موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٥ يونيو / حزيران ٢٠٢٤

صَلاة يسوع الكهنوتيَّة من أجل تلاميذه

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحَد السَّابع للفصح: صَلاة يسوع الكهنوتيَّة من أجل تلاميذه (يوحنا 17: 11-19)

الأحَد السَّابع للفصح: صَلاة يسوع الكهنوتيَّة من أجل تلاميذه (يوحنا 17: 11-19)

         

النَّص الإنجيلي (يوحنا 17: 11-19)

 

11 لَستُ بَعدَ اليَومِ في العَالَم وَأَمَّا هُم فلا يَزالونَ في العَالَم وأَنا ذاهِبٌ إِليكَ. يا أَبَتِ القُدُّوس اِحفَظْهم بِاسمِكَ الَّذي وَهَبتَه لي لِيَكونوا واحِداً كما نَحنُ واحِد. 12 لَمَّا كُنتُ معَهم حَفِظتُهم بِاسمِكَ الَّذي وَهَبتَه لي وسَهِرتُ فلَم يَهلِكْ مِنهُم أَحَدٌ إِلاَّ ابنُ الهَلاك فتَمَّ ما كُتِب. 13 أَمَّا الآنَ فإِنِّي ذاهِبٌ إِلَيكَ. ولكِنِّي أَقولُ هذه الأَشياءَ وأَنا في العَالَم لِيَكونَ فيهِم فَرَحي التَّامّ. 14 إِنِّي بَلَّغتُهم كَلِمَتَكَ فأَبَغَضَهُمُ العَالَم لأَنَّهُم لَيسوا مِنَ العَالَم كما أَنِّي لَستُ مِنَ العَالَم. 15 لا أَسأَلُكَ أَن تُخرِجَهُم مِنَ العَالَم بل أَن تَحفَظَهم مِنَ الشِّرِّير. 16 لَيسوا مَنَ العَالَم كَمَا أَنِّي لَستُ مِنَ العَالَم. 17 كَرِّسْهُم بالحَقّ إِنَّ كلِمَتَكَ حَقّ. 18 كَمَا أَرسَلَتني إلى العَالَم فكَذلِكَ أَنا أَرسَلتُهم إلى العَالَم 19 وأُكَرِّسُ نَفْسي مِن أَجلِهمِ لِيَكونوا هم أَيضًا مُكَرَّسينَ بِالحَقّ.

 

 

مقدمة

 

في إنجيل الأحد السَّابع للفصح، الأسبوع الأخير من الزّمن الفصحى يتكلم يوحنا الإنجيلي عن صلاة يسوع الكهنوتية التي رفعها يسوع للآب السَّماوي من تلاميذه في عليِّة صهيون عَشيَّة صَلبه، لأنَّ مخطط الخلاص يمرّ من خلالهم إلى العَالَم أجمع (يوحنا 17: 11-19). ويكمن مخطط الخلاص السير معًا تجاه الرب إله.  ومن هنا تكمن أهميَّة البحث في وقائع النَّص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولًا: وقائع النَّص الإنجيلي (يوحنا 17: 11-19)

 

 11 لَستُ بَعدَ اليَومِ في العَالَم وَأَمَّا هُم فلا يَزالونَ في العَالَم وأَنا ذاهِبٌ إِليكَ. يا أَبَتِ القُدُّوس اِحفَظْهم بِاسمِكَ الَّذي وَهَبتَه لي لِيَكونوا واحِدًا كما نَحنُ واحِد

 

تشير عبارة "لَستُ بَعدَ اليَومِ في العَالَم وَأَمَّا هُم فلا يَزالونَ في العَالَم" إلى صلاة يسوع التي ترفعه فوق هذا العَالَم، وتحمله إلى ملاقاة الآب. إنها صلاة الابن على عتبة المَجد. يسوع يترك العَالَم؛ أمَّا التَّلاميذ فهم باقون في العَالَم بما فيه من مِحنٍ وأخطارٍ تُشتتهم وتُقسِّم بعضهم على بعض.  إن يسوع في ساعة خروجه من العَالَم، لا يفكر في نفسه، بل في تلاميذه، انه يحملهم في صلاته، لأنَّه يعرف الهجمات التي سيتعرَّضون لها" إِذا أبغَضَكُمُ العَالَم فَاعلَموا أَنَّه أَبغَضَني قَبلَ أَن يُبغِضَكم... إِذا اضطَهَدوني فسَيَضطَهِدونَكم أَيضًا" (يوحنا 15: 18-20)، ويعرف أيضًا الإغراءات التي تنتظرهم في العَالَم "لأَنَّ كُلَّ ما في العَالَم مِن شَهوَةِ الجَسَد وشَهوَةِ العَين وكِبرياءِ الغِنى لَيسَ مِنَ الآبِ، بل مِنَ العَالَم"(1 يوحنا 2: 16)، ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم: " كأن يسوع يقول: إنَّني على وشك أن أترك العَالَم حسب الجسد، فتلاميذي محتاجون إلى عونٍ خاص ومساندة. محتاجون أن أقدِّمهم لك أيها الآب لكي تحفظَهم في الحق، ومع أنني لا أعود أظهر في الجسد لكنَّني أتمجَّد بواسطتهم". أمَّا عبارة "العَالَم" في الأصل اليوناني κόσμος فتشير في إنجيل يوحنا إلى أمور ثلاثة: إمَّا إلى الكوْن الذي خلقه الكلمة (يوحنا 1: 10)، وإمَّا إلى الجنس البشري، الذي أحبه الله حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة" (يوحنا 3: 16)، وإمَّا إلى مجموعة الكائنات التي تقف في وجه ملكوت الله، وهي تحت لواء الشَّيطان، سيد هذا العَالَم، حيث أن لفظة العَالَم هنا أخذت بالمعنيِّين الأول والثَّاني. أمَّا عبارة "يا أَبَتِ القُدُّوس" في الأصل اليوناني Πάτερ ἅγιε (معناها أيها الآب القدوس) فتشير إلى القداسة التي هي صفة مميَّزة لجوهر الله، كما جاء في الكتاب المقدس" إِنِّي أَنا الرَّبُّ إِلهُكم، فتَقَدَّسوا وكونوا قِدِّيسين، فإِنِّي أَنا قُدُّوس" (الأحبار 11: 44). إنَّه دعاء ورد مرة واحدة في العهد الجديد. ومن المؤكد أنَّ الله كان يُعرف أبًا لشعب العهد القديم، وان الصَّلاة اليهوديَّة كانت تدعوه أبًا، ولكن ذلك لم يكن إلاّ مجازًا، فجاء يسوع وأظهر الله أبًا بمعناه الحقيقي الذي لا يُقبل الشَّك، لأنَّ له ابنًا وهو يسوع الذي إتَّخذ وجهًا وجسدًا عاكسًا حبَّ آبيه. ومعناه أنَّ الله القريب بأبوته فهو المَحبوب؛ والبَعيد بقداسته فهو المرهوب. وتقوم قداسة التَّلاميذ على قداسة الآب "كونوا قِدِّيسين، فإِنِّي أَنا قُدُّوس" (أحبار 11: 44). ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم: "عطيته الثَّمينة لأبنائه هي القداسة، ليصيروا قديسين كما هو قدوس". وقد استعملت الليتورجيا المسيحيَّة هذ العبارة " أيها الآب القُدُّوس" في وقت مبكر (تعليم الرُّسل 10: 2).  أمَّا عبارة "اِحفَظْهم بِاسمِكَ الَّذي وَهَبتَه لي" فتشير إلى صلاة يسوع لتلاميذه أن يكونوا في أمن وأمان ومُخلصين كي يتمِّموا رسالة الإنجيل المقدسة ويشهدوا للحق الإلهي. وقد كانوا فعلا مُخلصين ما عدا يهوذا "ابن الهلاك". ها هو يسوع بطبيعته الإنسانيَّة يُصلّي إلى الله من أجل التَّلاميذ الذين وهبهم له. فهنا يصلي يسوع حتى يدخل تلاميذه في اتحاد وثيق مع الآب بصورة لا تستطيع أية إرادة في العَالَم أن تفصلهم عنه. سلَّمهم الآب إلى ابنه يسوع، وها هو يُعيد تـسليمهم إلى الآب. ويُكرِّر يسوع في صلاته فعل "يحفظ" ثلاث مرات (يوحنا 15: 11، 12، 15)، إذ يعلم يسوع الصُّعوبات الجمَّة التي تواجه التَّلاميذ عندما يحتجب عنهم. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "لم يطلب يسوع لتلاميذه الغنى، ولا المجد الزَّمني، ولا النَّصرة الأرضيَّة، لكنَّه يطلب من آبيه السماوي أن يحفظهم في اسمه من الخطيئة والعَالَم الشِّرير، حتى يجتازوا أيام غربتهم، ويبلغوا إلى حضن الآب".  أمَّا عبارة "اسمِكَ" فتشير إلى تعبير في العقليَّة السَّاميَّة عن شخصيَّة بكل ما تحمل من ميزة وديناميَّة خاصة؛ لا يوجد أي ملجأ آمن سوى في اسم الآب. ويُعبّر الاسم عن هوية وانتماء ووحدة. ويُمثل اسم الله حقيقة الله ذاته، لذلك لا يجوز لفظ اسم الجلالة.  يصلي يسوع أن يكون تلاميذه في حمى الله الآب من خلال الوحدة معه. فأمن الإنسان يتطلب أن يكون لديه أبٌ جاء منه وإليه يعود وإليه يلتجأ.  أمَّا عبارة "وهَبتَه" فتشير إلى تسلَّم يسوع التَّلاميذ من يد الآب، وتكرّر هذا الفعل في هذا الفصل 7 مرات تأكيدًا لأهميته. وصرَّح يسوع قبلا " جَميعُ الَّذينَ يُعطيني الآب إِيَّاهُم يُقبِلونَ إِليَّ ومَن أَقَبَلَ إِليَّ لا أُلقيهِ في الخارج" (يوحنا 6: 37)، فالذين يذهبون إلى يسوع هم في الحقيقة هبة من الآب للابن، ولذلك يرحِّب الابن بهم ويحفظهم (يوحنا 17: 6-15) ويُحبِّهم حبًا عميقا كحبِّ الابن للآب. وهنا يربط يسوع حماية الآب للتلاميذ بكونهم واحدًا. مَّا عبارة " لِيَكونوا واحِدًا كما نَحنُ واحِد" فتشير إلى طلب يسوع من الآب السَّماوي أن يكون تلاميذه دومًا واحدًا كما أنَّ الآب والابن والرُّوح القُدُس هم واحد، وهذه الوَحْدَة هي اقوى الرَّوابط والعَلاقات. فلا حماية التلاميذ من قبل الآب دون الوحدة فيما بينهم. ويُعلق القديس أوغسطينوس: " يسوع لا يقول: ليكونوا واحدًا معنا، أو لكي نكون نحن وإيّاهم كيانًا واحدًا كما نحن واحد، بل قال: "لِيَكونوا واحِدًا كما نَحنُ واحِد". ليكونوا واحدًا في طبيعتهم، كما نحن واحد في طبيعتنا". لا يطلب يسوع أن يصير تلاميذه واحدًا بل أن يكونوا واحدًا في المَحَبَّة والإرادة والغاية والفكر والاهتمامات والتَّسليم لله. فالوَحْدَة تنطلق من يسوع، ومثالها الوَحْدَة التي تجمع بين الآب والابن. وهو يطلب أن قوِّة الوَحْدَة التي بينه وبين الآب تعمل في التَّلاميذ وتوحِّدهم. ويكون اتحادهم انعكاس للوَحْدَة الكائنة بين الآب والابن.  ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم: "يربط السَّيد المسيح بين القداسة والوَحْدَة الحقيقيَّة، حيث توجد القداسة هناك الحبُّ الفائق الذي يوّحد، وحيث الخطيئة هناك الحسد والخصام والبغض والانقسام". وهنا يربط المسيح بين القداسة والوَحْدَة. حيثما توجد القداسة يوجد الوَحْدَة مع الله ومع الإخوة.

 

12 لَمَّا كُنتُ معَهم حَفِظتُهم بِاسمِكَ الَّذي وَهَبتَه لي وسَهِرتُ فلَم يَهلِكْ مِنهُم أَحَدٌ إِلاَّ ابنُ الهَلاك فتَمَّ ما كُتِب

 

 تشير عبارة "لَمَّا كُنتُ معَهم" إلى تذكُّر يسوع أيامه بين تلاميذه، إذ كان لهم مرافقًا ومعلمًا والرَّاعي لمدة ثلاث سنين (يوحنا 10: 11-15)؛ أمَّا عبارة "حَفِظتُهم بِاسمِكَ" فتشير إلى "اسم الله"، لآنَّ الاسم يُعبّر عن هوية وانتماء، ولم يكن مسموحًا لفظ اسم الجلالة.  حيث أنَّ اسم الله يحمل معنى قوته وحكمته وقدراته ومحبَّته وقداسته ورحمته وصفاته كلها.  وقد ربط يسوع التَّلاميذ بالآب في الإيمان والمَحَبَّة وحفظهم بتعاليمه ونصائحه وعجائبه كراعٍ يحفظ قطيعه، وخاصة خلال آلامه، حيث قال لحَرس الهيكل الذين جاؤوا للقبض عليه: "فإِذا كُنتُم تَطلُبوني أَنا فدَعُوا هؤلاءِ يَذهَبون" (يوحنا 18: 8-9)، وحفظهم أيضًا خلال المِحن التي مرّوا فيها، وذلك تلبيةً لمشيئة الآب السَّماوي "مَشيَئةُ الَّذي أَرسَلَني أَلاَّ أُهلِكَ أَحَدًا مِن جَميعِ ما أَعْطانيه بل أُقيمُه في اليَومِ الأَخير" (يوحنا 6: 39). وفي هذا الصَّدد يتكلم القديس غريغوريوس النَّزينزي عن تجربته في حفظ الثَّالوث له عندما تحوَّل إلى الإيمان المسيحي: "من هذا اليوم مُت عن العَالَم ومات العَالَم عني". أمَّا عبارة " فلَم يَهلِكْ مِنهُم أَحَدٌ" فتشير إلى لفظ مألوف في إنجيل يوحنا (يوحنا 3: 16، 6: 39، 10: 28، 12: 25). إن تاريخ الله مع البشريَّة تاريخ مَحَبَّة. لهذا أرسل ابنه لا ليُدين العَالَم ويُقضي عليه، بل ليُخلِّص العَالَم (يوحنا 3: 17)، فالله هو إله الخلاص، ولا يريد هلاك الخاطئ وموته. أمَّا عبارة " ابنُ الهَلاك " فتشير إلى تعبير عبري בֶּן־הָאֲבַדּוֹן الذي يُظهر أنَّ عمل الخاطئ يؤدي به حتمًا إلى الهلاك. وليس في هذا تضمين إنَّما هناك تعيِّين سابق للدَّينونة؛ إنما يشير هذا التَّعبير إلى كل من كان سلوكه يميل إلى الهلاك يدمّر ذاته حين يفعل ما يفعل. ويدل هذا التَّعبير هنا على يهوذا الذي سلَّم نفسه للهلاك واستحقه بسبب فساد قلبه وآثامه وعدم توبته، إذ فضّل المال وخيانة يسوع معلمه الإلهي (يوحنا 13: 2، 27، 30) على محبته فغرق في ظلمة الليل. كان يهوذا مدعوًا للحياة مع جماعة الرُّسل، لكنَّه طلب الموت ليسوع ثم لنفسه فصار ابن الهلاك. ولهذه العبارة مغزى رؤيوي كما صرّح يسوع: "أمَّا أنا اختَرتُكُم أَنتُمُ الِاثنَيْ عَشَر؟ ومعَ ذلك فواحِدٌ مِنكم شَيطان" (يوحنا 6: 70) وهذا ما يؤكده بولس الرَّسول بقوله:" فلا بُدَّ قَبلَ ذلِكَ أَن يَكونَ ارتِدادٌ عنِ الدِّين، وأَن يَظهَرَ رَجُلُ الإِلْحاد، اِبْنُ الهَلاك" (2تسالونيقي2: 3). وهكذا فإن أبناء العَالَم الذين يرفضون كلمة المجد والخلاص ويكرسون طاقاتهم لتحطيم الإيمان الحي، يُحطِّمون أنفسهم وهم لا يدرون.  ويعلق بطريرك القدس، الكردينال بيير باتيستا: "يحذّرنا الرَّب هنا من أن الطريق ليس سهلاً. هناك خطر الضياع، بمعنى أننا قد نفشل في مكرّسين في الحقيقة. والمثال على هذا الهلاك هو يهوذا الإسخريوطي، الذي لا يدعوه يسوع باسمه، بل يعرّفه على أنه ذلك الذي ضلّ الطريق، والذي لم يبقَ صادقًا ولم يتحد مع إخوته" "(عظته في الأحد السابع للزمن الفصحى ب، 2024). أمَّا عبارة "تَمَّ ما كُتِب" فتشير في الأصل اليوناني ἵνα γραφὴ πληρωθῇ (كلمة   ἵναتعنى لا العاقبة أو التَّعليل) فتشير إلى الحدث الذي تنبأ عنه الكتاب المقدس (مزمور 41: 9) ولا تعني لكي يتحقق الكتاب المقدس، وهذا هو أسلوب الكتاب المقدس الذي يضع الأمور في تطابق مع بعضها البعض كما لو كانت قد حدثت بسبب كتابتها، بل الحدث جاء متفقًا مع النَّبوات، أي بسابق العلم الإلهي ولكن الله يهب حريَّة كاملة للاختيار. ما تنبأ عنه الكتاب المقدس كما ورد في سفر المزامير "حتَّى صَديقي الحَميمُ الَّذي اْتَكَلْتُ علَيه فأَكَلَ خُبْزي، هو رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَه" (مزمور 41 :10). وتعني رفع عقبه أي وقف موقفًا مُعاديًا محاولاً التدمير.  وفي موضع آخر يقول الكتاب عنه " لِتَكُنْ أيامُه قَليلة ولْيَتَوَلَّ مَنصِبَه آخَر" (مزمور 109: 8)، وأكَّد ذلك بطرس الرَّسول في خطبة لدى اختيار متيا خَلفًا ليهوذا "أَيُّها الإخوَة، كانَ لابُدَّ أَن تَتِمَّ آيةُ الكِتابِ الَّتي قالَها الرُّوحُ القُدُسُ مِن قَبْلُ بِلِسانِ داود، على يَهوذا الَّذي أَمْسى دَليلًا لِلَّذينَ قَبَضوا على يسوع"(أعمال الرُّسل 1: 16). أمَّا عبارة "فتَمَّ ما كُتِب" في الأصل اليوناني ἵνα  γραφὴ πληρωθῇ (كلمة   ἵναتعنى لا العاقبة أو التَّعليل) فتشير الحدث الذي تنبأ عنه الكتاب المقدس (مزمور 41: 9) ولا تعني لكي يتحقق الكتاب المقدس، وهذا هو أسلوب الكتاب المقدس الذي يضع الأمور في تطابق مع بعضها البعض كما لو كانت قد حدثت بسبب كتابتها. الحدث جاء متفقًا مع النَّبوات، أي بسابق العلم الإلهي ولكن الله يهب حريَّة كاملة للاختيار.

 

13 أمَّا الآنَ فإِنِّي ذاهِبٌ إِلَيكَ. ولكِنِّي أَقولُ هذه الأَشياءَ وأَنا في العَالَم لِيَكونَ فيهِم فَرَحي التَّامّ

 

تشير عبارة "أمَّا الآنَ فإِنِّي ذاهِبٌ إِلَيكَ" إلى يسوع وهو على عتبة العَالَم الآخر. أمَّا عبارة "فَرَحي" فتشير إلى فرَح الابن الصَّاعد نحو الآب، ومشاركة التَّلاميذ بفرَح يسوع بإنجاز مُهمَّته.  والفرَح النَّاشئ عن الإصغاء إلى كلام يسوع. وان الفرَح موضوع شائع في تعاليم المسيح: "قُلتُ لَكم هذهِ الأشياءَ لِيَكونَ بِكُم فرَحي فيَكونَ فَرحُكم تامًّا" (يوحنا 15: 11). ومفتاح الفرَح هو الحياة المتَّحدة بيسوع، لأنَّه مصدر كل فرَح. ولذا لا يزول هذا الفرَح بذهاب يسوع، فالإنجيل –كلام المسيح-حاضر في جماعة المؤمنين، ونحن نقرأه على ضوء الرُّوح القُدُس. يسوع يترك تلاميذه وسط الدموع والآلام والتَّجارب، لكنَّه يُحقِّق في داخلهم فرَحه الفائق للطبيعة كما وعدهم "فأَنتُم أَيضًا تَحزَنونَ الآن ولكِنِّي سأَعودُ فأَراكُم فتَفَرحُ قُلوبُكم وما مِن أَحَدٍ يسلُبُكم هذا الفَرَح" (يوحنا 16: 22). ويُعلق القديس أوغسطينوس: " إن التَّلاميذ يتمتَّعون بحضور المسيح في وسطهم وفي داخلهم، حيث يسكن في قلوبهم ويبعث فرَحه الكامل فيهم، ويصير فرَحه فرَحهم، فيختبروا الفرَح الكامل".

 

14 إِنِّي بَلَّغتُهم كَلِمَتَكَ فأَبَغَضَهُمُ العَالَم لأَنَّهُم لَيسوا مِنَ العَالَم كما أَنِّي لَستُ مِنَ العَالَم"

 

تشير عبارة "بَلَّغتُهم كَلِمَتَكَ فأَبَغَضَهُمُ العَالَم" إلى قبول التَّلاميذ كلام يسوع مما أدَى إلى عِداء العَالَم لهم، لأنَّهم أصبحوا تبكيتًا للعَالَم الذي يرفض يسوع وتعاليمه؛ أمَّا عبارة " كَلِمَتَكَ " فتشير إلى كل ما أعلنه المسيح للتَّلاميذ عن ذاته وعن الآب. وأمَّا عبارة " أَبَغَضَهُمُ العَالَم" في الأصل اليوناني ἐμίσησεν (الفعل في صيغة الماضي) فتشير إلى حديث يسوع كعادته عن المستقبل في صيغة الماضي.  يبغض العَالَم تلاميذ يسوع، لانَّ قيمهم تختلف عن قيم العَالَم وبالتَّالي يسلكون على خلافهم، مما يُظهر فساد العَالَم، فهم نور يفضح أكاذيب العَالَم وأسلوبه في الحياة. أمَّا عبارة "لأَنَّهُم لَيسوا مِنَ العَالَم كما أَنِّي لَستُ مِنَ العَالَم" فتشير إلى تلاميذ يسوع الذين هم مثل يسوع، هم في هذا العَالَم، ولكنَّهم لا يرتبطون بهذا العَالَم. فقد صاروا " خَلْقًا جَديدًا (2 قورنتس 5: 17)، كما قال يسوع لليهود "أَنتُم مِن أَسفَل، وأَنا مِن عَلُ. أَنتُم مِن هذا العَالَم وأَنا لَسْتُ مِنَ العَالَم هذا" (يوحنا 8: 23)، لذا يُبغض العَالَم التَّلاميذ ويكنّون لهم العِداء، فقيمهم تختلف عن قيم العَالَم، مما يظهر فساد العَالَم. فإنهم بمثابة اتَّهامات حيَّة ضد طريقة العَالَم في الحياة. فالعَالَم يتبع برنامج الشَّيطان، والشَّيطان هو العدو الرَّسمي الصَّريح ليسوع ولتلاميذه ولكلِّ شعبه. وقد أوضح يسوع في موضع آخر هذا الأمر بقوله " لو كُنتُم مِنَ العَالَم لأَحَبَّ العالَمُ ما كانَ لَه. ولكِن، لأَنَّكم لَستُم مِنَ العَالَم إِذ إِنِّي اختَرتُكم مِن بَينِ العَالَم فلِذلِكَ يُبغِضُكُمُ العالَم" (يوحنا 15: 19). بما أنَّ التَّلاميذ مُتَّحدون اتحادًا حياتيًا بيسوع، فإنَّهم يشاركونه في الاضطهاد الذي يُثيره عليه بغض العَالَم، فالعداء القائم بين العَالَم والله هو سمة من سمات تاريخ الخلاص. 

 

15 لا أَسأَلُكَ أَن تُخرِجَهُم مِنَ العالَم بل أَن تَحفَظَهم مِنَ الشِّرِّير"

 

تشير عبارة "لا أَسأَلُكَ أَن تُخرِجَهُم مِنَ العالَم" إلى عدم رفض يسوع مُجابهة تلاميذه العَالَم، لأنَّه إذا كان عليهم أن يشهدوا للمسيح في العَالَم، فهو لا يطلب من الآب أن يُخرجهم من العَالَم، بل يطلب أن يكونوا فيه كالخميرة في العجين. واجب التَّلاميذ أن يبقوا في العَالَم لتتميم مُهمة الآب ومجابهة قوى الشَّر والبُغض التي لا يمكن التَّغلب عليها إلاَّ بعون الآب (يوحنا 15: 9-16: 4). أمَّا عبارة "تَحفَظَهم مِنَ الشِّرِّير" فتشير إلى حفظ تلاميذ المسيح من عدوى العَالَم، ولذلك يطلب يسوع حفظهم من الشِّرير، ليس حفظًا خارجيًا، وإنَّما من الداخل، بقوِّة الكلام الذي بلَّغهم إياه. أمَّا عبارة "الشِّرِّير" فتشير إلى تجسُّد قوِّة الشَّر التي تُهدِّد البشر. وحيث أن الشِّرير هو الشَّيطان رئيس هذا العَالَم، فالشَّر الذي في العَالَم نابع من سيطرته على نفوس النَّاس، كما جاء في تعليم يوحنا الرَّسول "وأَمَّا العَالَم فهُو كُلُّه تَحتَ وَطْأَةِ الشِّرِّير" (1 يوحنا 19:5)؛ وبما أنَّ الشَّر ناشط، كان لا بدَّ من حماية الله الآب للتَّلاميذ في مهمتهم بين البشر في مجابهة قوى الشَّر والبُغض. لذا يصلي يسوع لا يخرج التَّلاميذ من العَالَم، لانَّ ذلك يُعطل الغرض الإلهي، ولكن لكي يُحفظوا "من الشِّرير" (1 يوحنا 2: 13-14). 

 

16 لَيسوا مَنَ العَالَم كَمَا أَنِّي لَستُ مِنَ العالَم.

 

هذه الآية تكرار للآية (يوحنا 17: 14)، ويقصد به التَّعقيب على الآية السَّالفة والتَّمهيد للآية القادمة. تشير عبارة "لَيسوا مَنَ العالَم" إلى التَّلاميذ الذين ينظرون إلى عَالَم آخر، وليس فيهم شيء من الأرض، لكنَّهم قد صاروا كمواطني السَّماوات. فهم أتباع المسيح الذي هو رأسهم وملكهم، وقد قدَّسهم في الحقِّ حتى يُحفظوا من الشِّرير ويغلبوه. أمَّا عبارة "كَمَا أَنِّي لَستُ مِنَ العالَم" فتشير إلى يسوع الذي وضع أحباءه في مأزق حرج، حيث يكونوا في العَالَم دون أن يكونوا من العَالَم على مثاله. ولكن التَّلاميذ لا يستطيعون أن يعيشوا منفصلين عن العَالَم، لأنَّ دعوتهم كشهود تتطلب منهم أن يندمجوا في العَالَم. ويُعلق الطَّوباويّ يوحنّا هنري نيومان: "لا أطلب منكم التَّخلّي عن العَالَم وعن واجباتكم على هذه الأرض، بل التَّحكّم بوقتكم بحيث تكرِّسون الوقت الكافي للمسيح ونَشْر تعليمه".

 

 17 كَرِّسْهُم بالحَقّ إِنَّ كلِمَتَكَ حَقّ

 

عبارة " كَرِّسْهُم " في الأصل اليوناني ἁγίασον (يعني قدَّس أو أفرد وهي مشتقة من مقطعين: "َA" وهي في اليونانيَّة تعني النَّفي، وγη تعني "الأرض"، أي "لا أرض") تشير إلى طلب يسوع الناي لتلاميذه ألا وهو تقديس نفوسهم أو تخصيصهم لله بمسحة الرُّوح القُدُس للخدمة وحمل الرسالة (يوحنا 10: 36)، كما تدل عليها كلمة كَرِّسْهُم في العبريَّة קַדֵּשׁ أي "خصِّص لله". فالتلاميذ يُكرَّسون لله من أجل إرسالهم إلى العَالَم.  وكأن القداسة هي نزع كل ما هو أرضي من القلب، للتفرّغ لحُبِّ الله وعبادته وخدمته في الآخرين. فالرب أراد فَصْل تلاميذه عن العَالَم لكي يرسلهم إليه كمعلنين لكلمة الحق وإنجيله الطاهر.  فالتَّقديس هو انتزاع كلّ ميلٍ مادي ٍمن قلوب تلاميذه، ونَزْع كلَّ ما هو مغاير لروح الله وإرادته، ثم تكريسهم وتخصيصهم نهائيًا لخدمة الله لتكون حياتهم "ذَبيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسةً مَرْضِيَّةً عِندَ الله" (رومة 12: 1). ومن هذا المنطلق، فان الحياة المكرَّسة ليست مجرد حياة أخلاقيَّة فاضلة، لكنَّها ارتباط بالحياة الإلهيَّة، والانتماء للمسيح، والسير على خطاه. والحياة المُكرّسة تحمل أيضًا معنى "النَّقاوة" حيث يتنقى القلب من كل شائبة زمنيَّة حاملاً سِمة روحيَّة سماويَّة. يطلب يسوع لتلاميذه نعمة التَّقديس أي فصل التَّلاميذ عن شؤون الدنيا وإدخالهم بكاملهم وللآبد في حياة الله. إنَّه خصَّصهم له ويُريدهم لله بكليتهم، مكرَّسين لعمله في الحق، أي في الأمانة للكلام الذي بلّغهم إيَّاه. وهذا الكلام هو الحق " إن كلامك حق" وهذا ما نستشفه في الجماعة المسيحيَّة التي تألفت حول يسوع ولُقبوا بالقديسين كما جاء في حوار حننيا مع الرَّب حول شاول "يا رَبّ، سَمِعتُ بِهذا الرَّجُلِ مِن أُناسٍ كَثيرين كم أَساءَ إلى قِدِّيسيكَ في أُورَشَليم" (أعمال الرُّسل 9: 13). والتَّقديس هو من عمل الله (يوحنا 17: 11)؛ الله وحده قدوس لكنَّه يشارك المؤمنين في بعض قداسته. وقد كرَّر يسوع فعل "كرّس" في صلاته ثلاث مرات لأهميته.  أمَّا عبارة "إِنَّ كلِمَتَكَ حَقّ" فتشير إلى أنَّ أداة تقديس التَّلاميذ، وهي الكلمة المُتجسِّد. فالتَّقديس وكلمة الله يسيران معًا. ويتطهَّر الإنسان ويتقدَّس من خلال الإيمان وطاعة كلمة الله (عبرانيِّين 4:12)، وقبول غفران خطايانا بواسطة موت المسيح (عبرانيِّين 7: 26). وبعبارة أخرى، فإن عمليَّة التَّقديس تتضمَّن عمل الله الرَّائع فيما يختص بماضي الإنسان وحاضره ومستقبله. بالمسيح خُلص الإنسان من الخطيئة، وبالرُّوح القُدُس ينمو في الحياة المسيحيَّة، وتبعًا لخطَّة الله يصير كاملا عند عودة المسيح، كما يؤكد ذلك صاحب الرِّسالة إلى العبرانيِّين "المسيحُ قُرِّبَ مَرَّةً واحِدة لِيُزيلَ خَطايا جَماعَةِ النَّاس. وسيَظهَرُ ثانِيَةً، بِمَعزِلٍ عنِ الخَطيئَة، لِلَّذينَ يَنتَظِرونَه لِلخلاص" (عبرانيِّين 9: 28).  وهنا ندرك كلمة يسوع "أَنتُمُ الآنَ أَطهار بِفَضْلِ الكَلامِ الَّذي قُلتُه لَكم " (يوحنا 3:15)؛ الرَّب يصلي من أجل قداستنا، قداستنا في الحق. وهو يرسلنا لحَمْل رسالته. وفي هذا الصدد يعلق بطريرك القدس الكردينال بيير باتيستا " الحقيقة ليست شيئًا نعلنه بالكلمات، لأنها ليست مجرد فكرة أو مفهوم، بل طريقة لعيش حياة المحبة. يتم إعلانها من خلال وحدتنا مع من حولنا، في صبر ورحمة، في صمت وصلاة متواضعة، ومناجاة لروحِ قُدس يجمعنا بالمحبة" (عظته في الأحد السابع للزمن الفصحى ب، 2024).  أمِّا عبارة " حَقّ " فتشير إلى المسيح الذي قال عن نفسه "أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة " (يوحنا 14: 6) وهو كما قال لبيلاطس أنَّه جاء ليشهد للحق (يوحنا 18: 37).  والمسيح هو كلمة الله وهو الحق. وتلاميذه سيكونون مُكرَّسين لنشر كلمة الحق لكل العَالَم ويُعِدوا للربّ شعبًا مقدسًا، ويعلق القديس أوغسطينوس: "اذًا يعني بكلماته: " كَرِّسْهُم بالحَقّ أي "قدّسهم فيَّ"... فالآب يقدّس في الحق، أي في كلمته، في ابنه الوحيد، يقدِّس ورثته والوارثون مع الابن" ويقول الرَّسول بولس عن الابن: " صارَ لَنا حِكمَةً مِن لَدُنِ الله وبِرًّا وقَداسةً وفِداءً " (1 قورنتس 30:1). ومن تكرَّس في الحق تتحرَّر نفسه من التَّعلق بالعَالَم الباطل ومادياته ويصبح اهتمامه مُنصّباً على السَّماويات، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "فأَمَّا وقد قُمتُم مع المسيح، فاسعَوا إلى الأُمورِ الَّتي في العُلى حَيثُ المسيحُ قد جَلَسَ عن يَمينِ الله.  اِرغَبوا في الأُمورِ الَّتي في العُلى، لا في الأُمورِ الَّتي في الأَرض " (قولسي 3: 1-2). يعلق بطريرك القدس الكردينال بيير باتيستا "إن حقيقتنا لا تكمن فقط في نظرة الآخرين إلينا، أو فيما نحن عليه، بل أيضًا فيما نحن مدعوون لأن نصبح عليه"(عظته في الأحد السابع للزمن الفصحى ب، 2024). نحن أيضا مدعوُّون أن نكون رُسلاً في العَالَم حاملين له حياة آمنة بين يدي الآب وحمايته التي حصلنا عليها مجَّانًا.   

 

18 كَمَا أَرسَلَتني إلى العَالَم فكَذلِكَ أَنا أَرسَلتُهم إلى العالَم

 

تشير عبارة "كَمَا أَرسَلَتني إلى العالَم" إلى إرسال الآب ابنه يسوع إلى العَالَم لتحقيق عمل الفداء. لذا دُعي يسوع بالشَّفيع (1يوحنا 2: 1)، والرَّسول (عبرانيِّين 3: 1)، والخادم (رومة 15: 8)، والمُرَسل (غلاطيَّة 3: 1)، لكنَّه أُرسل كابن لله. وكما كان يسوع في العَالَم، كذلك سيكون تلاميذه في العَالَم للآب الذي قدّسهم وأرسلهم كما أرسل ابنه الوحيد. فالتَّكريس يولِّي التَّلاميذ القُدرة على القيام بالرِّسالة (يوحنا 10: 36)، لأنه يُفرد المرسلين لحمل الكلمة في داخل العَالَم، دون أن يُعزلهم عنه. والرُّوح هو الذي يجعل شهادتهم فاعلة، كما صرَّح يسوع "مَتى جاءَ المُؤَيِّدُ الَّذي أُرسِلُه إِلَيكُم مِن لَدُنِ الآب رُوحُ الحَقِّ المُنبَثِقُ مِنَ الآب فهُو يَشهَدُ لي وأَنتُم أَيضًا تَشهَدون لأَنَّكُم مَعي مُنذُ البَدْء" (يوحنا 15: 26). أمَّا عبارة "فكَذلِكَ أَنا أَرسَلتُهم إلى العَالَم" فتشير إلى تأكيد يسوع لتلاميذه أنَّه يقف بجوارهم، ويعمل معهم وبهم وفيهم، لأنَّ رسالتهم هي امتداد لرسالته. غير أنَّ تقديس التَّلاميذ لا يهدف إلى وضعهم في مأمن من تقلبات العَالَم وحمايتهم، بل عليهم أن يكمِّلوا رسالة يسوع الذي يرسلهم إلى العَالَم باسمه. فلا يحق لهم أن يهربوا من العَالَم بل أن يكونوا ملحًا للأرض ونورَا للعَالَم (متى 5: 13-16)؛ ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم: "كان من عادة يسوع أن يتحدَّث عن المستقبل كأمرٍ قد حدث فعلًا ". وكما أرسل الله الآب ابنه وقدّسه ليشهد للحق (يوحنا و36:10) فرفضه العَالَم وصلبه، هكذا أرسل الابن تلاميذه وقدّسهم ورفضهم العَالَم. وكانت رسالة للفداء، أمِّا رسالة التَّلاميذ فهي للتَّبشير وامتداد لرسالة المسيح، فبآلامهم يكملون نقائص "شَدائِدِ المسيح في سَبيلِ جَسَدِه الَّذي هو الكَنيسة" (قولسي24:1). فالمسيح أرسل تلاميذه ليؤسِّس كنيسته بتعاليمهم.

 

19 وأُكَرِّسُ نَفْسي مِن أَجلِهمِ لِيَكونوا هم أَيضًا مُكَرَّسينَ بِالحَقّ

 

تشير عبارة "أُكَرِّسُ نَفْسي" في الأصل اليونانيَّ ἁγιάζω (صيغة المضارع) إلى التَّقديس باستمرار، والتَّقديس هو عمل الله وحده، لذلك لا يوجد إنسان يُمكنه أن يقول أقدس أنا ذاتي. فالتَّقديس هو أن يصير الإنسان من خاصة الله، والله وحده يُعين خاصته، وللإنسان فقط أن يطلب التَّقديس، لكنه لا يعطيه قط. لذلك فإن قول المسيح "أُكَرِّسُ نَفْسي" دليل على ألوهيته. فالمسيح وضع ذاته للصَّليب، وقبل تخصيص الآب له للقيام بعمل الفداء، كما جاء في المزامير" حينَئِذٍ قُلتُ: هاءَنَذا آتٍ فقَد كُتِبَ علَيَّ في طَيِّ الكِتاب"(مزمور 40: 8). فالآب يريد فداء البشر، والابن يقبل بسرور إتمام الفداء (يوحنا 10: 18). أمَّا عبارة " أُكَرِّسُ نَفْسي مِن أَجلِهمِ" فتشير إلى تقدمة الحياة، وإلزام كيان الإنسان وعمله. وهنا يدل على رغبة يسوع كرئيس كهنتنا في تقديم ذاته طوعًا وتكريسها ليكون ذبيحة من أجل البشر (يوحنا 10: 18)، إذ بإرادته يُسلم نفسه للموت ليفتدي البشريَّة كما يقول الرَّسول بولس: " أمَّا المسيح ...فدَخَلَ القُدْسَ مَرَّةً واحِدَة، لا بِدَمِ التُّيوسِ والعُجول، بل بِدَمِه، فحَصَلَ على فِداءٍ أَبَدِيّ" (عبرانيِّين 9: 11-13). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم: " أُكَرِّسُ نَفْسي إذا يعني: أقدم ذاتي ذبيحة، فالذَّبائح كلها تُدعى مقدسة، والتي تقدم لله".  ومن هنا جاء قول بولس الرَّسول " إنِّي أُناشِدُكم إِذًا، أَيُّها الإِخوَة، بِحَنانِ اللّهِ أَن تُقَرِّبوا أَشْخاصَكم ذَبيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسةً مَرْضِيَّةً عِندَ الله، قدِّموا أجسادكم ذبيحة حيَّة" (رومة 12: 1). هكذا يتقدس تلميذ المسيح فيُكرِّس كل إمكانياته وطاقاته ووقته للمسيح الذي هو "الحق" (يوحنا 6: 51). كلمة التَّكريس التَّي تفوّه بها يسوع تُكرِّس ذاته، وتُكرِّس أولئك الذين مات من أجلهم. إن التَّكريس لله يشمل تقدمة الحياة، بقدر ما يُلزم كيان الإنسان وعمله في إتمامهما.  إنَّ يسوع يربط تقديس تلاميذه للرِّسالة بتقديس نفسه، ليكونوا هم مقدَّسين في الحق، وتقديس التَّلاميذ ينبع من تقديس الابن في التَّضحيَّة بذاته كاملة بموته على الصَّليب. وفي تقديس ابن الله، يجد التَّلاميذ القوِّة لكي يحملوا حتى النِّهاية نتائج تقديسهم. أمَّا عبارة "من أجلهم" فتشير إلى الموت على الصَّليب لأجل تلاميذه. فمات يسوع على الصَّليب مُكرّسًا ذاته لخدمة الله فحمل لنا الخلاص وكرّسنا نحن لهذه الخدمة عينها، بحيث نسير حيثما يسير. أمَّا عبارة " مُكَرَّسينَ بِالحَقّ" فتشير إلى التَّلاميذ الذين بفضل عطيَّة الرُّوح القُدُس يستطيعون أن يعرفوا الله ويعبدوه على أنَّه الآب: هذه هي العبادة بالحق التي ستمتاز بها الأزمة الأخيريَّة التي بدأت (يوحنا 4: 23).  فتكريس التَّلاميذ يقوم على هبة الرُّوح القُدُس وعلى ذبيحة الصَّليب. لذا هم عاجزون أن يقدِّسوا ذواتهم وبحاجة أن يُقدِّسهم الله (عبرانيِّين 10:10). فتقديس التَّلاميذ هو عمل إلهي من عمل الله نفسه. فالتَّلاميذ هم رسل في العَالَم ليعيشوا قداسة الله مثلما أرسل الله ابنه للعالم ليقدّس العَالَم. ومن المفسرين من يُشدِّد في التَّقديس على التَّطّهر من الخطيئة (يوحنا 15: 3)، ومنهم مَن يُشدِّد على الهبة الرُّوحيَّة التي تُمكِّن التَّلاميذ من القيام برسالتهم (يوحنا17: 20).  وباختصار فان التَّكريس يعطي التَّلاميذ القدرة على القيام بالرَّسالة (يوحنا 10: 36)، لأنه يبعث المرُسلين لحمل الكلمة في داخل العَالَم، دون إن يعزلهم عنه. فالمسيحي هو أولا "رجل" كسائر الرِّجال الآخرين، لكنَّه هو مكرَّس: وهذا ما قاله يسوع: لِيَكونوا هم أَيضًا مُكَرَّسينَ بِالحَقّ. إنَّنا مدعووُّن أن نكون ملحًا للأرض ونورًا للعالم (متى 5:13)، فعلينا أن نؤدِّي الدور الذي أرسلنا الله من أجله. وبعبارة أخرى، المسيحي هو مُرسلٌ في العَالَم لعيش قداسة الله، مثلما أرسل الله ابنه ليقدِّس العَالَم. ويسوع يطلب أن تكون حياة تلاميذه المُكرَّسين لخدمة الله وأعمالهم وحتى كيانهم في الحق بعيدة عن الكذب والباطل. أمّا عبارة "الحَقّ " فتشير إلى الكلمة التي في البدء، والتي هي الله (يوحنا 1: 1).

 

 

ثانيًا: تطبيقات النَّص الإنجيلي (يوحنا 17: 11-19)

 

 بعد دراسة موجزة عن وقائع النَّص الإنجيلي وتحليله (يوحنا 17: 11-19)، يمكن الاستنتاجَ أنه يتمحور حول صلاة يسوع من أجل تلاميذه لتلاميذه في سبيل وحدتهم وفرَحهم وحفظهم من الشِّرير.

 

1) صلاة يسوع من أجل وحدة التَّلاميذ (يوحنا 17: 11)

 

بعدما صلّى يسوع لأجل ذاته: (17: 1-8) صلّى من أجل وَحْدَة التَّلاميذ وفرَحهم وحفظهم من الشِّرير. صلّى يسوع من أجل وحدتهم لكي تعكس هذه الوَحْدَة وَحْدَة الآب والابن "لِيَكونوا واحِدًا كما نَحنُ واحِد" (يوحنا 17: 11). وإن أعظم أمنيه يطلبها يسوع لتلاميذه هي أن يكونوا واحدًا. فقد أراد أن يكونوا متَّحدين كشهادة قوِّة لحقيقة مَحَبَّة الله. "فَلْيكونوا بِأَجمَعِهم واحِدًا: كَما أَنَّكَ فِيَّ، يا أَبَتِ، وأَنا فيك فَلْيكونوا هُم أَيضًا فينا لِيُؤمِنَ العالَمُ بِأَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني" (يوحنا 17: 22). وإن الوَحْدَة ضروريَّة حتى تُعلن عن طريقها للعاَلَم مَحَبَّة الآب، التي أظهرها تعالى ببذل ابنه الوحيد (يوحنا 3: 16) ولكي يُصبح كل البشر واحدًا في المسيح، كما يصرّح بولس الرَّسول "فنَصِلَ بِأَجمَعِنا إلى وَحدَةِ الإِيمانِ بِابنِ اللهِ" (أفسس 4: 13). إذ ذاك تتحقق أمنية يسوع السَّامية هذه "أيها الآب، لِيَكونوا واحِدًا كما نَحنُ واحِد" (يوحنا 17: 22).

 

إن أتعس ما في الحياة، هو سوء التَّفاهُم والانشقاق في الكنيسة الواحدة، خاصّة تلك الّتي تعيش تحت سقفٍ واحد. ونعني بالانشقاق هو الانشقاق الدّاخلي الّذي يقوم على الحِقد والغَضب والمُشاحنة، وهذا ما عناه بولس برسالته: "أُناشِدُكُم، أَيُّها الإِخوُة، باِسمِ رَبِّنا يسوعَ المسيح، أَن تقولوا جَميعا قَولًا واحِدًا وأَلاَّ يَكونَ بَينَكُمُ اختلافات، بل كُونوا على وِئامٍ تامّ في رُوحٍ واحِدٍ وفكرٍ واحدٍ" (1 قورنتس1: 10)، مُحتَمِلينَ بَعضُكُم بَعضًا في المَحبَّة ومُجتَهِدينَ في المُحافَظَةِ على وَحْدَة الرُّوحِ بِرِباطِ السَّلام" (أفسس 4: 2-3).  ولكن إن تفّرقنا وأقام كل واحد لنفسه اسمًا آخر، كما حدث في رواية بناء برج بابل حيث قالوا: "تَعالَوا نَبْنِ لَنا مَدينةً وبُرْجًا رَأسُه في السَّماء، ونُقِمْ لنا آسْمًا كَي لا نَتَفَرَّقَ على وَجهِ الأَرضِ كُلِّها"، (التَّكوين 11: 4) ستضعف إمكانيَّة تحقيق وَحْدَتنا. وهنا الكارِثة، كما قال المسيح: " كُلُّ مَملَكةٍ تَنقَسِمُ على نَفْسِها تَخْرَب، وكُلُّ مَدينةٍ أَو بَيتٍ يَنقَسِمُ على نَفْسِه لا يَثبُت (متى 25:12). المسيح الّذي كان يعرف ما في الإنسان " فعَلِمَ أَفكارَهم" (لوقا 8:6)، كان يعلم أيضًا ماذا سيحدث بعده وسط الجماعة الّتي أرادَها واحدة، وصلّى لها أن تبقَ واحدة. لذلك لم يألف يسوع جُهْدًا من التَّحذير من الانقسام والانشقاق، حيث صلّى عدّة مرّات من أجل تلاميذه ليبقوا واحدًا، كما أنّه وأبوه واحدٌ، وتحت رعاية راعٍ واحد" (يوحنا 10: 16، 17: 21).

 

تقوم وَحْدَة الكنيسة على ثلاثة عوامل: الأوّل أساسها وهو المسيح حجر الزّاوية" (لوقا 17:20)، الثانية الرِّئاسة الواحدة، وهي بطرس وخلفاؤه "أنت بطرس-الصّخرة-وعلى هذه الصّخرة أبني كنيستي (متّى 18:16)، والثالثة َّ التَّعليم والوصايا الّتي وضعها بين يدي تلاميذه وأَمرهُم بالتّبشير بها (متّى 19:28). وفي هذه الصَّدد قال البابا بندكتس "كنيسة المسيح الحقيقيّة، هي الّتي تَقْبَلُ بكل تعاليم يسوع وتَفْهَمُها بروحِه، كما هو عناها. هذه التَّعاليم كلُّها هي موجودة فقط في الكنيسة الكاثوليكيّة، لا في الكنائس الثَّانية، مثلا إدارة الكنيسة الدّائمة ابتداءً من الاعتراف بأولويَّة بطرس ونقلها إلى كلِّ خلفائه وإعطاء سلطته للكهنة، الّذين ميّز دورهم عن دور المُعمّدين والمُبشِّرين الآخَرِين. لهؤلاء قال "اصنعوا هذا لذكري"، أي الاحتفال بالقدّاس (لوقا 19:22)، فهم يُشغِلون وظيفة أعلى من وظيفة المُعمَّد فقط". وأضاف هذا لا يعني أن باقي الكنائس لا تحمل في طيِّ تعليمها طُرُقًا وإرشادات تساعد على الخلاص".

 

بما أنَّ يسوع صلّى من اجل وَحْدَة التَّلاميذ ومن اجل أن يحفظَهم الآب باسمه (يوحنا 15: 11) ويكرِّسهم في الحق (يوحنا 15: 17) فلا بُد أنهم سيكونون في وَحْدَة وبلا انشقاق وينعكس عليهم مجد المسيح، كما طلب من الآب "(يوحنا 15: 5). ومن هذا المنطلق، يتوجب علينا أن ننمّي هذه الوَحْدَة، التي تمزِّقها الانشقاقات والبِدع والانقسامات، والتَّحزّبات، والمنافسات الرَّديئة والاختِلافات (1 قورنتس 1: 10)، وذلك بتجديد إيماننا الواحد في يسوع المسيح ربِّنا، لأنَّ الإيمان الذي يربطنا بالآب، كأبنائه، هو أساس وَحْدتنا في وجه العَالَم، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول: "هُناكَ رَبٌّ واحِدٌ وإِيمانٌ واحِدٌ" (أفسس 4: 5). ويُعتبر الحق محور هذه الوَحْدَة، والحب هو عصبها والإيمان بالله الواحد والمعموديَّة الواحدة والتَّناول من جسد المسيح الواحد ووحدانيَّة القلب مصادر الوَحْدَة (أفسس 1:4-6).

 

2) صلاة يسوع من أجل فرَح التَّلاميذ (يوحنا 17: 11-13))

 

صلّى يسوع أيضًا من اجل فرَح تلاميذه في إنجاز مهمته: "أَمَّا الآنَ فإِنِّي ذاهِبٌ إِلَيكَ. ولكِنِّي أَقولُ هذه الأَشياءَ وأَنا في العَالَم لِيَكونَ فيهِم فَرَحي التَّامّ" (يوحنا 17: 13). ويتسأل القديس أوغسطينوس "لكن ما هو هذا الفرَح الذي يريد أن يغمر به تلاميذه؟ لقد أوضح هذا الأمر سابقًا، عندما قال: "لِيَكونوا واحِدًا كما نَحنُ واحِد". هذا الفرَح الخاص به والذي أعطاهم إيّاه، يَعدهم بأن يبلغوا كماله، هذا الفرَح، هو السَّلام والسَّعادة في العَالَم المُقبل. لنناله يتوجب علينا أن نعيش في هذا العَالَم بالاتّزان والعدالة والتَّقوى ".

 

يتكلم الرَّب عن الفرَح الرُّوحي الذي هو ثَمَرة الرُّوح القُدُس (غلاطية 5: 22). وما هو الفرَح الحقيقي إن لم يكن ملكوت السَّماوات؟ وما الملكوت إن لم يكن الرّب يسوع المسيح؟ "الفرَح" علامة حياة تنمو، وميزة زمن الخلاص والسَّلام (أشعيا 9: 2).  وفي إنجيل يوحنا يبدو فرَح المسيح القائم من الموت نصيب التَّلاميذ الذين يحيون بالحياة الجديدة. فرَح المسيح هو عطيَّة إلهيَّة، نعمة مجانيَّة، وفي نفس الوقت وصيَّة نلتزم بها، لذا يوصينا الرَّسول بولس: "الإِخوَة، فافرَحوا في الرَّبّ" (فيلبي 3: 1)، "إِفرَحوا في الرَّبِّ دائِمًا، أُكرِّرُ القَولَ: افرَحوا"(فيلبي 4: 4). وهذا الفرَح الذي يضعه المسيح فينا لا يستطيع أحد أو أي ظروف أن ينزعه منا "وما مِن أَحَدٍ يسلُبُكم هذا الفَرَح "(يوحنا 22:16).

 

يدعو يسوع إلى الفرَح ودعوته هي نبع فرَح: "قُلتُ لَكم هذهِ الأشياءَ لِيَكونَ بِكُم فَرَحي فيَكونَ فَرحُكم تامًّا" (يوحنا 15: 11). إن يسوع ينطلق إلى الآب، بالصَّليب، فكان لتلاميذ أن يفرحوا بذلك، إن كانوا يُحبُّونه "لو كُنتُم تُحِبُّوني لَفَرِحتُم بِأَنِّي ذاهِبٌ إلى الآب" (يوحنا 14: 28)، لأنَّ غاية من هذا الانطلاق هي هبة الرُّوح "فَإِن لم أَذهَبْ، لا يَأتِكُمُ المُؤيِّد. أَمَّا إِذا ذَهَبتُ فأُرسِلُه إِلَيكُم (يوحنا 16: 7). إنهم، بفضل هذه الهبة، سيحيون حياة يسوع (يوحنا 14: 11)، لأنَّهم سينالون من الآب كل شيء، عندئذ سيتبدَّل حزنهم إلى فرَح، وسيكون فرَحهم كاملًا، ولن ينزعه منهم أحد (يوحنا 14: 13-14). وفي هذا الصَّدد قال القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم: "أمّا الصَّليب، فهو مشيئة الآب ومجد الابن وفرَح الرُّوح القُدُس".

 

لا يقبل العَالَم فرَح يسوع، لأنَّه يأتي من خارج العَالَم، وهكذا سيكون الخلاف بين أبناء الله والعَالَم. كما تنبأ يسوع " إِنِّي بَلَّغتُهم كَلِمَتَكَ فأَبَغَضَهُمُ العَالَم لأَنَّهُم لَيسوا مِنَ العَالَم كما أَنِّي لَستُ مِنَ العَالَم" (يوحنا 17: 14) التَّلاميذ سيعانون الشِّدة (يوحنا 16: 33). إن طريق السَّعادة والفرَح في ملكوت الرَّبّ تمرّ بالصَّليب. لم يكن الصَّليب هزيمةً بل انتصارًا – انتصارًا على الخطيئة وعلى قوى الشَّرّ في العَالَم وعلى الشَّيطان، انتصارًا حاسمًا، وبهذا يكون لنا سلام وفرَح في نهاية الأمر. فهل تعرفت على فرح انتصار المسيح الفصحي على الخطيئة والموت؟

 

نستنتج مما سبق أن التَّلاميذ لم يفهموا أن الألم يقود إلى القيامة، إلى حد أنَّهم لم يجرؤوا على أن يستسلموا للفرَح الذي أخذ يغمر به قلوبهم لدى ظهوره لهم (يوحنا 24: 41). ولكن عندما صعد يسوع إلى السَّماء، وبعد أن بيّن لهم كيف أن الكتب قد تمَّت فيه، وبعد أن وعدهم بقوِّة الرُّوح (يوحنا 24: 44)، فإنهم "رَجَعوا إلى أُورَشَليم وهُم في فَرَحٍ عَظيم" (لوقا 24: 52). لقد أتت كلمة يسوع بثمرها كما جاء في وعد يسوع "مَّا الآنَ فإِنِّي ذاهِبٌ إِلَيكَ. ولكِنِّي أَقولُ هذه الأَشياءَ وأَنا في العالَم لِيَكونَ فيهِم فَرَحي التَّامّ. ":(يوحنا 17: 13). من يؤمنون بالمسيح، لهم ملء فرَحه، في هذا الصَّدد يضيف يوحنا الحبيب في رسالته الأولى للجماعة المسيحية الأولى: " إِنَّنا نَكُتبُ إِلَيكم بِذلِك لِيَكونَ فَرَحُنا تامًّا (1 يوحنا 1: 4).

 

كان أعضاء الجماعة المسيحيَّة الأولى حقا يعيشون في فرَح ودعة وسَلامةِ قَلْب (أعمال 2: 46)، لان "مَلَكوتَ اللهِ بِرٌّ وسَلامٌ وفَرَحٌ في الرُّوحِ القُدُس" (رومة 14: 17). ويُعلق القدّيس أفرام السِّريانيّ " لِمَ لا ندخل نحن أيضًا في نهر هذا الفرَح؟" لنفرَح به كما فرَح هو بنا".   فلنفرح مع القديس أنسيلموس قائلين "ربّي وإلهي، يا رجائي وفرَح قلبي، لقد وجدت بالفعل فرَحا تامًّا، لأنّ قلبي، ونفسي وروحي، وكلّ كياني مليء من فرَحك الّذي يفيض دون مقياس".

 

3) صلاة يسوع من أجل حفظ التَّلاميذ من الشِّرير

 

لم يصلِّ يسوع من أجل وحدة التلاميذ وفرحهم بل صلّى أيضا من اجل أن يَحفظهم الآب السَّماوي من الشِّرير. لم يصلِّ يسوع كي يأخذ الآب التَّلاميذ من العَالَم، لان ذلك يعطِّل الغرض الإلهي، ولكن لكي يَحفظهم من الشَّيطان "لا أَسأَلُكَ أَن تُخرِجَهُم مِنَ العَالَم بل أَن تَحفَظَهم مِنَ الشِّرِّير" (يوحنا 17: 15). كان على المسيح أن يذهب إلى الآب، بينما هم يجب أن يبقوا في العَالَم ليتمِّموا مهمة الآب "كَمَا أَرسَلَتني إلى العَالَم فكَذلِكَ أَنا أَرسَلتُهم إلى العَالَم" (يوحنا 17: 18). وصلَّي كي يقدِّسهم الآب في حياة الحق المُجسّدة في شخصه، وهي حياة الطَّهارة والقداسة "كَرِّسْهُم بالحَقّ إِنَّ كلِمَتَكَ حَقّ" (يوحنا 17: 17).

 

لم يهمل المجمع الفاتيكاني دور التلاميذ الهام " إن كهنة العهد الجديد بموجب دعوتهم وسيامتهم، أصبحوا مفروزين بنوع ما وسط شعب الله، ولكن لا ليكونوا في عزلة عنه أو عن أي إنسان، وإنما ليكونوا مكرّسين كليًا للعمل الذي من أجله اختارهم الرَّب (أعمال الرُّسل 13: 2). وإنهم لا يستطيعون أن يكونوا خدّامًا للمسيح، إن لم يكونوا شهودًا ومُوزَّعين لحياة غير هذه الحياة الأرضيَّة، ولكنهم لن يستطيعوا أن يخدموا النَّاس، إذا ظلوا غرباء عن حياتهم وظروفهم وأحوالهم" (مجمع الفاتيكاني، في حياة الكهنة وخدمتهم الرَّاعويَّة، 3).

 

لم يطلب يسوع حفظ تلاميذه بإزالة التَّجارب والضيقات من طريقهم، وإنما تنعُّمهم بالنَّصرة في صراعهم ضد الشَّر، وحفظهم من الفَساد الذي حلَّ بالعَالَم، وذلك من خلال هبة روح القوِّة والنَّصرة على شر العَالَم فلا يقترب إليهم الشِّرير. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "يحفظهم من الشَّر الأخلاقي، من الرَّذيلة، وضعف القلب". ولا يقف عمل الله فيهم عند حفظهم من الشَّر والشِّرير، وإنما يمتد إلى العمل السُّلوك بالقداسة والصَّلاح وعمل البِرّ، وتقديسهم أيضًا بمعنى النُّمو المستمر في الإيمان والاضطرام الدائم للقلب بروح الله. أمَّا وسيلة التَّقديس فهي "في حقك"، "كَرِّسْهُم بالحَقّ إِنَّ كلِمَتَكَ حَقّ " (يوحنا 17: 17)، أي خلال كلمة الله. بالكلمة والصَّلاة.  

 

 

الخلاصة

 

جاء يسوع إلى العَالَم لانتزاع البشر من خلال موته من عبودية الشَّيطان ورميه خارجًا (يوحنا 12: 31)، لذلك سأل يسوع من الآب السَّماوي طلبين لتلاميذه. الطلب الأول: أحفظ التَّلاميذ (يوحنا 17: 11-16) حيث يصلي يسوع أن يحفظهم في الوَحْدَة لِيَكونوا واحِدًا كما نَحنُ واحِد" (يوحنا 17 :11)، ويحفظهم في الفرَح: أَمَّا الآنَ فإِنِّي ذاهِبٌ إِلَيكَ. ولكِنِّي أَقولُ هذه الأَشياءَ وأَنا في العَالَم لِيَكونَ فيهِم فَرَحي التَّامّ (يوحنا 17: 13)، ويحفظهم من الشِّرير " لا أَسأَلُكَ أَن تُخرِجَهُم مِنَ العَالَم بل أَن تَحفَظَهم مِنَ الشِّرِّير (يوحنا 17: 16).

 

الطَّلب الثَّاني فهو "كَرِّسْهُم.  "كَرِّسْهُم بالحَقّ إِنَّ كلِمَتَكَ حَقّ"(يوحنا 17-19). يطلب يسوع لتلاميذه من آبيه نعمة التَّكريس أو التَّقديس للرِّسالة التي ستكمّل رسالته بعد أن يغادر هذه الأرض. "كَمَا أَرسَلَتني إلى العَالَم فكَذلِكَ أَنا أَرسَلتُهم إلى العَالَم" (يوحنا 17 :18). انه يريدهم لله بكُليتهم، مُكرسين لعمله في الحق. والحق ليس الأمانة للعهد والشَّريعة فحسب، إنَّما أيضًا الأمانة لكلمة الله، "حقيقة الإنجيل" (غلاطية 2: 5) أي ملء الوحي الذي يجد مركزه في المسيح الذي قال:" أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة" (يوحنا 14 :6). إنّ معرفتنا بالرَّبّ يسوع الّذي قد صلّى من أجلنا نحن تلاميذه لا بُدّ أن تُعطينا الثِّقة ونحن نعمل من أجل ملكوته. 

 

 

دعاء

 

أيها الآب السَّماوي، نسألك باسم يسوع ابنك الذي صعد إلى السَّماء أن يتشفع فينا، وأن تحفظنا باسمك وتحمينا من الشِّرير وتهبنا الوَحْدَة لنعيش في شركة مَحَبَّة والفرح، فنسير على وفق دعوتنا المسيحيّة، فنكون شهودًا للحق أمام العَالَم فنَصِلَ بِأَجمَعِنا إلى وَحْدَة الإِيمانِ بِابنِ اللهِ ومَعرِفَتِه ونَصيرَ الإِنسان الرَّاشِد ونَبلُغَ القامةَ الَّتي تُوافِقُ كَمالَ المسيح" (أفسس 4: 13).

 

يا رب، لا أسألك أن تعفيني من التَّعب، بل أن تمنحني القوِّة على عمل ما عليَّ؛

ولا أسألك الخلو من التَّجارب، بل النِّعمة لأقوى عليها،

ولا أسألك عدم حلول المصائب، بل التَّعزية والفرَح الثَّبات في مَحَبَّة الله

ولا أسألك أن تُخرجني من العَالَم، بل أن أفيد العَالَم مدة بقائي فيه.

 

 

قصة وعبرة: في الوَحْدَة القوِّة

 

من لا يعرِفها قصّة الملك، الّذي كان له أولادٌ كثيرون وكان لا يُريد تقسيم مملكته إلى ولاياتٍ صغيرة، لكلِّ واحدٍ حُصَّتُه الصَّغيرة، بل أرادها أن تبقى مملكة مُوَحْدَة مُتكاملة لهم جميعًا وليس ولايات صغيرة مُستقلَّة، بحدود فاصِلَة مُتعادية. فجمعَهم حول فراش موته، وقدّم لهم حُزْمَةَ عصيٍ مربوطة وطلب من أولاده واحدًا واحدًا أن يحاول كسرها، فلم ينجحوا. لذا حلَّ الرّباط عن العصي وأعطى كلَّ واحدٍ منهم عصا واحِدة، طالبًا منهم مُحاولةَ كَسْرِها. فنجح كلُّ واحدٍ بكسر عصاه بسهولة. لا لحاجة لشرح مغزى هذه القصّة مُطوَّلًا. الوَحْدَة والاتحاد هما قُوّةٌ يصْعُب خَرْقُها.  في الاتحاد قوِّة.