موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٩ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٢

زَكَّا العَشَار ويسوع المُخلص

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد الحادي والثلاثون من السنة: زَكَّا العَشَار ويسوع المُخلص (لوقا 19: 1-10)

الأحد الحادي والثلاثون من السنة: زَكَّا العَشَار ويسوع المُخلص (لوقا 19: 1-10)

 

النص الإنجيلي (لوقا 19: 1-10)

 

1 ودَخَلَ أَريحا وأَخَذَ يَجتازُها. 2 فإِذا رَجُلٌ يُدْعى زَكَّا وهو رئيسٌ للعَشَّارينَ غَنِيٌّ 3 قد جاءَ يُحاوِلُ أَن يَرى مَن هُوَ يسوع، فلَم يَستَطِعْ لِكَثَرةِ الزِّحَام، لِأَنَّه كانَ قَصيرَ القامة، 4 فتقدَّمَ مُسرِعاً وصَعِدَ جُمَّيزَةً لِيرَاه، لأَنَّه أَوشكَ أَن يَمُرَّ بِها. 5 فلَمَّا وصَلَ يسوعُ إلى ذلكَ المَكان، رَفَعَ طَرْفَه وقالَ له: ((يا زَكَّا انزِلْ على عَجَل، فيَجِبُ عَلَيَّ أَن أُقيمَ اليَومَ في بَيتِكَ)). 6 فنزَلَ على عَجَل وأَضافَه مَسروراً. 7 فلمَّا رَأوا ذلك قالوا كُلُّهم متذَمِّرين: ((دَخَلَ مَنزِلَ رَجُلٍ خاطِئٍ لِيَبيتَ عِندَه!)) 8 فوَقَفَ زَكَّا فقال لِلرَّبّ: ((يا ربّ، ها إِنِّي أُعْطي الفُقَراءَ نِصفَ أَموْالي، وإِذا كُنتُ ظَلَمتُ أَحداً شَيئاً، أَرُدُّه علَيهِ أَربَعَةَ أَضْعاف)). 9 فقالَ يسوعُ فيه: ((اليَومَ حصَلَ الخَلاصُ لِهذا البَيت، فهوَ أَيضاً ابنُ إِبراهيم. 10 لِأَنَّ ابْنَ الإنسان جاءَ لِيَبحَثَ عن الهالِكِ فيُخَلِّصَه)).

 

 

مقدمة

 

في إنجيل الأحد (لوقا 19: 1-10) ينفرد لوقا في رواية زَكَّا العَشَار للتركيز على موضوع التوبة مُبيّنا أهميتها في الحياة المسيحية، حيث إنَّها نقطة انطلاق بشارة المسيح " توبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّموات " (متى 3: 2). ولقد جاء يسوع " لِيَبحَثَ عن الهالِكِ فيُخَلِّصَه" (لوقا 18: 10)؛ وهكذا إن استضافة زَكَّا ليسوع تشير إلى رغبة الرب فينا لا أن نعاينه فقط ونتبعه أينما وُجد، وإنما أيضا إلى أن نفتح قلوبنا ليدخل فيها كما إلى بيته ويُعلن خلاصه فينا فيملك فينا، ونملك نحن به وننعم بملكوته السماوية. ويقول القديس أمبروسيوس فتح زَكَّا أبواب الرجاء لكل نفس بشرية لتلتقي مع مخلص الخطأة "، فمن منا ييأس بعد من نفسه وقد نال زَكَّا نعمة بعد حياة سيئة".  اللقاء بالرب غيّر حياته، كما قد حدث ويحدث كل يوم مع كل منا، ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 19: 1-10)

 

1 ودَخَلَ أَريحا وأَخَذَ يَجتازُها.

 

تشير عبارة "دَخَلَ" إلى مسار رحلة يسوع الأخيرة إلى اورشليم. أمَّا عبارة "أَريحا" في الأصل اليوناني Ἰεριχώ المشتقة من الكلمة العبرية ירִיחוֹ (معناها "مدينة القمر" ירח أو "مكان الروائح العطرة" ריח) فتشير إلى مدينة اشتهرت ببساتين النخيل والبلسم كما يذكر المؤرِّخ يوسيفوس فلافيوس، وهي المحطة الأخيرة قبل الذهاب إلى المدينة المقدسة أورشليم، إذ تبعد حوالي أربعين كيلو مترًا عنها. وحيث أنَّ أريحا تحت مستوى سطح البحر، لها صورة رمزية لتلك هاوية اللعنة التي يسقط فيها الإنسان، ولكن اليوم يدخلها يسوع ليُخرجنا مانحًا لنا الخلاص. أريحا تحوَّلت بفضل يسوع من مكان اللعنة (يشوع بن نون 6: 26) إلى مكان الخلاص. أمَّا عبارة "وأَخَذَ يَجتازُها" إلى موقعها على الطريق الرئيسي بين يافا وأورشليم وشرقي الأردن من ناحية، وعلى الطريق من الغور أو نابلس إلى اورشليم من ناحية أخرى؛ وتبعد نحو 27 كم شمال شرقي اورشليم في "تلول أبو علائق" الواقعة نحو 2 كم غربي أريحا الحديثة عند مدخل وادي القلط. وكانت أريحا آنذاك المحطة الأخيرة قبل أورشليم. وقد كشف علماء الآثار في "تلول أبو العلائق" عن قصر هيرودس الكبير حيث وعُثر هناك على منازل مترفة شبيهة بالمنزل الذي كان يملكه زَكَّا (19: 1-9). وفي العصر الروماني كانت فرقة من الكهنة تسكن أريحا، ولا بد أنهم كثيرا ما كانوا يسافرون في الطريق الموصل من اورشليم إلى أريحا كما ورد في مثل السامري الرحيم (لوقا 10: 30-31). وقد أعاد يسوع البصر إلى بَرطيماوُس الأعمى في أريحا (مرقس 10: 46). والتقى المسيح في زَكَّا، جابي الضرائب، في أريحا وقد تاب ورجع إلى الرب بعد زيارة يسوع له في بيته.

 

2 فإِذا رَجُلٌ يُدْعى زَكَّا وهو رئيسٌ للعَشَّارينَ غَنِيٌّ

 

تشير عبارة "زَكَّا" في الأصل اليوناني Ζακχαῖος إلى الفظة العبرية זַכַּי وهو تصغير زكريا זְכַרְיָה، أي الله يتذكر أو "ذاكرة الله". ويرى البعض أنَّ كلمة زَكَّا باللغة العبرية זַכַּי مشتقة من كلمة זָכַך ومعناها النقي أو الطاهر أو المُزكّى، "المُتبرِّر"، حيث أنَّ زَكَّا فهو صورة أولئك الّذين يشعرون بالضياع. ويُمثل الأمم المتنصرين الذين تبرَّروا بدم السيد المسيح؛ إذ هو مذنب، يعتبر نجسًا علنًا بسبب تواصل بالمال الذي يتم جمعه باسم الرومان الوثنيين الظالمين. ويُعلق البابا فرنسيس "إن يسوع يدعونا جميعا باسمنا. كما فعل مع زَكَّا. اسمك ثمين بالنسبة إليه" (اليوم العالمي للشباب – بولونيا -كراكوف الأحد 31 تموز 2016)؛ أمَّا عبارة "رئيسٌ للعَشَّارينَ" في الأصل اليوناني ἀρχιτελώνης (معناها مأمور الضرائب) فتشير إلى زَكَّا  الذي كان يتولى الإشراف على جُبَاة الضرائب في منطقة أريحا، وقد اشترى امتياز جمع الضرائب فيها من الحكومة الرومانية وأوكل جمع الضرائب لعدد من الجُبَاة تحت إشرافه. تجعل هذه المهنة من صاحبها أولا إنسانا غنيا وثانيا سارقا وثالثا أنَّ يكون مرفوضا ومرذولا من جميع الناس؛ ورد في الإنجيل ثلاثة عشَّارين وهم، متى العَشَار كما جاء في الإنجيل "أَبصَرَ يسوع َ عشَّاراً اسمُه لاوي (متى)، جالِساً في بَيتِ الجِبايَة فقالَ له: اتبَعْني" (لوقا 5: 27)، والعَشَار الذي صعد إلى الهيكل وتَّبرَّر (لوقا 18: 9-14)، زَكَّا العَشَار (لوقا 19: 1-10). أمَّا عبارة "العَشَارون" فتشير إلى جماعة الجباة الذين يجمعون من المواطن عُشْر دخله الأساسي وكانوا يستوفون أكثر من الجزية المُقرَّرة ويأخذونها لأنفسهم كما يؤكد يوحنا المعمدان في نصائحه لهم "لا تَجْبوا أَكثَرَ مِمَّا فُرِضَ لَكم" (لوقا 13:3)، هذا مع ما اتسم به العَشَارون بصفة عامة من حب لجمع المال بروح الطمع والجشع والقمع والسرقة واستغلال إخوتهم اليهود بلا رحمة. هذا بالإضافة كانوا يأخذون المال من الشعب المال ويعطونه للمستعمِر الروماني. فحياتهم هي تآمر ومؤامرة على الشعب، ولذلك كرههم اليهود وأسموهم لصوصًا. وكانت تهمة اليهود ليسوع بانه "صَدِيقٌ لِلجُباةِ والخاطِئين" (متى 11: 19). لذلك العَشَارون هم خطأة شانهم شأن كل خطأة. و "كانَ الجُباةُ والخاطِئونَ يَدنونَ مِنه جَميعاً لِيَستَمِعوا إِلَيه" (لوقا 15: 1)، فهو فتح لهم باب قبول أمام الله كما جاء في تصريح له "إِنَّ الجُباةَ والبَغايا يَتَقَدَّمونَكم إلى مَلَكوتِ الله.  فَقَد جاءَكُم يوحَنَّا سالِكاً طريقَ البِرّ، فلَم تُؤمِنوا بِه، وأَمَّا العَشَارونَ والبَغايا فآمَنوا بِه" (متى 21: 31-32). أمَّا عبارة " غَنِيٌّ" فتشير إلى زَكَّا الذي كان غني بنظر العالم على حساب غيره، لكنه كان فقيرا في نظر الله؛ انه بحاجة إلى ما هو أكثر من الذهب والمال. يستطيع الغني كما الفقير إن أراد أن ينطلق نحو الرب. يقول القديس أمبروسيوس: " ليعرف الأغنياء أن الغنى في ذاته ليس خطيئة بل إساءة استخدامه؛ فالأموال التي تمثل حجر العثرة بالنسبة للأشرار هي وسيلة لممارسة الفضيلة بالنسبة للصالحين" (شرح لإنجيل القدّيس لوقا 19: 9).

 

3 قد جاءَ يُحاوِلُ أَن يَرى مَن هُوَ يسوع، فلَم يَستَطِعْ لِكَثَرةِ الزِّحَام، لِأَنَّه كانَ قَصيرَ القامة،

 

تشير عبارة "جاءَ يُحاوِلُ أَن يَرى مَن هُوَ يسوع" إلى رغبة زَكَّا في رؤية يسوع والبحث عن هويته. وكلفت زكا هذه الرؤية كثيراً، إذ لم يكن سهلًا على رجل ذي مكانة كرئيس للعشارين أن يتسلق جُمَّيزَةً كصبيٍ، ويراه الجمهور عليها كانت فرصة زَكَّا الأخيرة ليرى المُخلص، يسوع. ولولا رؤيته للمسيح لما رأى خطيئة في نفسه، ولولا رؤية المسيح لما رأى إلى الخلاص سبيلا. كان زكا ينظر من فوق إلى تحت، بعكس يسوع فهو ينظر من تحت إلى فوق. ذاك يرى يسوع بعين الجسد، وأمّا يسوع، فيرى العشّار بعين القلب، كما يقول صاحب المزامير "وهُو العالِمُ بِخَفايا القُلوب؟ "(مزمور 44: 22).  ونحن لا نعلم متى ستكون لنا آخر فرصة لنسمع بها دعوة البشارة. ويُعلق الطوباوي جون هنري نيومان "في داخلنا توق، "صدى صوت"، يدعونا ويجذبنا نحو الله". أمَّا عبارة " فلَم يَستَطِعْ لِكَثَرةِ الزِّحَام " إلى ازدحام الجموع الذين يمنعون زكا رؤية يسوع. ويعلق القديس أمبروسيوس "طالما كان زَكَّا بين الجموع، لم يرَ الرّب يسوع المسيح. لكن حينما ارتفع فوق الجموع رأى، ورأى يسوع " (شرح لإنجيل القدّيس لوقا 19: 9). أمَّا عبارة " قَصيرَ القامة " فتشير إلى علاقات قصيرة المدى مع ذاته ومع إلهه ومع غيره. ولكن قصر قامته ولكن عاهته بدل أن تكون سبب لتبرير نفسه ليتخلى عن رغبته في رؤية يسوع، كانت سبباً في خلاصه. فهو لا يدرك أنه يستحق أن يجد نفسه وجهًا لوجه أمام يسوع.  إذاً علينا أن نفهم أن الله لا يخطئ. وإذا كان شيئاً ينقصنا، كان هذا سبباً لخلاصنا. فعمل الله دائماً كامل. كانت قامتُه أقصرَ مِن صيته، إذ كما وصفه الإنجيل رئيسٌ للعَشَّارينَ معروفا من الكل. ويعلق البابا بولس السادس على هذه الآية " نبحثُ عن كلِّ شيء، ما عدا الله. نقول إنّ الله قد مات؛ فلا ننشغل به البتّة. لكنّ الله لم يمُت؛ بالنسبة إلى أناسٍ كثيرين اليوم، هو مفقود. لذا، ألا يستحقّ تكبّد عناء البحث عنه؟ "(المقابلة العامة بتاريخ 26/08/1970).

 

4 فتقدَّمَ مُسرِعاً وصَعِدَ جُمَّيزَةً لِيرَاه، لأَنَّه أَوشكَ أَن يَمُرَّ بِها.

 

تشير عبارة "تقدَّمَ" إلى فضول زَكَّا، ولكن يسوع اعتبر هذا الفضول بداية الإيمان؛ أمَّا عبارة "مُسرِعاً" فتشير إلى تجاوب زَكَّا الفوري إذ أسرع ونزل، حيث أنَّ التأجيل قد يضيع فرصة الخلاص، لان كانت رحلة يسوع الأخيرة إلى اورشليم؛ أمَّا عبارة "صَعِدَ" فتشير إلى زَكَّا الذي لا يمكنه أن يرى المسيح ويؤمن به ما لم يصعد شجرة الجميز، بمعنى قمع لأعضائه التي على الأرض، الزنى والنجاسة؛ محبة الهدف اقوى من الصعوبة. يعلق القدّيس أفرام السريانيّ " لقد صعِد على شجرة الجمّيز الجامدة، رمز الصَّمم في روحِه. لكنّ هذا الارتفاع لم يكن سوى رمزًا لخلاصه، فترك الدنيويّة في نفسه وصعد لرؤية الألوهية في العُلى" (الدياتيسّارون"، 15).

أمَّا عبارة "جُمَّيزَةً" في اللغة اليونانية συκομορέαν في العبرية שִׁקְמָה فتشير إلى شجرة كبيرة جداً، لكن أغصانها السفلى قليلة الارتفاع سهلة التسلق عليها. وتنمو في غور الأردن (مزمور 78: 47). وكان عاموس النبي "واخِزُ جُمَّيز" (عاموس 7: 14)؛ وشجرة الجميز ثمارها رخيصة وخشبها قليل الجودة (أشعيا 9: 10)، وتشير للأمور الزمنية التافهة، ومن هنا لا يمكن أن نعاين المسيح ما لم نسموا فوق الأمور الزمنية أي المال والطمع والظلم. ويعلق جان تولير الراهب الدومنيكاني " وهكذا ما زال الإنسان يفعل. هو يرغبُ في رؤية مَن يصنعُ الآيات. فما العمل؟ عليه أن يتسلّقَ شجرة الجمّيز. وترمزُ شجرة الجمّيز هذه إلى موت الحواسّ والطبيعة، وحياة الإنسان الداخليّة التي تحملُ الله فيها" (العظة 68).

 

5 فلَمَّا وصَلَ يسوعُ إلى ذلكَ المَكان، رَفَعَ طَرْفَه وقالَ له: يا زَكَّا انزِلْ على عَجَل، فيَجِبُ عَلَيَّ أَن أُقيمَ اليَومَ في بَيتِكَ.

 

تشير عبارة "فلَمَّا وصَلَ يسوعُ إلى ذلكَ المَكان" إلى مجيء يسوع إلى مكان شجرة الجُمَّيزَةً يبحث عن زَكَّا وينظر إليه. زَكَّا بحث عن يسوع، لكن في النهاية يسوع هو الذي يأتي لملاقاته. أمّا عبارة " زَكَّا " فتشير إلى معرفة يسوع زَكَّا باسمه واستخدام اسمه للدلالة على معنى خاص، وهو النقي والمُزكّى، إذ سامحه المسيح عن خطاياه؛ أمَّا عبارة "رَفَعَ طَرْفَه" في الأصل اليوناني ἀναβλέψας (النظر مِن الأسفل إلى الأعلى) فتوحي بنظرة لّاهوتية عميقة فهي نظرة الإله الّذي لا ينظر إلينا من فوق. اللقاء مع يسوع هو لقاء غيَّر وجهات النظر وهدّم الكثير مِن الأحكام الـمُسبقة. نظرة يسوع له عكس نظرات الناس له؛ إنها تتخطى عيوب وترى الشخص؛ لا تتوقف عند أخطائه الماضية، ولا عند المظاهر، إنما تنظر إلى قلبه. يسوع ينظر إلى القلب. في تلك النظرة الإلهيّة ثمَّ قبوله كما هو ومنحه الغفران. وبغفران الرّبّ لزكَّا أعاده إلى دائرة علاقات صحية مع ذاته والله والآخرين.

أمَّا عبارة " يا زَكَّا انزِلْ على عَجَل" فتشير إلى دعوة يسوع لزكا للقائه فورًا وخلو نفسه من ذاته. والنزول يرمز إلى التجرّد التامّ، وإلى الانفصال الكامل عن الطبيعة، وعن كلّ ما يتّصلُ بها بشكل ما. تعلق القدّيسة تيريزا الطفل يسوع " إنّ ما يرغب فيه يسوع هو أن نقبله في قلوبنا: لا شكّ في أن تكون قلوبنا فارغة من المخلوقات، لكن يا للأسف! أنا أشعر بأنّ قلبي ليس خاليًا من ذاتي تمامًا، ولهذا أمرني يسوع بالنزول"(الرسالة 137). وتضيف الطوباويّة إليصابات الثالوث الراهبة الكرملية "إنزل على عجل، لكن إلى أين؟ إلى عمق ذاتي: بعد أن أترك ذاتي، انفصل عنها وأتجرّد منها، بكلمة واحدة من دون ذاتي" (الرياضة الروحيّة الأخيرة).

أمَّا عبارة "أُقيمَ اليَومَ في بَيتِكَ" فتشير إلى استضافة يسوع نفسه بنفسه في بيت زَكَّا ليرافقه في تفاصيل حياته وليقدسه متخطيا الأحكام المسبقة.  لبَّى يسوع رغبة زَكَّا بطريقة غير عادية من خلال جعل نفسه ضيفا على زَكَّا، وأقام في بيته ولم تكن زيارته عابرة. فقد أحبَّه يسوع بلا قيد أو شرط بالرغم من انه مخادع وخارج عن جماعة اليهود. لم يمر يسوع من هذا الطريق صدفة، ولم ينظر للشجرة صدفة، إنما هو كان يعرف أن في هذا المكان خروف ضال يريد أن يرده فذهب إليه. طلب يسوع بنفسه أن يدخل بيت زَكَّا. فزَكَّا بحث عن المسيح والمسيح بحث عن زَكَّا. فالرب يدخل بيتنا أو يدخل قلبنا ويتمم الشفاء حين يرى قلوبنا مستعدة.  ويعلق البابا فرنسيس "يسوع يرغب بالتقرب من حياة كل فرد، واجتياز مسيرتنا بأكملها، كي تلتقي حياته بحياتنا حقًا يدعونا يسوع افتحوا لي باب قلوبكم" (اليوم العالمي للشباب – بولونيا -كراكوف الأحد 31 تموز 2016)؛ أمَّا عبارة "اليَومَ" فلا تشير إلى مدة زمنية معينة بقدر ما تعني لحظة الالتقاء بيسوع، عندما يأتي.  وترددت في هذا النص مرّتين كلمة "اليوم" على فمّ يسوع (لوقا 19: 5، 9) دلالة على أهمية الفرصة الحاضرة. من خلال كلمة "اليوم" نفهم أنّ كلّ يوم هو "اليوم" للقاء مع المسيح. فاليوم هو يوم خلاص، لا غدًا ولا أمس؛ وتأجيل التوبة لا ينفع، إذ "اليوم" لنا فرصة بالخلاص.

 

6 فنزَلَ على عَجَل وأَضافَه مَسروراً.

 

تشير "فنزَلَ على عَجَل" إلى تجاوب زَكَّا فورا. كم مرة صعد في غناه وكبريائه، والآن عليه أن يتعلم أن ينزل ويتضع ويتخلى عن أمواله. ويعلق القدّيس أفرام السريانيّ "بسبب طاع زكا المباشرة، تحوّل مَن كان لصًّا في الأمس إلى بارٍّ اليوم، وأصبح عشّارُ الأمسِ تلميذًا اليوم" (الدياتيسّارون"، 15). أمَّا عبارة " أَضافَه "فتشير إلى استضافة زَكَّا للسيد المسيح، إنّها لحظات في الحياة لا تتنسى، لأنّها تُغيِّر مجرى الحياة. ويُعلق القديس ايرونيموس "زَكَّا الذي تغيَّر في ساعة حُسب أهلًا أن يتقبل المسيح ضيفًا له".  واستضافة زَكَّا ليسوع ترمز إلى انفتاح ليس بيته فقط بل خاصة قلبه أي بيته الداخلي لسكنى الرب فيه. فرغبة الرب لا تكمن في أن نعاينه ونتبعه أينما وُجد فحسب، وإنما أن نفتح قلوبنا له ليدخل فيها ويُعلن خلاصه. كما أراد يسوع أن يدخل بيت زَكَّا وكافة بيوت العَشَارين والخطأة، كذلك يريد أيضا أن يفتح بصيرتنا لكي نفتح بيوتنا الداخلية مع زَكَّا فيملك فينا، ونملك نحن به ومعه وننعم. أمَّا عبارة " مَسروراً" في اللغة اليونانية χαίρω (معناها فرح) فتشير إلى الفرح العظيم، وهو موقف بعيد عن موقف الفريسيين وتذمّرهم. حصل زَكَّا على امتياز أن يستضيف يسوع في بيته وهو أكبر شرف في حياته لذلك فرح فرحا عظيما عكس ذاك الوجيه الغني الذي “فلمَّا سَمِعَ ذلك اغتَمَّ لِأَنَّه كانَ غَنِيّاً جِدّاً"(لوقا 18: 23). أن الخطيئة تجرح النفس وتفقدها فرحها، فتعيش مرتبطة بالعالم والزمنيات فاقدة رجاءها الأبدي وبهجتها الداخلية. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " تجلي الرب في النفس، وسماعها صوته يُملأها رجاءً، ومجدٍ ونعمةٍ وقوةٍ بفرحٍ حقيقيٍ".

 

7 فلمَّا رَأوا ذلك قالوا كُلُّهم متذَمِّرين: دَخَلَ مَنزِلَ رَجُلٍ خاطِئٍ لِيَبيتَ عِندَه!

 

تشير عبارة "متذَمِّرين" إلى التعبير عن استيائهم وسخطهم وعدم رضاهم وانتقادهم لهذا النبي العظيم الذي يخالط الخاطئين من أمثال هذا العَشَار. وكل عشَّار بنظرهم خاطئ لأنه يجمع مال الأُمَّة للرومان، ولأنه يجمع المال لنفسه ظلماً. لكنهم لم يدرك اليهود غاية المسيح وعمله. نسى اليهود المتذمرين تعاليم يسوع حول أبيه السماوي الذي " يُطلِعُ شَمْسَه على الأَشرارِ والأَخيار، ويُنزِلُ المَطَرَ على الأَبرارِ والفُجَّار" (متى 5: 45) كما نسوا أيضا وصيّة يسوع "لا تَدينوا لِئَلاَّ تُدانوا" (متى 7: 1). ويُعلق القديس كيرلس الكبير "كان يليق باليهود أن يفرحوا بدل أن يتذمروا، لأن زَكَّا قد خُلص بطريقة عجيبة، إذ حُسب هو أيضًا أحد أبناء إبراهيم الذي وعده الله بالخلاص في المسيح". أمَّا عبارة "دَخَلَ مَنزِلَ رَجُلٍ خاطِئٍ" فتشير إلى الأفكار المتداولة عند اليهود، وهي أن معاشرة الخاطئين تؤدِّي إلى النجاسة (لوقا 5: 30). لام اليهود يسوع لدخوله إلى بيت خاطئ مراعاة لكرامته "كرابي" ومعلم، خاصة أن جامع الضرائب يعتبر عند اليهود شخصية مكروهة وخائنة ومتعاونة بابتزاز أموال مواطنيه اليهود لمصلحة الدولة الرومانية المحتلة.

 

8 فوَقَفَ زَكَّا فقال لِلرَّبّ: يا ربّ، ها إِنِّي أُعْطي الفُقَراءَ نِصفَ أَموْالي، وإِذا كُنتُ ظَلَمتُ أَحداً شَيئاً، أَرُدُّه علَيهِ أَربَعَةَ أَضْعاف

 

تشير عبارة "فوَقَفَ زَكَّا فقال" إلى أهمية التصريح الذي كان مُزمعا أن يدلي به نتيجة وقفة للذات مع الله ولقائه بيسوع المسيح وقبوله في قلبه وفي حياته؛ ويعلق القدّيس أفرام السريانيّ " ولمّا رأى هذا الأخير أنّ الربّ يعرف أفكاره، قال: "بما أنّه علِم هذا فهو يعلمُ أيضًا ما فعلت". لذلك، أعلن: "يا ربّ، ها إِنِّي أُعْطي الفُقَراءَ نِصفَ أَموْالي، وإِذا كُنتُ ظَلَمتُ أَحدًا شَيئًا، أَرُدُّه علَيهِ أَربَعَةَ أَضْعاف" (الدياتيسّارون"، 15). أمَّا عبارة "أُعْطي الفُقَراءَ نِصفَ أَموْالي" فتشير إلى تبدُّل زَكَّا على مستوى المحبة حيث يقاسم أمواله مع الفقراء وهي عملية نفَّذها لساعته؛ إنه لم يقدم ماله للفقراء والمظلومين، وإنما قدم أولًا قلبه لله، عندئذ جاءت عطايا طبيعية وبلا كلفة، ومفرحة لله. وكما ترك إبراهيم كل ممتلكاته في أور ترك زَكَّا هنا نصف ممتلكاته؛ ويعلق القديس ايرونيموس "إن قدمنا للمسيح نفوسنا كما نقدم له غنانا، يتقبل التقدمة بفرح".  فالمال الذي كان عائقا أمام الخلاص يصبح علامة للارتداد في تغيير عقليته وعمله. لذلك فإن زكَّا ليس فقط رجل الرغبة في رؤية يسوع، بل هو أيضًا رجل العمل مبتدأ بالتوبة الّتي لا يمكن يجسدها إلا من خلال تغيير علاقته بالأشخاص الّذين أساء إليهم. أمَّا عبارة "ظَلَمتُ" في الأصل اليوناني ἐσυκοφάντησα (معناها سلبت) فتشير إلى التصرف في ملك الغير ومجاوزة الحد.

أمَّا عبارة " أَرُدُّه علَيهِ أَربَعَةَ أَضْعاف" فتشير إلى تبدُّل زَكَّا  على مستوى العدالة أذ سيَرُدُّه علَيهِ أَربَعَةَ أَضْعاف" الأمر الذي يتجاوز ما تقتضي الشريعة اليهودية التي تنص" إِن وُجِدَتِ السَّرِقَةُ في يَدِه حَيَّةً مِن ثَورٍ أَو حِمارٍ أَو شاة، فلْيُعَوِّضْ بَدَلَ الواحِدِ اَثنَين" (خروج 22: 3) ويعادل عقوبة الشرع الروماني للسرقة الظاهرة، كان هذا الجزاء من اقصى العقوبات التي كان يفرضها القانون عندما يُجبر أحد الناس على تقديم تعويض عن سرقة كما جاء في حكم داود النبي " يَرُدُّ عِوَضَ النَّعجَةِ أربَعًا جَزاءَ" (2 صموئيل 12: 6). أمَّا زَكَّا فيفرض العقوبة على نفسه كعشار أبتزّ الأموال، وعندما جاء يسوع يبحث عنه وجده رجلا تائباً (لوقا 5: 32) بالرغم من غناه. حيث أنَّ الثروة في حدّ ذاتها ليست مصدر المشكلة بل قلب الإنسان، الذي يتعلّق بالخيرات التي يمتلكها، ويُغلق قلبه دون عطايا أثمن بكثير. ويُعلق القديس أمبروسيوس "فقد اختار الرّب يسوع المسيح زَكَّا الذي كان غنيًّا، لكن بعد أن أعطى نصف أمواله إلى الفقراء، وبعد أن ردّ ما سلبه من الناس أربعة أضعاف" ((شرح لإنجيل القدّيس لوقا 19: 9). يسوع لا يتحيّز لفئة مُعيّنة، بل هو كلٌّ للكل، لكلِّ الأجيال ولكلِّ الأزمنة. إن الخلاص ليس فقط للفقراء (متى 5: 3) بل وأيضا للأغنياء، لأن يسوع ينظر إلى القلب ويقدِّم الخلاص والحياة الأبديّة لكلِّ إنسان كما جاء في تعليم بولس الرسول "فكُلُّ مَن يَدْعو بِاسمِ الرَّبِّ يَنالُ الخَلاص" (رومه 10: 13).  ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم "إبراهيم كان يملك حقًا غنى للفقراء، وكل الذين ملكوا الغنى بطريقة مقدسة أنفقوه بكونه عطية الله لهم"؛ علينا أن نستخدم المال كضرورة لا أن نُقام حراسًا عليه، "العبد يحرس، أمَّا السيد فينفق".

 

9 فقالَ يسوعُ فيه: اليَومَ حصَلَ الخَلاصُ لِهذا البَيت، فهوَ أَيضاً ابنُ إِبراهيم

 

تشير عبارة "قالَ يسوعُ فيه" في الأصل اليوناني εἶπεν δὲ πρὸς αὐτὸν إلى كلام يسوع عن زَكَّا الموجّه إلى الحاضرين كما يدلُّ سياق الكلام. والبعض يترجمه "قال له" مشيرا إلى الكلام الموجّه إلى زَكَّا وليس إلى الحاضرين؛ أمَّا عبارة "اليَومَ حصَلَ الخَلاصُ لِهذا البَيت" فتشير إلى تصريح رسمي من يسوع بعد رؤية ارتداد زَكَّا واستعداده التام لتغيير حياته حيث كشف ربنا يسوع المسيح عن رسالته الخلاصية، فاتحًا باب الرجاء للكل. وهنا نسأل مع صاحب الحكمة " كيفَ يَبْقى شَيء لم تُرِدْه أم كَيفَ يُحفَظُ بما لم تَدْعُه؟ لكِنَّكَ تَرحَمُ جَميعَ النَّاس لأنّكَ على كُلِّ شَيءٍ قَدير وتَتَغاضَى عن خَطايا النَّاسِ لِكَي يَتوبوا " (الحكمة 11: 23 -25). إذن الرحمة والتغاضي عن شر الإنسان وحبه للإنسان، هي الميزات الإلهية.  ويعلق القديس أوغسطينوس "جاء يسوع إلى المفقودين ليجدهم، وقد تمزق بأشواك آلامه. جاء فعلًا ووجدهم، مخلصًا إياهم. لقد خلصوا بذاك الذي ذُبح لأجلهم". المسيح الحامل خلاص العالم يتغاضى عن خطايا العشار بالغفران. أمَّا عبارة "اليَومَ" فتشير إلى آنية الخلاص بمعنى اليوم هو يوم الخلاص. فإنجيل لوقا يُشدِّد على " ألآنية " أي في الزمان "اليوم" وفي المكان "هنا" (لوقا 4: 21) كما قال يسوع إلى اللص اليمين "سَتكونُ اليَومَ مَعي في الفِردَوس" (لوقا 23: 43)؛ أمَّا عبارة "الخَلاصُ" في الأصل اليوناني σωτηρία، وفي اللغة العبرية תְשׁוּעָה فتشير إلى نَشل المرء من خطر كاد يهلك فيه. وبحسب طبيعة الخطر تقارب عملية الإنقاذ الحماية، أو التحرير، أو الفداء، أو الشفاء، وتقارب عملية الخلاص النصر، أو الحياة، أو السلام. وقد فسرّ الوحي انطلاقاً من مثل هذا الاختبار البشري، إلى الخلاص الروحي. والخلاص الروحي هو أحد المظاهر الجوهرية عن عمل الله على الأرض: إن الله يخلص البشر، وأن المسيح هو مخلصنا (لوقا 2: 11)، والإنجيل يقدّم الخلاص لكُلِّ مُؤمِن (رومه 1: 16). وهكذا حيث يدخل المسيح بالضرورة يوجد الخلاص. يدخل يسوع قلوبنا فتصير سماء، ويغفر لنا خطايانا ونفوز بالخلاص، فهل نشتاق لخلاص يسوع مثل زَكَّا. يقول الرب "إِن عَطِشَ أَحَدٌ فليُقبِلْ إِلَيَّ ومَن آمنَ بي فَلْيَشَربْ كما ورَدَ في الكِتاب: ستَجْري مِن جَوفِه أَنهارٌ مِنَ الماءِ الحَيّ" (يوحنا 7: 37– 39).

أمَّا عبارة "لِهذا البَيت" فتشير إلى نيل زَكَّا الغفران والخلاص نظرا لسخائه ولتوبته وهو يُشبه كرم ومحبة المرأة الخاطئة التي نالت أيضا الغفران من الرب يسوع (لوقا 7: 47)؛ وحينما يتقدس أحد أفراد الأسرة يصير سبب بركة وخلاص بقية الأعضاء في البيت. وقد جاء سفر الأعمال يكشف بقوة كيف كان لقاء البعض مع السيد المسيح يدفع أهل بيتهم إلى اللقاء أيضًا معه والتمتع بخلاصه في حياتهم. (أعمال الرسل 9: 31-10: 23). وأمَّا عبارة "ابنُ إِبراهيم" فلا يشير إلى بنوَّته الجسدية (لوقا 3: 8) فحسب إنَّما تشير إلى انتمائه إلى إيمان إبراهيم الذي يعتبر أب شعب الله المختار المؤمن. يمكننا أيضًا أن نقول بأن زَكَّا حين كان رئيسًا للعشارين كان ابنًا لإبراهيم حسب الجسد، أمَّا الآن إذ تعرف على السيد صار ابنًا له حسب الإيمان، ابنًا لأبي المؤمنين، بل صار ابنًا لله في المسيح يسوع. لذا يستحقّ عطف الرب الإله وعنايته ومحبّته. "لِأَنَّ ابْنَ الإنسان جاءَ لِيَبحَثَ عن الهالِكِ فيُخَلِّصَه" (لوقا 19: 10). لقاء زكّا هذا بيسوع قد غيّر كلَّ حياتِه. ومن هذا المنطلق، بالرغم من مهنته كعشار التي تجعله في عداد الخاطئين (لوقا 19: 7) و5: 30)، فان زَكَّا بكرمه أصبح أبنا باراً لابي المؤمنين، واحدا من أبناء شعب الله المختارين الذين لم يتبعوا طرق الله، بالميراث والنسب والحسب ولكنهم بالإيمان نالوا المغفرة والتغيير.  مَن يمكنه أن يفقد الأمل، إن كان زَكَّا قد نجح؟

 

10 لِأَنَّ ابْنَ الإنسان جاءَ لِيَبحَثَ عن الهالِكِ فيُخَلِّصَه

 

تشير عبارة "الهالِكِ" إلى جميع الناس حتى البعيدين منهم عن الله كما جاء في تعليم بولس الرسول "كما يَموتُ جَميعُ النَّاسِ في آدم فكذلك سَيُحيَونَ جَميعًا في المسيح" (1قورنتس 15: 22). فالحب هو نتيجة الغفران وعلامته. تُشدِّد هذا الآية على دور يسوع في الخلاص. جاء يسوع يبحث عن الخروف الضال، فوجده وعاد به إلى الحضيرة والدرهم الضائع الذي عُثر عليه والابن الضال الذي مات وعاد إلى الحياة. فيُعلق القديس أمبروسيوس بقوله "نحن الخراف، فلنسأل الربّ أن يعطينا مراع خصيبة. نحن الدرهم، فلنسأل الربّ أن نحافظ على قيمتنا. نحن الأبناء، فلنركض إلى حضن الآب".

 

 

ثانياً: تطبيق النص الإنجيلي (لوقا 19: 1-10)

 

انطلاقا من الملاحظات الوجيزة حول وقائع النص الإنجيلي (لوقا 19: 1-10)، نستنتج ان النص الإنجيلي يتمحور حول التوبة، وهو موضوع عزيز على قلب يسوع كما صرّح هو نفسه " إِن لم تَتوبوا تَهِلكوا بِأَجمَعِكُم (لوقا 13: 5). ومن هنا نتساءل ما هو موقف زَكَّا العَشَار من يسوع؟ وما رد فعل يسوع منه؟

 

1)  ما هو موقف زَكَّا العَشَار من يسوع؟

 

في آخر زيارة ليسوع إلى أريحا، وهو في طريقه إلى القدس لتقديم نفسه ذبيحة على الصليب، اصطفت الجموع في الطريق الرئيسي لملاقاته وكان من بينهم زَكَّا، الذي حاول أن يبحث "ويَرى مَن هُوَ يسوع" (لوقا 19: 3)، لكنه لم يستطع ذلك لسببين: الأول لأن يسوع المسيح كان مُحاطًا بجموع غفيرة.  والسبب الثاني هو قصر قامته.  فعل زَكَّا كل شيء لرؤية يسوع؛ صعد الجُمَّيزَةً وأخذ يراقب الموكب؛ وهنا تغلب على الخجل حيث أنَّ زَكَّا كان شخصية عامة؛ وكان يعرف أنه بصعوده الشجرة قد يصبح سخيفا في نظر جميع، هو، الرئيس، الرجل ذو السلطة. ولكنه تخطى الخجل، لأن جاذبية يسوع كانت أقوى من ذلك. وعندما أصبح المسيح تحت الشجرة، نادى يسوع زَكَّا معلنًا له أنه سيتناول العشاء في منزله الليلة، مما أثار استغراب وحفيظة مرافقي المسيح، بسبب نظرتهم التقليدية إلى مهنته.

 

وقد تغلب زَكَّا على معوقات أخرى تحول بين زَكَّا والمسيح: منها خطيئته، إذ يُحسب العَشَارين في نفس صفوف البغايا (متى 21: 31)، كراهية المجتمع له، ومركزه كرئيس العَشَارين قد يتأثر بما فعله، من تسلقه الجُمَّيزَةً، وقصر قامته. تحدَّى زَكَّا كل الصعوبات التي تعيق بحته وكحركته تجاه يسوع وانتصر زَكَّا على كل ذلك من خلال إيمانه، واشتياقه، وقلبه التائب فنال الخلاص. فبالإيمان الحي العملي نغلب كل ضعف فينا ونرتفع فوق الظروف لنلتقي بربنا يسوع فنخلص. وصل زَكَّا إلى نتيجة مرضية في بحثه لان المسيح التقى به. ونتيجة اللقاء كان توبته وارتداده.

 

وأثناء العشاء أعلن زَكَّا توبته كما أعلن أنه إذا ما كان قد ظلم أحدًا من الشعب في جبي الضرائب فسوف يردُّه إليه أربعة أضعاف، فقال له المسيح عندها: "اليوم تمّ الخلاص لهذا البيت". ومن هنا يمكن ان نبحث عن توبة زَكَّا على الصعيد الإنساني وعلى الصعيد الروحي.

 

أ‌) علامات التوبة على الصعيد الإنساني

 

كان زَكَّا رئيسا للعشارين في أريحا وكان رجلا غنياً وكان قصير القامة. ومثل هذه العاهة تجعل الإنسان يتقوقع وينطوي حول نفسه، مفضلًا الابتعاد عن المجتمع. بالرغم من ذلك "جاءَ يُحاوِلُ أَن يَرى مَن هُوَ يسوع " لوقا 19: 3)، وأخذ قراراً سريعاً ليرى يسوع بالرغم من العقبات، وهي قصر قامته التي كانت تمنعه ان يرى يسوع وسط جمهورٍ مزدحم ٍ، ونظرات الناس الحاقدة عليه وكراهيتهم له، ومركزه كرئيس للجباه. ولم يكن له طريق آخر لرؤية يسوع سوى أن يصعد فوق الأرض متسلقًا شجرة جُميز التي كان المسيح مزمعًا أن يمرَّ بها. ويُعلق القديس كيرلس الكبير "أراد زَكَّا أن يرى يسوع لذا تسلق شجرة جميز، هكذا نمت في داخله بذرة الخلاص". 

 

وتسلُّقه على الشجرة تُبيّن تشوُّق قلبه لرؤية من هو يسوع، ومن خلال الشجرة التقى زَكَّا بالسيد رغم المُعوقات الخاصة به كقصر قامته، أو الخاصة بالظروف كتجمهر الناس حول السيد فيحجبونه عنه. فشوقه ليرى يسوع تغلَّب على كل ضعف فيه وارتفع فوق الظروف ليلتقي به. فسمع يسوع يناديه فنصت لصوته وتجاوب مع كلماته. فلم يُصدق قلبه أنَّ يسوع يريد أن يكون ضيفا له. وهو يعلم أنه ليس أهلًا في استقبال يسوع في منزله. فأقام ليسوع ومن معه مأدبة ًعظيمة. فرح زَكَّا عندما أكتشف أن يسوع نفسه يبحث عنه. وزاد فرحه عندما عرف أنَّ يسوع لا يريد رؤيته فحسب، بل يريد أن يقيم في بيته (لوقا 19: 5).

 

كما أن قائد المئة استضاف السيد المسيح وقد حسب نفسه غير أهل أن يدخل يسوع المسيح بيته (متى 8: 8)، كذلك استضاف زَكَّا السيد المسيح بفرحٍ فنالا الرحمة التي طلباها. ومن هذا المنطلق، نستنج أنَّ "التوبة هي عطية من الله" كما يقول القديس إسحاق السرياني.

 

انتقد الجمع عمل يسوع، لكن النتيجة كانت انقلابا كاملا في حياة العَشَار وفي خلاص بيته. فبعد لقائه مع يسوع أدرك أنَّ حياته تحتاج إلى الاستقامة. وقد أظهر زَكَّا التغيير الخارجي بأعمال خارجية، إذ أعطى نصف أمواله للفقراء، وردَّ ما اغتصبه من الآخرين، بعرض فائدة سخية. حاول زَكَّا إصلاح الأمور التي أفسدها. ومنا هنا نستنتج أنه لا يكفي أن نتبع يسوع بعقولنا وقلوبنا فقط، بل لا بدَّ أيضًا من تغيير سلوكنا وإبداء ذلك بأعمالنا الصالحة.

 

ب‌) علامات التوبة على الصعيد الروحي

 

سمع زَكَّا صوت الضمير الداخلي ولم يكتم هذا الصوت بل طلب أن يرى يسوع. حاولَ زَكَّا أن يرى مَنْ هو يسوع الرغمِ من كلِّ هذه الخطايا التي غاصَ فيها زَكَّا العَشَار، كخطيئتِهِ ضدَّ البرِّ، إذ إنَّه مخالفٌ للشريعةِ اللهِ بأنَّهُ متحالفٌ مع الأممِ وجابٍ للضرائب؛ وضدَّ العدلِ، إذ أنه ظالمٌ وسارقٌ، إلا أنَّه نالَ الخلاص.

 

ولما رأى المسيح رأى نفسه الخاطئة ولم يُخاطب يسوع بلسانه، وإنما خاطبه بقلبه بلغة الحب والإيمان والتوبة. وما التوبة كما تشير إليها المدلول اليوناني μετάνοια فتعني "تغيير العقلية؛ وهذا يتطلب التحوّل الجذري واكتساب طريقة جديدة لرؤية الله والآخر ونفسه. 

 

وأسرع زَكَّا ونزل ووقف أمام يسوع بفرح عظيم مؤمناً به، وتغيرّت حياته تماما عندما تقابل مع المسيح وسمع كلامه وقدّم قلبه لله. وكلمة الله حيّة في قلب من يؤمن به ومن يحب. ويُعلق القديس ايرونيموس "إن قدَّمنا للمسيح نفوسنا كما نقدِّم له غنانا، يتقبل التقدمة بفرح".

 

وكما أظهر زَكَّا  التغيّر الداخلي بفعل خارجي فلم ينتظر حُكم الناموس، بل حَكم على نفسه بنفسه فورا معترفاً بخطاياه أمام الجميع قائلا "يا ربّ، ها إِنِّي أُعْطي الفُقَراءَ نِصفَ أَموْالي " (لوقا 19: 8)، وكان اعترافه بالعمل لا بالكلام، واخذ زَكَّا  يكفر عن ماضيه ويتصدّق على الفقراء بنصف أمواله ثم ذهب إلى أبعد من ذلك قائلا "وإِذا كُنتُ ظَلَمتُ أَحداً شَيئاً، أَرُدُّه علَيهِ أَربَعَةَ أَضْعاف" (لوقا 19: 8)؛ فردَّ إلى الناس ما ظلمهم به في جباية الأموال ضعف ما كانت تقضي به الشريعة اليهودية على السارق (خروج 22:1)، فما أخذه زَكَّا  بالابتزاز أعطاه مجانا. وأخذ يرى الآخرين بنظرة مختلفة، ليس كفرصة ليستغلّهم، إنما ليكونوا سبباً لممارسة الرحمة والمحبة، لأنهم أصبحوا إخوة له نتيجة معرفته للمسيح وتوبته. لقد دلّ زَكَّا على مرأى من كل الحاضرين على ما فعلت به نظرة حب المسيح الخارقة.

 

إن التغيير في حياة زَكَّا بدأ في نفس اللحظة الّتي شعر فيها بأنه معروف ومنظور ومقدّر ومدعو وجدير بهبة حضور يسوع، الّذي يُقدم له ذاته مجانًا. ولهذا يعطي زَكَّا بفرح والعطاء يولّد مزيدا من الفرح. هذه هي خبرة الفرح والألفة مع الرب، من خلال كلمة خلاص التي وجَّها له الرب قائلا " اليَومَ حصَلَ الخَلاصُ لِهذا البَيت، فهوَ أَيضاً ابنُ إِبراهيم" (لوقا 19: 9).

 

ما فعله زَكَّا هنا هو نفس ما قاله بولس الرسول "أَعُدُّ كُلَّ شَيءٍ خُسْرانًا مِن أَجْلِ المَعرِفَةِ السَّامية، مَعرِفةِ يسوعَ المسيحِ رَبِّي. مِن أَجْلِه خَسِرتُ كُلَّ شَيء وعدَدتُ كُلَّ شَيءٍ نُفايَة لأَربَحَ المسيحَ" (فيلبي3: 8). وما جمعه من أموال صار كنفاية يريد الاستغناء عنها، إذ تمتع بمعرفة الرب يسوع. فحينما وجد زَكَّا اللؤلؤة كثيرة الثمن (المسيح) باع بقية اللآلئ (أمواله) التي قضى عمره يجمعها (متى 13: 46:13). وباع أمواله من اجل اللؤلؤة ويظهر هنا معناها، أن كل ما ظنَّ زَكَّا أنَّ له قيمة من قبل، فَقَدَ قيمته الآن بعد أن عرف المسيح، وأمن به وأحبه. عندئذٍ يمكن أن نتساءل: أي شيء يستحيل على المؤمن، وأي شيء يصعب على المُحب؟

 

2)  ما هو رد فعل يسوع من موقف زَكَّا العَشَار

 

يقول القديس كيرلس الكبير "كان زَكَّا رئيسًا للعشارين، قد استسلم للطمع تمامًا، غايته الوحيدة تضخيم مكاسبه، إذ كان هذا هو عمل العَشَارين، وقد وصف بولس الرسول الطمع "عبادة أوثان" (قولسي 3: 5)، لكن زَكَّا لم يستمر في عداد العَشَارين، إنما تأهل للرحمة على يد المسيح الذي يدعو البعيدين للقرب منه، ويهب نورًا للذين في الظلمة.

 

وصف لوقا الإنجيل رد فعل يسوع من موقف زك" فلَمَّا وصَلَ يسوعُ إلى ذلكَ المَكان، رَفَعَ طَرْفَه وقالَ له: يا زَكَّا انزِلْ على عَجَل، فيَجِبُ عَلَيَّ أَن أُقيمَ اليَومَ في بَيتِكَ" (لوقا 19: 5). لم يمر يسوع من جانب زَكَّا الذي كان يعتبره كثيرون خاطئا وظالما   دون أن يوليه اعتبارا. قبل كل شيء، نظر يسوع إليه، رحّب به من خلال عينيه. ثم تحدث معه في حين جميع الحاضرين يتحدث عنه ولكن ليس معه أنه " رَجُلٍ خاطِئٍ" (لوقا 19: 7). لم يكن من السهل التحدث معه، فهو رجل مهمّش من ناحية وهو يحفظ مسافة بينه وبين الآخرين. والرغم من ذلك توجّه إليه يسوع مباشرة، مُتغلباً على كل الحواجز. ووجَّه كلامه إليه موضحا أنه يعرفه، ويدعوه بالاسم. إذا كان هذا الإنسان خاطئاً في نظر الناس (لوقا 19، 7)، فهو في نظر يسوع هو زَكَّا، ابن إبراهيم (لوقا 19: 9)، أي وريث لوعد الذي يتحقّق بالنعمة. وأخيرا يدخل يسوع إلى بيته، ويشاركه حياته، ويظهر له مودة حميمة، ويصبح صديقاً له.

 

والتقى يسوع بزَكَّا داخل المدينة وكان زَكَّا صاعدًا على جُمَّيزَةً. وبادر يسوع ودعا نفسه إلى منزل زَكَّا، لأنه جاء خصيصا "لِيَبحَثَ عن الهالِكِ فيُخَلِّصَه"(لوقا 19: 8). ويعلق القديس ايرونيموس "أن شجرة الجميز هنا تشير إلى أعمال التوبة الصالحة حيث يطأ التائب الخطايا السابقة بقدميه، ومن خلالها ينظر إلى الرب كما من برج الفضيلة".

 

ولم يمرَّ المسيح من هذا الطريق صدفة، ولم ينظر للشجرة صدفة، إنما هو كان يعرف أن في هذا المكان خروف ضال يريد أن يردَّه فتوجَّه إليه.  وعلقت القديسة تريزا الطفل يسوع “أن الله يتدخّل في أبسط أمور تاريخنا".  فزَكَّا بحث عن المسيح والمسيح بحث عن زَكَّا. تجاوب يسوع مع مبادرة زَكَّا بالرغم من الخطورة لأنه لا يجوز ليهودي أن يصادق عشار (لوقا 5: 2، 5: 30)، فاتخذ يسوع مواقف غير التقليدية تجاه الرأي العام لأهل زمانه هو الذي قال: "طوبى لِمنَ لا أَكونُ لَه حَجَرَ عَثرَة " (لوقا 7: 23). وقد لبّى يسوع هذه الرغبة بطريقة غير عادية بان جعل نفسه ضيقا على زَكَّا.

 

ولم ينتظر يسوع من زَكَّا كلمة واحدة تخرج من فمه، إنما استضاف الرب نفسه في بيته. ويسوع أدرى الناس بلغة القلوب، حيث خاطبه بلغة الصفح والغفران. فنور المسيح أضاء بيت زَكَّا وقلبه ولم يحتاج المسيح أن يوجّه له كلمة عتاب أو توبيخ. وعلّق القديس أمبروسيوس "الرب يدعو نفسه عنده دون أن يسمع كلمة دعوة إذ عرف ما في قلبه" إذ قال له "يا زَكَّا انزِلْ على عَجَل، فيَجِبُ عَلَيَّ أَن أُقيمَ اليَومَ في بَيتِكَ، اليَومَ حصَلَ الخَلاصُ لِهذا البَيت، فهوَ أَيضاً ابنُ إِبراهيم" (لوقا 19: 5، 9).

 

يُمثل إقامة يسوع في بيت زَكَّا   سرّ التجسد الذي به دخل الرب بيتنا، ليقدس طبيعتنا. إنه يرى في الخاطين "مرضى" يجب شفاؤهم. وهو يشبّه نفسه ب “الطبيب" (لوقا 5: 31). الرب كان ينتظر زَكَّا كي يمنحه مجدًا عظيمًا بحلوله في بيته. ويعلق يوحنا الذهبي الفم "تجلي الرب في النفس وسماعها صوته يملأها رجاءً" وهنا يتحقق وعد الرب " إِن عَطِشَ أَحَدٌ فليُقبِلْ إِلَيَّ ومَن آمنَ بي فَلْيَشَربْ كما ورَدَ في الكِتاب: ستَجْري مِن جَوفِه أَنهارٌ مِنَ الماءِ الحَيّ" ((يوحنا 7: 37). لقد أشار لوقا كثيرا إلى آنية الخلاص الذي يتم "الآن" و"هنا" (لوقا 2: 11، 3: 22، 5: 26، 13: 32).

 

وهكذا أصبح زَكَّا حقاً "ابنا لإبراهيم"، ليس لانتسابه إليه بحسب الجسد، وإنما بحسب إيمانه الحيّ العامل فيه. فبالإيمان ترك إبراهيم أرضه وعشيرته وأهل بيته منطلقًا وراء الدعوة الإلهية، وها هو ابنه زَكَّا يحمل ذات الإيمان، فقد ترك كل ممتلكاته التي سبق فتعلق بها وقدَّم نصف ممتلكاته للفقراء، وقدم الباقي لرد أضعافًا مضاعفة لمن سبق فظلمهم. فدُعي زَكَّا ابنًا لإبراهيم زَكَّا ابنا للموعد، وتحققت له بركات إبراهيم إذ غفر له المسيح خطاياه، وهو العَشَار الذي كان يُعتبر "كالوثني" (متى 18: 17). ويمكننا أيضًا أن نقول بأن زَكَّا حين كان رئيسًا للعشارين كان ابنًا لإبراهيم حسب الجسد، أمَّا الآن إذ تعرف على السيد صار ابنًا له حسب الإيمان، بل صار ابنًا لله في المسيح يسوع.

 

ولم ينلْ زَكَّا الخلاص وحده، بل أهل بيته آمنوا أيضا كما صرّح يسوع " اليَومَ حصَلَ الخَلاصُ لِهذا البَيت" (لوقا 19: 9). حينما يتقدس عضو في الأسرة يستطيع بالسيد المسيح الساكن فيه أن يكون سرّ بركة وخلاص لبقية الأعضاء. وقد جاء سفر الأعمال يكشف بقوة كيف كان إيمان البعض بالمسيح يدفع أهل بيتهم إلى الإيمان به والتمتع بخلاصه في حياتهم، كما حدث مع قرنيليوس قائد المئة في أعمال الرسل (أعمال الرسل 10 :22) وكما حدث أيضا مع سجان فيلبي الذي " ابتَهَجَ هو وأَهلُ بَيتِه، لأَنَّه آمَنَ بِالله" (أعمال الرسل 16: 31).

 

كشف ربنا يسوع المسيح عن رسالة الخلاص، فاتحًا باب الرجاء للكل بقوله:" لِأَنَّ ابْنَ الإنسان جاءَ لِيَبحَثَ عن الهالِكِ فيُخَلِّصَه" (لوقا 19: 10). ويُعلق القديس أوغسطينوس عن عمل السيد المسيح الخلاصي" لقد وجد المفقودين أيضًا. إنهم اختفوا هنا وهناك بين الأشواك، وتشتتوا بسبب الذئاب. فجاء إليهم ليجدهم، وقد تمزَّق بأشواك آلامه. جاء فعلًا ووجدهم، مُخلصًا إياهم. لقد خُلصوا بذاك الذي ذُبح لأجلهم". فقد فتح يسوع أبواب الرجاء لكل نفس بشرية لتلتقي مع مخلص الخطأة، ويُعلق القديس أمبروسيوس" قُدم لنا هنا رئيس العَشَارين، فمن منا ييأس بعد من نفسه وقد نال نعمة بعد حياة غاشة!". وباختصار، دلَّ اهتداء هذا العَشَار على إرادة يسوع الذي “جاءَ لِيَبحَثَ عن الهالِكِ فيُخَلِّصَه" (لوقا 19: 10). جاء المسيح لينتصر على الخطيئة ويعيد الخاطئ إلى براءته من خلال صُنارة الرحمة.

 

وأعلن إقليمنضس الإسكندري أحد أبرز معلمي اللاهوت في المدرسة الإسكندرية، أن زَكَّا انضم إلى تلاميذ المسيح الاثني عشر كواحد منهم بدل يهوذا الإسخريوطي، بعد أن اتخذ اسمًا جديدًا هو متيا (أعمال الرسل 1: 25-26)، بيد أنه لا يوجد أي دليل يُثبت ما ذهب إليه إقليمنضس، في حين أن الدستور الرسولي قد أعلن في وقت لاحق أن زَكَّا قد اعتنق المسيحية وتبع المسيح ثم أصبح واحدًا من الرسل السبعين الذين أرسلهم المسيح وصار رفيقا للرسول بطرس، وأنه رُسم أسقف مدينة قيصرية البحرية.

 

يدعونا هذا الإنجيل إلى اللقاء" مع المسيح، لأنّه مدعاة سلام وفرح وخلاص. واللقاء هو زمن نعمة يضع الإنسان نفسه أمام الله. وتمّ هذا اللقاء في استقبال زَكَّا ليسوع، في بيته، فرحًا.  يعلمنا يسوع كيف نتعامل مع الآخرين، ننظر إليهم ونتكلم معهم ونسمع لهم ونشاركهم حياتهم ومسيرتهم.  ففي حياتنا لحظات نعمة ينتظرنا الله فيها ليحمل إلينا الخلاص.

 

ويعلّمنا زَكَّا، الذي كان خاطئًا وقصير القامة، أنّ مهما كنت محدوديتنا، جسديّة أم أخلاقيّة، فهي لا تستطيع أن تفصلنا عن اللّقاء بيسوع. إذا كنّا مرضى في الجسد أو خطأة وبعيدين عن الإيمان، علينا أن نعرف أنّ إمكانيّة الخلاص ممكنة.

 

وبالتالي يعلمنا الانتباه إلى أوقات النعمة التي تمر في حياتنا اليومية العادية وقبول هذه الأوقات التي تحمل نعمة المسيح، وبالتالي إقامة علاقة شخصية متينة مع شخص يسوع المسيح، وهذا الأمر يتطلب الاستعداد لتغيير الفكرة عن الآخرين والمرور من علاقة مبنية على الأحكام المسبقة إلى علاقات مبنية على الثقة. وأخير يدفعنا النصّ أن نحقّق توبتنا عمليًا بأفعال تعويضٍ تُبرهن عن مقصدنا الجديد النابع من اكتشاف رحمة الله لنا وافتقاده لضعفنا.

 

الخلاصة

 

شكّ الناس في إمكانية رجوع العَشَارين إلى الله بالتوبة. فهم يحكمون على ما يُرى، وأما الله فيحكم على ما لا يستطيع الإنسان أن يراه. والواقع إن رجوع زَكَّا العَشَار كان مستحيلا لولا قدرة الله وحدها ولقاؤه مع السيد المسيح، كما جاء في تعليم بولس الرسول " جاءَ وبَشَّرَكم بِالسَّلام أَنتُمُ الَّذينَ كُنتُم أَباعِد، وبَشَّرَ بِالسَّلامِ الَّذينَ كانوا أَقارِب"(أفسس 2: 17).

 

دخل الرب أريحا. وهناك كان لقاؤه مع زَكَّا. وفي نظر الناس زَكَّا يعتبر رجلاً خاطئاً لأنه رئيس للعشارين. أمَّا قلبه فكان قد تحرك بالتوبة، سمع كثيرًا عن السيد المسيح، فطلب أن يراه. وعندما رآه أكمل توبته بأن قبله في بيته وصحَّح من سلوكه مع الناس. بهذا العمل يؤكد لنا زَكَّا بأن التوبة الحقيقة وطلب الغفران هو أمران لا يقبلان الانتظار والتأجيل، بل يتطلبان عملا فوريا وآنياً. حينئذٍ استردَّد الهوية "فهوَ أَيضاً ابنُ إِبراهيم"، ونجا من الهلاك "لِأَنَّ ابْنَ الإنسان جاءَ لِيَبحَثَ عن الهالِكِ فيُخَلِّصَه " وحصل على الخلاص " فقالَ يسوعُ فيه: اليَومَ حصَلَ الخَلاصُ لِهذا البَيت". كم بالأحرى نحن يمكننا أن نحصل على الخلاص ليس لأننا ابنا ء إبراهيم بل أبناء الله، ويُعلق البابا فرنسيس "لأن الإيمان يقول لنا بأننا: أبناء الله، وإِنَّنا نَحْنُ كذلِك" (1 يوحنا 3: 1) لقد خُلِقنا على صورته؛ وقد تبنى يسوع إنسانيتنا وقلبه لن ينفصل أبدا عنا. فالذي يهمه هو أنت، كما أنت. أنت ثمين في عينيه، وقيمتك لا تثمّن" (اليوم العالمي للشباب – بولونيا -كرا كوف الأحد 31 يوليو/تموز 2016).

 

ومن هذا المنطلق، فإن قصة زَكَّا العَشَار فتحت باب الرجاء والأمل ليس فقط لزَكَّا وإنما لكل خاطئ. فحين يعود الخاطئ بالتوبة مشتاقًا للمسيح، يدخل المسيح إلى قلبه، ويقبله ويغفر خطاياه، فينال الخلاص. لانَّ "اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة (يوحنا 3: 16).

 

فتحت قصة زَكَّا العَشَار الرجاء والأمل لكل خاطئ، حين يعود بالتوبة مشتاقًا للمسيح، يدخل المسيح إلى قلبه، ويقبله ويغفر خطاياه. صار زَكَّا مقبولًا ونال الخلاص مثل ذلك العَشَار الذي قال عنه السيد المسيح " نَزَلَ إلى بَيتِه مَبروراً" (لوقا 18: 14).

 

يحتم علينا الإنجيل اليوم مسؤولية إمَّا أن نختار المجيء إلى المسيح ونقبله ونحصل على الحياة الأبدية والفرح أو رفضه ونخسر الحياة والبركة، فنصبح مثل اليهود الذين خاطبهم يسوع قائلا" وأَنتُم لا تُريدونَ أَن تُقبِلوا إِليَّ فتَكونَ لكُمُ الحَياة" (يوحنا 5: 40).

 

 

الدعاء

 

أيها الآب السماوي، المحب النفوس، يا من أرسلت ابنك يسوع المسيح الذي جاء يبحث عن وجودنا وضياعنا كما بحثت عن زَكَّا العَشَار، إننا أشكرك لأنك تحبنا؛ اجعلنا نتسلق سلم التوبة، وأمنحنا قلبا يُسرع في قبول دعوتك لتسكن فيه بفرح لكي تساعدنا على تغيير حياتنا وتخطي كل العقبات. فنُظهر رحمتك للجميع دون استثناء وتمييز على مثالك فننال الخلاص بشفاعة أمُّنا مريم العذراء. آمين

 

ومع سمعان اللاهوتي لنصلي:

أيها الرب سيد الكون، يا من بيده كل حياة وكل نفس، أنت وحدك تستطيع أن تشفي نفسي. أعطني يا رب قلبا متواضعا وأفكارا سليمة تعيدني إليك كما عاد زَكَّا. لا تتركني فأنا آمنت بك واعترفت باسمك واخترتك وفضّلتك على كل شيء. أنت تعلم يا رب أني ابحث عن خلاصي، بالرغم من جميع العقبات التي تعترضني. ساعدني يا رب لأنك على كل شيء قدير.

 

قصة: أنسب يوم للتوبة؟

سُئل يوماً أحد معلّمي الناموس: "ما هو أنسب يوم يتوب فيه الإنسان؟"

فقال "هو اليوم السابق ليوم مماته"

فقيل له: "ولكن يوم الممات غير معلوم"

فقال: "إذاً فليتُبْ الآن".