موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٥ أغسطس / آب ٢٠٢٢

"روح المسئولية" بين كاتبي سفر الحكمة والإنجيل الثالث

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (حك 18: 6- 9؛ لو 12: 32- 48)

سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (حك 18: 6- 9؛ لو 12: 32- 48)

 

مقدّمة

 

نتعمق ككنيسة تبحث عما يوحدها ونواجه ككنيسة أيضًا ما يُفرقها. لذا أيها القُراءّ الأفاضل، في هذه السلسلة الكتابيّة، سيدور نقاشنا اليوم حول موضوع يوحدنا وهو "رّوح المسئولية". الّذي نستعين به من العهد الأوّل هو نص من سفر الحكمة (18: 6- 9). يُشكل هذا الموضوع الّذي له أهمية خاصة عن مسئولية الكبار في بث الإيمان للصغار من خلال تذكر عمل الله بحسب مفهوم كاتب سفر الحكمة. على ضوء هذا النص سنتعمق في مرحلة تالية في نص بحسب مار لوقا (12: 32- 48) عن رّوح المسئولية في الخدمة. يتضمن نص العهد الأوّل موضوعات أساسية، كما يؤكد اللاهوتي بوفون معاني الوضوح والمسئولية. بحسب لوقا نتبع يسوع وهو يتجه في مسيرته نحو أورشليم لإتمام سرّه الفصحي منذ الإصحاح التاسع، والكاتب يضع أمامنا مجموعة من الموضوعات المتنوعة حول موضوع اليقظة والخدمة كمشورة ليس فقط للتلاميذ الذين يسيرون وراء يسوع في أثناء حياته الأرضية، بل تعليمًا موجهًا لنا اليوم كمؤمنين في جميع أوقات حياتنا. مسيرة التلاميذ في التاريخ البشري، هي تتبع لطريق يسوع الّذي يسعى إلى لقاء الله الآب. فالنص الأوّل من سفر الحكمة يساعدنا على استعادة روح المسئولية أثناء الخروج بني إسرائيل بثقة في الرّبّ. يحثانا كِلا النصين على التعمق لفظ مفتاح الأمانة عند تحمل المسئولية في حياتنا الواقعية.

 

1. الافتخار بالرّبّ (حك 18: 6-8)

 

يُستعين كاتب سفر الحكمة في حديثه عن المسئولية البشرية بحدث تأسيسيّ، بالعهد الأوّل، وهو حدث خروج بني إسرائيل من مصر (راج خر 12: 1ت). هذا يشير إلى إنّه كما لو كانت الأجيال القادمة أيضًا منخرطة في تاريخ هذا الخلاص الّذي بدأ في زمن موسى ووصل لذروته في زمن يسوع ويستمر حتى وقتنا الحالي. دَوّن الكاتب هذه الكلمات الّتي تؤكد ثقة شعب إسرائيل في إلهه أدوناي واصفًا ليلة الخروج من مصر الـمُختبرة بهذه الكلمات: «تلكَ اللَّيلَةُ أخبِرَ بِها آباؤُنا مِن قَبْلُ لِكَي تَطيبَ نُفوسُهم لِعِلمِهمِ اليَقين بِأيَّةِ أَقْسامِ [وعود] وثقوا [...] صارَ لَنا موضوعَ افتِخار بِدَعوَتكَ لَنا» (حك 18: 6-8). هذه هي رّوح المسئولية الّتي اختبرها كبار السن اليهود. وهذا النص يجعلنا نستعيد ثقتنا بالرّبّ وقت الأزمة فتصير "ذكرى ليلة الخروج" كحدث نتحمل مسئوليته ليس فقط يخاطب كل العصور بل للتمتع بأمانة الرّبّ لوعده بالخروج بحسب قِسَّمٍهِ. لأن الأجداد نجحوا في تكرار بث واستمرارية هذا حدث الخروج الفريد لأبنائهم وأحفادهم لتناقل عمل الله والافتخار به في عصر الأجيال المستقبلية. فصارا الحرية والعبور موضوع افتخار وتهليل من قبل بني إسرائيل بإلههم من جانب. كما كان بمثابة اختبار الثقة في وعد الله لأجدادهم البطاركة من الجانب الآخر والافتخار به. هنا يعطينا كبار بني إسرائيل النموذج والمثل الأعلى في تحليهم برّوح المسئولية أمام الرّبّ وأمام الأجيال المستقبلية.

 

 

2. اللاخوف عند تولي المسئولية (لو 12: 32- 34)

 

زّودنا نص سفر الحكمة بمفاتيح ثمينة لقراءة النص اللُوقاوي. من خلال الكلمات التمهيدية التي يخاطب فيها يسوع، متخذاً صورة الراعي، تلاميذه داعيًا إياهم بلقب "القطيع الصغير" قائلاً: «لا تَخَفْ أَيُّها القَطيعُ الصَّغير» (لو 12: 32-34). كلمات يسوع الغنية التي تُشكل القطيع استخدمها ليرسم بها وجه جماعته مُعترفًا بتلاميذه من خلال صورة القطيع. فهو يعطي لتلاميذه مسئولية البشارة من بعده ويسلحهم بالطمأنينة واللاخوف. بهذه الطريقة يؤكد يسوع أن تلاميذه لن يكونوا أفرادًا مستقلين كثيرين في العالم، لكنهم سيكونون حقيقة مُوحدة مثل واقع القطيع. فكما أن العلاقة بين الخراف التي يتكون منها القطيع تنمو من خلال صورة الراعي كمرجع وحدتهم، كذلك أولئك الذين يستقبلون بشارة يسوع سيدركون فيه مبدأ وحدتهم. يسوع نفسه وكلمته هما السبب في أن وحدة تلاميذه ليشكلوا قطيعًا واحدًا. لا توجد مشاريع أو أيديولوجيات أخرى أمام هؤلاء التلاميذ بل بنعمة تدعيم روح الجماعة كحافز لتبعية الراعي. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذا القطيع يعطيه الراعي بلقب هام وهو الـ "صغير". يجب علينا كتلاميذ ليسوع اليوم أن نعرف أننا معًا قطيع حقيقي صغير وهشّ وأن مهمتنا ليست شغل منصب ما أو أن نصير أكثر عدداً. بل أن نعي بحقيقتنا. فنحن كالبذرة الّتي تُلقى في الأرض. عملنا الرئيسي هو أن نُكون معًا كيان الجماعة الـمُدرك حقيقته بأنه ضعيف. لذلك تُعرَّف مجموعة تلاميذ يسوع على أنهم ليسوا أفراد منعزلين، ولكنهم مًن يعتبرون أنفسهم أبناء للآب الإلهي وهو الراعي وخراف ينتمون في قطيع واحد.

 

الوحدة تحارب الخوف، اليوم ككنيسة سينودسية تسير معًا وراء يسوع المعلم مدعوين أن نسير معًا بمسئولية ومُشجعين كلاً منّا بالآخر. وتتلخص رسالة يسوع لهذا القطيع الصغير في تعبير «لا تخف» (لو 12: 32). يحمل هذا التعبير دعوة إلى الّلاخوف. «لا تخف» هو أيضًا تعبير يتكرر في الكتاب المقدس، وقد ورد خمس مرات لدى لوقا (1: 13؛ 1: 29؛ 2:9؛ 5: 9؛ 8: 50) بخلاف هذا النص. دعوة الله إلى اللاخوف كانت مُوجهة لزكريا الكاهن، ثم لمريم أم الله، وفي مرحلة لاحقة للتلاميذ الأوائل ولسمعان صخرة الكنيسة ولرئيس المجمع الوثني وأخيراً في نصنا هذا توجه لكلاً منّا. نرى في هذه النصوص أن تعبير «لا تخف» مرتبط دائمًا بسياقات الدعوة أو الخلاص، أي عندما يكون الله على وشك تحقيق شيء عظيم ورائع لمن توجه إليهم كلمته. فهي دعوة تؤكد بأنّ العلاقة الّتي يكون الله طرفًا فيها لا تفشل أبدًا. إن نص لوقا نفسه هو الذي يؤكد هذا الجانب عندما يقول يسوع: «فقد حَسُنَ لدى أَبيكم أَن يُنعِمَ عَليكُم بِالـمَلَكوت» (لو 12: 32). وبفضل هذه العلاقة مع الآب تحديدًا، يجب ألا يكون هناك كنز ما لتلاميذ ليتسلحوا به ضد الخوف كضمان يُشكل لهم الأمان. إننا اليوم مع التلاميذ مدعوون كـ"قطيع صغير" بالا نخاف وعلينا بألّا نُجازف للبحث عن أمان آخر خارج العلاقة بالآب التي لا تفشل أبدًا من خلال يسوع. وهنا يأتي قّسَّم يسوع لتلاميذه، على مثال قّسَّم الله لشعبه بالعهد الأوّل كما نوهنا قبلاً، لتلاميذه بعدم الخوف لأن وعده بالملكوت سيتجسد فيهم ولأجلهم، وعليهم بالتحلي برّوح المسئولية. من هنا تنمو هوية جماعة تلاميذ يسوع الجديدة في خصائصها الأساسية التي لا يمكن إنقاصها.

 

 

3. إستمرارية الخروج (لو 12: 35- 48)

 

في الآيات التالية تتسع نظرة الإنجيلي إلى التاريخ وتكتسب نكهة أُخرويّة، مُفسراً كيفية عبور هذا القطيع الصغير في التاريخ بتحمل فعلي للمسئولية قائلاً: «لِتَكُنْ أَوساطُكُم مَشدودة» (لو 12 :35) أيّ لف الثياب حول الأرداف للإستعداد للسير. هنا يعرض أول إشارة الّتي ترمز للخدمة المجانية. ومع ذلك، نجد هذا التعبير فقط سفر الخروج عندما يشير الرب لموسى كيف يجب أن يعيش الناس ليلة تحرير مصر قائلاً: «هكذا تأكُلونَه [الحمل] تَكونُ أَحقاوُكم مَشْدودةً ونِعالُكُم في أَرجُلِكُم وعِصِيُّكُم في أَيديكُم، وتأكُلونَه على عَجَلٍ فإِنَّه فِصحٌ لِلرَّبّ» (خر 12: 11). لذلك فإن النص يريد أن يشير إلى إستمرارية مسيرة الخروج كمسيرة التحرير. سيتعين على تلاميذ يسوع أن يتشبثوا بقرار الاستمرار لمواجهة مسيرتهم التاريخية نحو الملكوت، التي أعدها الآب لهم في خطته الخلاصيّة. وهذا يتطلب منهم المزيد من التحلي بالمسئولية واللاعودة أمام الازمات.

 

 

4. المسئولية (لو 12: 41- 48)

 

هناك منظور مشترك بين سفر الحكمة وكاتب الإنجيل اللوقاوي وهو المنظور الفصحي. إنّ الموقف الذي يجب أن يتخذه أولئك الذين قبلوا إنجيل يسوع في حياتهم هو موقف السرعة واليقظة. سبب هذا الموقف يكمن في الحاجة إلى الاستعداد لمجيء الرّبّ. بالنسبة لتلاميذ يسوع العابرين للتاريخ بهدف وبانتظار سيدهم في المجئ الثاني، هو ما يعطي شكلاً لمسيرتهم في التاريخ. لذا التطويب هنا مزدوج ومرتبط بهذا الانتظار «طوبى لأُولِئكَ الخَدَم الَّذينَ إِذا جاءَ سَيِّدُهم وَجَدَهم ساهِرين. الحَقَّ. أَقولُ لكم إِنَّه يَشُدُّ وَسَطَه ويُجلِسُهُم لِلطَّعام، ويَدورُ علَيهم يَخدُمُهم. وإِذا جاءَ في الهَزيعِ الثَّاني أَوِ الثَّالِث، ووَجدَهم على هذِه الحال فَطوبى لَهم» (لو 12: 37-38)، وهنا يبدأ سيد في خدمة خدامه. الجانب الثاني الذي ينبثق من النص المتعلق بطريقة العبور بالتاريخ كمؤمنين يتضح في تحمل المسئولية (راج لو 12: 41-48). في إجابة يسوع على سؤال بطرس «يا ربّ، أَلَنا تَضرِبُ هذا المَثل أَم لِلنَّاسِ جَميعاً؟» إجابة يسوع تدعوه لتحملّ المسئولية. لا ينتظر التلميذ شيئًا فحسب، بل يستعد بهذا الانتظار مردداً عمل الله العظيم، في مسيرتنا البشرية التي نعبر بها كقطيع صغير في التاريخ، مدعوين السير بمسؤولية. يجب ألا يضعف تأخير السيد التزامنا بانتظاره وسهرنا للتمتع بلقائه. إنها كلمة يمكن أن يكون لها معنى مزدوج. يمكن أن يشير إلى أولئك الذين يقومون في القطيع الصغير بوظيفة الخدمة، ولكن يمكن أن يهتم أيضًا بمهمة تلاميذ يسوع تجاه البشرية جمعاء. وكليهما يتطلبا المسئولية البشرية. لذلك يجب على تلاميذ يسوع البقاء في التاريخ بأمانة وحكمة. بالأمانة للإنجيل، وإدراك حكمة أحداث التاريخ البشري التي تنشأ من وقت لآخر.

 

 

الخلَّاصة

 

توقفنا على نص سفر الحكمة الّذي يختتم بهذه الكلمات: «فإِنَّ بَني الصَّالِحينَ القِدِّيًسين كانوا يَذبَحونَ خُفيَةً وأَجمَعوا على إِقامَةِ هذه الشَّريعَةِ الإِلهِيَّة أن يَشترِكَ القِدِّيسون في الخَيراتِ والمَخاطِرِ على السَّواء وكانوا مُنذُ ذَلك الحين يُنشِدونَ أَناشيدَ الآباء» (حك 18: 9). وهذا يشير إلى الاستمرار في الاشتراك برّوح المسئولية في تكرار أعمال الرّبّ بحياتنا وبثها في الأجيال الصغيرة. كما يختتم النص اللوُقاوي بتذكّر مسئولية القطيع الصغير، مستنداً إلى الثقة الّتي تسكنه بحضور الراعي الأمين لوعده مرافقًا لهم بدون خوف. في الواقع، يجب على تلاميذ يسوع أن يعرفوا أن أساس يقظتهم ومسئوليتهم هو الوعي بأنهم موضع نعمة عظيمة من قبل الراعي. إنهم لا يعبرون التاريخ بيقظة ومسئولية من أجل الحصول على مكافأة في نهاية المسيرة، ولكن لأنهم هدفًا لنعمة مجانية وهي الملكوت. دُمتم أيها الأفاضل مُتمتعين برّوح المسئولية أمام الرّبّ والآخرين.