موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٣ أغسطس / آب ٢٠٢٢

جاء يسوع ليُلقي النار والانقسام على الأرض

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد العشرون من زمن السنة: جاء يسوع ليُلقي النار والانقسام على الأرض (لوقا 12: 49-53)

الأحد العشرون من زمن السنة: جاء يسوع ليُلقي النار والانقسام على الأرض (لوقا 12: 49-53)

 

النص الإنجيلي (لوقا 12: 49-53)

 

49 ((جِئتُ لأُلِقيَ على الأَرضِ ناراً، وما أَشدَّ رَغْبَتي أَن تَكونَ قدِ اشتَعَلَت! 50 وعَلَيَّ أَن أَقبَلَ مَعمودِيَّةً، وما أَشَدَّ ضِيقي حتَّى تَتِمّ! 51 ((أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئتُ لأُحِلَّ السَّلامَ في الأَرْض؟ أَقولُ لَكُم: لا، بَلِ الِانقِسام. 52 فيَكونُ بَعدَ اليَومِ خَمسَةٌ في بَيتٍ واحِدٍ مُنقَسمين، ثَلاثَةٌ مِنهُم على اثنَينِ واثنانِ على ثَلاثَة: 53 سيَنقَسِمُ النَّاسُ فيَكونُ الأَبُ على ابنِه والابنُ على أَبيه، والأُمُّ على بِنتِها والبِنتُ على أُمِّها، والحَماةُ على كَنَّتِها والكَنَّةُ على حَماتِها)).

 

 

مقدمة

 

يتناول لوقا الإنجيلي (لوقا 12: 49-53) هدف رسالة يسوع على الأرض هو إلقاء النار والانقسام على الأرض. وقد يتعثر بعض المؤمنين لقراءة هذا النص على لسان يسوع.  وفي الواقع تكمن رسالته في إلقاء النار والانقسام من أجل الحفاظ على الإيمان، وذلك من خلال تنقية وامتحان قيمةَ عَمَلِ كُلِّ واحِد من أتباعه، حيث يفرض الموقف خياراً جذريا إمَّا إتباع يسوع مسيحا وسيدا ومخلصا وإمّا رفضه، وليس هناك حل وسط؛ ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 12: 49-53)

 

49 جِئتُ لأُلِقيَ على الأَرضِ ناراً، وما أَشدَّ رَغْبَتي أَن تَكونَ قدِ اشتَعَلَت!

 

تشير عبارة "جِئتُ لأُلِقيَ على الأَرضِ ناراً" إلى الرب الذي جاء ليفصل بواسطة النار بين الخير والشر، بين ما هو صالح وغير صالح. ويعلق البابا فرنسيس "بهذا المعنى جاء الرب ليُحلّ الانقسام، ويخلق أزمة – بطريقة سليمة – في حياة التلاميذ، وليكسر أوهام من يعتقدون أن بإمكانهم التوفيق بين الحياة المسيحية والحياة الدنيوية وشتى أنواع المساومات، بين الممارسات الدينية والمواقف حيال القريب بين التدين واللجوء إلى العرافين والسحرة، وهذا ليس من عند الله" (صلاة التبشير الملائكي). أمَّا عبارة "جِئتُ" فتشير إلى نتائج رسالة يسوع أكثر إلى من هدفها.  لا يريد يسوع أن يدعي أنه جاء ليُدمر الإنسان ويخلق الانقسام، بل يرغب يسوع في تطهير باطننا من خلال كلمته التي ستُظهر مَن معه ومَن ضده، كما جاء في تعليم بولس الرسول "سيَظهَرُ عَمَلُ كُلِّ واحِد، فيَومُ اللّه سيُعلِنُه، لأَنَّه في النَّارِ سيُكشَفُ ذلِك اليَوم، وهذِه النَّارُ ستَمتَحِنُ قيمةَ عَمَلِ كُلِّ واحِد" (1 قورنتس 3: 13). أمَّا عبارة "نار" فتشير إلى رمز تطهير المؤمنين بفعل الروح القدس (متى 3: 11)، حيث أن النار تُطهِّر وتُنقِّي، كما قيل عن أشعيا النبي إن واحدًا من الملائكة طهَّر شفتيه بجمرة من النار (أشعيا 6: 6-7). لقد حفظ التقليد الروحي رمز النار هذا كأفصح تعبير عن عمل الروح القدس: "لا تُخمِدوا الرُّوح" (تسالونيقي 5: 19).  وترمز النار أيضا إلى الغضب والهلاك اللتان ترافقان دينونة الله والعقاب في الأزمنة الأخيرة كما جاء في نبوءة أشعيا "لِأَنَّ الرَّبَّ بِالنَّارِ والسَّيفِ يُحاكِمُ كُلَّ بَشَر" (أشعيا 66: 15) ويوضَّح ذلك بولس الرسول بقوله " في لَهَبِ نار ويَنتَقِمُ مِنَ الَّذينَ لا يَعرِفونَ الله ولا يُطيعونَ بِشارةَ رَبِّنا يسوع " (2 تسالونيقي 1: 8) ويُعلق القديس أمبروسيوس بقوله "سيأتي الرب في نار لحرق كل الرذائل في يوم القيامة ويملأ بوجوده تمنيات كل مؤمنيه، ويُشرق بنوره على الأعمال والسرائر". وأخيرًا ترمز النار إلى الحروب والمقاومات " لا تَستَغرِبوا الحَريقَ الَّذي أَصابَكم لامتِحانِكم، كَأَنَّه أمْرٌ غَريبٌ حَلَّ بِكُم"(1 بطرس 4: 12).  وأمَّا لوقا الإنجيلي فيفكر هنا خاصة في معمودية الروح والنار التي بدأت في العنصرة (لوقا 3: 16)، فالنار ترمز هنا إلى عمل الروح القدس في قلب الإنسان، وقد قال يوحنا المعمدان عن السيد المسيح " إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار" (لوقا 3: 16). ويُروي لوقا الإنجيلي حلول "الروح القدس" بهيئة ألسنة نارية (أعمال الرسل 2: 3)؛ هذه النار هي نار حبّه، نار الروح القدس الذي وعدنا به بعد قيامته من بين الأموات والذي أضرم قلوب الرسل بالغيرة المقدسة فخرجوا إلى العالم يحملون بشراه السارة. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "أراد يسوع بهذا أن يقدَّم لنا تلميذًا مملوء حرارة ونارًا، مستعدًا لاحتمال كل خطر". وهذه الاستعارة تدلُّ في نظره على عمل الروح المُطهِّر، وكما تحوّل النار كل ما تمسَّه، كذلك ‏يحوّل الروح القدس إلى حياة إلهية كل ما يلمسه، وذلك تحقيقا لِما تنبأ به ملاخي النبي "يَأتي فَجأَةً إلى هَيكَلِه السَّيِّدُ الَّذي تَلتَمِسونَه ...فمَنِ الَّذي يَحتَمِلُ يَومَ مَجيئه ومَنِ الَّذي يَقِفُ عِندَ ظهورِه؟ فإِنَّه مِثلُ نارِ السَّبَّاك. فيَجلِسُ سابِكاً ومُنَقِّياً الفِضَّة" (ملاخي 3: 1-3). وفي هذه النار تذوبُ كلّ نزوات عالمنا. والنار قد ترمز أيضًا إلى كلمة الله "أَلَيسَت كَلِمَتي كالنَّار، يَقولُ الرَّبّ" إلى إرميا النبي (إرميا 23: 29)؛ "فهاءَنَذا أَجعَلُ كَلِماتي في فَمِكَ ناراً وهذا الشَّعبَ حَطَباً فتَلتَهِمُه " (إرميا 5: 14)؛ وفي المقابل، وقد قال ارميا النبي عن كلام الرب إليه " كانَ في قَلْبي كنارٍ مُحرِقَة" (ارميا 20: 9). لكن الشعب رفض كلمته النبويّة التي صارت كالنار الإلهية ورفضوه بسبب "كلمة الله". لذلك لم يستطع أن يصمت، على الرغم من الإيذاء الذي أصابه من اليهود حينما أنذرهم بالكلمة. ويُعلق القديس كيرلس بقوله "النار هنا هي رسالة إنجيل الخلاص وقوَّة وصاياه". هذه هي عادة الكتاب المقدَّس الإلهي المُوحى به أنه يلقب الكلمات الإلهيَّة المقدَّسة أحيانا باسم "نار"، لإظهار فاعلية الروح القدس وقوَّته. يجب علينا أن نفحص ضمائرنا وأفعالنا، ونخضع لأنفسنا لنيران كلمة الله المُوحى بها. والنار قد ترمز أخيراً إلى المحبة، "وقيل في ذلك " المِياهُ الغَزيرةُ لا تَستَطيعُ أَن تُطفِئَ الحُبّ" (نشيد الأناشيد 8: 7). وقيل أيضًا " ويَزْدادُ الإِثْم، فتَفتُرُ المَحَبَّةُ في أَكثرِ النَّاس" (متى 24: 12).  وهذه النار ترمز هنا إلى حب الآب وإرادته لخير كل إنسان. وأمَّا عبارة " وما أَشدَّ رَغْبَتي أَن تَكونَ قدِ اشتَعَلَت!" فتشير إلى اشتياق يسوع بتعميد العالم بناره، لكي تنتشر رسالته التي جاء من أجلها، لأنه كان يعلم أنّ إنجيله لا يدخل العالم إلاّ أنْ يحتمل هو أشد الآلام من ناحية، ويكون إنجيله عِلَّة مقاومة لتلاميذه وانقسام واضطهاد وإيقاد نيران الحروب.  وان لا خلاص ولا انتصار ولا تطهير للعالم من دنس الخطيئة إلاَّ بها.  هذا ما حاول أن يعبّر عنه يوستينس الشهيد (القرن الثاني)، لمّا استخدم صورة النار في وصفه معمودية يسوع، بقوله: "عندما نزل يسوع إلى الماء اشتعلت نار في الأردن". وبينما يتحدث يسوع عن النار، يذكر تلك التي تحترق داخله، وبطريقة ما تؤدي إلى موته في النهاية، وهو عمل لا يتهرب يسوع منه. وهذه النار هي حب الآب وإرادته لخير كل إنسان. كما تشير أيضا إلى النار التي اضطرمت في قلوب التلاميذ، فعبّروا عن ذك بقولهم: "ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا إذ كان يكلمنا في الطريق ويوضح لنا الكتب؟" (لو 24: 32)، هذه النار الإلهيَّة التي أشعلت عظام الأنبياء، كما قال إرميا: كانَت في قَلْبي كنارٍ مُحرِقَة قد حُبِسَت في عِظامي فأَجهَدَني آحتِمالُها ولَم أَقْوَ على ذلك" (إرميا 20: 9). ويُعلق القديس أمبروسيوس "ربَّما لأجل هذا سيأتي الرب في نار (أشعيا 46: 15-16) ليَحرق كل الرذائل في القيامة ويملأ بوجوده اشتياق كل أحد من مؤمنيه ويُشرق بنورِه على الأعمال والسرائر" وأمَّا القديس يوحنا الذهبي الفم فيصرِّح بقوله "يعلن يسوع عن التهاب الحب وحرارته الذي يطلبه فينا. فكما أحبَّنا كثيرًا جدّا هكذا يريدنا أن نحبُّه نحن أيضًا".

 

50   وعَلَيَّ أَن أَقبَلَ مَعمودِيَّةً، وما أَشَدَّ ضِيقي حتَّى تَتِمّ!

 

عبارة "مَعمودِيَّةً" في الأصل اليوناني βάπτισμα (تعني التغطيس والغسيل والصبغة) تشير عند اليهود إلى الاغتسال من اجل الطهارة قبل الأكل أو قبل الصلاة (يهوديت 12: 7، لوقا 11: 38). أمَّا يسوع المسيح فلا يشير هنا إلى المعمودية التي تقبّلها في الأردن، وإنما إلى آلامه وموته على الصليب (متى 20: 22) الذي كان حدثُ الأردن صورة عنه. فالمعمودية تعني الآلام التي ستُكتمل في بستان الجسمانية وموته على الصليب من أجل خطايا العالم كما أوضح ذلك للتلميذين يوحنا ويعقوب "إِنَّكُما لا تَعلَمانِ ما تَسألان. أَتَستَطيعانِ أَن تَشرَبا الكأسَ الَّتي سأَشرَبُها، أَو تَقبَلا المَعمودِيَّةَ الَّتي سَأَقبَلُها" (مرقس 10: 38). لذلك يتوجب على الكنيسة الآن مشاركة المسيح في صبغة الآلام. ويُعلق القديس كيرلس الكبير بقوله " يقصد يسوع بمعموديته موته بالجسد"، وهي دينونة لتطهير شعبه. الدينونة بالماء مرتبطة بالدينونة بالنار (لوقا 17: 26-29). ومن الأرجح، أن لوقا البشير ينظر إلى هذه المعمودية نظره إلى أصل المعمودية المسيحية لغفران الخطايا كما أوضح بطرس الرسول "توبوا، وَلْيَعتَمِدْ كُلٌّ مِنكُم بِاسمِ يسوعَ المَسيح، لِغُفْرانِ خَطاياكم، فتَنالوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ القُدُس"(أعمال الرسل 2: 38) وهنا المعمودية تعتبر عمل غطس الإنسان في حدث الخلاص، الغطس في يسوع، لأن الخلاص الشامل هو في يسوع المسيح المائت والقائم من الموت؛ أمَّا عبارة "وما أَشَدَّ ضِيقي حتَّى تَتِمّ!" في الأصل اليوناني πῶς συνέχομαι ἕως ὅτου τελεσθῇ (معناها كيف أتشوق إلى أن تُكمل) فتشير إلى المعنى المجازي أي الآلام والفداء. والواقع كان يسوع بين امرين متضادين: فان يسوع كان يشتهي أن يكمِّل عمل الفداء بموته من أجل الخطأة من ناحية، وكانت طبيعته البشرية تنفر من هذه الآلام من ناحية أخرى، كما هي حال بولس الرسول الذي قال "وأَنا في نِزاعٍ بَينَ أَمرَين: فلِي رَغبَةٌ في الرَّحيل لأَكونَ مع المسيح وهذا هو الأَفضَلُ جِدًّا جِدًّا، غَيرَ أَنَّ بَقائي في الجَسَدِ أَشَدُّ ضَرورةً لَكم" (فيلبي 1: 23). ويُعلق القديس ايرونيموس "هي معموديّة الآلام " (شرح لإنجيل القدّيس متّى، 3). إن معمودية يسوع هي صورة معموديتنا التي تحملنا لندخل في حياة الله ونتحد به بواسطة صليب آلام الجسدية والروحية معًا.

 

51 أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئتُ لأُحِلَّ السَّلامَ في الأَرْض؟ أَقولُ لَكُم: لا، بَلِ الِانقِسام.

 

تشير عبارة "أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئتُ لأُحِلَّ السَّلامَ في الأَرْض؟" إلى المسيحُ هو السلامُ وقد أتى لِيُصالحَ كلَّ موجودٍ ممّا في الأرضِ وممّا في السنوات (قولسي 1: 20). فكيف نفهمُ ما قالَه المخلِّص نفسه في الإنجيل: "لا تظنّوا أنّي جئتُ لأحمِلَ السلام إلى الأرض"؟  يُعلق اوسابيوس القيصريّ لاهوتي ومؤرِّخ" هل يمكن للسلام أن يمنحَ غير السلام؟ عندما أرسلَ الله ابنَه، كان مهمّته التي كان يجب أن يقوم بها ارتكزَتْ على إحلال السلام كما في السماء كذلك على الأرض. إذًا، لماذا لم يحلّ السلام؟ بسبب ضعف أولئك الذين لم يستطيعوا تقبّل إشعاع النور الحقيقي " (في كلمة السيد المسيح: "لا تظنّوا أنّي جئتُ لأحمِلَ السلامَ إلى الأرض"). أمَّا عبارة "أَتَظُنُّونَ" إلى سؤال يسوع لتلاميذه لإزالة توقع انتصار ملكوت المسيح المجيد من أفكارهم دون المقاومة والآلام، كأنه قال " لا تظنوا". أمَّا عبارة "السَّلامَ" فتشير إلى السلام البشري والسهل الذي حلم به الأنبياء الكذّابون كما وصفه ارميا النبي “يُداوونَ كَسرَ شَعْبي بِآستِخْفاف قائلين: سَلامٌ سلام، ولا سَلام". (أرميا 6: 14)؛ أمَّا سلام المسيح فلا يعني غياب الخطر فقط، بل هو مثال للعلاقة الصحيحة مع الله، التي تظهر ثمارها في العلاقات الاجتماعية العادلة والازدهار الفردي والجماعي؛ هذا المثال الأعلى سيُحقِّقه السيد المسيح كما جاء في نبوءة زكريا النبي عن السيد المسيح "فقَد ظَهَرَ لِلمُقِيمينَ في الظُّلمَةِ وَظِلالِ الـمَوت لِيُسَدِّدَ خُطانا لِسَبيلِ السَّلام" (لوقا 1: 79)؛ أمَّا عبارة "الانقسام" فتشير إلى كلمة التناقض والخصام والنزاعات والسيف. ويُعلق اوسابيوس القيصريّ لاهوتي ومؤرِّخ " آمنَتْ تلك الفتاة وبقيَ والدها غير مؤمن. بما أنّ مجرّد الدعوة إلى السلام تؤدي إلى الانقسام، "فأيّ شركةٍ بين المؤمن وغير المؤمن؟" (2 قورنتس 6: 15). يصبح الابن مؤمنًا ويبقى الوالد غير مؤمن. لا مفرّ من التناقض. حيث يُعلَن السلام، يحلّ الانقسام. لكنّه انقسام خلاصيّ، لأنّ خلاصَنا هو من خلال السلام " (في كلمة السيد المسيح: "لا تظنّوا أنّي جئتُ لأحمِلَ السلامَ إلى الأرض"). ويرمز الانقسام إلى السيف في إنجيل متى "لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئتُ لأَحمِلَ السَّلامَ إلى الأَرض، ما جِئتُ لأَحمِلَ سَلاماً بل سَيفاً " (متى 10: 34). يظهر يسوع بوجه جديدٍ لم نعهده من قبل. ولكن بالواقع، كلمة السيف جاءت هنا كاستعارة للتعبير عن الانقسام من أجل الإيمان به وعن الصّعوبات، الّتي ستلاقي مَن يُؤمن به. وقد تنبّأ سمعان الشيخ: " ها إِنَّه جُعِلَ لِسقُوطِ كَثيرٍ مِنَ النَّاس وقِيامِ كَثيرٍ مِنهُم في إِسرائيل وآيَةً مُعَرَّضةً لِلرَّفْض" (لوقا 2: 35).  وانقسم اليهود على المسيح، لأنهم كانوا يريدون مَلكًا أرضيًا يُنقذهم من حكم الرومان. لكنه قال لهم "لَيسَت مَملَكَتي مِن هذا العالَم" (يوحنا 18: 36)؛ وهكذا قام ضد المسيح كهنة اليهود وشيوخهم والكتبة والفِريسيون والصَدوقيُّون. فالموقف من أجل الملكوت يفرض خياراً جذريا يوجّه حياة المؤمن. وقد تتمزق أواصر العلاقات حين يختار البعض إتِّباع يسوع بينما يرفضه البعض الآخر. فليس هناك حل وسط. وفي الواقع، بعد أن أتى يسوع إلى العالم انقسم الناس فورًا إلى قسمين كأنّ سيفًا قاطعًا نزل بينهم: الذين قبلوا يسوع مسيحًا وسيّدًا، والذين رفضوه، والانقسام حاصل أوّلاً داخل الأسرة حيث يقف محبّو يسوع أمام مُبغضيه (لوقا 12: 52)، لأنّه كما تنبأ عند سمعان أمام أمِّه مريم " ها إِنَّه جُعِلَ لِسقُوطِ كَثيرٍ مِنَ النَّاس وقِيامِ كَثيرٍ مِنهُم في إِسرائيل وآيَةً مُعَرَّضةً لِلرَّفْض" (لوقا 2: 34). والسيف هنا هو سيف الانقسام بين المؤمن وغير المؤمن، سيف التفريق بين الحق والباطل، وليس سيف الحرب والعداوة، كما صرّح يسوع لبطرس "إِغمِدْ سيفَك، فكُلُّ مَن يَأخُذُ بِالسَّيف بِالسَّيفِ يَهلِك" (متى 26: 52). وأقول لكم "أَحِبُّوا أَعداءَكم وصَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم" (متى: 5: 44). وبالتالي لا يقصد يسوع بالسيف الغزو والسلب والنهب والقتل (متى 26: 52). وفي الواقع، لم يكن الانقسام صادرًا من السيد المسيح، بل كان صادرًا من رفض الإنسان للإيمان الذي نادى به المسيح. وهكذا أنذر السيد المسيح تلاميذه، بأن انقسامًا لا بُدّ من حدوثه.

 

52   فيَكونُ بَعدَ اليَومِ خَمسَةٌ في بَيتٍ واحِدٍ مُنقَسمين، ثَلاثَةٌ مِنهُم على اثنَينِ واثنانِ على ثَلاثَة:

 

تشير عبارة "خَمسَةٌ" إلى الأب والابن، والأم والبنت، والكنة مع انه ورد في الآية اللاحقة (لوقا 12: 53) ستة أشخاص (الأب والابن وألام والبنت والحماة وكنتها)، إذ يحتمل أن تكون الأم والحماة شخصًا واحدًا، كوْن والدة الابن هي حماة زوجته. أمَّا عبارة "مُنقَسمين" فتشير إلى الانقسامات في العلاقات الأسرية الأكثر عمقًا والأكثر ارتباطًا، والى الانقسام في باطن الإنسان ذاته.  والجدير بالذكر أنَّ التلمود اليهودي يذكر انه في زمن مجيء المسيح (بحسب انتظار اليهود) سيكون جيلا تنتشر فيه الانقلابات بين العائلة الواحدة (الولد ضد أبيه والأم ضد ابنتها والكنّة أي زوجة الابن ضد حماتها، وهو تماما ما قال السيد المسيح لدى مجيئه سوف يؤمن به بعض أفراد العائلة الواحدة ويرفضه البعض الآخر. أن وجود المسيح سيلزمنا بأخذ موقف واضح وصريح: إمّا أن نكون معه أم لا! ضمن العائلة الواحدة هناك من يكون معه، وهناك من يكون لا مبالي، وهناك من يكون ضده بوضوح.  حضور المسيح يمثل حضور الله وسطنا كالنار، وهذا الحضور يقتضي أخذَ موقفٍ إزاءه.

 

53 يَنقَسِمُ النَّاسُ فيَكونُ الأَبُ على ابنِه والابنُ على أَبيه، والأُمُّ على بِنتِها والبِنتُ على أُمِّها، والحَماةُ على كَنَّتِها والكَنَّةُ على حَماتِها.

 

تشير عبارة "سيَنقَسِمُ النَّاسُ" إلى الانقسام في العائلات بحسب التقليد النبوي، وهو علامة الضيق وصورة من صور الشِدَّة في آخر الأزمنة كما تنبا ميخا النبي "فإِنَّ الِآبنَ يَستَخِفُّ بِأَبيه والابنة تَقومُ على أُمِّها والكَنَّةَ على حَماتِها فيَكونُ أَعْداءَ الإِنْسانِ أَهلُ بَيتِه" (ميخا 7: 6). فالعلاقة مع يسوع والإيمان به تقسم إذا دعت الحاجة بين الوالدين وأولادهم كما جاء في تعليم المسيح" فيكونُ أَعداءَ الإِنسانِ أَهلُ بَيتِه. مَن كانَ أَبوه أو أُمُّه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي. ومَن كانَ ابنُه أَوِ ابنَتُه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي."(متى 10: 36-37). فحين يستعدَّ المؤمن أن يخسر كل شيء من أجل إيمانه بالمسيح، عندئذ يربح كل شيء. لذا ينبغي على كل إنسان أن يختار حتى من بين أقرب المُقرَّبين إليه وأعزهم، من جانب، وبين المسيح من الجانب الآخر؛ ويعلق القديس قبريانس "إن أحببنا الرب من كل قلوبنا يجدر بنا ألا نفضِّل عنه حتى الآباء والأبناء.

 

 

ثانياً: تطبيق النص الإنجيلي (لوقا 12: 49-53)

انطلاقا من تحليل وقائع النص الإنجيلي (لوقا 12: 49-53)، نستنتج انه يتمحور حول النار والانقسام؛ ومن هنا نتساءل حول مفهوم النار والانقسام التي جاء بهما يسوع إلى الأرض؟ وما هو موقفنا تجاه يسوع الذي يلقي النار والانقسام؟

 

1) ما معنى النار التي يرغب المسيح أن يلقيها على الأرض؟

 

"إِنَّ إِلهَنا نارٌ آكِلَة"، يقول لنا الكتاب المقدس (العبرانيين 12: 29؛ التثنية 4: 24). واستخدم يسوع صورة النار التي ألقاها يلقي على الأرض هي النار التي يريد إشعالها في كل قلوبنا. قال يسوع: "جِئتُ لأُلِقيَ على الأَرضِ ناراً، وما أَشدَّ رَغْبَتي أَن تَكونَ قدِ اشتَعَلَت!" (لوقا 12: 49). ترمز النار في العهد الجديد إلى الروح القدس وإلى الدينونة.

 

ا) النار رمز الروح القدس:

 

يرمز الماء إلى الولادة وخصب الحياة التي يهبها الرُّوح القدس، والنار ترمز إلى قدرة أعمال الرُّوح القدس المحوِّلة. فالنبي إيليّا الذي أنزل نار السماء على ذبيحة جبل الكرمل (1ملوك 18: 38) هي صورة نار الرُّوح القدس الذي يحوّل جميع ما يلمسه. ويوحنّا المعمدان بشّر بالرّب يسوع المسيح معلنًا أنّه هو "مَنْ سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار" (لوقا 3: 16)، هذا الرُّوح الذي قال عنه الرّب يسوع: "جِئتُ لأُلِقيَ على الأَرضِ ناراً، وما أَشدَّ رَغْبَتي أَن تَكونَ قدِ اشتَعَلَت!" (لوقا 12: 49). إنها النار التي تشير إلى حضور الله وسط البشر معلنة وجه تعالى كمثل النار الملتحفة بالعليقة المشتعلة بسيناء (خروج 3: 6)، نار تحترق في داخل الإنسان دون أن تُدمِّره بل لتُغيّره.  فيقصد لوقا الإنجيلي بذلك أّنَّ يسوع يلقى النار المقدسة في القلوب. فتطهرها، وتشعلها بالغيرة المقدسة لبناء ملكوت الله على الأرض. ويُعلق البابا فرنسيس "إنَّ النار التي سيلقيها يسوع على الأرض هي نار تطلب منا التغيير: أن نغيّر أسلوبنا في التفكير، وأسلوبنا في الإصغاء". إنها نار تحرق مشاعر القلب الباطلة، وتنقّي الروابط العائلية لتكون مرضية لدى الله.

 

وقد حلّ الرُّوح القدس على التلاميذ في صباح العنصرة، وملأهم منه (أعمال الرسل 2: 3-4) وبهيئة "أَلسِنَةٍ كأَنَّها مِن نارٍ"، لقد حفظ التقليد المسيحي رمز النار هذا كأفصح تعبير عن عمل الرُّوح القدس كما جاء في رسائل بولس الر سول: "لا تُخمِدوا الرُّوح" (1تسالونيقي 5: 19).

 

جاء السيد المسيح لإلقاء نار الروح القدس علينا، ويريد هذه النار أن تكون مضطرمة في داخلنا. وبفضل ذبيحة المسيح أضرمت النار العالم وأوقدت هذه النار قلبَي تلميذي عماوس وصَدرهما (لوقا 24: 32)، ويعلّق القديس ايرونيموس على ذلك بقوله "هذه هي النار التي اضطرمت في قلوب التلاميذ، فألزمتهم بالقول: أمَّا كانَ قلبُنا مُتَّقِداً في صَدرِنا، حينَ كان يُحَدِّثُنا في الطَّريق ويَشرَحُ لنا الكُتُب؟" ولكن كثيرون سيقاومونها، فينقسمون على ذواتهم حيث يقبلون كلام يسوع في أمر ما، ويرفضونه في أمر آخر، ويعملون به في موقف ما، ويهملونه في موقف آخر، بل وينقسمون على بعضهم البعض، فمنهم من يؤيد تعليمه، ومنهم من يرفضه.

 

نستنتج مما سبق، لا انتشار لملكوت يسوع بغير تحمُّل الآلام وقبول المقاومة من الذات أو من الآخرين. لكن يسوع لن يتراجع عن رسالته مهما طفحت الآلام، بل تحمّل الآلام من أجل خلاصنا، وقد عبّر يسوع عن ذلك بقوله " وعَلَيَّ أَن أَقبَلَ مَعمودِيَّةً، وما أَشَدَّ ضِيقي حتَّى تَتِمّ! (لوقا 12: 50). وبحسب قول أوريجانوس "من اقترب من يسوع اقترب من النار، ومن ابتعد عن يسوع ابتعد عن الملكوت".

 

ومختصر القول، ما يقصده السيد المسيح انه سيُلقي نار الروح القدس في القلوب، فتُطهرها، وتشعلها بالغيرة المقدسة لبناء ملكوت الله على الأرض. هذه النار قابلتها نار أخرى من أعداء الإيمان التي تحاول إبادتها. وهكذا اشتعلت الأرض نارًا، كانت نتيجتها إبادة الوثنية، بعد اضطهادات تحمَّلها المسيحيون. فهناك إذن نار اشتعلت في قلوب المؤمنين، ونار أخرى اشتعلت من حولهم. وكانت الأولى من الله، والثانية من أعدائه. والسيد المسيح نفسه تعرض لهذه النار المُعادية، لذلك قال بعد هذه الآية مباشرة، يشير إلى آلامه المستقبلية، " وعَلَيَّ أَن أَقبَلَ مَعمودِيَّةً، وما أَشَدَّ ضِيقي حتَّى تَتِمّ! " (لوقا 12: 50). كان يسوع يرغب أن يكون مغمورا بمياه الموت. ومن هنا يوصينا الراهب إسحَق السريانيّ بقوله لكل مسيحي: "جاهِدْ، وابذُلْ جهدَكَ للاقتداء بتواضع الرّبّ يسوع المسيح، بغية أن تشتعل أكثر فأكثر النار التي ألقاها فيك، هذه النار التي بها تذوبُ كلّ نزوات عالمنا هذا التي تُدمِّرُ الإنسان الجديد، والتي تُدنِّسُ هياكل الربّ القدّوس والقويّ. إنّني أؤكِّدُ مع القدّيس بولس إنّنا "نَحنُ هَيكَلُ اللَّهِ الحَيّ " (2 قورنتس 6: 16). فَلنُطهِّر إذًا هيكلَه هذا، " كما أَنَّه هو طاهر" (1يوحنا3: 3). ويعلق البابا فرنسيس" بالتشبّه بالمعلّم الإلهي، أنتم مدعوون أيضًا لتحملوا النار الصالحة والمقدسة إلى العالم، نار المحبّة التي تطهّر القلوب والتي انبثقت من صليب المسيح. إنها نار الروح القدس الذي نزل بقوّة في العنصرة. نار من يفصل الذهب عن المعادن الأخرى أي من يساعد على تمييز ما يصلح للأبد وما لا قيمة له" (عظة البابا 10/2/2018).

 

ب) النار رمز الدينونة:

 

لا ترمز النار في العهد الجديد إلى الروح القدس فحسب، بل ترمز أيضا إلى الدينونة والنقاء والحكم. يكفي أن نفكر في قول يعقوب ويوحنا ليسوع: «يا ربّ، أَتُريدُ أَن نَأمُرَ النَّارَ فتَنزِلَ مِنَ السَّماءِ وتَأكُلَهم؟» (لوقا 9: 54) وهذا الأمر يذكرنا مصير مدينتي سدوم وعمورة (التكوين 19: 24).

 

فإن يسوع، مع رفضه القيام بدور الديَّان، فقد أبقى سامعيه في ترقب نار الدينونة، فهو يتكلم عن نار جهنم (متى 5: 22)، والنار التي تحرق الزؤان "كما أَنَّ الزُّؤانَ يُجمَعُ ويُحرَقُ في النَّار، فكذلك يكونُ عِندَ نِهايَةِ (متى 13: 40)، والنار الذي تحرق الأغصان “مَن لا يَثْبُتْ فيَّ يُلْقَ كالغُصنِ إلى الخارِجِ فَيَيْبَس فيَجمَعونَ الأَغْصان وَيُلْقونَها في النَّارِ فَتَشتَعِل" (يوحنا 15: 6)، وهي نار لن تطفأ (مرقس 9: 43-44)، أَتُّونِ النَّار (متى13: 42).

 

وليست تلك الرموز إلا صدى علنياً لما جاء به العهد القديم " ولكِن يَومَ خَرَجَ لوطٌ مِن سَدوم، أَمطَرَ اللهُ ناراً وكِبريتاً مِنَ السَّماء فأهلَكَهم أَجمَعين" (لوقا 17: 29). وتُمثل النار دينونة الآخرة (أشعيا 66: 15-16). فالنار تَمتحِن الذهب (زكريا 13: 9). وتُصهر المعادن (ملاخي 3: 2) وتُضطرم كالتنّور (ملاخي 4: 1)؛ وكانت النار الإلهية تنزل إلى البشر إمَّا للانتقام للقداسة الإلهية، كما حدث في إبادة سدوم وعمورة (تكوين 19: 24)، وإمَّا للتطهير (عاموس 4:11، أشعيا 6: 6)؛ وإمَّا لإنزال العقاب (عاموس 1: 4).

 

استخدم بولس الرسول النار في وصفه لآخر الأزمنة "يَومَ يَأتي الرب يسوع مِنَ السَّماءِ تُواكِبُه مَلائِكَةُ قُدرَتِه في لَهَبِ نار ويَنتَقِمُ مِنَ الَّذينَ لا يَعرِفونَ الله ولا يُطيعونَ بِشارةَ رَبِّنا يسوع" (2 تسالونيقي 1: 7-8)؛ وتُظهر الرسالة إلى العبرانيين ما سيكون من ظهور النار المرعب، التي ستلتهم العصاة المُتمردين كما ورد في رسالة إلى العبرانيين "انتِظارٌ رَهيبٌ لِلدَّينونة ونارٌ مُستَعِرَةٌ تَلتَهِمُ العُصاة"(عبرانيين 10: 27).

 

وأستخدم بطرس الرسول النار في تطهير الإيمان "يُمَتَحَنُ بِها إِيمانُكم وهو أَثمَنُ مِنَ الذَّهَبِ الفاني الَّذي معَ ذلك يُمتَحَنُ بِالنَّار، فيَؤُولُ إلى الحَمْدِ والمَجْدِ والتَّكرِمَة عِندَ ظُهورِ يسوعَ المسيح"(1 بطرس 1: 7)؛ كما يستخدمها في امتحان الحياة المسيحية الواقعة تحت الاضطهاد "لا تَستَغرِبوا الحَريقَ الَّذي أَصابَكم لامتِحانِكم، كَأَنَّه أمْرٌ غَريبٌ حَلَّ بِكُم" (1 بطرس 4: 12)، يمحّص النار العمل الرسولي  كما يصرح بولس الرسول" ومَنِ احتَرَقَ عَمَلُه كانَ مِنَ الخاسِرين، أَمَّا هو فسيَخلُص، ولكِن كمَن يَخلُصُ مِن خِلالِ النَّار"(1 قورنتس 3: 15).

 

نستنتج مما سبق أنَّ النار في نظر يسوع هي دينونة إلهيّة قائمة على شريعة الحب. لان يسوع لم تكُن لديه سوى الرغبة في أن يُلهِبَ قَلبَ العالَم بتلكَ النار التي تُطّهر وتُضيء وتمنح الدفيء، قد قال بحزنٍ عميق: "لا تظنّوا أنّي جِئتُ لأُلقي سلامًا، لا، بل سيف الانقسام " لكل إنسان فاسد يرفضه، ولكل من يعيش في الظلام، ولكل إنسان بارد أو فاتر.

 

2)  ما معنى الانقسام الذي جاء السيد المسيح ليُحلَّه في الأرض؟

 

رنَّم الملائكة في مولد المسيح نشيد السلام في الأرض (لوقا 2: 14). وردَّد تلاميذه رسالة السلام وهم يواكبون المسيح عند دخوله منتصراً إلى اورشليم (لوقا 19:38)، وبتحيته " اذهب بسلام" أعاد يسوع الصحة إلى المراءة نازفة الدم (لوقا 8: 48)، وغفر خطايا الخاطئة النادمة (لوقا 7: 50) مؤكدا انتصاره على قوة المرض والخطيئة. ونشر التلاميذ إلى أقاصي العالم السلام الموعود به " تُعلَنُ بِاسمِه التَّوبَةُ وغُفرانُ الخَطايا لِجَميعِ الأُمَم، اِبتِداءً مِن أُورَشَليم"(لوقا 24: 47)، لان الله قد أعلن السلام بيسوع المسيح إذ جعله "ربا للعالمين " إذ أُوليَ كُلَّ سُلطانٍ في السَّماءِ والأَرض" (متى 28: 18).

 

وهنا أتى سيدنا يسوع بتصريح وكأنه يناقض رسالة السلام "أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئتُ لأُحِلَّ السَّلامَ في الأَرْض؟ أَقولُ لَكُم: لا، بَلِ الِانقِسام." (لوقا 12: 51). وجاء هذا التصريح ليَقلب هذا العالم راساً على عقب. فهو يُثير الانقسام حتى داخل الأسر (لوقا 12: 52 -53)، فيما بين من هم معه، ومن هم عليه. "سَيُسلِمُ الأَخُ أَخاهُ إلى الموت، والأَبُ ابنَه، ويَثورُ الأَبناءُ على والِدِيهم ويُميتونَهم، ويُبغِضُكم جَميعُ النَّاسِ مِن أَجلِ اسمي. والَّذي يَثبُتُ إلى النِّهاية فذاكَ الَّذي يَخلُص. وإِذا طارَدوكم في مدينةٍ فاهرُبوا إلى غَيرِها. الحَقَّ أَقولُ لكم: لن تُنُهوا التَّجْوالَ في مُدُنِ إِسرائيل حتَّى يأتيَ ابنُ الإِنسان. (متى 10: 16-23)؛ انه جُعل "آيَةً (علامة) مُعَرَّضةً لِلرَّفْض" (لوقا 2: 34).

 

وكما حدث في العهد القديم حيث تحمل ارميا النبي من الألم والاضطهاد بسبب أمانته لله وثمرة ابتعاد الإنسان عن الله (ارميا 38: 4-10)، كذلك أنَّ ما يحدث من انقسام واضطهاد في العهد الجديد هو سبب إيمان البعض بالمسيح ورفض البعض الآخر في نفس البيت أو نفس المجتمع، فالسيف هنا ليس سيف الحرب، بل سيف الانقسام بين المؤمن وغير المؤمن، سيف التفريق بين الحق والباطل. ولم يكن الانقسام صادرًا من السيد المسيح، بل كان صادرًا من رفض الإنسان للإيمان الذي نادى به المسيح. وهكذا أنذر السيد المسيح تلاميذه، بأن انقسامًا لا بدَّ من أن سيحدث. لذلك من أجل المسيح تقوم جماعة على جماعة، والأسرة على الأسرة والإنسان على أخيه الإنسان، والإنسان على ذاته. وقد أعلن " مَن لم يَكُنْ مَعي كانَ علَيَّ " (لوقا 11: 23).

 

وأن التلاميذ في حملهم لرسالة المسيح، لا يدعوهم إلى الرفاهية، بل إلى الصدام مع الانقسام. لذلك قال لهم "تُعانونَ الشِدَّةَ في العالَم" (يوحنا 16: 33)، "تأتي ساعةٌ يَظُنُّ فيها كُلُّ مَن يَقتُلُكم أَنَّهُ يُؤَدِّي للهِ عِبادة" (يوحنا 16: 2) "إِذا أبغَضَكُمُ العالَمُ فَاعلَموا أَنَّه أَبغَضَني قَبلَ أَن يُبغِضَكم" (يوحنا 15: 18). لقد وقف سيف الانقسام ضد المسيحية، لم يكن منها، وإنما عليها.

 

وفي الواقع، لم يكتفِ يسوع بتوجيه التهديدات التي نطق بها الأنبياء ضد كل أمان خادع (لوقا 17: 26-36) بل إنه يفرِّق بين أعضاء الأسرة الواحدة بين المؤمن وغير المؤمن. ولذلك فإن يسوع لم يُعكرِّ على هذا النحو إلا سلاماً وهمياً أو سلاماً طبيعياً محضاً، لأنه أتى "ليجمع المتفرقين" "أَنَّ يسوعَ سيَموتُ عَنِ الأُمَّة، ولا عنِ الأُمَّةِ فَقَط، بل لِيَجمَعَ أيضاً شَمْلَ أَبناءِ اللهِ المُشَتَّتين"(يوحنا 11: 52)، و"ليقهر البغض"، وليُحطِّم الحدود التي تفرِّق، وليقيم السلام الحقيقي بين الناس، وذلك بأن يجعلهم أبناء آبٍ واحد، وأعضاء جسدٍ واحد، يُحييهم روح واحد كما جاء في تعليم بولس الرسول "فإِنَّه سَلامُنا، فقَد جَعَلَ مِنَ الجَماعتَينِ جَماعةً واحِدة وهَدَمَ في جَسَدِه الحاجِزَ الَّذي يَفصِلُ بَينَهما، أَيِ العَداوة" (أفسس2: 14).

 

وعلى حد قول أحد شعراء المسيحيين "لم يأتِ المسيح ليلاشي الحرب، بل ليُضيف سلاماً آخر، ألا وهو السلام الفصحي الذي يعقب الانتصار النهائي" حيث عبّر عنه يسوع بعد قيامة بقوله للرسل "بَينَما هُما يَتَكَلَّمان إِذا بِه يقومُ بَينَهم ويَقولُ لَهم: السَّلامُ علَيكُم!" (لوقا 24: 36).

 

ويرى يوحنا الإنجيلي سلام يسوع في حضوره بين تلاميذه "السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم. لا أُعْطي أَنا كما يُعْطي العالَم" (يوحنا 14: 27). ولم يَعد هذا السلام مرتبطاً بحضوره على هذه الأرض بل يتعلّق بانتصاره على العالم (يوحنا 20: 19-23). فسلام المسيح هو ثمرة ذبيحته "قُلتُ لَكم هذِه الأَشياء لِيكونَ لَكُم بيَ السَّلام. تُعانونَ الشِدَّةَ في العالَم ولكن ثِقوا إِنِّي قد غَلَبتُ العالَم" (يوحنا 16: 33)؛ وسلام المسيح هو ثمرة الروح (غلاطية 5: 22). فكل مؤمن بيسوع المسيح يحيا به في سلام مع الله " فكما أَنَّه بِمَعصِيَةِ إِنسانٍ واحِدٍ جُعِلَت جَماعةُ النَّاسِ خاطِئَة، فكَذلِكَ بِطاعةِ واحِدٍ تُجعَلُ جَماعةُ النَّاسِ بارَّة" (رومة 5: 19). ولا يمكن للقاء مع الرب إلاَّ وأن يُغيّرنا ويمنحنا سلامه.

 

3) موقفنا تجاه يسوع الذي يلقي النار والانقسام

 

جاء يسوع لكي يلقي النار وليُحل الانقسام في الأرض، إذ ترتبط النار هنا بالدينونة، فتمرّ على أعمالنا فتنقّيها كما تنقّي المعادن. ويتوجب على المؤمن أن يتخذ قراره فيبدّل حياته "سيَظهَرُ عَمَلُ كُلِّ واحِد، فيَومُ اللّه سيُعلِنُه، لأَنَّه في النَّارِ سيُكشَفُ ذلِك اليَوم، وهذِه النَّارُ ستَمتَحِنُ قيمةَ عَمَلِ كُلِّ واحِد" (1 قورنتس 3: 12-13). وهكذا جاء يسوع ليحلّ الانقسام في الأرض. ولم يكن الرب يسوع في قوله هذا يشجع عصيان الوالدين، أو الصراع في البيت، بل أراد أن يُبيِّن أن وجوده يستلزم قراراً، وحيث أنَّ البعض سيتبعونه، والبعض الآخر لن يتبعوه، فلا بدَّ أن ينشب صراع.

 

قد يفرق الالتزام المسيحي بين الأصدقاء والأحباء، فإن، قيَّمنا وأهدافنا لا بدَّ أن تفصلنا عن الآخرين كي نحمل صليبنا ونتبعه بحيث يكون الله الأولوية المطلقة في حياتنا. ولا يمكن قبول الرب إن لم نرضَ عن أعماله، وهي أعمال النار التي تُنقّي وتحرق جميع مشاعر التعلق الأرضية التي يتعلق بها القلب، وجميع الثروات والكنوز الباطلة.

 

يريد يسوع أن يكون الله في المرتبة الأولى وبعد هذا تأتي محبَّة الوالدين. ينبغي أن نفضِّل ما لله، لأنه إن كان للوالدين أيَّة حقوق، ينبغي أن نضع من وهبنا الوالدين (أي الله) في المرتبة الأولى كما جاء في قوله تعالى "مَن كانَ أَبوه أو أُمُّه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي" (متى 10: 37). الله لا يمنعنا عن محبَّة والدينا، إنما عن تفضيلهما على الله، فالعلاقة الطبيعيَّة هي من بركات الرب، فلا يليق أن يحبَّ الإنسان العطيَّة أكثر من واهب العطيَّة وحافظها خاصة في موضوع الإيمان.

 

ونستنتج مما سبق أنه حين يأخذ أحد أفراد العائلة موقفا تجاه يسوع على مستوى الإيمان، فهو مدعو أن يتبعه في الضيق والاضطهاد. وهذا الاضطهاد يُسمِّيه يسوع الانقسام. إذ ينقسم غير المؤمنين في البيت على الذي قَبِلَ الإيمان حتى يصل لدرجة أنهم يقتلوه، لأنه قبل الإيمان بالمسيح. فأتباع المسيح تُسبِّب له الضيقات كما جاء في سفر الرؤيا "هؤُلاءِ هُمُ الَّذينَ أَتَوا مِنَ الشَدَّةِ الكُبْرى، وقَد غَسَلوا حُلَلَهم وبَيَّضوها بِدَمِ الحَمَ" (رؤيا 7: 14). وإذا كان الاضطهاد يؤدي إلى عدم السلام الخارجي، لكن السيد المسيح يملأ قلب المؤمنين بسلامه. ومن يقبل المسيح في داخل قلبه يكون في قلبه سلام كما اكّد السيد المسيح " قُلتُ لَكم هذِه الأَشياء لِيكونَ لَكُم بيَ السَّلام. تُعانونَ الشِدَّةَ في العالَم ولكن ثِقوا إِنِّي قد غَلَبتُ العالَم" (يوحنا 16: 33).

 

ومن هذا المنطلق، يتطلب الإيمان بالمسيح أحيانا الانقسام، وذلك حين يختار البعض إتِّباع المسيح بينما يرفض البعض الآخر ذلك. ليس هناك حل وسط في موقفنا تجاه المسيح. إمَّا أن نكون مع المسيح، وإمَّا أن نكون عليه (لوقا 11: 23). فهل نحن مستعدُّون أن نجعل نُصب عيوننا "مُبدِئِ إِيمانِنا ومُتَمِّمِه، يسوعَ الَّذي، في سَبيلِ الفَرَحِ المَعْروضِ علَيه، تَحَمَّلَ الصَّليبَ مُستَخِفًّا بِالعار" (عبرانيين 12: 2)؟ حياة المسيحي هي صورة لحياة المسيح، وبالتالي عليه مقاومة مكايد الشرير والشر والخطيئة حتى بذل الدم كما يوصي صاحب الرسالة إلى العبرانيين " فإِنَّكم لم تُقاوِموا بَعدُ حتَّى بَذْلِ الدَّمِ في مُجاهَدَةِ الخَطيئَة "(عبرانيين 12: 4).

 

ليكُن كلّ مسيحيّ، على مِثال مُعلّمه يسوع وعلى خُطى البابا فرنسيس غير خائفٍ من أن يكون «آية مُعرّضة للرفض» (لوقا 2: 45) وألاّ يتردّد بأن يكون ناراً تُضيء وتٌنَقّي، بغَضّ النظر عما يُمكن أن تكون النتائج. "فإِنَّكم لم تُقاوِموا بَعدُ حتَّى بَذْلِ الدَّمِ في مُجاهَدَةِ الخَطيئَة"(عبرانيين 12:4). وقد وجّه البابا فرنسيس إلى الشباب في القدّاس الختامي للأيّام العالميّة للشبيبة هذه الكلمات: "اذهبوا بدون خوف، للخدمة، اذهبوا، وألقوا نارًا على الأرض، تكون قادرة على إشعال نار مصابيح أُخر".  في هذا الصدد تذكر حوار لإرمياء نبي مع الله:" قالَ لَيَ الرَّبّ: لا تَقُلْ “إنِّي وَلَد “فإنَّكَ لِكلِّ ما أُرسِلُكَ لَه تَذهَب وكُلَّ ما آمُرُكَ بِه تَقول. لا تَخَفْ مِنُ وُجوهِهم فإِنِّي مَعَكَ لِأُنقِذَكَ، يَقولُ الرَّبّ ثُمَّ مَدَّ الرَّبّ يَدَه ولَمَسَ فَمي وقالَ لِيَ الرَّبّ: هاءنَذا قد جَعَلتُ كلامي في فَمِكَ. أُنظُرْ، إِنِّي أَقَمتُكَ اليَومَ على الأُمَمِ وعلى المَمالِك لِتَقلَعَ وتَهدِم وتُهلِكَ وتَنقُض وتَبنِيَ وتَغرِس» (ارميا 1: 6-10). مَن يقبل رسالة الرّبّ اليوم عليه بالصمود وبقبول التطهير المسموح من الرّبّ في حياته الخاصة.

 

 

الخلاصة

 

إن يسوع الذي نراه في هذا الإنجيل يختلف كثيرًا عن يسوع المسالم الذي يصوره البعض. يسوع لم يكن باحثًا عن المسالمة والطبطبة بأي ثمن. إنما قال " جِئتُ لأُلِقيَ على الأَرضِ ناراً، وما أَشدَّ رَغْبَتي أَن تَكونَ قدِ اشتَعَلَت!" (لوقا 12: 49). فما يقصده السيد المسيح انه سيلقي النار المقدسة في القلوب لتطهيرها، وإشعالها بالغيرة المقدسة لبناء ملكوت الله على الأرض. وكما تحوّل النار كل ما تمسه، كذلك يحوّل الروح القدس إلى حياة إلهيَّه كل ما يلمس.

 

وقابلت هذه النار الإلهية نار العالم المعادية من أعداء الإيمان التي حاولت إبادته. لذلك قال بعد هذه الآية مباشرة، يشير إلى آلامه المستقبلية، “وعَلَيَّ أَن أَقبَلَ مَعمودِيَّةً، وما أَشَدَّ ضِيقي حتَّى تَتِمّ!؟" (إنجيل لوقا 12: 50). وهذه المعمودية هي معمودية آلامه وموته. ويسوع المسيح لن يتراجع عن أن يشهد لنفسه مهما صبغته الآلام، بل سيحتمل آلامه حتى يكمل فداؤنا.

 

أمَّا قول الرب "أتظنون أني جئتُ لأُعطي سلاماً على الأرض. كَلاَّ، أقول لكم، بل انقساماً"(لوقا 12: 51) مع أن المسيح هو سلامنا (أفسس 2: 15،14)، لكن الانقسام الذي جاء به المسيح يصدر عن الإيمان بالمسيح الذي يتطلب أن يزهد الإنسان بذاته وبشهوات هذا العالم وشهوة الجسد وشهوة العين وكبرياء الغنى (1 يوحنا 2: 16)، كما يتطلب أيضا إن ينقسم الإنسان على أخيه الإنسان وعلى عائلته إذا وقفوا عائقا لإيمانه. وهذا ما أعلنه المسيح: "مَن كانَ أَبوه أو أُمُّه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي. ومَن كانَ ابنُه أَوِ ابنَتُه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي" (متى 10: 37).

 

وبعبارة أخرى، ليس الانقسام صادر عن يسوع المسيح، بل عن الإنسان الذي يرفض الإيمان به. بعد أن أتى المسيح انقسم الناس إلى قسمين الذين قبلوا يسوع مسيحًا وسيّدًا، والذين رفضوه. فلم يكن الانقسام من المسيح، وإنما عليه. ولذلك علينا أن نلتهب بنار حب الله لنكون من تلاميذ السيد المسيح الصامدين أمام رفض كلمة الله.

 

 

دعاء

 

أيها الآب السماوي، نطلب إليك باسم يسوع المسيح الذي اشتاق إلى تغيير العالم أن تجعل نار محبّتك تشتعل في قلوبنا كيّ نتمكّن من تكريس ذواتنا لك بالكامل وفوق أيّ شيء آخر، ونشعل في العالم من حولنا بشعلة محبتك. آمين