موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١٤ ابريل / نيسان ٢٠٢٣

جمعة الموت على الصليب

بقلم :
بسام دعيبس - الأردن
ايتها الجمعة العظيمة: ما أرهبك وما أحزنك وما أقدسك

ايتها الجمعة العظيمة: ما أرهبك وما أحزنك وما أقدسك

 

" ثقبوا يدي ورجلي، إني أعد عظامي كلها " (مزمور ٢١)

 

 يا رب: ما أرهبها من ساعات عصيبة، سمروك على الصليب، وقد أحدقت بك زمرة من الاشرار، فتحوا عليك افواههم كالاسود المفترسة، كانوا ينظرون ويتفرسون فيك، كثيرون من اليهود مروا امام صليبك ولم يكترثوا ولم يعبأوا بمنظرك وانت تتألم وتتعذب، بل كانوا يمرون وهم يهزون الرؤوس ويستهزئون ويقولون: خلص آخرين ولم يقدر ان يخلص نفسه، واما الجنود الرومان الذين صلبوك كانوا غير مبالين، وكل ما كانوا يفكرون به هو ان يقترعوا على ثيابك ويقتسموها بينهم

 

وامام جحود هذا الشعب وعارهم، تجلت عظمتك يا رب، ففي غمرة آلامك على الصليب، التمست العذر لصاليبك، وطلبت لهم المغفرة من ابيك، لانهم لا يدرون ماذا يفعلون، فانت اتيت لا لتهلك احدا، بل لتخلص الناس جميعا، واستجبت الى لص اليمين، وكان الفردوس من نصيبه في نفس اليوم، كما كان قلبك مفعما بالمشاعر الرقيقة تجاه امك التي كانت ترافقك في مراحل درب الصليب، وعهدت بها الى يوحنا الحبيب، وان صرختك الهي الهي لماذا تركتني، تقودنا الى أن ألمك لم يكن وهميا او خياليا او ظاهريا، وانما هو ألم حقيقي، ونزاع حقيقي، وبدلا من ان يسقوك في عطشك ماء اسقوك خلا

 

عندما أخذ يسوع الخل، قال كل شي قد تم …

احتجبت الشمس، وانتشر الظلام على الارض كلها حتى الساعة الثالثة من بعد الظهر، وانشق الهيكل من الوسط، وصرخ يسوع صرخة شديدة ، يا أبتاه في يديك استودع روحي، وأمال رأسه واسلم الروح، وكانت تلك اخر كلمات يسوع على الصليب…

 

وهذا يدلنا دلالة واضحة على اتحاد يسوع الدائم بالآب وهو القائل انا والآب واحد، وقوله طعامي ان اعمل مشيئة الذي ارسلني، وقوله لامه في الهيكل عليّ ان اكون فيما هو لابي. كانت صرخة يسوع هذه صرخة ظفر وانتصار، ملؤها البهجة والاطمئنان، وكأني بيسوع يرى الآب مادا له ذراعيه، فنادى يسوع الآب في راحة وامان، في يديك استودع روحي

 

ثم اذ كان يوم التهيئة، فلئلا تبقى الاجساد على الصليب، سأل اليهود بيلاطس ان تكسر سوقهم ويذهب بهم، فجاء الجند وكسروا ساقي الاول والآخر الذي صلب معه، واما يسوع فلما انتهو اليه ورأوه قد مات، لم يكسروا ساقيه، لكن واحدا من الجند فتح جنبه بحربة، فخرج للوقت دم وماء، والذين عاين شهد، وشهادته حق وهو يعلم انه يقول الحق، لتؤمنوا انتم، كان هذا ليتم ما جاء في الكتاب لم يُكسر له عظم، وفي كتاب آخر سينظرون الى الذي طعنوه.

 

في الجمعة العظيمة، مات الحمل الوديع على الصليب، متمما مشيئة الآب، من أجلنا نحن البشر، ليمحي خطايانا، وليصالحنا مع أبيه السماوي، مات من أجل ان يحررنا من الخطيئة والشيطان، والناموس وشكليات الشريعة، وقساوة القلب والظلم، مات كأبهى صورة للحب الكامل، والعطاء الكامل، كما قال يوحنا الحبيب " ليس حب أعظم من ان يبذل الانسان نفسه عن أحبائه" مات يسوع دون ان يدافع عنه أحد، وهو الذي دافع عن اشد الخطأة لتتحقق نبوءة اشعيا… "دست المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي احدا "، مات على الصليب متمما  النبوءات، ومدمرا مملكة الشيطان، وفاديا للبشرية

 

نعم انها جمعة الظلام... الاعداء تآمروا عليك يا رب، واسلموك للموت ، والاحباء خافوا وهربوا ، لكن ظهرت وسط هذا الظلام نفوس مضيئة تستحق ان نحييها، نحيي القديسة العذراء، ويوحنا الحبيب ومريم المجدلية واخت مريم العذراء، ونحيي ايضا القديس يوسف الرامي، والقديس نيقوديموس الذي اشترك في تكفينك، كما نحيي سمعان القيرواني، وقائد المئة الذي شهد وقال كان هذا ابن الله، كما نحيي لص اليمين الذي انتهر زميلة واعترف بك ملكا، كما نحيي من الطبيعة الشمس التي اظلمت والقبور التي تشققت وحجاب الهيكل الذي انشق

 

نعم انها جمعة اختلاء وصلاة على موت المسيح، والكنيسة كلها في حداد وكآبة لموت عريسها الالهي، والمذابح عارية من كل زينة ومجردة من كل ما عليها، ولا تقرع الاجراس ولا يستعمل البخور، ويلبس الكهنة ثيابا سوداء اوبنفسجية، وتتلى الصلوات من أجل الكنيسة، والحبر الاعظم، وجميع مراتب المؤمنين واحتياجاتهم، والسلطات المدنية، والموعوظين، ومن اجل وحدة الكنيسة وغيرها من الصلوات

 

"هوذا عود الصليب الذي عُلق عليه خلاص العالم، فلنسجد له"

والان وبعد أن تم الخلاص والفداء واستطاع نسل المرأة أن يسحق راس الحية، وبعد أن استطاع يسوع ان يدمر ممكلة الشيطان، وبعد ان اكتمل الصلح بين الله والانسان، الا يجدر بنا أن نتأمل بتوبة وخشوع هذا الحدث العظيم، وبمراحل درب الصليب، وبأقوال يسوع على الصليب، ونسجد عند قدميه خاشعين تائبين، طالبين المغفرة، مرددين مع القديس بولس: " حاشا لنا ان نفتخر الا بصليب ربنا يسوع المسيح فهو خلاصنا وهو حياتنا هو فدانا وحررنا".

 

أود ان اقتبس بعضًا مما كتبه جبران خليل جبران في مثل هذا اليوم في كتابه العواصف عام ١٩٢٠ عن يسوع المصلوب: "ما عاش يسوع مسكينًا خائفًا، ولم يمت شاكيًا متوجعًا، بل عاش ثائرًا، وصلب متمردًا، ومات جبارًا. لم يكن يسوع طائرًا مكسور الجناحين، بل كان عاصفة هوجاء تكسر بهبوبها جميع الأجنحة المعوجة. لم يجىء يسوع من وراء الشفق الأزرق ليجعل الألم رمزًا للحياة، بل جاء ليجعل الحياة رمزًا للحق والحرية. لم يخف يسوع مضطهديه، ولم يخش أعداءه، ولم يتوجع أمام قاتليه، بل كان حرًا على رؤوس الأشهاد، جريئًا أمام الظلم والاستبداد، يرى البثور الكريهة فيبضعها، ويسمع الشر متكلمًا فيخرسه، ويلقي الرياء فيصرعه".

 

ايتها الجمعة العظيمة: ما أرهبك وما أحزنك وما أقدسك، فيك نسجد لك ايها المسيح ونمجدك لانك بصليبك المقدس خلصتنا وخلصت العالم، ونصلي قائلين: ربي والهي يسوع المسيح، يا من علقت على الصليب اّية للناس وراية للخلاص، انظر الى شعبك المتألم في فلسطين وشرقنا العربي والعالم بأسره، نجهم من ويلات الحروب والحصار والدمار، وانشر عدلك وسلامك في الارض كلها، كفكف بجراحاتك الثمينة ودمك الطاهر دموع الحزانى والمعذبين، المقهورين والمظلومين، اشفي المرضى والمتألمين، ساعد الفقراء والمحرومين، تحنن على المحتاجين الى رحمتكَ وكل حاملي الصليب ورائك، وأعطهم من صلابتك وعزيمتك كما كنت على الصليب قوة، ليتغلبوا بها على مصائب الحياة، وليعلموا ان الصليب هو الباب الضيق الذي يؤدي اليك، وانفض عنا جميعا غبار البغض والكراهية والحقد والانقسام، وابعث فينا الحياة من جديد، واملأنا بالمحبة والفضيلة والايمان والرجاء

 

يا رب: ساعدنا كي لا تكون علاقتنا بك مادية كيهوذا، ومصلحة شخصية كبيلاطس، ومتقلبة كالشعب اليهودي، والا ننكرك كما انكرك بطرس، والا نهرب كما هرب التلاميذ، بل زدنا ايماننا وثباتا، واجعلنا نحمل الصليب ونتبعك، ونعلن رجائنا المسيحي وانتمائنا لك، واتحادنا بك، وان نكون شهودا صادقين لقيامتك المجيدة، واضعين انفسنا في حماية الصليب من الشرور والاعداء، والامراض، مدركين ان رسم اشارة الصليب تعني النصر والقيامة، وانك ختمتنا بختمك وحميتنا بصليب المقدس.