مِنْ يوحنا فاقتاده إلى السجن

كي يُسْكِتَه أمّا أنْ يَقْتُلْه فكادَ يخافُ على الأمن

 

ويوما على عيدِ ميلادِهِ أقامَ حَفْلَةً كبيرةً لا تُباهى

لَمَعَتْ بِرَقْصِها للضُّيوفِ إبْنَةُ زوجَتِهِ لا يُضاهى

 

فَحَلَفَ لها اطلُبيْ ولَوْ نِصْفَ مَمْلكتي لَكِ مكافأه

فاستشارتْ أمَّها فقالتْ رأسَ يوحنّا هذا جزاءَه

 

هيرودس ما كان مُلْزَماً لكنَّ الخَمْرَ جَعَلَتْهُ ينسىى

فصارَ الخيرُ شرّاً والشرُّ خيراً في رأسِ مُحتسى

 

بِسَبَبِ سُكْرِهِ لَمْ يَرْجَعْ هيرودسُ عَنْ وَعْدِهِ المَغلوط

أرْسَلَ السّيافَ فَجاءَ بِرأسِ يوحنّا على طبقٍ محطوط

 

هذي نِهايةُ الصّالِحِ والعبدِ الأمينِ إنْ دافَعَ عن الحق

فالتِّلميذُ يُضْطَهَدُ كالمُعلِّمِ لِذا أجرُهُ كبيرٌ بَلْ مُستحق