موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٢٨ أغسطس / آب ٢٠٢٣

"رقصة الموت" بين كاتبي نبؤة ارميا والإنجيل الثاني

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (ار 1: 17- 19؛ مر 6: 17- 29)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (ار 1: 17- 19؛ مر 6: 17- 29)

 

مقدّمة

 

يوحنّا المعمدان، من الشخصيات الّتي نطلق عليها في لّاهوت الكتاب المقدس "شخصيات ما بين العهدين". المعمدان هو شخصية جوهريّة لدوره الُمتميز كمهييء ومُعدّ ليسوع المخلص في حياته الأرضية. وَدَدّنَا كتابة هذا المقال لعدة أسباب؛ الأوّل هو أنّ الكنيسة الكاثوليكية خصصّت يومين ليوحنّا المعمدان للإحتفال به كل عام، يوم ميلاده والّذي نحتفل به في الرابع والعشرون من يونيو بسبب إنّه "شاهد للنّور" ففي هذا اليّوم تنخفض الشمس منذ القرن الخامس (بحسب فكر القديس اغسطينوس) علامة على إختفاءه لأن النّور الحقيقي، وهو يسوع، سيبدأ في التجلي من خلال الحياة العلنيّة. اليّوم الآخر هو يّوم إستشهاده في التاسع والعشرون من أغسطس بحسب الطقس اللّاتيني. أمّا السبب الثاني وهو أنّ شخصية المعمدان من الشخصيات الكتابيّة الّتي تكشف شيئًا جديداً لكلاً منا كمؤمنين في هذا الزمن وكلّ الأزمنة، فهو صوت الكلمة (مر 1) وهو صديق العريس (راج يو 3). والسبب الأخير هو أنّ شخصية المعمدان من الشخصيات الّتي رافقتني بشكل شخصي وعلمتني الكثير لمواجهة التحديات والتحلي بشجاعة في قول الحق أيّا كانت النتيجة. ففي هذا المقال أعطينا عنوانًا لمقالنا بـ "رقصة الموت" وسنتعرف على الأسباب الّتي جعلتنا نختار هذا العنوان بالتحديد مُنطلقين من شخصيّة ارميا وقرأتنا لثلاث آيات فقط من نص دعوته بالعهد الأوّل (1: 17- 19). وعلى ضوء هذه الآيات سترتكز نقاط المقال على شخصية المعمدان الّذي فقد حياته الأرضية بسبب رسالته وهي قول الحق. بحسب الإناجيل الإزائية وبالأخص مرقس (6: 17- 29) بالعهد الثاني سيتم إتخاذ قرار قتله أثناء حفلة وبعد إنتهاء إبنة هيردويّا رقصتها الّتي رفضت قبول الحق الّذي كشفه صراحة المعمدان مما جعلها ترفضه شخصيًا مما أدى إلى إنتهاء حياته. هدفنا من خلال قرأتنا لهذين النصييّن أن نتوقف قليلاً أمام الرقصات الّتي تُقدمها لنا الحياة الأرضية سارقة الحق منّا، ودافعة إيانّا إلى الموت، متسألين هل الحق جزء جوهري من رسالتنا لنكون شهوداً عن المسيح أمّ لأسباب أخرى؟

 

 

1. جرأة آخر الأنبياء (ار 1: 17- 19)

 

بحسب دعوة ارميا النبي الّتي يرويها كاتب النبؤة بصيغة المتكلم، في الإصحاح الأوّل، نستعين بقليل من الآيات بسبب التنويّه عن رسالة المعمدان النبويّة. بحسب كلمة الرّبّ نقرأ الأمر الإلهي: «أَنتَ فاشدُدْ حَقْوَيكَ وقُمْ وكَلِّمْهم بِكُلِّ ما آمُرُكَ بِه. لا تَفزَعْ مِن وجوهِهم [...] فإِنِّي هاءَنَذا قد جَعَلتكَ اليَومَ مَدينَةً حَصينةً وعَموداً مِن حَديد [...] فيُحارِبونَكَ ولا يَقوَونَ علَيكَ لِأَنِّي مَعَكَ، يَقولُ الرَّبّ، لِأُنقِذَكَ» (ار 1: 17- 19). بالفعل قد عاش المعمدان هذه الكلمات في رسالته النبويّة، فهو الّذي ختّم مسيرة الأنبياء الّتي سبق برسالته تجسد يسوع مباشرة. عاش في الزمن القديم هذا الرفض النبي ارميا منذ دعوته ولكن نجد أن الجرأة في حمل الرسالة من الله للشعب لمّ تكن صفة ارميا فقط بل إستمرت والمعمدان شاهد في رسالته النبويّة لما وكلّه الله به مما أدت هذه الجرأة في سبيل الله إلى محاربته بل ورفضه. هذه النبؤة، يرويها النبي منذ الحوار الأوّل لله بالنبي. وهذه الكلمات الّتي تتطلب "شدّ الحقويّن" بالحزام ما نفسره كتابيًا بجديّة الإستعداد والإلتزام، من قبل المدعو، علامة لقبول الرسالة الإلهيّة وإتمامها. سنرى كيف كانت نهايّة هذا الأمر الإلهي في حياة المعمدان، نبي الجرأة والإستعداد.

 

 

2. تمييز صوت الحق (مر 6: 17- 29)

 

تشير وجهة النظر السرديّة بحسب كاتب الإنجيل الثاني في هذا المقطع الإنجيلي إلى وجود شخصيات سطحية في هذه الواقعة الإنجيليّة، مآدبة الحاكم هيرودس، في حضور شخصية جوهريّة للتمهيد والإعداد للمسيّا، المعمدان. مع ذلك، من خلال تفسيرنا هذا، يمكننا إعادة بناء بعض التفاصيل الإضافية. أوّلًا يوحنّا المعمدان هو بذاته الّذي قررّ أنّ يعيش بحسب دعوته ليكون حقًا رجل ذو "صوت في الصحراء" صارخًا مُعلنًا ومُبشراً بـ "الكلمة". وهو ما يشير لكل ما هو حق حتى وإنّ كان هذا على حساب حياته في سبيل تمسكه بقول الحق. فليس من السّهل، كإنسان، أن تكون لديه القدرة للتغلب على الخوف من الموت واتخاذ قرار بالإصغاء فقط إلى الصوت الإلهي وتمييزه وهو الّذي طلب منه الاستمرار في رسالته، وليس الخوف من العواقب لأن المكافأة كانت ستكون عظيمة. التمييز للصوت الإلهي في وسط الكثير من الأصوات السياسية والقياديّة، كهيرودس وهيردويّا وابنتها، والّتي لها من السلطة أنّ تمحي إسمه. تعمّد المعمدان بقول الحق صاغيًا للصوت الإلهي بالرغم من كثرة وإتحاد الأصوات القياديّة من حوله، جعلت منه محاربًا في سلامه الباطني ضد شر عصره.

 

 

3. رقصة الموت (مر 6: 20- 25)

 

من خلال رقصة فتاة، ابنة هيردويّا، الّتي تُنفذ فقط، فهي مفعول بها وليس لها من الشجاعة أن تقرر ماذا تريد، فهي لا تريد شيئاً محدداً إلّا ما تقوله لها والدتها. «فرَجَت وسأَلَت أُمَّها: "ماذا أَطلُب؟" فقالت: "رأَسَ يوحَنَّا المَعمَدان". فدَخَلَت مُسرِعَةً إِلى المَلِكِ وطَلَبَت فقالَت: "أُريدُ أَن تُعطِيَني في هذِه السَّاعَةِ على طَبَقٍ رأسَ يوحَنَّا المَعمَدان"» (6: 24- 25). صوت ضمير هذه الفتاة غائب، تستعين برأيّ أمها الّتي تخشى على مركزها السياسي لذا تتبع صوت الخوف، تريد إزالة كل العقبات الّت تعرقل الطريق وتشير عليها بقرار يؤمن مركزها وعلاقاتها الفاسدة، مما يحافظ على سيطرتها وسلطتها حتى وإنّ بالظلم يتم قتل رجل الله، المعمدان. إذن الشخصييتين النسائيتين الأوّلى ذات ضمير متغيب والآخرى تزيل كل ما يمنع تأمين حياتها من على وجه الأرض بسلطتها. رقصة ابنة هيردويّا هي الّتي أدت بحياة المعمدان إلى الموت، فصارت رقصة تعلن موت علنًا.

 

وأخيرًا، شخصية هيرودس الحاكم فهو شخصية تكشف حالة الإرتباك والخوف، فهو حقيقة يخاف المعمدان ويحبه بحسب النص: «لأَنَّ هيرودُسَ كانَ يَهابُ يوحَنَّا لِعِلمِه أَنَّه رَجُلٌ بارٌّ قدِّيس. وكان يَحْميهِ. وإِذا استَمَعَ إِليه، وقَعَ في حَيرةٍ كَبيرة، وكانَ مع ذلِكَ يَسُرُّه الإِصغاءُ إِليه [...] فاغتَمَّ الملِك، ولِكِنَّه مِن أَجلِ أَيمانِه ومُراعاةً لِجُلَسائه، لم يَشأ أَن يَرُدَّ طلَبَها. فأَرسَلَ المَلِكُ مِن وقتِهِ حاجِباً وأَمَرَهُ بِأَن يَأتيَ بَرأسِه. فمَضى وقطَعَ رأسَه في السِّجْن، 28وأَتى بِرأسِ يوحَنَّا على طبَقَ، فأَعطاه لِلصَّبِيَّة والصَّبِيَّةُ أَعطَتْه لِأُمِّها» (6: 20. 26- 27). لذا صراع قلبه بين الخوف من شيء قد يقلب حياته رأسًا على عقب وبين التنفيذ لوعد أعلنه علانيّة لهذه الفتاة حتى لا يصغر في أعين الحاضرين. ومرة أخرى الرغبة في تقديم هدية سخية والخوف من التشويه أمام الحضور السلطوي. من بين هذه الأصوات الداخلية الّتي تجعله يُصارع، صوت شخص كان يغذي سلامه بالرغم من إنه غير يهودي، يعلن الحق الّذي يجعله يستمع إلى المعمدان هو الّذي كان يجعله يشعر بالرضا، لذا عندما يسمع طلب ابنه هيروديًا يصير حزينًا. مدعويين لفحص الأصوات الّتي تُفرقنا وتنزع سلامنا، ونستمر في التمييز متسألين: أين يقودنا إتباع الصوت الّذي يغذي الخوف وأين يقودنا الشخص الذي يتحدث عن الفرح؟

 

 

4. هيردوس العصر (6: 26- 29)

 

علينا أن نتسأل اليّوم، ونحن بالقرن الحادي والعشرين ألّا يزال هيرودس حيًا حتى اليّوم؟ هيرودس هو الّذي قرر قطع رأس المعمدان بناء على طلب إبنة هيردويّا عشيقته. نعم بسبب إنّه حي ونشط للغاية كلما وضعنا مصالحنا فوق الحق يمكننا أنّ ندفع أيّ ثمن. حتى داخل كنائسنا اليّوم، تجد الشخصيات الّتي مثل هيرودس مساحة، كلما حاول، أيّ مسئول بداخل الكنيسة، بأيّ ثمن الحفاظ على موقع سلطته ومكانته؛ في كل مرة ننسى كجماعة مسيحية علينا أنّ نرتدي ثياب الخدمة ونحمل بدلاً منه درع الهيمنة والسلطة، فإنّنا نفتح الأبواب أمام هيرودس، ونرقص رقصة موت ابنة هيردويّا. حينما يُفضل مسئول ما بالجماعة الكنسية الحفاظ على ثروته بدلاً من المشاركة بها، يرتدي ثياب ويحمل قرار هيروديّا الّتي تتحكم في حياة الآخرين. إيضًا في كل مرة يلتزم أعضاء الكنيسة بالصمت في وجه وحشية السياسات الّتي تنفذ خيارات معادية للإنسان فقط للحصول على الإجماع والحفاظ على السلطة، في كل مرة نفتح فيها الكنائس لاحتفالاتنا الجميلة ولكن بعد ذلك نحيي أولئك الّذين يغلقون الأبواب في وجه مَن يبحث عن الكرامة والعمل. نعم، في كل مرة يتمّ هذا، يواصل هيرودس ممارسة قوته ونرقص جميعنا رقصة الموت مع ابنة هيردويّا. كم أبعد من ذلك حتى يتم إسكات هيرودس أخيرًا! مدعوين لئلا نشعر بالإحباط، فهناك قوة الـملكوت، الّتي يتمتع بها المعمدان، فهي أقوى من أيّ قوة موت حولنا أو بداخلنا، لكنها لا تزال بحاجة إلى مغادرة تلك الإحتفالات المزيفة الّتي تعرقل الحق وتمييزنا للصوت الإلهي. الأمر متروك لك عزيزي القارئ كما هو الحال دائمًا.

 

 

الخلّاصة

 

إذّ لم يكن لديك من الشجاعة والجرأة أن تعلن الصوت الإلهي الّذي يتحاور في ضميرك ويعلو الصوت بقوة، لن يكون لك المجال للتمتع بالملكوت. علينا أنّ نحذر هذه الأصوات المزيفة الّـتي تنزع صوت الحق وتتراقص ببهجة مزيفة برقصات الموت من حولنا. دُمتم في مسيرة تمييز للصوت الإلهي وقول الحق مهما كان مُكلفًا دون عن الإستمرار في قبول رقصات الموت من خلالنا أو للحفاظ على سلطتنا داخل وخارج الكنيسة.