موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٣١ مارس / آذار ٢٠١٦

خيانة يهوذا وخيانة الإنسان

بقلم :
منويل طنوس - الأردن

من إنسان وَثقَ به الله إلى إنسان باعَ ضميره من أجل المال، ملىء الله المحبة في قلبه، لكنه رفضها والخيانة كانت رفيقتهُ، مات ضميره وتغلغل الشيطان في قلبه، لقد خان الأمانة وخان الله ذاته، إرتكب خطية بشعة بحق المسيح، كلنا نعلم بأن لا يوجد إنسان على هذه الأرض معصوم عن ارتكاب الخطيَّة والمعاصي والأعمال التي تجعلنا بعيدين كل البعد عن الله، كل إنسان منا يعرف ‏ويدرك أننا كبشر نخطئ كل يوم، وقد تسبب خطايانا مشاكل كبيرة لنا، تجعلنا آسفين ونادمين ومتألمين، هذا ما حصل مع يهوذا، إرتكب الخيانة ثم ندم وكان مصيره الهلاك الأبدي. يهوذا الإسخريوطي هو أحد تلاميذ المسيح الإثنى عشر، ويعني إسمه "يهوذا" أنه يهودي أو من سبط يهوذا، ولقبه "الإسخريوطي" يعني أنه رجل من قريوت، كان رسولاً ومرافقاً للرَّب يسوع في السنوات الثلاث الأخيرة من رسالته على هذه الأرض، حيث رافق المسيح وبقية التلاميذ في حياة المسيح العلنية والتبشيرية، واختبر شخصياً عظمة يسوع المسيح، وسمع كلامه وتعاليمه ووصاياه، رآه يصنع المعجزات، يشفي المرضى ويشبع الجياع ويقيم الموتى ويعزي الحزانى، وينشر رسالة المحبة على هذه الأرض، والأهم من كل هذا أنه حظي بعلاقة قريبة مع رب المجد ‏يتمنّاها كل مؤمن بشخص يسوع عندما اختاره أن يكون واحدٍ من تلاميذه، لقد اختار الرب يسوع "يهوذا الإسخريوطيّ" تلميذًا وهو يعلم تماماً ماذا سيفعل، وأعطاه الفرصة الكاملة، لأنه لا يعاقب أي إنسان على إثم أو خطأ قبل حدوثه، قال القديس بولس في رسالته إلى أهل غلاطية "مَن يزرع للرّوح فمن الرّوح يحصد حياة أبديّة، ومَن يزرع لجسده فمن الجسد يحصد فساداً" (غلاطية 6: 7-8). والسؤال هنا كيف يحب المسيح ذاك الخائن وهو يعلم أنه يقترب من الخيانة يومًا بعد يوم؟ لقد أعطانا يهوذا نموذجاً عجيباً على صبر المسيح وحنانه وإشفاقه على الخاطئين، ونحن نعلم أن المسيح اختار تلاميذه بعد ليلة قضاها في الصلاة، وعينه أميناً للصندوق، وبهذا فقد جعله الرب موضع ثقة وتقدير، لم يصن هذه الأمانة وإستغل المنصب الذي وُضع فيه، حيث كان يبتز ما بقي في الصندوق الذي كان بعهدته، فمحبته للمال فاقت محبته لله، وهذا تنبيه لنا ‏أن نبقي محبتنا وثقتنا بالرّب قوية لكي لا ننهزم ونَسقط بسبب الطمع ومحبَّة المال، وللأسف الشديد ما أكثر الذين يبيعون شرفهم وحياتهم وانتماءهم ‏ووطنهم من أجل المال، فيهوذا لم يكن حالة استثنائية، وما أكثر أمثاله في عالمنا هذا من البشر يعبدون ‏ويخدمون المال. لم يكتفي يهوذا بسرقة المال بحسب، لكنه إرتكب أكبر خطية يمكن أن ‏يرتكبها إنسان في الوجود، إنه خان المسيح، إتفق مع الشيوخ والأحبار بأن يسلم المسيح إليهم، وفي ليلة العشاء الأخير قام يسوع بغسل ‏رجليه بدافع المحبَّة مثل بقية تلاميذه، ولكن يهوذا اختار بملك إرادته أن ‏يخون السيد من أجل ثلاثين من الفضة، كان لدى ‏يهوذا فرص عديدة للتّوبة والتراجع عن قراره، ففي أثناء ‏غسل الأرجل قال الرّب يسوع لتلاميذه: "لَسْتُمْ كُلُّكُمْ طَاهِرِينَ"، كانت هذه الكلمة كالسهم ‏الموجّه إلى ضمير يهوذا ليستقيظ ويتوب ويتراجع عن قراره، ومع ذلك أصر يهوذا على خيانته للرَّب، وبعد أن قبض على الرب يسوع المسيح في تلك الليلة ندم يهوذا، بدأ يشعر بالذنب، وفي يأسه المتزايد بسبب طرد رؤساء الكهنة والشيوخ له، طرح الفضة في الهيكل وانصرف، ثم مضى وخنق نفسه. لقد شرب المسيح كأس الخيانة من أحد أحبائه ومع كل ذلك حينما وصل يهوذا لينفذ الخيانة التي وضعها في قلبه وعقله، لم يصدّه السيد المسيح عن أن يُقبِّله، مع أن تلك القُبلة كانت هي العلامة التي أعطاها يهوذا لجنود وخدام رؤساء كهنة اليهود ليمسكوا يسوع ويقبضوا عليه، وعاتبه أيضًا بقوله "يا يهوذا أبقبلة تُسلِّم ابن الإنسان". هل يتصور أحد أن علامة المحبة والصداقة والألفة، تصير هي نفسها علامة الغدر والخيانة، وكم من مرة نبدي تحيات وقبلات مزيفة وغير صادقة بين بعضنا البعض، يا لها من مجاملات كاذبة، يا لها من خيانات نعيشها كل يوم في حياتنا، سار السيد المسيح على الدرب نحو الصليب، وطُعن في جنبه بالحربة فوق الجلجثة، ولكن طعنة يهوذا في قلبه كانت أقسى بكثير، لهذا كتب عنه في نبوة إشعياء: "مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا"، لذا خطايانا ما هي إلا طعنة ومسمار في جسد مخلصنا الذي نزف دماً وماءً من أجلنا. مات يهوذا قبل أن يموت إلهنا ومخلصنا يسوع المسيح، أطلق حكم الموت على نفسه قبل أن يطلق بيلاطس حكم الموت صلباً على يسوع، كان يسوع يمشي طريق الألام من أجل خلاصنا نحن الخطأة ومن أجل خلاص يهوذا نفسه من خطيئته التي إرتكبها بحق المسيح، لكن يهوذا لم يدرك ذلك في حينها، لقد شعر بالذنب والإحباط، لم ينتظر قليلأً حتى يتوب وعاقب نفسه بالموت شنقاً، حيث التف حبل المشنقة على رقبته قبل أن يعلق الرّب يسوع على خشبة الصليب ثم مات يهوذا وبقي في قبره، ومات الرّب يسوع بعده وقام في اليوم الثالث، مما جعل يهوذا يعاني من الدينونة والعذاب إلى الأبد، ويملك الرّب يسوع في مجده الى الأبد.‏ هل يهوذا فقط هو الخائن؟ لقد رأينا هتاف الشعب ليسوع حين دخل أورشليم "هوشعنا لإبن داود" مستقبلينه ملكاً على أورشليم، ورأينا نفس المشهد عند محاكمة يسوع يطالبون بقتله وبصلبه، أليس هؤلاء الناس هم شركاء أيضاً في هذه الخيانة، الفرق أن يهوذا باع ضميره وعقله مقابل المال وأسلم المسيح، أم الشعب خانوه بالهتاف مؤيديين الشيوخ والأحبار ليصلب، خانوه وهم لايدركوا أن المسيح آتى إلى هذا العالم ليخلصهم. لقد مرت الأيام وما زلنا نتذكر هذه الخيانة العظمى، إنها ليست الخيانة الوحيدة في التاريخ لكنها الأعظم، لننظر إلى أنفسنا قليلاً، سنجد بيننا كثيراً من الناس يرتكبوا الخيانات، ليس فقط يهوذا الذي خان، إنما البشر أيضاً، ففي عالمنا هذا كثيراً ما نرى صديق يخون صديقه، إمراة تخون زوجها، زوجاً يخون إمرأته، عامل يسرق صاحب العمل، أراضي تُسلب من أصحابها، أوطان تُدمر من أجل السلطة والمال، وغيرها ... أليس كل هذا نوع من أنواع الخيانات، أليس كل هذه ضمائر ميتة، ترتكب الخطايا كل اليوم، إذاً يهوذا ليس وحده الخائن، إن الخطيئة التي عملت في يهوذا وتغلغلت في قلبه، توجد في كل واحد منا، وقد تنمو وتتكاثر قبل أن ننتبه لها، وإذا لم ندرك مشيئة الله ومحبته لنا، وإن لم نضع أنفسنا تحت حماية العناية الإلهية، فإن الشيطان لن يكف بلاه عنا، يلاحقنا دوماً لنرتكب الخطايا، يجب علينا أن نسرع لأجل خلاص نفوسنا، نلقي نفوسنا في أحضان محبة يسوع المسيح التي تسمو على الخطية و التي لا تعرف الحقد والكراهية والأنانية، والتي تتعظم في خلاص كل الخاطئين إذا لجأوا إليها، وإياك أن تفعل كما فعل يهوذا الإسخريوطي وترفض محبة الرب يسوع، فيجب علينا أن نزرع الحب في صحراء القلوب الممتلئة بالكره والبغض لعلنا نجد زهورها تتفتح ولو للآتين بعدنا.