موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النص الإنجيلي (متى 10: 37-42)
37 ((مَن كانَ أَبوه أو أُمُّه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي. ومَن كانَ ابنُه أَوِ ابنَتُه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي. 38 ومَن لم يَحمِلْ صَليبَه ويَتبَعْني، فلَيسَ أَهْلاً لي. 39 مَن حَفِظَ حياتَه يَفقِدُها، ومَن فَقَدَ حَياتَه في سبيلي يَحفَظُها. 40 مَن قَبِلَكم قَبِلَني أَنا، ومَن قَبِلَني قَبِلَ الَّذي أَرسَلَني. 41 مَن قَبِلَ نَبِيّاً لأَنَّه نَبيٌّ فَأَجرَ نَبِيٍّ يَنال، ومَن قَبِلَ صِدِّيقاً لأَنَّه صِدِّيقٌ فَأَجرَ صِدِّيقٍ يَنال. 42 ومَن سَقى أَحَدَ هَؤلاءِ الصِّغارِ، وَلَو كَأسَ ماءٍ باردٍ لأَنَّه تِلميذ، فالحَقَّ أَقولُ لَكم إِنَّ أَجرَه لن يَضيع)).
مُقدِّمة
يُسلط إنجيل الأحد (متى 10: 37-42) في ختام عظة يسوع الكبرى الثاني في الإرسالية (متى 10: 1-42)، الأضواء على توصيات يسوع لتلاميذه الأخيرة في إعلان بشرى الملكوت، خاصة في حمل الصَّليب؛ وحمل الصَّليب هو رمز للجهاد الداخلي الذي يتوجب على تلميذ المسيح أن يخوضه في شهادته أمام العَالَم (متى 10: 37-42). فهو شرط أساسي لكل تلميذ اتَّخذ المسيح معلمًا للحياة وأصبح له مُبشِّرا ورسولاً. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته.
أولا: وقائع النص الإنجيلي (متى 10: 37-42)
37 مَن كانَ أَبوه أو أُمُّه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي. ومَن كانَ ابنُه أَوِ ابنَتُه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي.
تشير عبارة "مَن كانَ أَبوه أو أُمُّه أَحَبَّ " إلى تعبير يبدو أنّه متناقضٌ بين علاقات العائلة وإتّباع يسوع؛ لكن يتضَّح لنا أنَّ هذه الآية لا تجيز لنا إهمال واجبنا تجاه والدينا، بل ركَّز يسوع في أكثر من مرَّة على واجب مَحَبَّة الوالدين (مرقس 7: 11)، وهي وَصِيَّة من وصايا الله العشر التي تقضي بما للوالدين من حقوق على أولادهم (لوقا 18: 20، خروج 20: 12). ولكن ما تُعنيه هذه الآية هو ضرورة اتخاذ القَرارات في حياتنا من خلال اختيارنا لله، لانَّ إتباع يسوع والإيمان به يمكن أن يُثير في بعض الأحيان مقاومة من قِبل من هم أقرب النَّاس إلينا، وهنا لا يطلب يسوع منا أن نقلل أو نزيد من حب الأسرة أو من حب الذات: لأنه هو نفسه من أعطانا هذه الوصية الوحيدة باذلاً ذاته في سبيل أحبائه، إنما يطلب منا يسوع هنا أن تكون طريقتنا في المحبة تعتمد على محبة الله، وذلك بتفضيله على غيره حيث يكون حُبُّ المسيح له الأولوية على حبِّ الأبناء لوالديهم. فمَحَبَّة الله تأتي في الدرجة الأولى ومَحَبَّة الوالدين ورابطة الدم والأسرة تأتي في الدرجة الثانية. بمعنى انه يتوجب على الإنسان أن يُحبَّ أوّلاً الرَّب يسوع المسيح، ومن خلاله يُحبُّ المَرء والديه وأهله والآخرين؛ محبة الله أولا تفسح المجال لحب غير محدود للآخرين. ومن دون حب المسيح يُحبّ المرء نفسه في الآخرين؛ ولا يحبّ الآخرين لذواتهم؛ تبدأ المَحَبَّة عموديًّا بين الإنسان وربّه؛ ومن ثمّ، أفقيًا أي تنزل بالله إلى الآخرين. كما هو التّعبير المستعمَل في كنيستنا، نحن نحبّ الآخرين في المسيح؛ أمّا عبارة " أَحَبَّ " في الأصل اليوناني أَحَبَّ φιλέω (معناها مَحَبَّة الأهل وصلات القرابة) فتشير إلى من فضَّل أباه أو أمَّه على المَسيح، كما جاء في نص إنجيل لوقا الموازي "لَم يُفَضِّلْني على أَبيهِ وأُمِّهِ" كما ورد في الأصل اليوناني οὐ μισεῖ τὸν πατέρα ἑαυτοῦ καὶ τὴν μητέρα (معناه لم يُبغض) ويعني هذا الفعل هنا " كان اقل حبُّاً" علمًا أنَّ لغة العهد القديم لا تعرف أفعال التفضيل (التكوين 29: 31). وبالتالي قد تُصبح هذه المَحَبَّة عقبة ً في طريق الذين يريدون السير وراء يسوع؛ وللدلالة على المَحَبَّة لله وللقريب، يستخدم إنجيل متى فعل "ἀγαπάω" (معناها المحبة الأخوية) (متى 5: 43، 19: 19 و22: 37-39) ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم: "إن أحبّبْنا الرَّب من كل القلب يجدر بنا ألاَّ نفضِّل عنه حتى الآباء والأبناء". وهنا غير مطلوب منَّا أن نتخلَّى عن محبَّتنا للعائلة بل أن تستنير محبتنا للعائلة بمحبة المسيح التي تتسامى بها وتعطي لها معنى أسمى. أمَّا عبارة "لَيسَ أَهْلاً لي" التي تكررت مرتين في هذا النص الإنجيلي (متى 10: 37، 38) فتشير إلى عدم استحقاق الإنسان أن يتبع يسوع، وبالتالي لا يستحق أن يعترف به يسوع أمام آبيه السماوي؛ فاعتراف المسيح بالإنسان أفضل شرف وخير بركة له. وباختصار، إنّ يسوع لا يريد في هذه الآية أن يُلغي الوَصِيَّة الرابعة إنما أراد أن يؤكّد على أولويّة الإيمان بالله، ودعوته إلى مَحَبَّة الله فوق مَحَبَّة العائلة بل مّحبَّة العائلة من خلاله تعالى، ويعلق البابا فرنسيس " من خلال مَحَبَّة الله، تتحوّل الروابط العائليّة و"تمتلئ" بمعنى أعمق وتُصبح قادرة على الذهاب أبعد من ذواتها لتخلق أبوَّة وأمومة أشمل، وتقبل كإخوة وأخوات حتى أولئك الذين يعيشون على هامش أيِّ رباط " (المُقَابَلَةُ العَامَّةُ 2 /9/ 2015). يدعو يسوع تلاميذه في هذه الآية إلى وجوب تفضيله على أعزَّ الأهل والأقارب دون إعطاء المجال للانقسامات وسوء الفهم في الحياة وخاصة في حدود العائلة الواحدة، بل محبة العائلة من خلال محبتهم له. يؤكد يسوع على أولويّة الله والّتي يتوجب علينا كتلاميذ أنّ نأخذها دائمًا بعين الاعتبار.
38 ومَن لم يَحمِلْ صَليبَه ويَتبَعْني، فلَيسَ أَهْلاً لي.
تشير عبارة "مَن لم يَحمِلْ صَليبَه" إلى الذكرى الأولى للصَّليب في الإنجيل، وفيها إشارة إلى نبوءة بصَلب المسيح؛ حيث كانت العادة عند الرُّومان للمحكوم عليه تُقضي أن يحمل صَليبه إلى مكان الإعدام، وهذا يَدلنا كيف أصبح حمل الصَّليب كناية عن حمل الخِزي والعَار والتَّعرض للخطر والألم حتى المَوت. وهذه الكلمات إنذار للرسل بما أنَّ رسالتهم تتطلب تحمُّل الاضِّطهاد في طيَّاتها. أمَّا عبارة "صَليبَه" فتشير إلى عبارة مجازيّة، وتعني الألم والذّل والعَار والمَوت العنيف بسبب الإيمان بالمسيح. أمَّا عبارة "يَحمِلْ صَليبَه" فتشير إلى مشاركة المسيح في الإهانة والآلام والزُّهْد في النفس والتَّجرد وتعرض حياة التلميذ للخطر في سبيل يسوع وبشارة الإنجيل. فحمل الصَّليب يعني قبول ما ينبغي أن يتحمله التلميذ كوسيلة للتضحية بحياته حتى المَوت، فهو ليس حِملاً للضيقات والأتعاب فحسب، إنما للمَوت أيضا. فحمل الصَّليب تعني احتمال الألم برضى ودون تذمُّر، وحمل الصَّليب هو أيضاً قبول تقديم الجَسد كذبيحة حيَّة، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "إِنِّي أُناشِدُكم إِذًا، أَيُّها الإِخوَة، بِحَنانِ اللّهِ أَن تُقَرِّبوا أَشْخاصَكم ذَبيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسةً مَرْضِيَّةً عِندَ الله. فهذِه هي عِبادَتُكمُ الرّوحِيَّة" (رومة 1:12). ومن هذا المنطلق، يُعتبر حَمْل الصَّليب شرط ٌ من شروط إتِّباع الرَّب ونتيجة اتِّباع المسيح. لذلك يتقبَّل التَّلميذ كل نتائج الطَّاعة، ويتحمل كل العواقب حتى النِّهاية. تُمثِّل هذه الكلمات أساس تعليم بولس الرَّسول عن اتحاد المُؤمن بصَّليب المسيح "فما أَنا أَحْيا بَعدَ ذلِك، بلِ المسيحُ يَحْيا فِيَّ. وإِذا كُنتُ أَحْيا الآنَ حَياةً بَشَرِيَّة، فإِنِّي أَحْياها في الإِيمانِ بِابنِ اللهِ الَّذي أَحبَّني وجادَ بِنَفْسِه مِن أًجْلي (غلاطية 2: 20). والعجيب أن من يقبل الصَّليب يملأه الله فرحاً على الأرض، كما حدث مع الرُّسل الأوائل في بدء تاريخ الكنيسة "دَعَا المجلس اليهودي الرُّسُلَ فضَرَبوهم بِالعِصِيّ ونَهَوهُم عنِ الكَلامِ على اسمِ يسوع، ثُمَّ أَخلَوا سَبيلَهم. أمَّا هَم فانصَرَفوا مِنَ المَجلِسِ فَرِحين بِأَنَّهم وُجِدوا أَهلاً لأَن يُهانوا مِن أَجْلِ الاسْم " (أعمال الرسل 5: 40-41)، ومن يقبل الصَّليب ينال أيضًا مجدًا في السَّماء، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول " لأَنَّنا، إِذا شارَكْناه في آلامِه، نُشارِكُه في مَجْدِه أَيضًا" (رومة (8: 17). أمَّا عبارة "يَتبَعْني" فتشير إلى السَّير في طرق يسوع ليأتي بجميع البشر إلى الخَلاص، وهو نهاية الخُروج الجديد الحقيقي. فإتِّباع يسوع لا يعني اعتناق التِّلميذ لتعليم أدبي وروحي فحسب، وإنَّما مشاركته المسيح المعلم في تجاربه واحتمال المصائب والإلام ومشاركته في مجده (متى 19: 27). أمَّا عبارة "فلَيسَ أَهْلاً لي" فتشير إلى الصليب الذي هو سبب مقاومة المؤمن في مسيرة إتباعه ليسوع، فهو يميل إلى ترك الصليب. لكن في الصليب يكمن معنى الرسالة المسيحية، وكذلك معنى حياة المؤمن الّذي أرسله ويرسله يسوع كل يوم. كما جاء في خبرة بولس الرسول "أَمَّا أَنا فمَعاذَ اللهِ أَن أَفتَخِرَ إِلاَّ بِصَليبِ رَبِّنا يسوعَ المسيح" (غلاطية 6: 14). يدعو يسوع تلاميذه في هذه الآية إلى وجوب تفضيله على الرَّاحة والصّيت، ويدعو إلى الجِهاد الرُّوحي "يمر طريق القداسة عبر الصَّليب. وليس من قداسة تخلو من التَّجرد ومن الجِهاد الروحي" (تعليم المسيحي 2015). يؤكد يسوع في هذه الآية بوضوح هويّة التلميذ في التبعيّة.
39 مَن حَفِظَ حياتَه يَفقِدُها، ومَن فَقَدَ حَياتَه في سبيلي يَحفَظُها.
تشير عبارة "حَفِظَ" في الأصل اليوناني εὑρὼν (معناها وجد) إلى ما ورد في موضع آخر في الإنجيل "الَّذي يَفقِدُ حَياتَهُ في سبيلي فإِنَّه يَجِدُها" (متى 16: 25). أمَّا عبارة "الحياة" في الأصل اليوناني ψυχὴν (معناها النفس كمرادف للعبرية "נַפְשׁ" التي تعني الشخص أو الذات) فتشير إلى الحياة الطبيعية أو حياة الذات بالمقارنة مع الحياة الرُّوحية (العبرانيين 4: 12). إنَّ النفس هي مركز العواطف والرَّغبات، وفي مضمون الكتاب المقدس يعتبر الأكل والشُّرب من وظائف النَّفس؛ أمَّا عبارة "حَفِظَ حياتَه" فتشير إلى امتلاك الحياة والاحتفاظ بها لذاته بشكل أناني للربح أو للحصول على شيء من الحياة لنفسه؛ مَن يتصوَّر أنه يخلص نفسَه بإنكاره إيمانه بيسوع وحمل صَليبه فهو في الحقيقة يُضيِّع نفسه ويخسرها. وإذا رفضنا نحن صَليب أتعابنا وآلامنا نخسرُ حياتنا الأبدية في سبيل ربح الأرضيات الزَّمنية الفانية؛ فمن ينكر المسيح من اجل التمتع بالحياة الأرضية يفقد الحياة السَّماوية أي نفسه. أمَّا عبارة "ومَن فَقَدَ حَياتَه في سبيلي يَحفَظُها" فتشير إلى موقف التِّلميذ تجاه نفسه الذي هو موقف نكران الذات وتخطِّي الذات بحيث يصبح المسيح مركز حياته في مواصلته إعلان البشارة بالمسيح (مرقس 1: 1)، وهذه البشارة قد تحمل التلميذ على التَّضحية بحياته على خُطى معلمه الإلهي الذي بلغ حبُّه إلى الموت على الصَّليب. "فقدان التلميذ حياته" يعني في منطق يسوع العثور عليها، لأنَّه يجدها حينما يفقدها حيًا بالرّبّ الّذي فقد حياته لأجله. عندما يعطي التلميذ حياته للرَّب، فأنه يحياها كنعمة مقبولة مِن يد مَن يُحب. ويوضِّح يوحنا الإنجيلي هذه الآية بقوله "مَن أَحَبَّ حياتَهُ فقَدَها ومَن رَغِبَ عنها في هذا العَالَم حَفِظَها لِلحَياةِ الأَبَدِيَّة" (يوحنا 12: 25)؛ ويؤكد يسوع ذلك بقوله: "الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: إنَّ حَبَّةَ الحِنطَةِ الَّتي تَقَعُ في الأَرض إِن لَم تَمُتْ تَبقَ وَحدَها. وإذا ماتَت، أَخرَجَت ثَمَرًا كثيرًا"(يوحنا 12: 24). ويُعلق اللاهوتي ثيودورس المصّيصي أسقف المصّيصة في صقلِّية "ما الذي يمكن أن يجنيه مَن يشارك يسوع في آلامه؟ أجابنا الرّب يسوع: "وحَيثُ أَكونُ أَنا يَكونُ خادِمي ومَن خَدَمَني أَكرَمَهُ أَبي". إنّ مَن يشاركني آلامي سوف يشاركني مجدي. سوف يكون معي للأبد في العالم الآتي، ويفرح معي في الملكوت السماوي" (شرح لإنجيل القدّيس يوحنّا). أمَّا عبارة "في سبيلي" فتشير إلى الالتزام القائم على العلاقة التي تربط بين التِّلميذ والمسيح. وقد تكرَّرت ثلاث مرات في الفصل العاشر (متى 10: 18، 21، 39)؛ ويعلق القدّيس باسيليوس "إنّ التخلّي التامّ يعني التخلّي عن كلّ ما يربط الإنسان بهذه الحياة الأرضيّة العابرة، والتحرّر من القيود البشريّة لنكونَ أكثر استعدادًا للسير على الدرب المؤدّي إلى الله"(القوانين الرهبانيّة الكبرى، السؤال 8). أمَّا عبارة "يَحفَظُها" في الأصل اليوناني εὑρήσει (معناها يجدها) فتشير إلى حياة المؤمن التي يجدها في الحياة الأخرى في العَالَم الآتي، وهذه الحياة الأبدية هي أوفر من الحياة الأرضية، كما وعد يسوع " أَتَيتُ لِتَكونَ الحَياةُ لِلنَّاس وتَفيضَ فيهِم" (يوحنا 10: 11). فالحياة التي نضحِّي بها في خدمة الرَّب في هذا العَالَم نجدها في الحياة الأبدية. تعرض هذه الآية نفس الحقيقة من وجهها السَّلبي (مَن حَفِظَ حياتَه يَفقِدُها) والإيجابي (ومَن فَقَدَ حَياتَه في سبيلي يَحفَظُها)؛ فالتَّمسك بهذه الحياة يجعلنا نخسر المسيح، وعدم التَّمسك بهذه الحياة وأطماعها يُحرِّرنا ويجعلنا من أتباع المسيح "لأَنَّ الَّذي يُريدُ أَن يُخَلِّصَ حَياتَه يَفقِدُها، وأمَّا الَّذي يَفقِدُ حَياتَهُ في سبيلي فإِنَّه يَجِدُها" (متى 16: 25). فالشهادة للمسيح تتطلب بذل النفس في سبيل شخص المسيح ونيل الحياة الأبدية. كلمة “شهيد” من كلمة “martyria” اليونانية، والتي تعني الشهادة. ومع ذلك، سرعان ما استُخدِمت كلمة شهيد في الكنيسة للإشارة إلى الشخص الذي كان يشهد حتى سفك الدم. يدعو يسوع تلاميذه أنَّ وجوب تفضيله على الحياة نفسها. مَحَبَّة الحياة أقوى من مَحَبَّة الأقارب، ولكن مَحَبَّة المسيح يجب أن تفضِّل على كلتيهما.
40 مَن قَبِلَكم قَبِلَني أَنا، ومَن قَبِلَني قَبِلَ الَّذي أَرسَلَني.
لا تشير عبارة "قَبِلَكم" إلى الترحيب بالضَيف فحسب، إنما أيضا الانفتاح على الآخر، والأكثر من ذلك هو الإكرام والإصغاء لتبشير المرُسلين باعتبارهم رسل المسيح. يسوع هو الشخص الذي يمنح الرسالة ويشمل مضمونها. فالمَدعوّون لاستقبال التلاميذ مطلوب منهم قبول التغيير في حياتهم أيضًا. أمَّا عبارة "قَبِلَني أَنا" فتشير إلى التلميذ الـمُرسل الذي يعتمد كليًا على يسوع، والناطق الرسمي باسمه. فمن قبل التلميذ، يقبل المسيحّ ذاته. وهنا تأتي أهميّة الاستعانة بمثل المرأة الشونميّة الّتي استقبلت النبي أليشع كرجل الله، بمنزلها باركها الله بهبة الابن (نعلم إنّ النسل علامة على البركة) (2 الملوك 4: 8-16). إنّ. أمَّا عبارة "ومَن قَبِلَني قَبِلَ الَّذي أَرسَلَني" فتشير إلى المساواة بين المُرسِل والمُرسَل، بين الرسول ومُرسِله، وكانت هذه المُساواة أمرًا مألوفًا في الدِّين اليهودي. وإذا كان الرَّسول يساوي مُرسِله، فليس ذلك نظرًا لشخصيته، بل بحكم المُهمة أو الوظيفة أو الرسالة التي أُوكلت إليِّه من قِبل يسوع، وعبر يسوع من قِبل الله. علاقة يسوع بالتلاميذ تجعل الذين يقبلونه، يقبلون الابن، والذين يقبلون الآبن يقبلون الآب. وحين يستقبل الناس الرُّسل، فهم لا يقومون فقط بواجبات الضِيافة (العبرانيين 13: 2)، بل يُظهرون خضوعهم لكلمة يسوع التي يحملها الرُّسل. فقبول الرَّسول أو التِّلميذ هو قبول المسيح بالذَّات، وبالتالي قبول الله الآب الذي أرسله، ويُضيف لوقا الإنجيلي " مَن قَبِلَ هذا الطِّفلَ إِكراماً لِاسْمي فَقَد قَبِلَني أَنا، ومَن قَبِلني قَبِلَ الَّذي أَرسَلَني" (لوقا 9: 48). قبول الآخر هو وجه المَحَبَّة المُشرق. بعد أن ذكر المسيح ما يلحق تلاميذه من المصائب عزَّاهم بذكرِ مشاركته لهم في الإكرام، وانه يُجازي مُكرِّمهم كمكرم للمسيح نفسه. وغاية هذا الكلام تشجيع التلاميذ في تبشيرهم بالإنجيل وتعزيتهم حين يُرفضون.
41 مَن قَبِلَ نَبِيّاً لأَنَّه نَبيٌّ فَأَجرَ نَبِيٍّ يَنال، ومَن قَبِلَ صِدِّيقاً لأَنَّه صِدِّيقٌ فَأَجرَ صِدِّيقٍ يَنال
تشير عبارة "قَبِلَ نَبِيّاً لأَنَّه نَبيٌّ" إلى قبول الُمُرسَل كنبي الذي له كلمة حقٍ لمن يُصغي إلى نبوءته ويُطيعها ويُكرمه باعتباره رسول الله. أمَّا عبارة "لأَنَّه نَبيٌّ" في الأصل اليوناني εἰς ὄνομα (معناها باسم نبي) فتشير إلى صفة النَّبيٍ. والنبي هو من يتكلم أو يكتب من خلال قوة الله. وعرف العهد القديم عددًا كبيرًا من الأنبياء. وكان محور نبواتهم يدور حول مجيء المسيح. وكانت معيشتهم في منتهى البساطة، فكانوا معتادين على التقشف والاكتفاء بالقليل والتَّنسك وقبول الإحسان البسيط (1 ملوك 17: 5-8 ومتى 3: 4). وكان الله يختار من بين هؤلاء التَّلاميذ عددًا ويقبلهم أنبياء له ليُعلِّموا الشَّعب بما يريده منهم. والعهد القديم يصف الأنبياء بأنهم مُقامون من عند الله (عاموس 2: 11) ومُعيَّنون منه (1 صم 3: 20 وار 1: 5) ومُرسَلون من عنده تعالى (2 أخبار 36: 15 وار 7: 25). أمَّا عبارة "فَأَجرَ نَبِيٍّ" فتشير إلى المُكافأة المُستحقَّة من أجل قبول نبي؛ وخير مثال على ذلك، استقبال المرأة الشونميّة أليشاع النبي ومعاونه بتخصيص مكان له عند مروره، فكافاها الرب بالنسل بالرغم من إنها ليست بيهوديّة أيّ إنها غريبة ولا تنتمي للشريعة اليهوديّة (2ملوك 4: 8-16). أمَّا عبارة "صِدِّيقٌ" في الأصل اليوناني δίκαιος (معناها بار) فتشير إلى المسيحي الحَق الذي يُتمِّم مشيئة الله ومُخطّطه الخلاصي. والبرّ الذي يتحدّث عنه إنجيل متى هو، في الواقع، ممارسة المَحَبَّة والصَّدقة (متى 6 :1-3؛ 25 :37-39، 46)، والأبرار هم الذين تُشكل حياتهم البارة مثالا للآخرين؛ أمَّا عبارة "النبي والبار" فتشير إلى كرامة النبي والبَار التي هي كرامة الرَّسول. وقد اعتبرت الجماعات المسيحية سلطة التلاميذ في خط الأنبياء والأبرار، كما جاء على لسان يسوع المسيح "الحَقَّ أَقولُ لَكم إِنَّ كثيراً مِنَ الأَنبِياءِ والصِدِّيقينَ تَمَنَّوا أَن يَرَوا ما تُبصِرونَ فلَم يَرَوا، وأَن يَسمَعوا ما تَسمَعونَ فلَم يَسمَعوا" (13: 17). فنحن مدعوُّون أن نقبل التَّلاميذ بعد أن دعاهم يسوع قبول الأنبياء والأبرار (متى 18: 5). أمَّا عبارة "فَأَجرَ صِدِّيقٍ يَنال" فتُشير إلى مُشاركة البَار في الجزاء، لانَّ الذي يُظهر البِّر للبار يُصبح أهلاً للشركة في ملكوت البِّر وكل ما فيه من البركات، كما حدث مع أمرأه صرفت بصدقتها إلى إيليا النبي ومعجزة الدقيق والزيت (1ملوك 17: 5-16). إنّ ضيافة التلاميذ علامة على البركة وأهمية الضيافة خاصة قبول وضيافة الأشخاص الذين أرسلهم يسوع مُرسل الله الآب. وبعد أن ذكر المسيح ما يلحق تلاميذه من المصائب عزَّاهم بان ذكر مشاركته لهم في خدمتهم، وانه يُجازي خادمهم كخادم المسيح نفسه.
42 ومَن سَقى أَحَدَ هَؤلاءِ الصِّغارِ، وَلَو كَأسَ ماءٍ باردٍ لأَنَّه تِلميذ، فالحَقَّ أَقولُ لَكم إِنَّ أَجرَه لن يَضيع.
تشير عبارة" سَقى أَحَدَ هَؤلاءِ الصِّغارِ" إلى عمل الرحمة الذي يختتم بها متى الإنجيلي عظة يسوع الكبرى الثانية التي بدأها بوصف شفقة يسوع (متى 9: 36). أمَّا عبارة "هَؤلاءِ الصِّغارِ" فتشير إلى تلاميذ المسيح، كما ورد في إنجيل مرقس "مَن سقاكُم كَأسَ ماءٍ على أَنَّكم لِلمَسيح، فالحَقَّ أَقولُ لكم إِنَّ أَجرَه لَن يَضيع" (مرقس 9: 41) أو إلى جميع التلاميذ لأنهم شهود لملكوت الله، أو التلَّاميذ الُضعفاء الذين هم أشدَّ التَّلاميذ حِرمانًا وعوزًا بسبب الاضِّطهاد "إِيَّاكُم أَن تَحتَقِروا أَحَداً مِن هؤلاءِ الصِّغار. أَقولُ لكم إِنَّ ملائكتَهم في السَّمَواتِ يُشاهِدونَ أَبَداً وَجهَ أَبي الَّذي في السَّمَوات" (متى 18: 10). وسمَّاهم يسوع صغارَا إشارة إلى تواضعهم في عيون أنفسهم وفي عيون أهل العَالَم الذين يحسبون الكبار هم الأغنياء والعُلماء والأقوياء؛ الصغار هم الذين يُسلمون ذواتهم كليًا لله، ويعيشون روح التطويبات (متى 5: 3-8) ويقدِّمون رسالتهم التبشيرية مجانيًا ( متى 10) . أمَّا عبارة "كَأسَ ماءٍ" فتشير إلى إناء صغير للشُّرب (2 صموئيل 12: 3) مصنوع من الخَزف أو المَعدن (ارميا 51: 7) يُمسك باليد (تكوين 40: 11)، ويُستعمل للمَاء (مرقس 9: 41). وهذه الكأس من المَاء البَارد هي أصغر هبة يُقدِّمها الإنسان لغيره؛ ويُعلق المطران بيير باتيستا " أن هذه الكأس ستكون علامة على أمر أكبر، وهو الاستعداد الجوهري من طرف مُعطي الكأس لاستقبال متطلبات البشرى المُستجدّة" (تأمل الأحد الثالث عشر للزمن العادي، السنة أ، 2020). أمَّا عبارة "لأَنَّه تِلميذ" في الأصل اليوناني εἰς ὄνομα μαθητοῦ(معناها باسم التلميذ) فتشير إلى تلميذ المسيح ، فمن يصنع المعروف له كأنه صنع ذلك المعروف للمسيح نفسه، فيُجازيه الله عليه. أمَّا عبارة "تِلميذ" تشير إلى كل من اتبع معلمًا مثل أشعيا النبي (أشعيا 8: 16) ويوحنا المعمدان (متى 9: 14). وتستعمل لفظة تلميذ لكل المؤمنين الذين قبلوا تعاليم المسيح (متى 10: 42 ولوقا 14: 26) وبنوع أخص الرُّسل الاثني عشر (متى 5: 1). أمّا عبارة "أَجرَه" فتشير إلى ما يُدفع مقابل القيام بعمل ما، وكانت قديمًا تُدفع من محاصيل العمل ذاته، كما حدث في أمر يعقوب ولأبان (التكوين 29: 15). أمَّا عبارة "لن يَضيع" فتشير إلى مُكافأة صانع المعروف، لأنَّه قَبِلَ يسوع في تلميذه المتواضع والفقير والغريب. لا تتوقف قيمة الصدقة على كبرها أو صغرها بل على نية صانع المعروف. المكافأة أو الأجرة هي كلمة مهمة يستخدم متى أيضًا في عظته الأولى عندما يقول: "إِيَّاكُم أَن تَعمَلوا بِرَّكم بِمَرأًى مِنَ النَّاس لِكَي يَنظُروا إِليكم، فلا يكونَ لكُم أَجرٌ عندَ أَبيكُمُ الَّذي في السَّمَوات" (متى 6، 2.5.41.42). ومن هذا المنطلق، كل شخص في العالم مدعو إلى القيام بعمل صغيرة من التعاطف والتضامن مع تلاميذ الرب. ذكر يسوع في هذا النص ثلاثة أنواع من الأعضاء في الجماعة: الأنبياء وهم الذين يتحلّون بمسؤولية ما في الجماعة، ثم الأبرار وهم الذين تُشكل حياتهم البَارة مثالاً يُعرض للآخرين، وأخيرًا الصغار، وهم من لا مسؤولية لهم في الجماعة.
ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 10: 37-42)
بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (متى 10: 37-42)، نستنتج انه يتمحور حول وَصِيَّة يسوع لتلاميذه في حَمْل الصَّليب. ومن هنا نتساءل: ما معنى حمل يسوع صَليبه؟ وما معنى حمل تلميذ المسيح صَليبه؟
1) ما معنى حمل يسوع صَليبه؟
نحن نعلم أنَّ يسوع مات مَصلوبًا، وأصبح الصَّليب أحد الأركان الأساسية التي تُذكِّرنا بالخلاص، كما نردِّد في قانون الإيمان: الذي (يسوع) من أجلنا، ومن أجل خلاصنا نزَلَ من السَّماء. وصُلِبَ عنَّا على عهد بيلاطُس البُنطيّ، وتألَّم". فلم يعُد الصليب عاراً، بل أداة للفداء، وأصبح مطلبًا وعنوانًا للمجد، للمسيح أولاً ثم للمسيحيين من بعده. وفي هذا الصدد يقول القدّيس كيرلُّس الأورشليمي (313-350)، يعلق القدّيس كيرِلُّس الأورشليميّ "لم يكن الصليب خدعةً، وإلاّ لكان الفداء أيضًا خدعة. لم يكن الموت وهمًا، بل كانت آلام المسيح حقيقيّة. فقد صُلِبَ المسيح فعلاً، وعلينا ألاّ نخجل من ذلك. لقد صُلِبَ من أجلنا، وعلينا ألاّ ننكر ذلك، بل يجب أن نعلنه بكلّ فخرٍ. فنحن نعترف بالصَّليب لأنّنا اختبرنا القيامة " (التعليم المسيحي العمادي الثالث عشر).
أكّد يسوع على ضرورة الصَّليب تحقيقاً لطاعة مشيئة الآب، كما جاء في إنجيل متى "بَدأَ يسوعُ مِن ذلِكَ الحينِ يُظهِرُ لِتَلاميذِه أَنَّه يَجِبُ علَيهِ أَن يَذهَبَ إلى أُورَشَليم ويُعانِيَ آلاماً شَديدة مِنَ الشُّيوخِ وعُظَماءِ الكَهَنَةِ والكَتَبَة ويُقتَلَ ويقومَ في اليومِ الثَّالث "(متى 16: 21). ثم أوضح المسيح القائم لتلميذي عماوس أن تحمّل آلام صَليبه هو لتتميم ما ورد في الكتب المقدسة لدخول المجد " أَما كانَ يَجِبُ على المَسيحِ أَن يُعانِيَ تِلكَ الآلام فيَدخُلَ في مَجدِه؟ فبَدأَ مِن مُوسى وجَميعِ الأَنبِياء يُفَسِّرُ لَهما جميعِ الكُتُبِ ما يَختَصُّ بِه " (لوقا 24: 25 -26).
بعد العنصرة أعلن التلاميذ بدورهم عن ضرورة الصَّليب استكمالاً ِلمَا كُتب عن مصير المسيح " أَتَمُّوا كُلَّ ما كُتِبَ في شأنِه، أَنزَلوه عنِ الخَشَبَة ووَضَعوهُ في القَبر (أعمال 13: 29)، المسيح قد صُلب (أعمال 2: 23، 4: 10)، و "عُلِّق على خشبة" (أعمال الرسل 5: 30)، وقد تلقَى بولس عن التقليد الأصلي أن " سَلَّمتُ إِلَيكم قبلَ كُلِّ شيَءٍ ما تَسَلَّمتُه أَنا أَيضًا، وهو أَنَّ المسيحَ ماتَ مِن أَجْلِ خَطايانا كما وَرَدَ في الكُتُب" (1 قورنتس 15: 3).
ولماذا الصَّليب؟ لأن يسوع أخذ على عاتقه الشَّرَّ والرَّجاسة وخطيئة العَالَم، وكذلك خطيئتَنا، وغسلها بدمه وبرحمته وبمَحَبَّة الله كما نترنَّم في النَّشيد الطقسي: "خلاصًا صنعتَ في وسَطِ الأرض، أيُّها المسيحُ الإله، وعلى الصَّليب بسطتَ يدَيكَ الطَّاهِرتَين، فجمعتَ كُلَّ الأُمم صارخة: يا ربُّ المجدُ لك". فالصَّليب هو سِرُّ الله المُحِبّ البشر، يتألَّم ويُصلَب لأجلِ خليقته.
نستنتج مما سبق أن المَحَبَّة الحقّ هي في صَليب! فكان مطلوب من يسوع أن يبذل نفسه من أجل مَن يُحبّ؛ هذا هو الخير الذي يمنحنا إيَّاه يسوع من على الصَّليب. وعندما نعانق صَليب المسيح بفرح، فهو يحملنا إلى الفرح، بأننا خُلّصنا، وبأننا نُشاركه بما فعله عندما مات من أجلنا. ويُعلق القدّيس أندراوس الرسول وَفقًا للتقليد "أيها الصَّليب المَرغوب فيه منذ زمن بعيد، المُقدّم الآن وفقًا لرغبات نفسي! أنا مُتوجّه نحوك، مُمتلئًا بالفرح والثِّقة. اقبلني بحبور، أنا تلميذ ذاك الذي تدلّى على ذراعيك" ويضيف البابا فرنسيس" إن صَليب المسيح هو خشبة تحدثنا عن المَحَبَّة والرحمة والغفران". ليس الصليب علامة لآلام يسوع وموته فحسب، إنما أيضا علامة لمحبة الله غير المشروطة لنا. يعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم "الصليب رمز المحبة الإلهية لأن "اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة "(يوحنا 3: 16) وأيضاً بولس يقول: " فإِن صالَحَنا اللهُ بِمَوتِ َابِنه ونَحنُ أَعداؤُه، فما أَحرانا أَن نَنجُوَ بِحَياتِه ونَحنُ مُصالَحون! " (رومية 5: 10).
2) ما معنى حمل التلميذ صَليبه؟
يُعلمنا يسوع أنَّ صَليبه يُوحّد بين مصيره ومصير تلميذه. "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صَليبه ويَتبَعْني " (متى 16: 24). "حمل الصليب" الذي هو رمز حبِّ يسوع لنا، يُصبح حمل الصليب لتلميذه أنّ يحيا داخل منطق "الحب". لذلك يتطلب حمل الصَّليب الاستسلام الكامل لله والاستعداد الكامل لمواجهة أي شيء حتى الألم والموت من أجل يسوع المسيح بحيث يكون هو مركز حياتنا كما أوصانا: "من حَفِظَ حياتَه يَفقِدُها، ومَن فَقَدَ حَياتَه في سبيلي يَحفَظُها (متى 10: 39). فالتمسك بهذه الحياة يجعلنا أن نخسر المسيح، وعدم التمسك بهذه الحياة وأطماعها يُحرِّرنا لكي نتبع المسيح ونرث الحَياة الأبدية (متى 16: 25). وفي هذا الصدد يقول الأسقف اللاهوتي ثيودورس المصّيصي (428) "لا تدعوا الصَّليب يُخيفكم، يقول الرَّب يسوع، ولا تدعوه يُشَكِّكُم في أقوالي" (شرح لإنجيل القدّيس يوحنّا). فالصَّليب علامة موت التلميذ عن ذاته وعن العَالَم وعن علاقاته الطبيعية.
ا) حمل الصَّليب: الزُّهْد في الذات
يوصي يسوع تلميذه أن يموت في ذاته. "مَن لم يَحمِلْ صَليبَه ويَتبَعْني، فلَيسَ أَهْلاً لي" (متى 10: 38). من اعتمد بالمسيح يصبح مسيحيًا، والمسيحي يُصبح تلميذًا للمسيح عندما يتَّخذ المسيح معلمًا للحياة. والتلميذ لا يكون تلميذ للمسيح بشهادة العماد فقط بل بشهادة الحياة أيضا. فالتقرّب من الله، لا يَتمّ بالتَّمسّك والتَّشبّث بالذات بل بالزُّهْد والتَّخلّي، والتَّرك والخَلع كما قال الرَّب لموسى النبي "اِخلَعْ نَعلَيكَ مِن رِجلَيكَ" (خروج 3: 5). ويصل الزُّهْد ذروته بالتَّخلّي عن الذات بوضعها بين يديّ الله، كما فعل يسوع على الصَّليب " يا أَبَتِ، في يَدَيكَ أَجعَلُ رُوحي"(لوقا 23: 46). وفي هذا الصدد كتبت القدّيسة تيريزا -بينيديكت الصَّليب (إيديث شتاين) (1891 -1942)، "إنّ طريق كلّ "المَدعُوِّينَ إلى وَليمَةِ عُرسِ الحَمَل" (رؤيا 19: 9)، تمرُّ تجاه المَجد بالعَذاب والصَّليب. إن الّذين يريدون أن يتّحدوا بالحَمل الإلهي، يجب أن يتركوا أنفسهم ليُعلّقوا على الصَّليب معه"(عرس الحمل -14/09/1940). "كما بَذَلَ المسيح نفْسَه في سَبيلنِا. فعلَينا نَحنُ أَيضًا أَن نَبذُلَ نُفوسَنا في سَبيلِ إِخوَتِنا" (1يوحنا 3: 16)، لانَّ التلميذ ليس أفضل من معلمه (متى10: 24).
يعتبر الصَّليب علامة الإيمان الحيّ الحقيقيّ، والإيمان هو التّسليم الكامل لله: أن يُسلم الإنسانُ نفسه وحياته وكلّ ما له إلى الله تعالى. وفي هذا الصدد يقول الراهب القدّيس رافاييل أرناييز بارون (1911 – 1938)، "إنّ المسيح موجودٌ على الصَّليب، وطالما نحن لا نُحبّ الصَّليب، فإنّنا لن نراه ولن نشعر به". (كتابات روحيّة بتاريخ 04/03/1938). فالصليب هو أسلوب حياة مبني على المحبة، باختيار المسيح وإعطائه ذاته.
يبدأ التلميذ في تحقيق الزُّهْد في النفس عندما يطرح عنه كلِّ الهموم والأولويات الأخرى ويحمل الصَّليب ويتبع المسيح. وهذا ما عبّر عنه بولس الرسول واختبره بنفسه؛ فبالرغم من آلام جسده الرهيبة كان بولس يقمع جسده ويستعبده " أقَمَعُ جَسَدي وأُعامِلُه بِشِدَّة، مَخافةَ أَن أَكونَ مَرفوضًا بَعدَ ما بَشَّرتُ الآخَرين" (1 قورنتس 9: 27). وفي هذا الصدد يقول القدّيس إسحاق السريانيّ "طريق الله هي صَليب يومي. لم يصعد أحدٌ يومًا إلى السماء براحة" (مقالات نسكيّة، السلسلة الأولى، الرقم 4)؟ ألم يقُل يسوع " مَن حَفِظَ حياتَه يَفقِدُها، ومَن فَقَدَ حَياتَه في سبيلي يَحفَظُها" (متى 10: 39).
يبدأ التلميذ في تحقيق الزُّهْد في فكره ومعرفته عندما يتخلى عن تمجيد نفسه بمعرفته؛ بل يجد المعرفة السامية في الصَّليب كما جاء في تعليم بولس الرسول " فإِنِّي لم أَشَأْ أَن أًعرِفَ شَيئًا، وأَنا بَينَكُم، غَيرَ يسوعَ المسيح، بل يسوعَ المسيحَ المَصْلوب" (1قورنتس 2: 2). أوليسَ الصَّليب إتمامًا للشريعة الكاملة وأسلوبَ الحياة الأمثل؟
يبدأ التلميذ في تحقيق الزُّهْد في قوته عندما يتخلى عن تمجيد نفسه بقوَّته بل يستمدّ من الصَّليب قوّةً لا تُضاهى " فإِنَّ لُغَةَ الصَّليب حَماقةٌ عِندَ الَّذينَ يَسلُكونَ سَبيلَ الهَلاك، وأَمَّا عِندَ الَّذينَ يَسلُكونَ سَبيلَ الخَلاص، أَي عِندَنا، فهي قُدرَةُ اللّهُ" (1قورنتس 1: 18). ويُعلق القدّيس كيرِلُّس الأورشليميّ "لا نشعر بالخجل من صليب المسيح؛ بل على العكس، فلنفتخر به. الصليب عارٌ عند اليهود، وحماقةٌ عند الوثنيّين؛ أمّا بالنسبة إلينا، فهو رمز الخلاص، علامةٌ لقوّة الله (1قورنتس 1: 23-24). لأنّ مَن مات من أجلنا ليس مجرّد إنسان، بل هو ابن الله الذي صار إنسانًا" (التعليم المسيحي العمادي الثالث عشر).
ويبدأ التلميذ في تحقيق الزُّهْد في حريته عندما يتخلى عن الحريّة التي اكتسبتها بذاته ويفتخر بمجد حريته التي اكتسبها من الصَّليب "نَحنُ نَعلَمُ أَنَّ إِنسانَنا القَديمَ قد صُلِبَ معَه لِيَزولَ هذا البَشَرُ الخاطِئ، فلا نَظَلَّ عَبيدًا لِلخَطيئَة" (رومة 6: 6).
ويبدأ التلميذ في تحقيق الزُّهْد في الذات عندما يصبح على مثال يسوع مُتواضعًا ومطيعًا حتى الموت على الصَّليب، كما جاء في تعليم بولس الرسول "فلْيَكُنْ فيما بَينَكُمُ الشُّعورُ الَّذي هو أَيضاً في المَسيحِ يَسوع. لم يَعُدَّ مُساواتَه للهِ غَنيمَة بل تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب" (فيلبي 2: 5 -8). وقد صف البابا فرنسيس صورة تلميذ المسيح: "إنه متواضع وفقير، لا يتعلّق بالثروات والسلطة وبالأخص ليس مُتعلقًا بنفسه". إن تلميذ المسيح هو المُرسَل الذي أختار هبة ذاته لرَبّه.
ويزهد التلميذ في الذات أيضا عندما يقبل وضعه كمُضَّطهد كما قال يسوع: "إِذا طارَدوكم في مدينةٍ فاهرُبوا إلى غَيرِها. الحَقَّ أَقولُ لكم: لن تُنُهوا التَّجْوالَ في مُدُنِ إِسرائيل حتَّى يأتيَ ابنُ الإِنسان. مِن تِلميذٍ أَسمَى مِن مُعَلِّمِه، وما مِن خادِمٍ أَسمَى مِن سَيِّدِه " (متى 10: 23-24). ويُعلق البابا فرنسيس "المسيحي ليس مُضطَهِدًا بل مُضطَهَدًا. مُتمشِّيا مع تعليم يسوع "ما كانَ الخادِمُ أَعظمَ مِن سَيِّده. إِذا اضطَهَدوني فسَيَضطَهِدونَكم أَيضاً" (يوحنا 15: 20). لنردِّد مع القدّيس الراهب رافاييل أرناييز بارون (1911 – 1938)، "إنّ الله قد سمح بأنّ أحمِل الصَّليب. فليكن مباركًا" (كتابات روحيّة بتاريخ 11/08/1934).
نستنتج مما سبق أن من يُعانق الصَّليب بسخاء يتحوَّل ألمه إلى مصدر فرح، ويُثمر ثمار الخُصوبة الرَّعوية، كما يقول البابا فرنسيس "الخُصوبة الرَّعوية، خصوبة إعلان الإنجيل لا ننالها استنادا للنَّجاح أو الفَشل بحسب المعايير البشريّة، وإنَّما بالتَّمثُّل بمنطق صَليب يسوع أي بمنطق الخروج من الذات وبذْلها؛ وهذا هو منطق الحُبِّ"، لان " المَحَبَّة لا تَسْعى إلى مَنفَعَتِها " كما جاء في تعليم بولس الرسول (1قورنتس 13: 5)، وهذا الأمر اختبره بولس الرسول كما صرَّح بقوله " أَمَّا أَنا فمَعاذَ اللهِ أَن أَفتَخِرَ إِلاَّ بِصَليبِ رَبِّنا يسوعَ المسيح! وفيه أَصبَحَ العالَمُ مَصْلوبًا عِنْدي، وأَصبَحتُ أَنا مَصْلوبًا عِندَ العالَم"(غلاطية 6: 14).
ب) حمل الصَّليب: الزُّهْد في الدنيا
إن الصَّليب الذي ينبغي على تلميذ المسيح أن يحمله هو ليس علامة لزهده في نفسه فحسب، إنما لزهده في الدُّنيا أيضا؛ لا نقصد بكلمة الزُّهْد هنا التَّخلّي عن العادات السيّئة والخطايا والميول المنحرفة والخبرات غير الأخلاقية والإجهاض والطلاق والبُغض والعنف والسرقة... فالتَّخلّي عن هذه الأمور أمرٌ بديهيٌ تُعلنه جميع الدِّيانات، إنما المقصود هو التَّخلّي عمّا هو غالٍ ونفيسٍ من الأرضيّات التي يملكها التلميذ، ما هو عزيز على قلبه منها، وما هو متعلّق به شديد التعلّق. يتوجّب علي تلميذ المسيح أن يكون فقيراّ، غير متمسك بالمال لكي تظهر فيه قوة الرَّب.
التَّخلّي عن كلّ خيرٍ خارجيّ أو داخليّ هو صَليب مؤلم، وهو أكثر إيلامًا كلّما كان التعلّق أشدّ وأقوى. إن صَليب المسيح يفصل بين عالمي الجسد والروح، لأن التلميذ هو ذاته قد صُلب مع المسيح في المعمودية، إلى حد أنه قد مات ليحيا لله (غلاطية 2: 19)، ولم يَعدْ له أي تعلُّقٍ بالعَالَم، كما صرَّح بولس الرَّسول "أَمَّا أَنا فمَعاذَ اللهِ أَن أَفتَخِرَ إِلاَّ بِصَليبِ رَبِّنا يسوعَ المسيح! وفيه أَصبَحَ العَالَم مَصْلوبًا عِنْدي، وأَصبَحتُ أَنا مَصْلوبًا عِندَ العالَم "(غلاطية 6: 14). فالتلميذ الحقيقي يضع ثقته في قوة المسيح وحدها.
يتطلب حمل الصَّليب ترك ملذات العَالَم، لان المسيح لا يطالب تلميذه أن يكون من العالَم، بل أن يعيش الإنجيل ويعتبر متاع الحياة ثمنًا قليلا لملكوت الله، إنَّ تلميذ المسيح هو من يتمكن من القول مع بولس الرسول " فما أَنا أَحْيا بَعدَ ذلِك، بلِ المسيحُ يَحْيا فِيَّ" (غلاطية 2: 20)، التخلي عن الحياة لا يعني ازدراء الحياة الحاضرة، ولكن على التلميذ المسيح أن يتعلّم أن نحياها حقيقة برّوح الحرية وبدافع الحب، فيتمكن من تقديم جسده ذبيحة حيَّه، إذ صلب أهوائه مع شهواته، كما جاء في تعليم بولس الرسول "إِنِّي أُناشِدُكم إِذًا، أَيُّها الإِخوَة، بِحَنانِ اللّهِ أَن تُقَرِّبوا أَشْخاصَكم ذَبيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسةً مَرْضِيَّةً عِندَ الله. فهذِه هي عِبادَتُكمُ الرّوحِيَّة" (رومة 12: 1). ونتيجة لذلك، ينال تلميذ الرَّب تعزية في الأرض ومجد السماوات، وهذا الأمر أكّده السيد المسيح بقوله "مَن فَقَدَ حَياتَه في سبيلي يَحفَظُها" (متى 10: 39)؛ فمن يقبل هذا الصَّليب تكون له حياة، والمسيح يحيا فيه. وأمَّا من يتصوَّر أنه يجد حياته في ملذات العَالَم ناسيًا إلهه فهو يخسر حياته الأبدية، كما قال يسوع " مَن حَفِظَ حياتَه يَفقِدُها " (متى 10: 39). "ماذا يَنفَعُ الإِنسانَ لو رَبِحَ العَالَم كُلَّه وخَسِرَ نَفسَه؟ "(متى 16: 26).
ج) حمل الصَّليب: الزُّهْد في العلاقات الطبيعية
مَن تَعمّد أصبح مسيحيًا، والمسيحي يُصبح تلميذًا للمسيح عندما يتَّخذ المسيح معلمًا لحياته. والمسيحي لا يكون تلميذا للمسيح بشهادة العماد بل بشهادة الحياة أيضًا، وشهادة الحياة هي الالتزام. والالتزام يَستلزم قراراً، والقَرار يقوم بمحبة التَّلميذ الرَّب من كل قلبه. وكثيرًا ما يكون الإيمان بالمسيح سبب الاختلاف بين الأقارب فيضطرُّ الإنسان إلى الاختيار، إمَّا ترك أقاربه وإتِّباع المسيح، وإمَّا إتِّباع أقاربه وترك المسيح، وفي ذلك امتحان له يتبيَّن به أمؤمن هو بالحق أم لا. خلق الله الوالدين والأولاد حتى يُحب بعضهم بعضاً. فمن أصعب التَّجارب أن يترك الإنسان والديه أو أولاده لأجل المسيح.
والقرار هنا قد يُفرِّق بين الأصدقاء والأحبَّاء حيث إن البعض يتبعون يسوع، والبعض الآخر لا يتبعونه. فلا بدَّ أن ينشب الصراع. لذلك يُحذِّر يسوع تلاميذه من أن إتِّباعه سيخلق انقسامات وسوء فهم في مجالات عديدة من الحياة وحتى داخل حدود العائلة ذاتها، فعلى سبيل المثال كان المؤمن مُعرّضًا في أيام الاضطهاد لأن يُقتل، فتأتى أمه تستعطف ليترك الإيمان من أجل خاطرها، فيتركوه يحيا. لكن بهذا الأمر يصير حبُّه لأمِّه أكثر من حبِّه للمسيح، وبالتالي ينكر المسيح، وبهذا الإنكار يصبح غير مستحقَّا للمسيح.
تتطلب شهادة الحياة حمل الصَّليب وإتِّباع يسوع، لا يعني ذلك أن نهمل العائلة، لكن يجب ألاَّ نهمل دعوتنا لله، بل أن نضع الأولوية المُطلقة لله "مَن كانَ أَبوه أو أُمُّه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي. ومَن كانَ ابنُه أَوِ ابنَتُه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي. ومَن لم يَحمِلْ صَليبَه ويَتبَعْني، فلَيسَ أَهْلاً لي. (متى 10: 37). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " إن أحبَبْنا الرَّب من كل القلب يجدر بنا ألا نفضِّل عنه حتى الآباء والأبناء". حقًا إنَّ الله الذي أوصانا بالحُبِّ، جاء إلينا لكي يهبنا الحُبَّ نحوه ونحو الناس حتى الأعداء، ويريد منا ألاَّ نحبَّ أحدًا حتى حياتنا الزمنيّة إلا من خلاله. لذلك غير مطلوب منا أن نتخلى عن محبتنا للعائلة بل أن تستنير محبتنا هذه بمَحَبَّة المسيح التي هي مصدر مَحَبَّة العائلة التي تعطيها معنى أسمى. إذ أن حُبَّنا للمسيح يُمكّننا من حبّ العائلة بكل أمانة وإخلاص وتضحية.
أجل! يدعونا المسيح إلى مَحَبَّة العائلة، وهي وَصِيَّة من وصايا الله "أَكرِمْ أَباكَ وأُمَّكَ" (متى 15: 4)، ولكن عندما تكون هذه المَحَبَّة عائقًا في مَحَبَّة الله وخدمته تعالى، عندئذ العلاقة مع يسوع تُلغي العلاقة مع الوالدين ومع الأولاد. ويُعلق القديس ايرونيموس "يأمرنا الكتاب المقدّس بطاعة والدينا. نعم، ولكن من يُحبّهم أكثر من المسيح يخسر نفسه".
يسوع هو " الغيور " كما كان الله مع شعبه " أَنا الرَّب إِلهُكَ إِلهٌ غَيور" (خروج 20: 5)، الذي لا يريد أن يقاسمه أحد المكانة التي له في قلب التلاميذ. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " الله الذي يحبّنا كثيرًا جدًا يريد أن يكون مَحبوبًا منّا". وحين يستعدَّ التلميذ أن يخسر كل شيء من أجل المسيح، عندئذ يربح كل شيء. ولذلك يتوجب على كل إنسانٍ أن يختار حتى بين أقرب المُقرّبين إليه واعزّهم، وبين المسيح (متى 15: 4) حيث يكون للمسيح الأولوية. يتوجب على التلميذ أن يختار المسيح، لذا على باقي الأمور أن تترتب وفقا لهذا الاختيار. فالقضية هي قضية اختيار. يدعو يسوع تلاميذه إلى وجوب تفضيله على أعزَّ الأقارب (متى 10: 37)، وتفضيله أيضا على الراحة والصيت (متى 10: 38) تفضيله أخيرًا على الحياة نفسها (متى 10: 39).
3) مكافأة على حمل الصَّليب
يطلب يسوع من تلاميذه حَمْل الصَّليب من خلال الزُّهْد في الذات وفي الدنيا وفي والعلاقات الطبيعية من اجل اتباعه، لكنه بالمقابل يَعدهم بالمكافئات. في الماضي كان الصَّليب رمزًا للعقاب، أمّا اليوم فهو رمزُ الشرف. في الماضي كان الصَّليب جهالة، أمَّا اليوم فهو قوة الله (1 قورنتس 1: 18). في الماضي كان رمزًا للإدانة، أمّا اليوم فهو مبدأ الخلاص، لأنّه مصدر خيرات لا محدودة: لقد نجّانا من الخطيئة، وأنارَنا في الظلمات، وصالَحَنا مع الله. فالصَّليب دمار للكراهية، وضمانة للسلام، وكنز آلاف الخيرات، وفي هذا الصدد يقول الناسك الإنكليزي ريتشارد رول (نحو 1300-1349)" إن الرَّب يسوع المسيح ينادي من على الصَّليب بأعلى صوته. هو يقدّم السلام، ويتوجّه إليك، متمنياً أن يراك تعيش حياة حب" (نشيد المَحَبَّة).
الصَّليب صَالح َالبشر مع الله، وخلّص الأرض من الخطيئة ودمّر سلطان الشيطان، ووضع أسس الكنيسة وجعل من الأرض سماءً. وفي هذا الصدد يقول القدّيس أفرام السريانيّ (نحو 306 -373)، " المجد لك! فقد ألقيت صليبك جسرًا فوق الموت، فيعبره البشر من بلاد الموت إلى بلاد الحياة. المجد لك!" (عظة عن الرَّب).
من يقبل هذا الصَّليب تكون له الحياة، ويختبر أنَّ الصَّليب منذ الآن هو طريق الفرح العظيم العميق؛ فالصَّليب هو علامة مجد التلميذ "مَن أَرادَ أَن يَخدُمَني، فَلْيَتْبَعْني وحَيثُ أَكونُ أَنا يَكونُ خادِمي ومَن خَدَمَني أَكرَمَهُ أَبي" (يوحنا 12: 26). ويعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم (نحو 345 -407)، "إنّ الملكوت المقفل منذ آلاف السنوات قد فتحَه الصَّليب لنا "اليوم" كما صرّح يسوع للص اليمين " سَتكونُ اليَومَ مَعي في الفِردَوس"(العظة الأولى للجمعة العظيمة عن الصَّليب واللّص اليمين)
إكرام الله للتلاميذ ليس منحصرًا في الحياة الأبدية بل أيضا في الحياة الحاضرة. وفي هذا الصدد يقول القدّيس كيرِلُّس (313 -350)، " سيكون الخوف العلامة لأعداء الصَّليب. وسيكون الفرح العلامة لأصدقائه الذين آمنوا بالصَّليب أو بشّروا به أو تألّموا من أجله" (تعليم عن العماد).
يُكرم يسوع تلاميذه ورُسَله الذين يحملون صَليبه، ويعتبرهم وكلاءه وأنبياءه؛ وكل قبول لهم هو قبول له، وكل إكرام لهم هو إكرام له، وكل عطيّة تقدّم لهم، إنّما تقدّم له شخصيًا! كما أعلن: "مَن قَبِلَكم قَبِلَني أَنا، ومَن قَبِلَني قَبِلَ الَّذي أَرسَلَني" (متى 10: 40) وهذا الاختيار أو الالتزام يجب على التلميذ أن يقوم به أولا ثم يُشجّع الآخرين على القيام به بحضوره وعمله. والغريب إننا كثيرًا ما نخاف من الذي يُعيّنه البشر، ولا نخاف ممن يُعيّنه الله، فنحتقر من عيّنه الله ونذمّه ونهينه.
وتقاس مَحَبَّة الإنسان للمسيح بكيفية معاملته لتلاميذه "مَن قَبِلَ نَبِيّاً لأَنَّه نَبيٌّ فَأَجرَ نَبِيٍّ يَنال، ومَن قَبِلَ صِدِّيقاً لأَنَّه صِدِّيقٌ فَأَجرَ صِدِّيقٍ يَنال" (متى 10: 41)، والمثل الذي ذكره يسوع عن إعطاء كأس ماء بارد لأحد الصغار العطاش، "ومَن سَقى أَحَدَ هَؤلاءِ الصِّغارِ، وَلَو كَأسَ ماءٍ باردٍ لأَنَّه تِلميذ، فالحَقَّ أَقولُ لَكم إِنَّ أَجرَه لن يَضيع (متى 10: 42)، هو مثال طيب للخدمة الخالية من الأنانية، فالطفل الصغير لا يمكنه عادة أن يردّ الجميل، وبالتالي فالعمل موجَّه لله.
وبكلمة أخرى، إن التلميذ هو من اختار أن يكون للمسيح، وان يكون هو والمسيح واحدًا. وان يكون المسيح الأولوية في حياته واختياراته. تأتي مكانة المسيح فوق نفسه وأهله، وفوق النفس وأهوائها والدنيا ومتاعها. تلميذ المسيح يحمل كل يومًا صَليبه ويبذل في سبيله الحياة دونما تردُّدٍ أو حَياءٍ أو تحفظٍ؛ وبالمقابل الرَّب يُكرم التلميذ في الدُّنيا والآخرة، وخير مثال على ذلك الرَّسول بطرس الذي صُلِب من أجل المسيح؛ فكان الصَّليب طريقه نحو السّماء. ويعلق البابا فرنسيس "المسيحية بدون الصَّليب هي مسيرة تنتهي في منتصف الطريق".
الخلاصة
في ختام عظته الثانية الكبرى، يركِّز يسوع على ما هو ضروري للحياة المسيحية وخاصة الإرسالية. وبعد أن تحدّث يسوع مع تلاميذه عن اختيارهم له في المقام الأول في حياتهم، يوجّه أنظارهم إلى الجهاد الداخلي الذي يتمثل في حمل الصَّليب. فان التلميذ يواجه مقاومة في جسده وعاطفته حتى من أهل بيته. إنها جهاد عنيف، لأنَّه يتمُّ داخل النفس، ويُثيرها العدو ليُقسم الإنسان على نفسه، أو داخل بيته. فليس الأصدقاء يقفون ضد الإنسان بل حتى الأقرباء والأهل بسبب اختياره المسيح. يدعو يسوع إلى التخلي وعدم الانغلاق على الحب العائلة أو الآخر بل الانفتاح على حب الله
يطلب يسوع من تلاميذه مَحَبَّة شاملة ومُطلقة، تفوق محبتهم لدى الأهل والأقارب. وهذا هو الشرط الوحيد الذي يجعلنا نستحق أن نكون من تلاميذه. الله يقدّم هنا أولويته على الجميع، ولا يسمح لأحد بدخول القلب إلاَّ من خلاله فنكون أهلا لتلك المكافأة التي يتحدث عنها يسوع" مَن قَبِلَكم قَبِلَني أَنا، ومَن قَبِلَني قَبِلَ الَّذي أَرسَلَني" (متى 10: 40). لنكن تلاميذًا في اتباع يسوع ورسلًا في الإعلان، حاملين الصليب وجمال الإنجيل إلى كل مكان. الرسالة تلاميذ الرب فقيرة في نظر الناس ، لكنها عظيمة في نظر الله.
دعاء
أيها الآب السماوي، نسألك باسم ابنك يسوع المسيح، أن تمنحنا القوة كي نحبَّك فوق كل شيء فنحمل الصَّليب ونتبعك ونكون على مثال معلمنا الإلهي نورًا وبلسمًا للجروح التي لا تحصى والتي تمزّق البشرية اليوم. امنحنا النعمة أن نفقد حياتنا في سبيل المسيح على هذه الأرض كي نحفظها للحياة الأبدية. نسجد لك أيَّها المسيح ونباركك، لأنّك بصَليبك المُقدّسَ قد خلَّصت العَالَم. آمين
قصة: أرملة وصَليبها
لاحظت الأرملة الجميلة أولادها الصغار يهربون من أمام وجهها عندما تعود من عملها مرهقة للغاية. تساءلت في نفسها: لماذا أحمل هذا الصَّليب الثقيل؟ لقد مات زوجي الحبيب وأنا في ريعان شبابي تاركًا لي ثلاثة أطفال. وها أنا أكِدُّ وأشقي كل يوم، ولا تفارق العبوسة وجهي. كرهني الجميع حتى أطفالي، ولكن ما ذنبي؟ صَليبي أثقل من أن يحتمل!
ركعت الأرملة في إحدى الليالي تطلب من الله أن يأخذ نفسها منها. فان صَليبها لا يحتمل. فرأت في حلم أنَّها في غرفة مملوءة صلبانًا، بعضها كبير والآخر صغير، بعضها أبيض والآخر أسود، وقد وقف بجوارها السيد المسيح الذي تطلع إليها في حنو وقال لها: "لماذا تتذمرين؟ أعطني صَليبك الذي هو ثقيل عليك جدًا، واختاري لنفسك صَليبا من هذه الصلبان التي أمامك، لكي يسندك حتى تجتازي هذه الحياة. سمعت الأرملة هذه الكلمات. قدمت صَليبها بين يدي المسيح، ومدَّت يدها لتحمل صَليبًا صغيرًا يبدو أنه خفيف. لكن ما أن رفعته حتى وجدته ثقيلا للغاية. سألت عن هذا الصَليب، فأجابها السيد المسيح: " هذا صَليب شابة أصيبت بالفالج في سن مبكرة وستظل كسيحة كل أيامها، لا ترى الطبيعة بكل جمالها. ويندر أن يلتقي بها صديق يعينها أو يواسيها". تعجبت المرأة لما سمعته، وسألت السيد المسيح: "ولماذا يبدو الصَّليب صغيرًا وخفيفًا للغاية؟ أجابها السيد المسيح:" لأن صاحبته تقبلته بشكر، وتحملته من أجلي فتجده صغيرًا وخفيفًا للغاية".
تحرَّكت الأرملة نحو صَليب آخر يبدو أيضا صغيرًا وخفيفًا، لكنها ما أن أمسكت به حتى شعرت كأنها قطعة حديد ملتهبة نارًا. صرخت المرأة من شدَّة الحرق، وسقط الصَّليب من يدها. صرخت الأرملة: " لمن هذا الصَّليب يا سيدي؟ أجابها السيد المسيح: "انه صَليب سيدة زوجها رجل شرير للغاية، عنيف جدًا معها ومع أولادها. لكنها تحتمله بفرح وتصلي لأجل خلاص نفسه.
انطلقت نحو صَليب ثالث يبدو أيضا كأنَّه صغير وخفيف، لكن ما أن لمسته وجدته كقطعة جليد. صرخت: لمن هذا الصَّليب يا سيدي؟ أجابها: "هذا صَليب أم فقدت أولادها الستة. ومع كل ولد ينتقل ترفع قلبها إلى تطلب التعزية. وها هي تنتظر خروجها من العَالَم بفرح لتلتقي معهم في فردوس النعيم!". انطرحت الأرملة أمام مُخلصها وهي تقول: سأحمل صَليبي الذي سمحت لي به أن احمله. لكن ساعدنا أن احمله، أنت تحوُّل آلامي إلى عذوبة، أنت تحوِّل مرارتي إلى حلاوة، أنت الذي قلت "28تَعالَوا إِليَّ جَميعاً أَيُّها المُرهَقونَ المُثقَلون، وأَنا أُريحُكم. اِحمِلوا نيري وتَتَلمَذوا لي فإِنِّي وَديعٌ مُتواضِعُ القَلْب، تَجِدوا الرَّاحَةَ لِنُفوسِكم، 30لأَنَّ نِيري لَطيفٌ وحِملي خَفيف " (متى 11: 28-30).