موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٢ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٠

شهادة يوحنا المعمدان ويسوع المسيح

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الاحد الثالث من المجيء (يوحنا 1: 6-8، 19-28)

الاحد الثالث من المجيء (يوحنا 1: 6-8، 19-28)

 

النص الإنجيلي (يوحنا 1: 6-8، 19-28)

 

6 ظَهَرَ رَجُلٌ مُرسَلٌ مِن لَدُنِ الله اِسْمُه يوحَنَّا 7 جاءَ شاهِداً لِيَشهَدَ لِلنَّور فَيُؤمِنَ عن شَهادتِه جَميعُ النَّاس. 8 لم يَكُنْ هو النُّور بل جاءَ لِيَشهَدَ لِلنُّور. 19 وهذه شَهادَةُ يوحَنَّا، إِذ أَرسَلَ إِلَيه اليَهودُ مِن أُورَشَليمَ بَعضَ الكَهَنَةِ واللاَّوِيّينَ يَسأَلونَه: ((مَن أَنتَ؟)) 20 فاعتَرفَ ولَم يُنكِرْ، اِعتَرَفَ: ((لَستُ المسيح)). 21 فسأَلوه: ((مَن أَنتَ إِذاً؟ أَأَنتَ إِيلِيَّا؟)) قال: ((لَستُ إِيَّاه)). ((أَأَنتَ النَّبِيّ؟)) أَجابَ: ((لا!)) 22 فقالوا له: ((مَن أَنتَ فنَحمِلَ الجَوابَ إِلى الَّذينَ أَرسَلونا؟ ماذا تَقولُ في نَفسِكَ؟)) 23 قال: ((أَنا صَوتُ مُنادٍ في البَرِّيَّة: قَوِّموا طَريقَ الرَّبّ. كَما قالَ النَّبِيُّ أَشَعْيا)). 24 وكانَ المُرسَلونَ مِنَ الفِرِّيسِيِّين، 25 فسَأَلوهُ أَيضاً: ((إِذا لم تَكُنِ المسيحَ ولا إِيلِيَّا ولا النَّبِيّ، فلِمَ تُعَمِّدُ إِذاً؟)) 26 أَجابَهُم يوحَنَّا: ((أَنا أُعَمِّدُ في الماء، وبَينَكم مَن لا تَعرِفونَه، 27 ذاكَ الآتي بَعدِي، مَن لَستُ أَهلاً لأَن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه)). 28 وجَرى ذلك في بَيتَ عَنْيا عِبْرَ الأُردُنّ، حَيثُ كانَ يوحَنَّا يُعَمِّد.

 

المقدمة

 

في الاحد الثالث من زمن المجيء تستهل الكنيسة مقدمة انجيل يوحنا البشير بشهادة يوحنا المعمدان (يوحنا 1: 6—8، 19-28) التي تُثبت صحة هوية يسوع المسيح وشخصه في التاريخ مقارنة مع يوحنا المعمدان. ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

أولا: وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 1: 6-8، 19-28)

 

6 ظَهَرَ رَجُلٌ مُرسَلٌ مِن لَدُنِ الله اِسْمُه يوحَنَّا

 

 تشير عبارة "ظهر" في اليونانية "Ἐγένετο " (معناها كان) الى عكس فعل "كان" في اليونانية   ἦν الذي ورد في الآية الاولى "كان الكلمة" (يوحنا 1: 1) حيث أن يسوع جاء في صيغة فعل الكينونة، أي أنه كائن أزلي غير مُحدَّد بزمن معين على عكس يوحنا المعمدان الذي وجد في زمن معين.  ويعلق القدّيس غريغوريوس الكبير "إن كان المسيح أعظم منّي، برغم أنّه ولد من بعدي، فذلك لأنّ وقت ولادته لا يحصره في حدود معيّنة. فهو ولد من أمّ ٍ في الزمن، لكنّه مولودٌ من الآب قبل الدهور وخارج الزمن". والجدير بالذكر اننا لا نجد خبر طفولة يسوع في إنجيل يوحنا، كما إننا لا نجده ايضا في إنجيل مرقس. يبدأ هذان الإنجيلان برسالة يوحنا المعمدان ما يقارب نحو ثمانية وعشرين سنة بعد ميلاد يسوع.  أمَّا عبارة " رَجُلٌ مُرسَلٌ مِن لَدُنِ الله" فتشير الى الله مصدر إرساليته؛ ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " إذا سمعت أن يوحنا مُرسل من الله فلا تظن أنه يتكلم بأقواله، لكنه إنما يتكلم بأقوال مُرسله، ولهذا ُسمى ملاكًا كما ورد في سفر ملاخي النبي "هاءَنَذا مُرسِلٌ رَسولي فيُعِدُّ الطَّريقَ أَمامي، ويَأتي فَجأَةً إِلى هَيكَلِه السَّيِّدُ الَّذي تَلتَمِسونَه، ومَلاكُ العَهدِ الَّذي تَرتَضونَ بِه"(ملاخي 3: 1)، ومهمَّة الملاك ألا يقول قولًا من ذاته". فهذه هي مهمة النبي: أن يُخبر برسالة وُضِعَت في قلبه، ينطقها كاملة صحيحة بفمه كما قال الرب الى أرميا النبي: " فإنَّكَ لِكلِّ ما أُرسِلُكَ لَه تَذهَب وكُلَّ ما آمُرُكَ بِه تَقول" (إرميا 1: 7). أمَّا عبارة " يوحَنَّا " فهي الصيغة العربية في اسفار العهد الجديد للترجمة اليونانية Ἰωάννης وهي لفظة مشتقة من العبرية יוֹחָנָן (معناها الله حنون) وسُمِّي بذلك بأمر من الله (لوقا 1: 13) ويوحنا المعمدان، هو لاوي ابن زكريا الشيخ وزوجته اليصابات، دُعي وكُرَّس منذ ولادته ليكون سابق المسيح (لوقا 1: 5-25) وكان أبواه يسكنان اليهودية في يطّا، مدينة الكهنة، وهي إحدى قرى منطقة الخليل. وكانت ولادته قبل ولادة المسيح بستة أشهر (لوقا 1: 26) في قرية عين كارم بحسب التقاليد. ودُعي القديس يوحنا المعمدان رسولًا أو ملاك الله (ملاخي ٣: ١). وكان نبيا وسابقا للمسيح بالتوبة وشاهداً لابن الله. ولم يذكر عنه الكتاب المقدس أنه صنع معجزة ما، لكنه شهد للحق، وجذب الكثيرين للتوبة بحياته الجادة وشهد للمخلص يسوع المسيح.  وان اللقب الأشهر ليوحنا هو "المعمدان" وذلك لكونه عمَّد يسوع، وكان أول من دعا يوحنا المعمدان هو هيراكليون الغنُّوصي في القرن الثاني، وبعد ذلك استعمله عدد من كبار آباء الكنيسة، ثم شاع هذا اللقب في الكنائس ذات التراث الشرقي وذات التراث الغربي على حد سواء.

 

7 جاءَ شاهِداً لِيَشهَدَ لِلنَّور فَيُؤمِنَ عن شَهادتِه جَميعُ النَّاس

 

تشير عبارة "شاهِداً" الى يوحنا المعمدان في حين يوحنا الإنجيلي فهو الشاهد (يوحنا 21: 24). وظيفة يوحنا المعمدان الخاصة هي ان يشهد بان يسوع هو المسيح (يوحنا 1: 31) منادياً بين الناس بوجوب التوبة قبل مجيء المسيح ليُعدَّ قلوبهم لقبوله عند مجيئه. ويعلق القدّيس بطرس خريزولوغُس" هنيئًا ليوحنّا لأنّه أراد أن تسبق التوبةُ الدينونة، وألاّ يُحكم على الخطأة بل أن يكافؤوا. لأنّه أراد أن يدخل الأشرار الملكوت وليس أن يُلقى عليهم العقاب" (العظة 167)؛ امَّا عبارة "يَشهَدَ لِلنَّور " فتشير الى رسالة يوحنا المعمدان، وهذه الشهادة تكمن بما "رأى وسمع" (يوحنا 3: 32) عن المسيح. وهو الشاهد الأوّل ليسوع، علما أن مفهوم الشهادة في الإنجيل أمرٌ جوهريّ إذ تكرّر مصطلح الشهادة أكثر من أربعين مرّة.  وهذا الامر حدث خاصة عند عماد يسوع " وشَهِدَ يوحَنَّا قال: ((رَأَيتُ الرُّوحَ يَنزِلُ مِنَ السَّماءِ كأَنَّه حَمامَة فيَستَقِرُّ علَيه.  وأَنا لَم أَكُنْ أَعرِفُه، ولكِنَّ الَّذي أَرسَلَني أُعَمِّدُ في الماءِ هو قالَ لي: إِنَّ الَّذي تَرى الرُّوحَ يَنزِلُ فيَستَقِرُّ علَيهِ، هو ذاكَ الَّذي يُعَمِّدُ في الرُّوحِ القُدُس.  وَأَنا رأَيتُ وشَهِدتُ أَنَّه هو ابنُ الله " (يوحنّا 1: 32-34). لم يكن المسيح بحاجة إلى من يشهد له، فهو شاهد لنفسه بنوره، إنما كان يوحنا السراج الحامل لنور المسيح فيه كما جاء في إنجيل يوحنا البشير: "كانَ يوحَنَّا السِّراجَ المُوقَدَ المُنير" (يوحنا 5: 35).  ورد فعل "شهد" 33 مرة في إنجيل يوحنا ومرة واحدة في إنجيلي متى ولوقا، ولم يرد في إنجيل مرقس. امَّا عبارة " لِلنَّور " فتشير الى نور طبيعي بضوء الشمس والقمر، واصطناعي بالزيوت وغيرها. وقد استعمل الكتاب النور في معان رمزية. فالله نور (1 يوحنا 1: 5)، وهنا يدل النور على المسيح كما صرَّح يسوع نفسه "أَنا نورُ العالَم" (لوقا 9: 5) وكما جاء أيضا في تعليمه يوحنا المعمدان " آمِنوا بِالنُّور، ما دام لكُمُ النُّور لِتَصيروا أَبناءَ النُّور " (يوحنا 12: 36)، واخذ يوحنا علامة من الله لكي يعرف المسيح "أَنا لَم أَكُنْ أَعرِفُه، ولكِنَّ الَّذي أَرسَلَني أُعَمِّدُ في الماءِ هو قالَ لي: إِنَّ الَّذي تَرى الرُّوحَ يَنزِلُ فيَستَقِرُّ علَيهِ، هو ذاكَ الَّذي يُعَمِّدُ في الرُّوحِ القُدُس" (يوحنا 1: 33).  امَّا عبارة " فَيُؤمِنَ عن شَهادتِه جَميعُ النَّاس " فتشير الى غاية شهادته هي الإعلان عن شخص السيد المسيح، حتى يؤمن جميع الناس به، فيتمتعوا به نورًا في هذا العالم، ومجدًا في الحياة الأخرى. قصد الله ان يفتح على يد يوحنا المعمدان أبواب الايمان للجميع. ولو اتى المسيح بالمجد الذي كان له في السماء قبل انشاء العالم لم يحتاج الى شاهد، وإنما احتاج الى ذلك لأنه جاء بصورة بشر. أمَّا عبارة " شَهادتِه " فتشير الى شهادة يوحنا المعمدان، وهي شهادة بشرية الهية، شهادة لا يقوم بها البشر الاَّ بدعوة يخصُّهم الله بها، وهي حالة دعوة الأنبياء، (أشعيا 55: 4). ودعوة الرسل والكهنة (اعمال الرسل 1: 8). فالشهادة تقوم على المعرفة والمسؤولية لإعلان الحقيقة وتفنيد الكذب والزور.  وقد وردت لفظة شهادة 14 مرة في إنجيل يوحنا، ولم تردْ في إنجيل متى، إنما وردت ثلاث مرات في إنجيل مرقس، ومرة واحدة في إنجيل لوقا. ونجد في الاناجيل شهادات كثيرة للمسيح منها: شهادة الآب (يوحنا 5: 31)، وشهادته لنفسه (يوحنا 8: 14)، وشهادة الروح القدس (يوحنا 15: 26)، وشهادة أعمال المسيح (يوحنا 5: 36)، وشهادة يوحنا المعمدان (يوحنا 1: 7)، وشهادة التلاميذ (يوحنا 15: 27).

 

8 لم يَكُنْ هو النُّور بل جاءَ

 

تشير عبارة "لم يَكُنْ هو النُّور" الى نور يوحنا المعمدان الصادر من نور المسيح الذي له النور في ذاته ويهبه لغيره: " يُنيرُ كُلَّ إِنْسان آتِياً إِلى العالَم " (يوحنا 1: 9)، حيث صرّح يسوع بقوله "أَنا نُورُ العالَم مَن يَتبَعْني لا يَمْشِ في الظَّلام بل يكونُ له نورُ الحَياة" (يوحنا 8: 12)، وفي موضع آخر يقول "جِئتُ أَنا إِلى العالَمِ نوراً فكُلُّ مَن آمَنَ بي لا يَبْقَى في الظَّلام." (يوحنا 12: 46). المسيح هو النورُ الأزليّ، النورُ الذي لا زمنَ له، والذي ظهرَ في الزمنِ، ظهرَ في جسدِه وخَفِيَ في طبيعتِه، النورُ الذي أحاطَ بالرعاةِ، وقادَ المَجُوسَ في الطريق. وحيث ان يسوع هو النور، الذي لا يعرف الظلمة، وحياة لا تعرف الموت، ومحبة موجَّهة إلى كلّ شخص على وجه الأرض دون تمييز. يسوع يدعونا للسير في النور والسير في النور يعني مشاركة بعضنا مع بعضا كما يقول يوحنا الرسول " وأمَّا إِذا سِرْنا في النُّور كما أَنَّه هو في النُّور فلَنا مُشارَكةٌ بعضُنا مع بَعض "(1 يوحنا 1: 7)، فلا مشاركة لله بدون مشاركة لإخوتنا. أمَّا عبارة "جاءَ لِيَشهَدَ لِلنُّور" فتشير إلى يوحنا المعمدان الذي لا يدعو التلاميذ ليتبعوه، بل ليتبعوا يسوع، والى الايمان به حيث ظنَّ بعض التلاميذ انَّ يوحنا هو المسيح الذي يؤمنون به. وفي الواقع، يوحنا هو الشاهد للنور، لا النور، هو الشاهد للمسيح، لا المسيح نفسه، يوحنا رفيق العريس، لا العريس (يوحنا 3: 29).  ويُعلق القدس اوغسطينوس " هكذا كان يوحنا نورًا، لكنه لم يكن النور الحقيقي، لأنه لو لم يستنر لكان فيه ظلمة، لكنه بالاستنارة صار نوراً".

 

19 وهذه شَهادَةُ يوحَنَّا، إِذ أَرسَلَ إِلَيه اليَهودُ مِن أُورَشَليمَ بَعضَ الكَهَنَةِ واللاَّوِيّينَ يَسأَلونَه: ((مَن أَنتَ؟))

 

تشير عبارة "إِذ أَرسَلَ إِلَيه" في الأصل اليوناني ὅτε ἀπέστειλαν  (معناها حين أرسل) الى ذلك الوقت بعد وقت المعمودية ورجوع يسوع المسيح من تجربته أربعين يوما في البرِّية؛ امَّا لفظة "اليهود" التي وردت 70 مرة في إنجيل يوحنا فتشير الى سبط يهوذا، لكنها أطلقت بعد السبي على كل الاسباط، لأن الراجعين إلى بلادهم، بعد السبي، كان أغلبهم من سبط يهوذا. وفي إنجيل يوحنا تدل هذه اللفظة على أعضاء شعب إسرائيل (يوحنا 3: 25)، ولكنها تدل في اغلب الأحيان على الفئة المتعصبة والمقاومة للمسيح التي قامت بصلبه. وبهذا المعنى تصف هذه الكلمة خاصة السلطات القائمة (يوحنا 2: 1-8) الذين يرفضون المسيح. ولفظة اليهود هنا جاءت للدلالة على الوفد الذي ارسله المجلس الأعلى من اورشليم للتحقيق في نشاط المعمدان. امَّا عبارة "مِن أُورَشَليمَ" فتشير الى لجنة مختارة أرسلها مجمع السنهدريم اليهودي من اورشليم. وغاية إرساله إياها الفحص عن دعاوي يوحنا المعمدان الذي جمع إليه الجموع العظيمة وحمل كثيرين على ظنهم إياه المسيح (لوقا 3: 15) وإرسال تلك اللجنة دليل على شدة تأثير يوحنا المعمدان في مواعظه.  أمَّا عبارة "بَعضَ الكَهَنَةِ واللاَّوِيّينَ" فتشير الى قسم من اعضاء مجمع السنهدريم اليهودي الذين كانوا يستمدُّون سلطتهم من وظيفتهم الدينية. والكهنة فرقة من اللاويين، نسل هارون وكان أكثر الكتبة من اللاويين. وكانوا يقومون بخدمة الهيكل. وكان مجمع السنهدريم مؤلفاً في أُورُشَلِيمَ من واحد وسبعين شيخاً، يرأسهم عظيم الكهنة. وأعضاؤه يؤلفون من ثلاث فئات: فئة "رؤساء الكهنة" من المتقاعدين القائمين بالخدمة الكهنوتية من العائلة الكهنوتية العليا؛ وفئة "شيوخ الشعب" وهم خدام الهيكل من اللاويين؛ وهم من قبيلة لاوي الذين ارتبطوا بالهيكل وبشعائر العبادة (عدد 3: 17-37) واهتموا بالتعليم أيضا، وبهذه الصفة أُرسِلوا الى يوحنا المعمدان. وفئة "الكتبة" هم علماء الشريعة المختصُّون رسمياً للتعليم بها. وبالإجمال كان هذا المجمع اليهودي صورة لمجلس الشيوخ القديم (عدد11: 16). هذه هي المرة الوحيدة، التي وردت فيها كلمتا "كهنة ولاويين" متَّحدتين معاً في العهد الجديد. لما انجذبت جماهير غفيرة الى يوحنا، اهتز مجلس السنهدريم خاصة كانت الافكار مُشبعة وقتئذٍ بانتظار المسيح الموعود به في الأنبياء، وخاصة أن البعض ً ظنه المسيح المنتظر؛ فأرسلوا وفداً ليحقِّقوا في نشاط يوحنا المعمدان، ذاك الانسان الذي لم يسمح له أحد بأن يعلم فيحكموا بأمره. وقد جاء في "المشنا" أن محاكمة أي نبي كاذب هو من اختصاص مجلس الواحد والسبعين (سنهدريم1: 5). وباختصار فإننا نجد شهادة يوحنا المعمدان أمام وفد السنهدريم (يوحنا 1: 19-28). وهي نقطة فاصلة في رسالة يوحنا المعمدان. اما عبارة "مَن أَنتَ؟" فتشير الى استجواب وفد مجلس السنهدريم الذي يحوم حول وظيفة يوحنا التي ادَّعى انه نالها من السماء، كي يتوصلوا من خلالها لمعرفة شخصية المسيح المنتظر وقد أشار المسيح في خطابه الى مهمة يوحنا بعد ذلك " كانَ يوحَنَّا السِّراجَ المُوقَدَ المُنير ولقَد شِئتُم أَنتُم أَن تَبتَهِجوا بِنورِه ساعةً" (يوحنا 5: 33).

 

20 فاعتَرفَ ولَم يُنكِرْ، اِعتَرَفَ: "لَستُ المسيح

 

تشير عبارة "فاعتَرفَ ولَم يُنكِرْ، اِعتَرَفَ" الى ثلاث كلمات، الكلمتان الواقعتان في الطرفين هما إيجابيتان (اعترف) والكلمة المركزية سلبية (لم ينكر). وذكرت الكلمات الثلاث معاً تأكيداً على صراحة وصدق شهادة يوحنا المعمدان وبيان أهميتها حيث انه اظهر استعداده باعترافه، وبعدم إنكاره؛ وباعترافه قدَّم برهاناً قاطعا على شهادته. وهي شهادة رسمية أمام وفد رسمي. كان جواب يوحنا المعمدان جواباً صريحاً قاطعاً. كل هذا التأكيد، لأن جماعة من تلاميذ يوحنا ظلت تؤمن به وترفض المسيح كما جاء في أعمال الرسل "ولَمَّا أَوشَكَ يوحَنَّا أَن يُنهِيَ شَوطَه قال: مَن تَظُنُّونَ أَنِّي هو؟ لَستُ إِيَّاه ها هُوَذا آتٍ بَعدي ذاكَ الَّذي لَستُ أَهلاً لأَن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه"(اعمال الرسل 13: 25)، فرفض يوحنا كل دعوى في أنه هو المسيح وابى الإكرام الذي استعدَّ الناس ان يقدموه له باعتبار كونه المسيح. يُعلمنا يوحنا ان نقرّ بمكاننا "ونعرف قدر أنفسنا". أمَّا عبارة "لَستُ المسيح" فتشير الى جواب يوحنا المعمدان الذي بلغ به قمة التواضع، وأظهر حقيقة أمره (يوحنا 1: 19). ويعلق القديس أوغسطينوس "حسِبَ الناسُ أنّه المسيح، فقالَ إنّي لستُ كما تَحسَبُون، فلم يستغلَّ ضلالَ غيرِهِ ليَصنَعَ لنفسِهِ مجدًا" (عظة 293). إن شهادة يوحنا المعمدان هي غُرَّة تاريخ الإنجيل، إذ هي أول مرة سمع فيها رؤساء اليهود كلمة البشارة (الإنجيل) مواجهة. أمَّا عبارة "المسيح" فتشير بالنسبة الى اليهود المسيح المنتظر بمعناه القومي والسياسي، أمَّا في المسيحية فيدل على ان يسوع هو المسيح ويوحي بما لسيادته من طابع إلهي كما جاء في عظة بطرس الرسول الأولى "فَلْيَعْلَمْ يَقينًا بَيتُ إِسرائيلَ أَجمَع أَنَّ يَسوعَ هذا الَّذي صَلَبتُموه أَنتُم قد جَعَلَه اللهُ رَبًّا ومَسيحًا" (اعمال الرسل 2: 36).  فالمسيح هو في آن واحد إنسان أصله معروف (يوحنا 6: 42)، وان الله أصله السماوي يُخفى على البشر. هنا نجد صدى مجادلات بين اليهود والمسيحيين طوال القرن الأول كما ورد في إنجيل يوحنا: "على أَنَّ هذا نَعرِفُ مِن أَينَ هو، وأَمَّا المسيح فلا يُعرَفُ حينَ يأتي مِن أَينَ هو" (يوحنا 7: 27).

  

21 فسأَلوه: ((مَن أَنتَ إِذاً؟ أَأَنتَ إِيلِيَّا؟)) قال: ((لَستُ إِيَّاه)). ((أَأَنتَ النَّبِيّ؟)) أَجابَ: ((لا! ))

 

تشير عبارة "مَن أَنتَ إِذاً؟" الى سؤال وفد السنهدريم عن هوية يوحنا المعمدان؛ أمَّا سؤال "أَأَنتَ إِيلِيَّا؟" فتشير الى اعتبار اليهود أن إيليا لم يمتْ بل انتقل الى السماء قبل ذلك بنحو 900 سنة. (2 ملوك 2: 11)، وأنه يعود ليُعلن نهاية العالم بحسب بنبوءة ملاخي، وليُعدَّ الشعب للقاء المسيح بلم شمله في الوحدة والأمانة (متى 17: 11)، ويَحضّ الناس مرة أخيرة على التوبة قبل الدينونة العامة (متى 11: 14)؛ وكان الكتبة يعلمون أن إيليا ينبغي أن يأتي قبل المسيح (متى17: 10) ثم سيره مع المسيح على الأرض ومسحه إياه وتعميد الناس عموما وفقا لقوله تعالى. وهذا الاعتقاد الخاطئ ناشئ عن سوء فهم سفر ملاخي (4: 5). ولقد جاء في التلمود ان إيليا سوف يظهر قبل المسيح. فهناك مجيء أول (ملاخي 1:3) يسبقه فيه المعمدان، ومجيء ثانٍي (ملاخي 5:4) يسبقه فيه إيليا، فأشار يسوع لمجيء المعمدان كسابق له في مجيئه الأول ولكن بروح وقوة إيليا واكتفى بذلك. ويعلق القديس أوغسطينوس "لو أنه قال: "أنا إيليا" يكون ذلك بمعنى أن المسيح قادم فعلًا في مجيئه الثاني للدينونة، وليس في مجيئه الأول ليُحاكم... لقد جاء كرمزٍ (لوقا 1: 17) حيث يأتي فيما بعد إيليا بشخصه اللائق به، أما الآن ففي شبهه (بروحه) جاء يوحنا". اما عبارة "لَستُ إِيَّاه" فتشير الى جواب يوحنا الجريء والصريح في قوله "لست أنا" أي لست شخص إيليا بالذات، والانجيل يتكلم هنا مجازياً قاصداً "روح" إيليا لا "ذات" إيليا وذلك بحسب قول الملاك لزكريا عن ابنه يوحنا "يَسيرُ أَمامَه وفيهِ رُوحُ إيليَّا وَقُوَّتُه" (لوقا 1: 17). وأمَّا سؤالهم "أَأَنتَ النَّبِيّ؟ فيشير الى "النبي" الذي تنبأ عنه موسى بقوله " يُقيمُ لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيًّا مِثْلي مِن وَسْطِكَ، مِن إِخوَتكَ، فلَه تَسْمَعون" (تثنية الاشتراع 18: 15)، وهذه النبوة استخدمها بطرس (اعتمال الرسل 3: 22) وإِسْطِفانُس (اعمال الرسل 37:7).  وكان انتظار نبي في الازمنة الأخيرة، الذي ما بعده نبي، منتشراً في البيئات اليهودية. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " لم يقولوا ليوحنا: أنبي أنت؟ أي هل أنت واحد من الأنبياء؟ لكنهم سألوه قائلين "ألنبي أنت؟" بإضافة أداة التعريف. بمعنى هل أنت النبي الذي أخبر عنه موسى (تثنية الاشتراع 18: 15)؟ أنكر هذا المعنى، ولم ينكر أنه نبي، لكنه أنكر أنه هو ذاك النبي". وكان من المعتقد لدى الكثيرين ان النبوءة ستعود إلى الظهور مع مجيء المسيح (يوئيل2: 28؛ وملاخي 3: 1). أمَّا كلمة "لا" فتشير "لا النافية" فتدل على جواب يوحنا الصريح القاطع. نفى يوحنا ان يكون النبي المنتظر على مثال موسى. وقد استنتج بعضهم خطأ، أن " النبي" هو ذاك الذي ظهر في بلاد العرب في أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع بعد الميلاد. ويظهر بطلان هذا الاستنتاج من سؤال هؤلاء الفرِّيسيين أنهم كانوا يقصدون نبياً يأتي قبل المسيح ليُهيئ الطريق له، وأمَّا نبي العرب فقد ظهر بعد المسيح. وواضح ايضا أن نبي العرب ظهر للعرب لا لليهود، ولم يستمع اليهود لرسالته. أمَّا المسيح فقد قيل فيه عند المعمودية: "هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيب، فلَهُ اسمَعوا" (مرقس9: 7) كما ورد في كلام موسى "فلَه تَسْمَعون" (تثنية الاشتراع 18: 15). ومما يسترعي الانتباه في هذه الآية أن جواب يوحنا كان في كل مرة يزداد اقتضاباً واختصاراً فمن قوله "لَستُ المسيح" إلى قوله "لَستُ إِيَّاه"، إلى قوله "لا". فشهادة يوحنا تُعلن انه ليس المسيح او ايليا او النبي الذي تنبأ عنه موسى.

 

22 فقالوا له: ((مَن أَنتَ فنَحمِلَ الجَوابَ إِلى الَّذينَ أَرسَلونا؟ ماذا تَقولُ في نَفسِكَ.

 

تشير عبارة "مَن أَنتَ فنَحمِلَ الجَوابَ إِلى الَّذينَ أَرسَلونا؟ ماذا تَقولُ في نَفسِكَ" الى استمرار رؤساء اليهود بالضغط على يوحنا المعمدان ليصرِّح من هو، لان الشعب كان ينتظر مجيء المسيح كما جاء في إنجيل لوقا "وكانَ الشُّعبُ يَنتَظِر، وكُلٌّ يَسأَلُ نَفسَه عن يوحَنَّا هل هو الـمَسيح"(لوقا 3: 15)؛ لكن يوحنا ركّز فقط على سبب مجيئه وهو إعداد الطريق امام المسيح. فرَضت تلك اللجنة من اليهود ثلاثة فرائض وهو: ان يوحنا المعمدان هو إمَّا المسيح، وإما أيليا، وإما واحد من الأنبياء القدماء قام من بين الأموات (متى 16: 14)، فانكر يوحنا المعمدان أنه واحد من هؤلاء.

 

23 قال: "أَنا صَوتُ مُنادٍ في البَرِّيَّة: قَوِّموا طَريقَ الرَّبّ. كَما قالَ النَّبِيُّ أَشَعْيا"

 

تشير عبارة "أَنا صَوتُ مُنادٍ في البَرِّيَّة" الى رسالة المعمدان وليس الى شخصيته مقتبساً جوابه من أشعيا النبي "صَوتُ مُنادٍ في البَرِّيَّة: َعِدُّوا طَريقَ الرَّبّ وآجعَلوا سُبُلَ إِلهِنا في الصَّحْراءِ قَويمة" (أشعيا 40: 3)، يستشهد يوحنا بقول النبي أشعيا ليحمل الآخرين على اكتشاف الأمر وليحملهم للوصول إلى النتيجة وأخذ القرار باقتناع. لم يصرِّح أشعيا النبي عن اسم صاحب هذا الصوت. لكن يوحنا المعمدان طبّق هذه النبوءة على رسالته في دعوة الشعب الى التوبة، استعدادا لمجيء المسيح.  حوّل يوحنا بجوابه التفات الناس عنه الى موضوع مناداته للملك الآتي لإتمام النبوءة الواردة في أشعيا " صَوتُ مُنادٍ في البَرِّيَّة: ((أَعِدُّوا طَريقَ الرَّبّ وآجعَلوا سُبُلَ إِلهِنا في الصَّحْراءِ قَويمة" (أشعيا 40: 3). أراد الفريسيون ان يعرفوا من هو يوحنا، أمَّا يوحنا فأراد ان يعرِّفهم من هو يسوع المسيح، وهذه هي شهادة المعمدان بحقيقة رسالته ودوره. جاء يتمِّم ما ورد في الكتب، وأنه يحمل سلطانًا إلهيًا كسابقٍ للمسيح، يُهيِّئ له الطريق. أمَّا عبارة "أَنا صَوتُ" فتشير الى إعلان يوحنا انه ليس سوى "صَوتُ" ومهمته الإعداد لمجيء المسيح القريب. نفى يوحنا ان يكون إيليا وصرّح أن له شخصية مستقلة عن الأنبياء السابقين، إنما قال، بكل تواضع وإخلاص، بأنّه لم يكن سوى صوت يُنادي الناس بالاستعداد لوصول الملك والمسيح الربّ الممسوح. ويُعلق العلامة أوريجانوس "يوحنا يشبه الصوت في علاقته بالمسيح الذي هو الكلمة". وأمَّا عبارة "مُنادٍ" في الأصل اليوناني βοῶντος (معناه صارخ) فتشير الى الذي يتقدم في الطليعة صارخاً "هوذا الملك القادم! فأعدُّوا الطريق أمامه". ويُعلق العلامة أوريجانوس "ماذا يعني بالصراخ. إنه لا يعني الصوت الخارجي المرتفع أو الصياح، لكنه يتكلم مع الله والناس بلغة الروح التي يسمعها الله حتى وإن صمت اللسان، والتي تخترق قلوب الناس. ولهذا يقول أيضًا داود: "إِلى اللهِ صَوتي فأَصرُخ إِلى اللهِ صَوتي فإِلَيَّ يُصْغي" (مزمور 76: 2). أمَّا عبارة "البَرِّيَّة" فتشير الى البَرِّيَّة اليهودية التي تبعد نحو 32 كم شرقي أورشليم، عند هضبة قريبة من نهر الأردن حيث عاش يوحنا صباه كما جاء في إنجيل لوقا (لوقا 1: 80)؛ وللبَرِّيَّة رنة عميقة. هناك عاش شعب العهد القديم بداية مسيرته مع الرب. والى هناك أراد الرب ان يُعيد شعبه كما قال الرب على لسان الني هوشع "هاءَنَذا أَستَغْويها وآتي بِها إِلى البَرِّيَّةِ وأُخاطِبُ قَلبَها" (هوشع 2: 16). أمَّا عبارة "قَوِّموا طَريقَ " فتشير الى عادة مألوفة حيث إذا ذهب الملك إلى مكان وعر يعبِّد الناس له الطريق، وذلك برفع الأماكن الواطئة وإزالة المرتفعة. ترمز روحيا الأماكن الواطئة الى الكذب والأنانيّة والازدواجيّة، والأماكن العالية ترمز للكبرياء والتعلق بعظمة العالم. وبدون هذا وذاك نستطيع ان نعدَّ الطريق للرب ليسكن في حياتنا. ويعلق القديس أوغسطينوس " قَوِّموا طَريقَ؟ معناه: تواضعوا في فكرِكم" (عظة 293).

 

24 وكانَ المُرسَلونَ مِنَ الفِرِّيسِيِّين

 

عبارة "الفريسيون" في الأصل اليوناني Φαρισαῖος للفظة العبرية הַפְּרוּשִׁים (أي المفروز) الذين يطلقون على أنفسهم هاسيديم חסידות (أ الاتقياء) تشير الى حزب ديني محافظ وقد انفصل عن الشعب وتعلق بشريعة موسى كما تعلق بالشريعة غير المكتوبة أي تقليد الشيوخ (متى 15: 2)، وهم جزء من السنهدريم المسؤول عن الحالة الروحية للامَّة اليهودية، وهم غير حزب الصدُّوقيين او الاسِّينيين.   وكان الفريسيون غيورين في حفظ شريعة موسى وتقاليد الشيوخ ولذلك فحصوا عن علة تعميد يوحنا المعدان، ولم تكن غايتهم من السؤال الوقوف على الحق بل المقاومة كعادتهم (لوقا 7: 30).  وكثيرا ما ندَّد يسوع المسيح ويوحنا المعمدان بهؤلاء الفِرِّيسِيِّين. وكان الكثيرون منهم يطيعون شريعة الله ظاهريا كي يظهروا للناس انهم اتقياء، لكن قلوبهم كانت مملؤة من الكبرياء والجشع والانانية (متى 5: 20). وقد جاءوا لرؤية يوحنا لتقصي الحقائق حول هويته وكان في اذهانهم اربعة احتمالات وهي: هل المعمدان هو النبي الذي سينطق بكلمات الله (تكوين 18: 15)، او إنه ايليا (ملاخي (4:5)، او انه المسيح المنتظر او انه نبي كذاب؟

 

25 فسَأَلوهُ أَيضاً: "إِذا لم تَكُنِ المسيحَ ولا إِيلِيَّا ولا النَّبِيّ، فلِمَ تُعَمِّدُ إِذاً؟

 

تشير عبارة "إِذا لم تَكُنِ المسيحَ ولا إِيلِيَّا ولا النَّبِيّ" الى سؤال الفريسيين ليوحنا التسليم بأنه لو كان أحد أولئك الثلاثة لحقَّ له ان يُعمِّد بناء على قول حزقيال النبي "أَرُشُّ عليكم ماء طاهِرًا، فتَطهُرونَ مِن كُلِّ نَجاسَتِكم، وأُطَهِّرُكم مِن جَميعِ قَذاراتِكم وأُعْطيكم قَلبًا جَديدًا وأَجعَلُ في أَحْشائِكم روحًا جَديدًا وأَنزِعُ مِن لَحمِكم قَلبَ الحَجَر، وأُعْطيكم قَلبًا مِن لَحْم " (36: 25-26) او قول زكريا النبي "في ذلك اليَوم، يَكون يَنبوعٌ مَفْتوحٌ لِبَيتِ داوُدّ ولِسُكَّانِ أُورَشَليم، لِلخَطيئَةِ والرِّجْس" (13: 1).  امَّا عبارة "المسيح" في الأصل اليوناني Χριστός مشتقة من العبرية הַמָּשִׁיחַ) الى المشيح، الذي أنبأ به الأنبياء ومهّدوا له السبيل، ومنهم يوحنا المعمدان، والمسيح في الأصل هو الممسوح بالزيت من اجل خدمة معينة. ويُمسح الملك (1 صموئيل 16: 10) والكاهن (خروج 40: 13-15) والنبي، ولكن الشعب لم ينتظر مسيحا مثل سائر المسحاء، بل انتظر المسيح. وفي المسيحية، المسيح هو الكلمة المتجسدة والمتألم والقائم من بين الأموات وهو ابن الله. أمَّا عبارة "فلِمَ تُعَمِّدُ إِذاً؟ " فتشير إلى تعجب الفريسيين من تعميد يوحنا مع نفيه انه ليس أحد أولئك الثلاثة: المسيح، أيليا ولا النبي. إن تعصب الفريسيين الديني أخرجهم عن حدود مهمتهم التي انتدبوا لها، وبدلاً من الاكتفاء من استجوابهم المعمدان عن شخصه، شرعوا يستجوبونه عن معموديته، لأنه بعمَّاده لليهود القادمين بالتوبة يكون قد تعامل معهم كمن هم من الأمم الوثنيين إذ "كانَتْ تَخرُجُ إِليهِ أُورَشليم وجَميعُ اليهوديَّةِ وناحيةُ الأُردُنِّ كُلُّها، فيَعتَمِدونَ عَنِ يدِهِ في نَهرِ الأُردُنِّ مُعتَرِفينَ بِخَطاياهم" (متى 3: 5-6) وعندما سأل الفريسيون يوحنا بأي سلطان كان يُعمِّد، فهم إنما كانوا يتساءلون "لماذا تعامل شعب الله المختار مثل الأمميين؟  حيث كان العماد شائعًا جدًا بين اليهود، إذ كانوا يعمدون الداخلين إلى الإيمان اليهودي لكي يتمتع الدخيل بكمال الحقوق التي للمؤمن. وحيث أن معموديته جرحت كبريائهم، لأنهم كانوا يعتقدون أن المعمودية هي الباب الذي منه يدخل الأمم إلى الدين اليهودي. أنه لا بد من معمودية مميّزة يقوم بها "المسيح" أو النبي الذي يهيئ الطريق له، لذلك سألوه قائلين: "فما بالك تعمد إن كنت لست المسيح، ولا إيليا، ولا النبي"؟

 

26 أَجابَهُم يوحَنَّا: ((أَنا أُعَمِّدُ في الماء، وبَينَكم مَن لا تَعرِفونَه  

 

تشير عبارة "أَجابَهُم يوحَنَّا" الى سؤال المرسلين من الفريسيين انه هو سابق المسيح وان عمله إنما هو تهيئة الطريق امامه "وأَنا لَم أَكُنْ أَعرِفُه، ولكِنَّ الَّذي أَرسَلَني أُعَمِّدُ في الماءِ هو قالَ لي: إِنَّ الَّذي تَرى الرُّوحَ يَنزِلُ فيَستَقِرُّ علَيهِ، هو ذاكَ الَّذي يُعَمِّدُ في الرُّوحِ القُدُس" (يوحنا 1: 33) وزاد يوحنا المعمدان على ذلك في بعض الاحيان كما ورد في إنجيل متى "إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار" (متى 3: 11).  امَّا عبارة "أَنا أُعَمِّدُ في الماء" الى تأكيد يوحنا أن طقس معموديته كان تطهيريا. فهي إذاً معمودية تعتبر رمزية، تمهيدية، جسدية، وقتية وخارجية للتوبة. لكن معمودية المسيح بالروح القدس هي معمودية جوهرية، داخلية، روحية ودائمة. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "معمودية يوحنا هي مجرد ظل وصورة. لكن يأتي من يضيف إليها الحقيقة." أمَّا عبارة "بَينَكم مَن لا تَعرِفونَه" في الأصل اليوناني μέσος ὑμῶν ἕστηκεν (معناها في وسطكم حضر) فلا تشير الى عدم معرفة شخص يسوع من حيث انه شخص بشري اسمه يسوع، بل عدم التحقق أنه هو المسيح المنتظر، ابن الله بالجوهر، والذات، والطبيعة. لم يعرفون لأنه كان في رأسهم تصوّر خاص، للتّعرّف عليه. فهم لا يعرفون يسوع انه صورة الله غير المنظور، وبهاء مجده، ورسم جوهره، وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته.  ويُعلق القدّيس غريغوريوس الكبير" قد باح يوحنّا بسرٍّ حين كشف أنّ الرّب يسوع المسيح موجودٌ بين البشر وهم لا يعرفونه، لأنّ الربّ لمّا اتّخذ جسمًا، صار له جسدٌ مرئيٌّ للبشر بينما احتجب مجده الإلهي".  لم يأت المسيح بمظهر الملوك، بل جاء وضيعاً، "لا صورَةَ لَه ولا بَهاءَ فنَنظُرَ إِلَيه " (أشعيا 53: 3)، جاء يعمِّد بالروح القدس لمغفرة الخطايا؛ وهو دور لا يقدر سوى ابن الله، المسيح على إدائه وإتمامه. وكم كان جارحاً لهم أن يسمعوا من فم المعمدان هذه الكلمة: " لا تَعرِفونَه "، في وقت كانوا يدَّعون فيه أنهم "حملة مفاتيح المعرفة" (لوقا 11: 52)؛ والحقيقة فإن المسيح الذي يبحثون عنه هو بَينَهم الآن ولكنهم لا يعرفونه. هذه الكلمات تذكِّرنا بكلمات حزقيال النبي " يا ابنَ الإِنْسان، أَنتَ ساكِنٌ في وَسْطِ بَيتِ تمَرُّد، لَهم عُيونٌ لِيَرَوا ولا يَرَون، ولَهم آذان ليَسمَعوا ولا يَسمَعون، لأَنَّهم بَيتُ تَمَرّد" (حزقيال 12: 2).  وكم من المرات يكون المسيح في وسطنا ونحن لا نعرفه كما ورد في إنجيل يوحنا “جاءَ إِلى بَيتِه. فما قَبِلَه أَهْلُ بَيتِه" (يوحنا 1: 11) إما لخطيئة فينا، أو لقساوة قلوبنا، أو بسبب الظلمة في عيوننا. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "يا للعجب إنه خالق العالم بقدرته، وقد نزل إليه ليحلَّ في وسطنا، ويبعث بنوره إلينا وفينا، لكن العالم الشرير رفضه، مفضلًا جهالة الظلمة عن معرفة النور". أثبت يوحنا المعمدان ان المسيح قد أتى والناس جهلوه.  ولا يزال يظهر المسيح نفسه، في المرضى والعطشى والجياع والغرباء والمسجونين والمهمشين والمتألمين، إذ قال " أَيَّما مَرَّةٍ لم تَصنَعوا ذلك لِواحِدٍ مِن هؤُلاءِ الصِّغار فَلي لم تَصنَعوه" (متى 25: 45). هو دائما موجود بيننا، فهل نحن مستعدون ان نتعرف عليه؟  الإنسان لا يشاهد جيداً إلا بعين القلب والايمان.

 

27 ذاكَ الآتي بَعدِي، مَن لَستُ أَهلاً لأَن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه.

 

تشير عبارة "ذاكَ الآتي بَعدِي" الى يوحنا الذي ولد تاريخيا وبشريا قبل يسوع، ويسوع جاء بعده في التاريخ، لكن يسوع يفوقه على الاطلاق في أصله ورسالته الإلهية "لأنه إله مولود من إله، مولود من الآب قبل الدهور" (يوحنا 1: 15). في الموكب الرسمي الأخير هو الأهم.  وهنا اشار يوحنا الى شهادته السابقة " شَهِدَ له يوحَنَّا فهَتف: هذا الَّذي قُلتُ فيه: إِنَّ الآتيَ بَعْدي قد تَقَدَّمَني لأَنَّه كانَ مِن قَبْلي " (يوحنا 1: 15). أمَّا عبارة "لَستُ أَهلاً" فتشير الى عدم استحقاق يوحنا ان يكون عبدا للمسيح، أمَّا المسيح فيقول عنه إنه "لَيسَ في أَولادِ النَّساءِ أَكبَرُ مِن يوحنَّا"(لوقا 7: 28). ويعلق القدّيس كيرِلُّس بطريرك أورشليم "َتَنبّأ يوحنا حين كان في أحشاء أمّه وارتكض فرحًا في أحشاء أمّه. بفعل الرُّوح القدس، وقبل أن يراهُ بعينيه البشريّتين، تعرّفَ إلى المعلِّم. فإنّ عظمة نعمة المعموديّة كانت تَستَوجب رجلاً عظيمًا"(تعليم مسيحي للموعوظين، 3).  فإن كان المعمدان الانسان العظيم قد أحسَّ بعدم استحقاقه أن يكون عبداً للمسيح، فكم بالحري يجب علينا ان نُضع جانبا كبرياءنا لنخدم المسيح. أمَّا عبارة "أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه" فتشير الى وصف يوحنا المعمدان مقامه تجاه المسيح، وهو مقام الخادم الوضيع. جاء في التلمود ان التلميذ يجب أن يقوم لمعلمه بكل الخدمات التي يقوم بها الخادم لسيده ما عدا ان يفكَّ رِباطَ حِذاء سيِّده. ويوحنا بقوله هذا كأنه يقول أنا لست مستحقًا أن أكون تلميذًا للمسيح بل خادمًا له. وبهذا الامر يتبرَّأ يوحنا المعمدان من ادِّعاء أي سلطان وكرامة شخصيين، ويشهد باستحقاق المسيح وفضله. ويُعلق القديس اوغسطينوس " ظهر تواضع يوحنا المعمدان عظيمًا. عندما قال إنه غير مستحق لفعلِ هذا. إنه كان حقاً مملوءً من الروح القدس الذي به عرف نفسه كخادم سيده، وتأهَّل أن يكون صديقًا عوض خادم ". توخّت شهادة يوحنا ان تعلن تفوق يسوع على يوحنا المعمدان، لبعض الجماعات التي ظلت ترتبط بيوحنا المعمدان (اعمال الرسل 19: 3).  واكّد بولس الرسول هذا التفوّق بقوله "إِنَّ يوحَنَّا عَمَّدَ مَعمودِيَّةَ تَوبَة، داعِيًا الشَّعبَ إِلى الإِيمانِ بِالآتي بَعدَه، أَي بِيَسوع " (اعمال الرسل 19: 4). اما عبارة "رِباطَ حِذائِه" فتشير الى نعل يُربط الى الرِجِل برباط من الجلد. وكان حل ذلك الرباط من الاعمال الخاصة بالعبيد " مَن لَستُ أَهْلاً لأَن أَخلَعَ نَعْلَيْه" (متى 3: 11). أثبت يوحنا المعمدان ان المسيح عظيم جدا وان يوحنا متواضع فلم يحسب نفسه اهلا لان يخدم المسيح كعبد بالرغم من ان يسوع شهد له انه " الحَقَّ أَقولُ لَكم: لم يَظهَرْ في أَولادِ النِّساءِ أَكبَرُ مِن يُوحَنَّا المَعمَدان" (متى 11: 11). ويعلق الطوباويّ غيريك ديغني "إنّ ما صَنَعَ عظمة يوحنّا، وما جعله عظيمًا بين العظماء، هو أنّه تَوَّج فضائله بالتواضع" (العظة الثالثة عن يوحنّا المعمدان). نحن نرى في يوحنّا المعمدان نموذجاً لروحانيّتنا، حيث نعرف صِغرنا وعَدَمنا، بأنّنا لسنا أهلاً لأن نفكّ حتّى رباط حذاء الربّ. شهادة يوحنا هي أول كرزة واضحة مقنعة عن يسوع أسمعها بصوته قدام جماهير متلهّفة لسماع أي خبر عن مجيء المخلّص المنتظر.

 

28 وجَرى ذلك في بَيتَ عَنْيا عِبْرَ الأُردُنّ، حَيثُ كانَ يوحَنَّا يُعَمِّد

 

تشير عبارة "بَيتَ عَنْيا" الى اسم ارامي בֵּית־עַנְיָה (معناه "بيت البؤس او البائس). وليس المقصود بها هنا قرية لعازر القريبة من اورشليم (يوحنا 11: 1) المعروفة حاليا باسم العيزرية، بل بلدة تقع على شاطئ الأردن كما ورد في انجيل يوحنا " وعبَرَ الأَردُنَّ مرَّةً أُخْرى فذهَب إِلى حَيثُ عَمَّدَ يوحَنَّا في أَوَّلِ الأَمْر، فَأَقامَ هُناك " (يوحنا 10: 40). وأطلق على الموقع أيضا اسم بيت عبرة Bethabara في العبرية בֵית הָעֲרָבָה מֵעֵבֶר לַיַּרְדֵּן أي بيت عبرة وهو اسم عبري בֵית הָעֲרָבָה معناه "بيت المخاضة" اي مكان ضحل الماء يخوضه النَّاس مشاةً أو رُكابا لقلة عمق مياهه، والعبرة وهو اسم مدينة تقع على الضفة الشرقية لنهر الاردن حيث يظن انه موضع المخاضة التي عبر فيها العبرانيون النهر ايام يشوع وحيث عمّد يوحنا المعمدان يسوع المسيح (يوحنا 1: 28-29). ويظهر اسم بيت عبرة " على خريطة مادبا من القرن السادس وفي التلمود اليهودي. يستخدم الاسم في عدد من المخطوطات الانجيلية القديمة كالسريانية والآرامية والبيشيتا والأرمينية والجورجية حيث يستخدمون اسم بيت عبرة " بدل بيت عنيا. ودعم هذه الترجمة كل من أوريجانوس (القرن الثالث) ويوحنا فم الذهب (القرن الرابع).

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (يوحنا 1: 6—8، 19-28)

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 1: 6-8، 19-28)، نستنتج انه يتمحور حول شهادة يوحنا حول هوية يسوع في التاريخ وبدء خدمته. 

 

أولا: هوية يسوع عبر شهادة يوحنا المعمدان (يوحنا 1: 6-8):

 

تستهل مقدمة الانجيل يوحنا بشهادة يوحنا المعمدان التاريخية، فقد بشّر يوحنا المعمدان بمجيء يسوع كلمة الله المُتجسد، وأكَّد يوحنا خضوعه "ليسوع -الكلمة" الذي ينبغي ان تكون له الاولوية. واخذ يشهد للمسيح ألآتي الى العالم دالا الناس الى إيمانٍ حيٍ فيه (يوحنا 1: 6-7).

 

1) يوحنا شاهد انه ليس المسيح   

 

وصفت مقدمة إنجيل يوحنا البشير شخصية يوحنا المعمدان: اسمه "يوحنا" هو رَجُلٌ مُرسَلٌ مِن لَدُنِ الله ورسالته لِيَشهَدَ لِلنَّور، وغاية رسالته ان َيُؤمِنَ عن شَهادتِه جَميعُ النَّاس بمجيء المخلص. وإن غاية الشهادة هي الإيمان، لأنّ كل من يؤمن بالمخلص يكون له الحياة والخلاص (يوحنا 19: 35). ويؤكد بطرس الرسول ذلك بقوله: "فلا خَلاصَ بأَحَدٍ غَيرِه، لأَنَّه ما مِنِ اسمٍ آخَرَ تَحتَ السَّماءِ أُطلِقَ على أَحَدِ النَّاسِ نَنالُ بِه الخَلاص" (أعمال 4: 12).

 

ويشكّل المعمدان جسراً يربط ما بين العهد القديم والعهد الجديد. هو آخر أنبياء العهد القديم الّذي يشير إلى طريق المسيح المنتظر. وهو أول الشاهدين في العهد الجديد وشهدائه. "في الواقع، كان يوحنّا خاتمةَ الأنبياء، "فجَميعُ الأنبياء قد تَنَبّأوا، وكذلك الشريعة، حتّى يوحنّا" (متى 11: 13)؛ وقد افتَتَحَ عهد الإنجيل كما هو مكتوب: "بَدءُ بِشارَة يسوع المسيح... ظَهَرَ يوحنّا المعمدان في البريَّة، يُنادي بِمَعمودِيّةِ تَوبَةٍ لِغُفران الخطايا" (مرقس 1: 1–4)" ويُعلق القدّيس كيرِلُّس، بطريرك أورشليم (تعليم مسيحي للموعوظين، 3). أنه البشير الّذي يعدّ الطريق ليسوع ويعلن رسالته إلى الناس قائلا: " هُوَذا حَمَلُ اللهِ الَّذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العالَم" (يوحنّا 1، 29).

 

 والفرق عظيم بين الكلام عن يوحنا المعمدان والكلام عن المسيح: فالواحد "انسان" والآخر" الكلمة، كما يصفه يوحنا البشير: "في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله"؛ الأول "رَجُلٌ مُرسَلٌ مِن لَدُنِ الله اِسْمُه يوحَنَّا"، والثاني "الله". وظن كثيرون من اليهود ان يوحنا المعمدان هو المسيح (لوقا 3: 15) لأنه ظهر نبيا عظيما بعد ختام النبوءات بنحو أربع مئة سنة، وسمع الناس أنباء حوادث ولادته الغريبة ثم تأثَّروا من جُراءته وقوة مواعظه (لوقا 3: 15) فصرح يوحنا الإنجيلي ان يوحنا المعمدان ليس هو المسيح، إنما هو الرسول الموعود به ليُهي الطريق أمام المسيح "هاءَنَذا مُرسِلٌ رَسولي فيُعِدُّ الطَّريقَ أَمامي" (ملاخي 3: 1)، اعترف يوحنا بحقيقة امره وميّز بينه وبين المسيح معترفا أنَّه ليس المسيح.

 

وكان يوحنا المعمدان متواضعا يحبّ المسيح أكثر من نفسه كما أعلن: "لا بُدَّ له مِن أَن يَكبُر. ولا بُدَّ لي مِن أن أَصغُر" (يوحنا 3: 30). وكان يوحنا يجتهد في أن يُزيد مجد الرّب يسوع المسيح جاعلا نفسه أصغر، ومؤكّدًا بتصرّفه هذا ما قاله الرسول بولس: "فلَسْنا نَدْعو إِلى أَنْفُسِنا، بل إِلى يسوعَ المسيحِ الرَّبّ. وما نَحنُ إِلاَّ خَدَمٌ لَكم مِن أَجْلِ يسوع" (2 قورنتس 4: 5). لقد تحقّق هذا الإقرار في مجيء المسيح على الارض.

 

وأعترف يوحنا أنه "لم يَكُنْ هو النُّور بل جاءَ لِيَشهَدَ لِلنُّور" (يوحنا 1: 8). يوحنا هو شاهد للنور، ويسوع هو النور (يوحنا 1: 7). يوحنا ليس مصدر نور الله لكنه يعكس فقط ذلك النور. ان المسيح اختاره لكي ينعكس نوره على العالم غير المؤمن، فدور يوحنا ليس ان يقدِّم نفسه الى الآخرين على انه النور، بل يوجِّههم الى المسيح النور الحقيقي.  يوحنا صوت الكلمة (يوحنا 1: 23)، ويسوع هو الكلمة (يوحنا 1: 1).  ويعلق القديس أوغسطينوس " يوحنا صوتٌ عابرٌ، والمسيحُ هو الكلمةُ الأزليُّ الكائنُ منذُ البدء.  عرَّف يوحنا نفسِه أنّه الصوتُ فقط، لكيلا يكونَ عائقًا دونَ معرفةِ الكلمة أي المسيح" (عظة 293). وإن معرفة الكلمة المتجسد، المسيح يسوع، تُهدي جماعة المؤمنين الى الاشتراك على وجه يزداد في فيض الخيرات الروحية الذي فيه وبه وحده " ومِن مِلْئِه نِلْنا بِأَجمَعِنا وقَد نِلْنا نِعمَةً على نِعمَة" (يوحنا 1: 16).

 

يوحنا هو نبيٌ، ويسوع هو المسيح المنتظر. يوحنا هو انسان، يسوع هو الله. يوحنا هو الخادم الذي يُصغي ويُطيع، ويسوع هو السيد والمعلم، يوحنا هو رفيق العريس، ويسوع هو العريس (يوحنا 3: 29) الذي حقق العهد. يوحنا يعمّد بمعمودية الماء، ويسوع يعمِّد بمعمودية الروح القدس والنار. ويعلق القديس أوغسطينوس "أين هي الآن معموديّةُ يوحنا؟ لقد أدَّى خدمةً ثم غاب. أما معموديّةُ المسيح فإنَّنا نَقْبَلُها حتى اليوم. كلُّنا نؤمنُ بالمسيح، ونرجو الخلاصَ من المسيح" (عظة 293).

 

يوحنا هو الشاهد للمسيح، ويسوع هو المسيح المشهود له انه "حَمَلُ اللهِ الَّذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العالَم" (يوحنا 1: 29).  أكان يوحنا يشير إلى حمل الله الذي رمز الحمل الذي قُدِّم بدل اسحق (تكوين 22: 13) أم إلى الذي رمز إليه حمل الذبيحة اليومية (خروج 29: 48)؟ أم إلى الذي أشار إليه حمل الكفارة ويوم الفصح؟ (الخروج 2: 12 و13). يسوع المسيح هو حمل الفصح الذي يرمز الى فداء الشعب كما يرمز الى عبد الرب المتألم الذي يخلص شعبه بآلامه وموته من خطايا العالم مهما امتدَّت في الزمان والمكان كما ورد في نبوة أشعيا (أشعيا 52: 13-53: 12)، " وما مِن مَغفِرَةٍ بِغَيرِ إِراقَةِ دَم" (العبرانيين 9: 22). ومن هنا انطلقت أنشودة المسيحية الخالدة "مات المسيح لأجلي".

 

2) يوحنا شاهد للمسيح:

 

ركز الإنجيلي يوحنا على شهادة يوحنا المعمدان للمسيح، والشاهد مَنْ شاهد بأمّ عينيه. ليس هو الشخص الّذي يسمع ما يُقال، بل من كان حاضراً، سمع ورأى وعرف الأمور، وعاشها واختبرها.  المعمدان شاهد للمسيح لأنه رأى الروح القدس يستقر عليه وسمع صوت الآب شاهدًا للمسيح أنه ابنه الحبيب وآمن به. والمسيح أشار لشهادة المعمدان عنه "هُناكَ آخَرُ يَشهَدُ لي وأَنا أَعلَمُ أَنَّ الشَّهادَةَ الَّتي يَشهَدُها لي صادِقَة.  أَنتُم أَرسَلْتُم رُسُلاً إِلى يوحَنَّا فشَهِدَ لِلحقَّ"(يوحنا 32:5-33). ويعلق القدّيس ايرينيوس "بما أنّ يوحنّا كان شاهدًا، قالَ الربّ إنّه كان أفضل من نبيّ. أعلنَ الأنبياء الآخرون كلّهم مجيء نور الآب وتمنّوا أن يستحقّوا رؤية ذاك الذي كانوا يبشّرون به. تنبّأ يوحنّا مثلهم لكنّه رآه حاضرًا، وأقنعَ الكثيرين بأن يؤمنوا به، إلى حدّ أنّه لعبَ دور النبيّ والرسول في آنٍ معًا. لذا، قالَ الرّب يسوع المسيح عنه إنّه "أفضل من نبيّ". وغاية شهادة يوحنا المعمدان هي إيمان التلاميذ والشعب بيسوع المسيح.

 

لم يلتفت يوحنا الإنجيلي إلى شخصية المعمدان، وإنما التفت لشهادته الى المسيح. وقد بدأت شهادة يوحنا المعمدان لمّا انتهى زمن وعود الانبياء وبدء زمن الوفاء بالوعود وذلك بحضور يسوع المسيح ابن الله على الارض نوراً يهدي خطواتنا. ومن هذا المنطلق شهادة يوحنا المعمدان مبنية على ما رأته عيناه وسمعته اذناه "أَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ (يوحنا 34). فقدّم لنا نظرة شخصية عن يسوع المسيح ابن الله الابدي. وقد " سار يوحنا أمام الربّ بروح إيليّا وقدرته" (لوقا 1: 17)، فكان "السِّراجَ المُوقَدَ المُنير" (يوحنا 5: 35)، ويُعلق القدّيس أوغسطينوس " كيف أتى الرّب يسوع المسيح؟ لقد ظهر كإنسان. لأنّه كان إنسانًا إلى حدّ أنّ الطبيعة الإلهيّة اختفت فيه، أُرسل رجلٌ مُميّزٌ يوحنا ليسبقه ويعرّف عنه للنّاس بأنّه أكثر من إنسان، هو، الرّب يسوع المسيح" (العظة الثّانية عن إنجيل القدّيس يوحنّا). عرّفنا يوحنّا بمَن يعطي النور ويُنير، بمَن هو مصدر كلّ عطاء وهو يسوع المسيح. وقد قبل يوحنا المعمدان أن يكون شاهدًا للنور، وأن يترك نفسه في مهب الروح ليقوده حيثما يشاء، ليصبح خادمًا لحياة الله وكلمته وسط الناس. قد شهد للمسيح أمام الشعب اليهودي وامام تلاميذه وامام السلطات الدينية والسياسية.

 

أ) شهد يوحنا المعمدان للمسيح امام الشعب:

 

أعدّ يوحنا المعمدان الطريق بالتوبة للمسيح في البرِّيَّة، وأعاد قلوب الآباء إلى الأبناء وقلوب الأبناء إلى الآباء (لوقا 1: 17). اننا بِفَضِلِهِ تعرَّفنا إلى نور المسيح الّذي "يَشرِقُ في الظُّلُمات ولَم تُدرِكْه الظُّلُمات" (يوحنا 1: 5). فهو أوّل مَن ثقَّفَ الكنيسة، وبدأ بتنشئتها على التوبة، وحضَّرَها من خلال العماد؛ وبعد أن انتهى من تهيئتِها على هذا الشكل، سلَّمَها للرّب يسوع المسيح (يوحنا 3: 29). لقد علَّمَها كيفيّة العيش في الزهد، وبموته منَحَها القوّة على الموت بشجاعة. بهذا كلِّه، أعدّ يوحنّا "لِلرَّبِّ شَعباً مُتأَهِّباً" (لوقا 1: 17). ويعلق القدّيس ايرينيوس "إنَّ يوحنّا كان يُعِدُّ شعبًا من خلال إعلانه المسبق لمُرافِقيه الّذين كانوا يحيون في العبوديّة من خلال تبشيرهم بالتوبة، لكي يكونوا مستعدّين لقبول المغفرة يوم مجيء المسيح ليَعودوا إلى ذاك الذي ابتعدوا عنه نتيجة خطاياهم".

 

ب) شهد يوحنا للمسيح أمام تلميذيه اندراوس ويوحنا الانجيلي (يوحنا 1: 35 – 37):

 

وجَّه يوحنا المعمدان أنظار تلميذيه اندراوس ويوحنا الإنجيلي إلى المسيح حمل الله "حَمَلُ اللهِ الَّذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العالَم" (يوحنا 1: 29، 36) ثم دُعيا إلى البيت الذي كان المسيح ساكناً فيه فصارا تلميذين للمسيح وشاهدا معجزاته فرأيا مجده (يوحنا 2: 11). ثم صارا فيما بعد رسولين، بل عمودين في الكنيسة المقدسة.

 

ج) شهد يوحنا للمسيح امام السلطات الدينية والسياسية:

 

لم تقتصر شهادة المعمدان امام الشعب اليهودي وتلاميذه بل أمام مجمع السنهدريم الديني وامام هيرودس الملك. سُئل القديس يوحنا المعمدان من قِبل السلطات الدينية اليهودية"من أنت؟"  (يوحنا 1: 19: 22). لآنه كانت مهمة السنهدريم بحسب الناموس أن يتحقَّقوا من أي إنسان يدَّعي النبوءة (تثنية الاشتراع 1:13-2)، ويحققوا معه. فأوضح المعمدان لهم أنه ليس المسيح، ولا إيليا (2 ملوك 11:2)، ولا النبي المُخلص (تثنية الاشتراع 15:18). أعلن أنه مجرد "صوت" (أشعيا 40:3)، يتنبأ عن مجيء المسيح (يوحنا 1: 23). عندئذ سألته السلطات: "إن كنت لا تحتل مركزًا رسميًا في الخدمة فلماذا تعمد؟" كانت أجابته أن عماده ليس غاية في ذاته، بل تهيئة لعمل روحي أعظم يُحقِّقه ذاك الذي يأتي بعده وهو كائن قبله وهو المسيح، وأن يوحنا غير مستحق أن ينحني ليَفُكَّ رِباطَ حِذائِه. ويعُلق القديس يوحنا الذهبي "لقد ظن السلطات الدينية أن خضوع يوحنا للمسيح شيء لا مُبرِّر له، لأن أمورًا كثيرة كانت تُظهر يوحنا عندهم بهيًا جليلاً، أولها جنسه وجلالته وظهور شرفه، لأنه كان ابنًا لرئيس كهنتهم، ثم طعامه وصعوبة طريقته، وإعراضه عن الممتلكات المادية كلها، ولأنه كان مهوبًا بثوبه ومائدته وسكنه وطعامه بعينه". وبالرغم من كل ذلك، اعترف يوحنا المعمدان أنه ليس بالمسيح المنتظر "فاعتَرفَ ولَم يُنكِرْ، اِعتَرَفَ: "لَستُ المسيح " (يوحنا 1: 20). ونفي أنه المسيح، وكان نفيه قاطعًا إذ أن كثيرون ظنوا أنه المسيح " كانَ الشُّعبُ يَنتَظِر، وكُلٌّ يَسأَلُ نَفسَه عن يوحَنَّا هل هو الـمَسيح"(لوقا 3: 15). كل هذا التأكيد لأن جماعة من تلاميذ يوحنا ظلت تؤمن به وترفض المسيح.

 

 لم تكن شهادته للمسيح بلسانه فحسب، بل بموته واستشهاده على يد هيرودس انتيباس، إذ واجهه بحقيقة الفحشاء التي ارتكبها مع هيروديا، امرأة أخيه (متى 14: 3).  وناضل من أجل الحقيقة حتّى الموت، ويعلق القدّيس مكسيمُس الطورينيّ " وموته أظهر الحقيقة وأدان علاقة هيرودس غير الشرعيّة بزوجة أخيه" (العظة 36).   

وهكذا مهّد طريق الرّب يسوع المسيح حتّى في مثواه، فكان شهيدًا للمسيح قبل آلامه في سبيل احقاق الحق. فدوره هو أن يشع نور يسوع في قلب كلّ إنسان، ويكفيه أن يكون شاهدًا للنور. وكان شاهد الايمان وعلامة الرّجاء الّتي شكّلها العديد من شهود الإيمان في ايامنا الحاضرة في الشّرق.

 

عرف يوحنا أن يعيش حياة الإنجيل في ظروفٍ عدائيّة وظروف اضطهاد، أدّت إلى أن يشهد الشّهادة الأخيرة بسفك دمه "الذَبيحَة الحَيَّة المُقَدَّسة المَرْضِيَّة عِندَ الله" (رومة 12: 1). كان واثقاً أنّه لا يستطيع أن يحيا من دون الرّب يسوع المسيح، وأنّه مستعدُّ للموت من أجله وفقًا لقناعته بأنّ يسوع هو الرّب وهو مخلّص البشر وأنّ به وحده يستطيع الإنسان أن يجد ملء الحياة الحقيقيّة مؤمناً بما قاله الرب "مَن يَتبَعْني يكونُ له نورُ الحَياة" (يوحنا 8/12). ويتوقع شهود الإنجيل نفس المصير على هذه الأرض (رؤيا 11: 7). وما أكثر الذين يسفكون دمهم "في سبيل كلام الله والشهادة التي يشهدوها"(رؤيا 6: 9).

 

ثانيا: يوحنا شاهد لمجيء المسيح ورسالته (يوحنا 1: 19-28)

 

ترتبط شهادة يوحنا بكشف الهوة القائمة بين الذين يؤمنون باسم يسوع والذين لا يؤمنون. فإن وصول وفد من الكهنة واللاويين من اورشليم الذين حضروا الى بيت عبرا في الأردن ليسالوا يوحنا المعمدان بخصوص المعمودية والتصريحات التي أعلنها (يوحنا 1: 19) تشير الى هذه الحقيقة الواقعية التاريخية.

 

يسال الكهنة واللاَّوِيّونَ بسلطان " مَن أَنتَ؟" (يوحنا 1: 19)، ويوحنا ينفي في اجابته أنه المسيح او ايليا او النبي الذي تنبا عنه موسى (يوحنا 1: 20-21).  ومرة أخرى يُلحون عليه بان يُخبرهم ماذا يقول عن نفسه (يوحنا 1: 22) فيعلن ان ليس له اسم، إنما هو مجرد " صوت صارخ في البرية " أمام المسيح (يوحنا 1: 23) وأمَّا مهمته فهي اعداد الطريق للمسيح. وعند سؤاله بعد ذلك، يؤكد ان طقس معموديته كان تطهيريا اعداديا لمجيء المسيح، ويتبرأ من ادعاء أي سلطان ويشهد باستحقاق وفضل واحد هو، يسوع المسيح الحاضر الآن.

 

أراد الفريسيون ان يعرفوا من هو يوحنا، أمَّا يوحنا فأراد ان يعرفهم من هو يسوع. فهو لم يجلبهم على نفسه، بل حوّل القلوب والعقول نحو الآخر الذي هو الربّ. "بَينَكم مَن لا تَعرِفونَه" (يوحنا 1: 26). فقد بيّن يوحنا ان اشخاص كثيرين من معاصريه لم يفهموا يسوع ولم يتمكنوا من سبر غور شخصيته.

 

وفي الزمن السابق للميلاد نتذكّر توالي الاجيال حتى المسيح. هو زمن الأنبياء من موسى إلى يوحنا المعمدان وهو الزمن الذي كانوا يرون فيه الربّ رهيباً مخيفاً. لأنهم لم يكونوا يعرفونه حقاً. وفي وسط الدهشة العامة التي أحدثها يوحنا المعمدان، جعل يخبر الناس ويعلن ان المسيح آت بعده وانه يعمّد بالروح القدس، ويوحنّا المعمدان، "الذي سار أمام الربّ بروح إيليّا وقدرته" (لوقا 1: 17)، بشّر بالمسيح معلنًا أنّه هو "الذي سيعمّد بالروح القدس والنار" (لوقا 3: 16).

 

وانه غير مستحق ان يفك رباط حذاءه" أَنا أُعَمِّدُ في الماء، وبَينَكم مَن لا تَعرِفونَه ذاكَ الآتي بَعدِي، مَن لَستُ أَهلاً لأَن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه"(يوحنا 1: 26-27). قد اكتشف يوحنا سر عظمة يسوع الإلهية، وهو "يغفر الخطايا بالحقيقة، وهو دور لا يقدر سوى المسيح، ابن الله، على أدائه وإتمامه.  ففي معمودية يسوع تتضمن القوة المطلوبة لعمل إرادة الله.

 

شهد يوحنا للمرة الثالثة عن عظمة يسوع المسيح إذ يأتي بعده (يوحنا 1: 27) مع أنه الأزلي السابق له، وأنه واهب النعم والمخبر عن الآب (يوحنا 1: 15-18)، موضحًا أنه غير " أَهلاً لأَن يَفُكَّ رِباطَ حِذائِه" (يوحنا 1: 26-27) وهو قائم في وسطهم ولم يعرفوه. ويعلق العلامة أوريجانوس " لا تظن أن السبب أن يوحنا المعمدان حمل الشهادة لكي يضيف شيئًا إلى الثقة في سيِّده. لا، وإنما لكي يؤمن أولئك الذين من ذات طبقته البشر. لقد سبق وأخبرنا يوحنا نفسه، إذ يقول: "لكي يؤمن الكل بواسطته".

 

لم يَكْرِز يوحنا الْمَعْمَدَانُ فقط فِي زمانه مُعلِنًا مجيء الربّ قَائِلاً: "أَعِدُّوا طَريقَ الرَّبّ وٱجعَلوا سُبُلَه قويمة" (متى 3: 3). بل ها هو شاهد لنا فهو يصرخ اليوم أيضًا في داخِلنا ورَعْدُ صوتِه يَهُزُّ صحراء خطايانا... وصوتُه ما زال يُدَوّي اليوم، طالبا منَّا أن نُعِدَّ طريقَ الرَّبِّ ليس بشقّ طريقٍ بل من خلال نقاوة إيمانِنا. ويعلق العلامة أوريجانوس "أعتقد أنّ سرّ يوحنّا المعمدان ما زال يَتمّ في العالم حتّى يومنا هذا. فكلّ مَن قُدِّرَ له أن يؤمن بالربّ يسوع المسيح، يجب بدايةً أن تحلّ فيه روح يوحنّا المعمدان وقدرته، لكي "يُعِدَّ لِلربِّ شَعبًا مُتأَهّبًا" (لوقا 1: 17)" (عظات عن إنجيل القدّيس لوقا). فيا حبّذا لو تحلّينا بروح يوحنا هذه الأيام، بل ولبسنا روحه، لنبشّر للأجيال الناشئة، بحياتنا وأمثالنا وأقوالنا. أليس شرفًا أن نكون صوت الله في هذا العالم؟

 

ورسم يوحنا نفسه طريقه لمجيء الرّب يسوع المسيح، أذ كان رصينًا ومتواضعًا وفقيرًا. "وكانَ على يُوحنَّا هذا لِباسٌ مِن وَبَرِ الإِبِل، وحَولَ وَسَطِه زُنَّارٌ مِن جِلْد. وكان طَعامُه الجَرادَ والعَسلَ البَرِّيّ" (متى 3: 4). ويعلق القدّيس مكسيمُس الطورينيّ : "فهل من علامة أكبر للتواضع من أن يزدري المرء الملابس الناعمة ويستبدلها بالوبر الخشن؟ وهل من علامة أفضل للإيمان المترسّخ من أن يكون المرء وحقويه مشدودين جاهزًا دومًا لجميع واجبات الخدمة؟ وهل من علامة للتخلّي أكثر إشراقًا من أن يتغذَّى المرء من الجرادِ والعسلِ البرِّي؟" (العظة 88).  

 

الخلاصة

 

 شهد يوحنا المعمدان ان يسوع ليس مجرد انسان، إنه ابن الله الابدي، نور العالم لأنه يهب عطية الحياة الابدية لكل من يؤمن به. ويا لها من مغالطة ان نعتبر ان يسوع مجرد إنسان صالح غير عادي، او معلم للفضيلة والأخلاق. إن كان يسوع المسيح هو ابن الله فعلينا واجب الانتباه لهويته الإلهية ورسالته التي تمنح الحياة. وينشأ الإيمان في الناس بقبول هذه الشهادة كما جاء في تعليم بولس الرسول "قد قُبِلَت شَهادَتُنا عِندَكم بِإِيمان" (2 تسالونيقي 1: 10).

 

ونحن بدورنا علينا ان نكون شهودا للمسيح على خطى يوحنا المعمدان. نحن لسنا مصدر نور الله، لكننا نعكس فقط نور المسيح كما قال "جِئتُ أَنا إِلى العالَمِ نوراً فكُلُّ مَن آمَنَ بي لا يَبْقَى في الظَّلام." (يوحنا 12: 46). يوحنا مهد لنا نور المسيح ونور المسيح يساعدنا نرى طريقنا الى الله، ويوضِّح لنا كيف نسير في تلك الطريق. وطلب منا يوحنا المعمدان أيضا ان نشهد له فنكن نور العالم بأعمالنا الصالحة. كما وضّح في إنجيل متى "أَنتُم نورُ العالَم... فَلْيُضِئْ نُورُكُم لِلنَّاس، لِيَرَوْا أَعمالَكُمُ الصَّالحة، فيُمَجِّدوا أَباكُمُ الَّذي في السَّمَوات" (متى 5/ 14-16).  وبهذا نحن لا نشهد بالكلام فقط، إنّما أيضًا بالأعمال. "وكُلَّ رُوحٍ يَشهَدُ لِيَسوعَ المسيح الَّذي جاءَ في الجَسَد كانَ مِنَ الله" (1يوحنا 4: 2).

 

إننا، مثل يوحنا المعمدان، لسنا مصدر نور الله، لكننا نعكس فقط ذلك النور. أما النور الحقيقي فهو يسوع المسيح. وهو الذي يعيننا أن نرى طريقنا إلى الله، ويوضَّح لنا كيف نسير في ذلك الطريق. إلا أن المسيح قد اختار أن ينعكس نوره من أتباعه على العالم غير المؤمن.

 

الدعاء

 

أيها الاب السماوي، يا من أرسلت ابنك يسوع المسيح الى العالم ليُخلص به العالم، فهو بيننا وفي داخلنا، ونحن لا نعرفه بل نتجاهله. ساعدنا كي نكتشف حضوره.   إنه يبدو بعيدا، بينما هو أقرب الناس الينا. ويبدو غائبا وهو حاضر في داخلنا، دعنا نهيّا ميلاده فينا. تعال أيها الرب إلينا واجعلنا شهوداً لنورك في عالم يسوده الظلمة واليأس والفشل والخطيئة والموت (أشعيا 61، 1-2)، فنعدّ القلوب لاستقباله مخلصا الذي يُعيد لنا جميعا الفرح والسلام المحبة.