موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٧ أغسطس / آب ٢٠١٩

جاء يسوع ليُلقي النار والانقسام على الأرض

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين

يتناول لوقا الإنجيلي (لوقا 12: 49-53) رسالة يسوع على الارض التي تكمن في القاء النار والانقسام من اجل الايمان لينقِّي ويمتحن قيمةَ عَمَلِ كُلِّ واحِد من أتباعه، بحيث يفرض الموقف خياراً جذريا إمَّا إتباع يسوع مسيحا وسيدا ومخلصا وإمّا رفضه، وليس هناك حل وسط؛ ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته. اولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 12: 49-53) 49 جِئتُ لأُلِقيَ على الأَرضِ ناراً، وما أَشدَّ رَغْبَتي أَن تَكونَ قدِ اشتَعَلَت! تشير عبارة "نار" في نظر يسوع الى تلك النار التي ترافق دينونة الله في الأزمنة الأخيرة كما جاء في نبوءة اشعيا "لِأَنَّ الرَّبَّ بِالنَّارِ والسَّيفِ يُحاكِمُ كُلَّ بَشَر" (اشعيا 66: 15)، حيث ان النار تُطهِّر وتُنقِّي، كما قيل عن اشعيا النبي إن واحدًا من الملائكة طهر شفتيه بجمرة من النار. (أشعيا 6: 6-7). ويُعلق القديس أمبروسيوس بقوله "سيأتي الرب في نار ليحرق كل الرذائل في يوم القيامة ويملأ بوجوده تمنيات كل مؤمنيه، ويُشرق بنوره على الأعمال والسرائر". وأمَّا لوقا الانجيلي فيفكر في معمودية الروح والنار التي بدأت في العنصرة (لوقا 3: 16)، فالنار ترمز هنا إلى عمل الروح القدس في قلب الإنسان، وقد قال يوحنا المعمدان عن السيد المسيح " إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار" (لوقا 3: 16). ويُروي لوقا الإنجيلي حلول "الروح القدس" بهيئة ألسنة نارية (اعمال الرسل 2: 3)؛ هذه النار هي نار حبّه، نار الروح القدس الذي وعدنا به بعد قيامته من بين الأموات والذي أضرم قلوب الرسل بالغيرة المقدسة فخرجوا إلى العالم يحملون بشراه السارة. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " أراد يسوع بهذا أن يقدَّم لنا تلميذًا مملوء حرارة ونارًا، مستعدًا لاحتمال كل خطر". وهذه الاستعارة تدلُّ في نظره على عمل الروح المطهِّر، وكما تحوّل النار كل ما تمسَّه، كذلك ‏يحوّل الروح القدس الى حياة الهية كل ما يلمس قدرته، وذلك تحقيقا لِما تنبأ به ملاخي النبي " يَأتي فَجأَةً إِلى هَيكَلِه السَّيِّدُ الَّذي تَلتَمِسونَه ...فمَنِ الَّذي يَحتَمِلُ يَومَ مَجيئه ومَنِ الَّذي يَقِفُ عِندَ ظهورِه؟ فإِنَّه مِثلُ نارِ السَّبَّاك. فيَجلِسُ سابِكاً ومُنَقِّياً الفِضَّة" (ملاخي 3: 1-3). وفي هذه النار تذوبُ كلّ نزوات عالمنا. والنار قد ترمز أيضًا إلى كلمة الله "أَلَيسَت كَلِمَتي كالنَّار، يَقولُ الرَّبّ" الى إرميا النبي (إرميا 23: 29)؛ "فهاءَنَذا أَجعَلُ كَلِماتي في فَمِكَ ناراً وهذا الشَّعبَ حَطَباً فتَلتَهِمُه " (إرميا 5: 14)؛ وفي المقابل، وقد قال ارميا النبي عن كلام الرب إليه " كانَ في قَلْبي كنارٍ مُحرِقَة" (ارميا 20: 9). لذلك لم يستطع أن يصمت، على الرغم من الإيذاء الذي أصابه من اليهود حينما أنذرهم بالكلمة. ويُعلق القديس كيرلس بقوله "النار هنا هي رسالة إنجيل الخلاص وقوَّة وصاياه". هذه هي عادة الكتاب المقدَّس الإلهي المُوحى به أنه يلقب الكلمات الإلهيَّة المقدَّسة أحيانا باسم "نار"، لإظهار فاعلية الروح القدس وقوَّته. يجب علينا أن نفحص ضمائرنا وأفعالنا، ونخضع لأنفسنا لنيران كلمة الله الموحى بها كما جاء في تعليم بولس الرسول "سيَظهَرُ عَمَلُ كُلِّ واحِد، فيَومُ اللّه سيُعلِنُه، لأَنَّه في النَّارِ سيُكشَفُ ذلِك اليَوم، وهذِه النَّارُ ستَمتَحِنُ قيمةَ عَمَلِ كُلِّ واحِد (1 قورنتس 3: 13). والنار قد ترمز أخيراً الى المحبة، "وقيل في ذلك " المِياهُ الغَزيرةُ لا تَستَطيعُ أَن تُطفِئَ الحُبّ" (نشيد الاناشيد 8: 7). وقيل أيضًا " ويَزْدادُ الإِثْم، فتَفتُرُ المَحَبَّةُ في أَكثرِ النَّاس " (متى 24: 12). ويعلق البابا فرنسيس "إنَّ النار التي سيلقيها يسوع على الأرض هي نار تطلب منا التغيير: أن نغيّر أسلوبنا في التفكير، وأسلوبنا في الإصغاء". وأمَّا عبارة " وما أَشدَّ رَغْبَتي أَن تَكونَ قدِ اشتَعَلَت!" فتشير الى اشتياق يسوع بتعميد العالم بناره، هذا ما حاول أن يعبّر عنه يوستينوس الشهيد (القرن الثاني)، لمّا استخدم صورة النار في وصفه معمودية يسوع، بقوله: "عندما نزل يسوع إلى الماء اشتعلت نار في الأردن". وبينما يتحدث يسوع عن النار، يذكر تلك التي تحترق داخله. حتى يسوع، داخله نار تحترق، وبطريقة ما تؤدي إلى موته في النهاية، وهو عمل لا يتهرب يسوع منه. وهذه النار هي حب الآب وإرادته لخير كل إنسان. كما تشير أيضا الى النار التي اضطرمت في قلوب التلاميذ، فعبّروا عن ذك بقولهم: "ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا إذ كان يكلمنا في الطريق ويوضح لنا الكتب؟" (لو 24: 32)، هذه النار الإلهيَّة التي أشعلت عظام الأنبياء، كما قال إرميا: كانَ في قَلْبي كنارٍ مُحرِقَة قد حُبِسَت في عِظامي فأَجهَدَني آحتِمالُها ولَم أَقْوَ على ذلك" (إرميا 20: 9). ويُعلق القديس أمبروسيوس "ربَّما لأجل هذا سيأتي الرب في نار (اشعيا 46: 15-16) ليحرق كل الرذائل في القيامة ويملأ بوجوده اشتياق كل أحد من مؤمنيه ويشرق بنوره على الأعمال والسرائر" وأمَّا القديس يوحنا الذهبي الفم فيصرِّح بقوله "يعلن يسوع عن التهاب الحب وحرارته الذي يطلبه فينا. فكما أحبَّنا كثيرًا جدّا هكذا يريدنا أن نحبُّه نحن أيضًا". 50 وعَلَيَّ أَن أَقبَلَ مَعمودِيَّةً، وما أَشَدَّ ضِيقي حتَّى تَتِمّ! عبارة " مَعمودِيَّةً " في الأصل اليوناني ???????? (تعني التغطيس والغسيل والتبليل) تشير عند اليهود الى الاغتسال من اجل الطهارة قبل الاكل او قبل الصلاة (يهوديت 12: 7، لوقا 11: 38). أمَّا يسوع المسيح فلا يشير هنا إلى المعمودية التي تقبّلها في الأردن، وإنما إلى موته على الصليب الذي كان حدثُ الأردن صورة عنه. وكان يعني بالمعمودية الآلام التي ستُكتمل في بستان الجسمانية وموته على الصليب من أجل خطايا العالم كما أوضح ذلك للتلميذين يوحنا ويعقوب "إِنَّكُما لا تَعلَمانِ ما تَسألان. أَتَستَطيعانِ أَن تَشرَبا الكأسَ الَّتي سأَشرَبُها، أَو تَقبَلا المَعمودِيَّةَ الَّتي سَأَقبَلُها" (مرقس 10: 38)، ويعلق القديس كيرلس الكبير بقوله " يقصد بمعموديته موته بالجسد"، وهي دينونة لتطهير شعبه. الدينونة بالماء مرتبطة بالدينونة بالنار (لوقا 17: 26-29). ومن الأرجح، ان لوقا البشير ينظر الى هذه المعمودية نظره الى أصل المعمودية المسيحية لغفران الخطايا كما أوضح بطرس الرسول "توبوا، وَلْيَعتَمِدْ كُلٌّ مِنكُم بِاسمِ يسوعَ المَسيح، لِغُفْرانِ خَطاياكم، فتَنالوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ القُدُس"(اعمال الرسل 2: 38) وهنا المعمودية هي عمل غطس الإنسان في حدث الخلاص، الغطس في يسوع، لأن الخلاص الشامل هو في يسوع المسيح المائت والقائم من الموت؛ وأمَّا عبارة "وما أَشَدَّ ضِيقي حتَّى تَتِمّ!" فتشير الى المعنى المجازي أي الآلام والفداء. ويعلق القديس ايرونيموس "هي معموديّة الآلام " (شرح لإنجيل القدّيس متّى، 3). إن معمودية يسوع هي صورة معموديتنا التي تحملنا لندخل في حياة الله ونتحد به بواسطة صليب وآلام يسوع المسيح الجسدية والروحية أيضا. 51 أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئتُ لأُحِلَّ السَّلامَ في الأَرْض؟ أَقولُ لَكُم: لا، بَلِ الِانقِسام. تشير عبارة "السَّلامَ" الى السلام البشري والسهل الذي حلم به الانبياء الكذّابون كما وصفه ارميا النبي “يُداوونَ كَسرَ شَعْبي بِآستِخْفاف قائلين: سَلامٌ سلام، ولا سَلام". (أرميا 6: 14)؛ أمَّا سلام المسيح فلا يعني غياب الخطر فقط، بل هو مثال للعلاقة الصحيحة مع الله، التي تظهر ثمارها في العلاقات الاجتماعية العادلة والازدهار الفردي والجماعي؛ هذا المثال الأعلى سيُحقِّقه السيد المسيح كما جاء في نبوءة زكريا النبي عن السيد المسيح "فقَد ظَهَرَ لِلمُقِيمينَ في الظُّلمَةِ وَظِلالِ الـمَوت لِيُسَدِّدَ خُطانا لِسَبيلِ السَّلام" (لوقا 1: 79)؛ أمَّا عبارة "الانقسام" فتشير الى كلمة "السيف" في انجيل متى "لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئتُ لأَحمِلَ السَّلامَ إِلى الأَرض، ما جِئتُ لأَحمِلَ سَلاماً بل سَيفاً " (متى 10: 34). وكلمة السيف جاءت هنا كاستعارة للتعبير عن الانقسام من أجل الايمان. وانقسم اليهود على المسيح، لأنهم كانوا يريدون ملكًا أرضيًا يُنقذهم من حكم الرومان. أما هو فقال لهم "لَيسَت مَملَكَتي مِن هذا العالَم" (يوحنا 18: 36)؛ وهكذا قام ضد المسيح كهنة اليهود وشيوخهم والكتبة والفريسيون والصدوقيُّون. فالموقف من أجل الملكوت يفرض خياراً جذريا يوجّه حياة المؤمن. وقد تتمزق أواصر العلاقات حين يختار البعض إتِّباع يسوع بينما يرفض البعض الآخر ذلك. فليس هناك حل وسط. وفي الواقع، بعد أن أتى يسوع الى العالم انقسم الناس فورًا إلى قسمين كأنّ سيفًا قاطعًا نزل بينهم: الذين قبلوا يسوع مسيحًا وسيّدًا والذين رفضوه، والانقسام حاصل أوّلاً داخل الأسرة حيث يقف محبّو يسوع أمام مُبغضيه (لوقا 12: 52)، لأنّه كما تنبأ عند سمعان امام امه مريم " ها إِنَّه جُعِلَ لِسقُوطِ كَثيرٍ مِنَ النَّاس وقِيامِ كَثيرٍ مِنهُم في إِسرائيل وآيَةً مُعَرَّضةً لِلرَّفْض" (لوقا 2: 34). والسيف هنا هو سيف الانقسام بين المؤمن وغير المؤمن، سيف التفريق بين الحق والباطل، وليس سيف الحرب والعداوة، كما صرّح يسوع لبطرس "إِغمِدْ سيفَك، فكُلُّ مَن يَأخُذُ بِالسَّيف بِالسَّيفِ يَهلِك" (متى 26: 52). واقول لكم "أَحِبُّوا أَعداءَكم وصَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم" (متى: 5: 44). وبالتالي لا يقصد يسوع بالسيف الغزو والسلب والنهب والقتل (متى 26: 52). وفي الواقع، لم يكن الانقسام صادرًا من السيد المسيح، بل كان صادرًا من رفض الوثنية للإيمان الذي نادى به المسيح. وهكذا أنذر السيد المسيح تلاميذه، بأن انقسامًا لا بُدّ من حدوثه. 52 فيَكونُ بَعدَ اليَومِ خَمسَةٌ في بَيتٍ واحِدٍ مُنقَسمين، ثَلاثَةٌ مِنهُم على اثنَينِ واثنانِ على ثَلاثَة: تشير عبارة "خَمسَةٌ" الى الأب والابن، والأم والبنت، والكنة مع انه ورد في الآية اللاحقة (لوقا 12: 53) ستة اشخاص (الاب والابن والام والبنت والحماة وكنتها)، إذ يحتمل أن تكون الأم والحماة شخصًا واحدًا، بكون والدة الابن هي حماة زوجته. والجدير بالذكر ان التلمود اليهودي يذكر انه في زمن مجيء المسيح (بحسب انتظار اليهود) سيكون جيلا تنتشر فيه الانقلابات بين العائلة الواحدة (الولد ضد ابيه والام ضد ابنتها والكنّة اي زوجة الابن ضد حماتها، وهو تماما ما قال السيد المسيح لدى مجيئه سوف يؤمن به بعض افراد العائلة الواحدة ويرفضه البعض الآخر. أن وجود المسيح سيلزمنا بأخذ موقف واضح وصريح: إمّا أن نكون معه أم لا! ضمن العائلة الواحدة هناك من يكون معه، وهناك من يكون لا مبالي، وهناك من يكون ضده بوضوح. 53 سيَنقَسِمُ النَّاسُ فيَكونُ الأَبُ على ابنِه والابنُ على أَبيه، والأُمُّ على بِنتِها والبِنتُ على أُمِّها، والحَماةُ على كَنَّتِها والكَنَّةُ على حَماتِها. تشير عبارة "سيَنقَسِمُ النَّاسُ" الى الانقسام في العائلات بحسب التقليد النبوي، وهو علامة الضيق وصورة من صور الشدة في آخر الأزمنة كما تنبا ميخا النبي "فإِنَّ الِآبنَ يَستَخِفُّ بِأَبيه والابنة تَقومُ على أُمِّها والكَنَّةَ على حَماتِها فيَكونُ أَعْداءَ الإِنْسانِ أَهلُ بَيتِه" (ميخا 7: 6). فالعلاقة مع يسوع والايمان به تقسم إذا دعت الحاجة بين الوالدين واولادهم كما جاء في تعليم المسيح" فيكونُ أَعداءَ الإِنسانِ أَهلُ بَيتِه. مَن كانَ أَبوه أو أُمُّه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي. ومَن كانَ ابنُه أَوِ ابنَتُه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي."(متى 10: 36-37). فحين يستعد المؤمن ان يخسر كل شيء من اجل إيمانه بالمسيح، عندئذ يربح كل شيء. لذا ينبغي على كل إنسان ان يختار حتى من بين أقرب المُقرَّبين إليه وأعزهم، من جانب، وبين المسيح من الجانب الآخر؛ ويعلق القديس كبريانوس "إن أحببنا الرب من كل قلوبنا يجدر بنا ألا نفضِّل عنه حتى الآباء والأبناء". ثانياً: تطبيق النص الإنجيلي (لوقا 12: 49-53) انطلاقا من الملاحظات الوجيزة حول وقائع النص الإنجيلي (لوقا 12: 49-53)، نستنتج انه يتمحور ول النار والانقسام؛ ومن هنا نتساءل حول مفهوم النار والانقسام التي جاء بهما يسوع الى الأرض؟ وما هو موقفنا تجاه يسوع الذي يلقي النار والانقسام 1) ما معنى النار التي يرغب المسيح ان يلقيها على الأرض؟ "إِنَّ إِلهَنا نارٌ آكِلَة"، يقول لنا الكتاب المقدس (العبرانيين 12: 29)؛ التثنية 4: 24). واستخدم يسوع صورة النار التي ألقاها يلقي على الأرض هي النار التي يريد إشعالها في كل قلوبنا. قال يسوع: "جِئتُ لأُلِقيَ على الأَرضِ ناراً، وما أَشدَّ رَغْبَتي أَن تَكونَ قدِ اشتَعَلَت!" (لوقا 12: 49). ترمز النار في العهد الجديد الى الروح القدس والى الدينونة. ا) النار رمز الروح القدس: فيما يرمز الماء إلى الولادة وخصب الحياة التي يهبها الرُّوح القدس، فإن النار ترمز إلى قدرة أعمال الرُّوح القدس المحوِّلة. فالنبي إيليّا الذي أنزل نار السماء على ذبيحة جبل الكرمل (1ملوك 18: 38) هي صورة نار الرُّوح القدس الذي يحوّل ما يلمسه. ويوحنّا المعمدان بشّر بالرّب يسوع المسيح معلنًا أنّه هو "مَنْ سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار" (لوقا 3: 16)، هذا الرُّوح الذي قال عنه الرّب يسوع: "جِئتُ لأُلِقيَ على الأَرضِ ناراً، وما أَشدَّ رَغْبَتي أَن تَكونَ قدِ اشتَعَلَت!" (لوقا 12: 49). فيقصد لوقا الإنجيلي بذلك أّنَّ يسوع يلقى النار المقدسة في القلوب. فتطهرها، وتشعلها بالغيرة المقدسة لبناء ملكوت الله على الأرض. وكذلك وبهيئة "أَلسِنَةٍ كأَنَّها مِن نارٍ"، حلّ الرُّوح القدس على التلاميذ في صباح العنصرة، وملأهم منه (أعمال الرسل 2: 3-4). لقد حفظ التقليد المسيحي رمز النار هذا كأفصح تعبير عن عمل الرُّوح القدس: "لا تُخمِدوا الرُّوح" (1تسالونيقي 5: 19). ولقد جاء السيد المسيح ليُلقي نار الروح القدس ويريد هذه النار مضطرمة في داخلنا. وبفضل ذبيحة المسيح اضرمت النار العالم واوقدت هذه النار صدر تلميذي عماوس (لوقا 24: 32)، ويعلّق القديس ايرونيموس على ذلك بقوله "هذه هي النار التي اضطرمت في قلوب التلاميذ، فألزمتهم بالقول: أمَّا كانَ قلبُنا مُتَّقِداً في صَدرِنا، حينَ كان يُحَدِّثُنا في الطَّريق ويَشرَحُ لنا الكُتُب؟" ولكن كثيرون سيقاومونها، فينقسمون على ذواتهم حيث يقبلون كلام يسوع في أمر ما، ويرفضونه في أمر آخر، ويعملون به في موقف ما، ويهملونه في آخر. بل وينقسمون على بعضهم البعض، فمنهم من يؤيد تعليمه، ومنهم من يرفضه. ومن هذا المنطلق، لا انتشار ملكوت يسوع بغير تحمل الآلام وقبول المقاومة من الذات أو من الآخرين. أمَّا يسوع فلن يتراجع عن رسالته مهما طفحت الآلام، بل تحمّل الآلام من أجل خلاصنا، وقد عبّر يسوع عن ذلك بقوله " وعَلَيَّ أَن أَقبَلَ مَعمودِيَّةً، وما أَشَدَّ ضِيقي حتَّى تَتِمّ! (لوقا 12: 50). وبحسب قول أوريجانوس " من اقترب من يسوع اقترب من النار، ومن ابتعد عن يسوع ابتعد عن الملكوت". وقصارى القول، ما يقصده السيد المسيح انه سيلقي نار الروح القدس في القلوب، فتطهرها، وتشعلها بالغيرة المقدسة لبناء ملكوت الله على الأرض. هذه النار قابلتها نار أخرى من أعداء الإيمان تحاول إبادتها. وهكذا اشتعلت الأرض نارًا، كانت نتيجتها إبادة الوثنية، بعد اضطهادات تحملها المسيحيون. فهناك إذن نار اشتعلت في قلوب المؤمنين، ونار أخرى اشتعلت من حولهم. وكانت الأولى من الله، والثانية من أعدائه. والسيد المسيح نفسه تعرض لهذه النار المُعادية، لذلك قال بعد هذه الآية مباشرة، يشير إلى آلامه المستقبلية، " وعَلَيَّ أَن أَقبَلَ مَعمودِيَّةً، وما أَشَدَّ ضِيقي حتَّى تَتِمّ! " (لوقا 12: 50). ب) النار رمز الدينونة: لا ترمز النار في العهد الجديد الى الروح القدس فحسب، بل ترمز أيضا الى الدينونة والنقاء والحكم. فإن يسوع، مع رفضه أن يقوم بدور الديَّان، فقد أبقى سامعيه في ترقب نار الدينونة، فهو يتكلم عن نار جهنم (متى 5: 22)، والنار الذي تحرق الزؤان "كما أَنَّ الزُّؤانَ يُجمَعُ ويُحرَقُ في النَّار، فكذلك يكونُ عِندَ نِهايَةِ (متى 13: 40)، والنار الذي تحرق الأغصان “مَن لا يَثْبُتْ فيَّ يُلْقَ كالغُصنِ إِلى الخارِجِ فَيَيْبَس فيَجمَعونَ الأَغْصان وَيُلْقونَها في النَّارِ فَتَشتَعِل" (يوحنا 15: 6)، وهي نار لن تطفأ (مرقس 9: 43-44)، أَتُّونِ النَّار (متى13: 42). وليس ذلك الرموز إلا صدى علنياً لما جاء به العهد القديم (لوقا 17: 29). وتُمثل النار دينونة الآخرة (اشعيا 66: 15-16). فالنار تمتحن الذهب (زكريا 13: 9). وتصهر المعادن (ملاخي 3: 2) وتضطرم كالتنّور (ملاخي 4: 1)؛ وكانت النار الإلهية تنزل إلى البشر إمَّا للانتقام للقداسة الإلهية، كما حدث في إبادة سدوم وعمورة (تكوين 19: 24)، وإمَّا للتطهير (عاموس 4:11، اشعيا 6: 6)؛ وإمَّا لإنزال العقاب (عاموس 1: 4). أمَّا بولس الرسول فيستخدم النار في وصفه لآخر الأزمنة "يَومَ يَأتي الرب يسوع مِنَ السَّماءِ تُواكِبُه مَلائِكَةُ قُدرَتِه في لَهَبِ نار ويَنتَقِمُ مِنَ الَّذينَ لا يَعرِفونَ الله ولا يُطيعونَ بِشارةَ رَبِّنا يسوع" (2 تسالونيقي 1: 7-8)؛ وتُظهر الرسالة إلى العبرانيين ما سيكون من ظهور النار المرعب، التي ستلتهم العصاة المتمردين كما ورد في رسالة الى العبرانيين "انتِظارٌ رَهيبٌ لِلدَّينونة ونارٌ مُستَعِرَةٌ تَلتَهِمُ العُصاة"(عبرانيين 10: 27). وأستخدم بطرس الرسول النار في تطهير الإيمان "يُمَتَحَنُ بِها إِيمانُكم وهو أَثمَنُ مِنَ الذَّهَبِ الفاني الَّذي معَ ذلك يُمتَحَنُ بِالنَّار، فيَؤُولُ إِلى الحَمْدِ والمَجْدِ والتَّكرِمَة عِندَ ظُهورِ يسوعَ المسيح"(1 بطرس 1: 7)؛ كما يستخدمها في امتحان الحياة المسيحية الواقعة تحت الاضطهاد "لا تَستَغرِبوا الحَريقَ الَّذي أَصابَكم لامتِحانِكم، كَأَنَّه أمْرٌ غَريبٌ حَلَّ بِكُم" (1 بطرس 4: 12)، كما يمحّص العمل الرسولي (1 قورنتس 3: 15). يسوع ذاكَ الذي لم تكُن لديه سوى الرغبة في أن يُلهِبَ قَلبَ العالَم بتلكَ النار التي تُطّهر وتُضيء وتمنح الدفيء، قد قال بحزنٍ عميق: لا تظنّوا أنّي جِئتُ لأُلقي سلامًا، لا، بل سيف الانقسام لكل إنسان فاسد يرفضه، ولكل من يعيش في الظلام، ولكل إنسان بارد او فاتر. 2) ما معنى الانقسام الذي جاء السيد المسيح ليُحلَّه في الأرض؟ رنَّم الملائكة في مولد المسيح نشيد السلام في الأرض (لوقا 2: 14). وردَّد تلاميذه رسالة السلام وهم يواكبونه عند دخوله منتصراً الى اورشليم (لوقا 19:38)، وبتحيته " اذهب بسلام" أعاد يسوع الصحة الى المراءة نازفة الدم (لوقا 8: 48) وغفر خطايا الخاطئة النادمة (لوقا 7: 50) مؤكدا انتصاره على قوة المرض والخطيئة. ونشر التلاميذ الى أقاصي العالم السلام الموعود به (لوقا 24: 47)، لان الله قد أعلن السلام بيسوع المسيح إذ جعله "ربا للعالمين " (متى 28: 18). ولكنه هنا أتى سيدنا يسوع بتصريح وكأنه يناقض رسالة السلام "أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئتُ لأُحِلَّ السَّلامَ في الأَرْض؟ أَقولُ لَكُم: لا، بَلِ الِانقِسام." (لوقا 12: 51). وجاء هذا التصريح ليَقلب هذا العالم راساً على عقب. فهو يُثير الانقسام حتى داخل الأسر (لوقا 12: 52 -53)، فيما بين من هم له، ومن هم عليه. "سَيُسلِمُ الأَخُ أَخاهُ إِلى الموت، والأَبُ ابنَه، ويَثورُ الأَبناءُ على والِدِيهم ويُميتونَهم، ويُبغِضُكم جَميعُ النَّاسِ مِن أَجلِ اسمي. والَّذي يَثبُتُ إِلى النِّهاية فذاكَ الَّذي يَخلُص. وإِذا طارَدوكم في مدينةٍ فاهرُبوا إِلى غَيرِها. الحَقَّ أَقولُ لكم: لن تُنُهوا التَّجْوالَ في مُدُنِ إِسرائيل حتَّى يأتيَ ابنُ الإِنسان. (متى 10: 16-23)؛ انه جُعل "آيَةً (علامة) مُعَرَّضةً لِلرَّفْض" (لوقا 2: 34). وكما حدث في العهد القديم حيث تحمل ارميا النبي من الألم والاضطهاد كان نتيجة أمانته لله وثمرة ابتعاد الإنسان عن الله (ارميا 38: 4-10)، كذلك ان ما يحدث من انقسام واضطهاد في العهد الجديد هو نتيجة ايمان البعض بالمسيح ورفض البعض الآخر في نفس البيت او نفس المجتمع، فالسيف هنا ليس سيف الحرب، بل سيف الانقسام بين المؤمن وغير المؤمن، سيف التفريق بين الحق والباطل. ولم يكن الانقسام صادرًا من السيد المسيح، بل كان صادرًا من رفض الانسان للإيمان الذي نادى به المسيح. وهكذا أنذر السيد المسيح تلاميذه، بأن انقسامًا لابد سيحدث. من اجله تقوم جماعة على جماعة، والاسرة على الأسرة والانسان على أخيه الانسان، والانسان على ذاته. وقد أعلن " مَن لم يَكُنْ مَعي كانَ علَيَّ " (لوقا 11: 23). وأن التلاميذ في حملهم لرسالة المسيح، لا يدعوهم إلى الرفاهية، بل إلى الصدام مع الانقسام. لذلك قال لهم "تُعانونَ الشِدَّةَ في العالَم" (يوحنا 16: 33)، "تأتي ساعةٌ يَظُنُّ فيها كُلُّ مَن يَقتُلُكم أَنَّهُ يُؤَدِّي للهِ عِبادة" (يوحنا 16: 2) "إِذا أبغَضَكُمُ العالَمُ فَاعلَموا أَنَّه أَبغَضَني قَبلَ أَن يُبغِضَكم" (يوحنا 15: 18). لقد وقف سيف الانقسام ضد المسيحية. لم يكن منها، وإنما عليها. وفي الواقع، لم يكتفِ يسوع بتوجيه التهديدات التي نطق بها الأنبياء ضد كل أمان خادع (لوقا 17: 26-36) بل إنه يفرِّق بين أعضاء الاسرة الواحدة بين المؤمن وغير المؤمن. ولذلك فإن يسوع لم يُعكرِّ على هذا النحو إلا سلاماً وهمياً أو سلاماً طبيعياً محضاً، لأنه أتى "ليجمع المتفرقين" "أَنَّ يسوعَ سيَموتُ عَنِ الأُمَّة، ولا عنِ الأُمَّةِ فَقَط، بل لِيَجمَعَ أيضاً شَمْلَ أَبناءِ اللهِ المُشَتَّتين"(يوحنا 11: 52)، و"ليقهر البغض"، وليُحطِّم الحدود التي تفرِّق، وليقيم السلام الحقيقي بين الناس، وذلك بأن يجعلهم أبناء آبٍ واحد، وأعضاء جسدٍ واحد، يُحييهم روح واحد كما جاء في تعليم بولس الرسول "فإِنَّه سَلامُنا، فقَد جَعَلَ مِنَ الجَماعتَينِ جَماعةً واحِدة وهَدَمَ في جَسَدِه الحاجِزَ الَّذي يَفصِلُ بَينَهما، أَيِ العَداوة" (أفسس2: 14). وعلى حد قول أحد شعراء المسيحيين "لم يأتِ المسيح ليلاشي الحرب، بل ليضيف سلاماً آخر، ألا وهو السلام الفصحي الذي يعقب الانتصار النهائي" حيث عبّر عنه يسوع بعد قيامة بقوله للرسل "بَينَما هُما يَتَكَلَّمان إِذا بِه يقومُ بَينَهم ويَقولُ لَهم: السَّلامُ علَيكُم!" (لوقا 24: 36). ويرى يوحنا الإنجيلي هذا السلام في حضور يسوع بين تلاميذه "السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم. لا أُعْطي أَنا كما يُعْطي العالَم" (يوحنا 14: 27). ولم يَعد هذا السلام مرتبطاً بحضوره على هذه الأرض بل يتعلّق بانتصاره على العالم (يوحنا 20: 19-23). فسلام المسيح هو ثمرة ذبيحته "قُلتُ لَكم هذِه الأَشياء لِيكونَ لَكُم بيَ السَّلام. تُعانونَ الشِدَّةَ في العالَم ولكن ثِقوا إِنِّي قد غَلَبتُ العالَم" (يوحنا 16: 33)؛ وسلام المسيح هو ثمرة الروح (غلاطية 5: 22). فكل مؤمن بيسوع المسيح يحيا به في سلام مع الله (رومة 5: 19). ولا يمكن للقاء مع الرب إلا وأن يُغيّرنا ويمنحنا سلامه. 3) موقفنا تجاه يسوع الذي يلقي النار والانقسام جاء يسوع لكي يلقي النار وليُحل الانقسام في الأرض، إذ ترتبط النار هنا بالدينونة، فتمرّ على اعمالنا فتنقّيها كما تنقّي المعادن. ويتوجب على المؤمن ان يتخذ قراره فيبدّل حياته "سيَظهَرُ عَمَلُ كُلِّ واحِد، فيَومُ اللّه سيُعلِنُه، لأَنَّه في النَّارِ سيُكشَفُ ذلِك اليَوم، وهذِه النَّارُ ستَمتَحِنُ قيمةَ عَمَلِ كُلِّ واحِد" (1 قورنتس 3: 12-13). وهكذا جاء يسوع ليحلّ الانقسام في الأرض. ولم يكن الرب يسوع في قوله هذا يشجع عصيان الوالدين، او الصراع في البيت، بل أراد ان يُبيِّن ان وجوده يستلزم قراراً، وحيث ان البعض سيتبعونه، والبعض الآخر لن يتبعوه، فلا بد ان ينشب صراع. قد يفرق الالتزام المسيحي بين الأصدقاء والاحباء، فإن، قيمنا وأهدافنا لا بد ان تفصلنا عن الآخرين كي نحمل صليبنا ونتبعه بحيث يكون الله الأولوية المطلقة في حياتنا. ولا يمكننا قبول الرب إن لم نرضَ عن أعماله، وهي أعمال النار التي تُنقّي وتحرق جميع مشاعر التعلق الارضية التي يتعلق بها القلب، وجميع الثروات والكنوز الباطلة. يريد يسوع أن يكون الله في المرتبة الأولى وبعد هذا تأتي محبَّة الوالدين. ينبغي أن نفضِّل ما لله، لأنه إن كان للوالدين اية حقوق، ينبغي أن نضع من وهبنا الوالدين (أي الله) في المرتبة الأولى كما جاء في قوله تعالى ""مَن كانَ أَبوه أو أُمُّه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي" (متى 10: 37). الله لا يمنعنا عن محبَّة والدينا، إنما عن تفضيلهما على الله، فالعلاقة الطبيعيَّة هي من بركات الرب، فلا يليق أن يحب الإنسان العطيَّة أكثر من واهب العطيَّة وحافظها خاصة في موضوع الايمان. ونستنتج مما سبق انه حين يأخذ أحد افراد العائلة موقفا تجاه يسوع على مستوى الإيمان، فهو مدعو ان يتبعه في الضيق والاضطهاد. وهذا الاضطهاد يُسميه يسوع الانقسام. إذ ينقسم غير المؤمنين في البيت على الذي قَبِلَ الايمان حتى يصل لدرجة أنهم يقتلوه، لأنه قبل الايمان بالمسيح. فأتباع المسيح تُسبِّب له الضيقات كما جاء في سفر الرؤيا "هؤُلاءِ هُمُ الَّذينَ أَتَوا مِنَ الشَدَّةِ الكُبْرى، وقَد غَسَلوا حُلَلَهم وبَيَّضوها بِدَمِ الحَمَ" (رؤيا 7: 14). وإذا كان الاضطهاد يؤدي الى عدم السلام الخارجي، لكن السيد المسيح يملأ قلب المؤمنين بسلامه. ومن يقبل المسيح في داخل قلبه يكون في قلبه سلام كما اكّد السيد المسيح " قُلتُ لَكم هذِه الأَشياء لِيكونَ لَكُم بيَ السَّلام. تُعانونَ الشِدَّةَ في العالَم ولكن ثِقوا إِنِّي قد غَلَبتُ العالَم" (يوحنا 16: 33). ومن هذا المنطلق، يتطلب الايمان بالمسيح أحيانا الانقسام، وذلك حين يختار البعض إتِّباع المسيح بينما يرفض البعض الآخر ذلك. ليس هناك حل وسط في موقفنا تجاه المسيح. إمَّا ان نكون مع المسيح، وإمَّا ان نكون عليه (لوقا 11: 23). فهل نحن مستعدون ان نجعل نُصب عيوننا "مُبدِئِ إِيمانِنا ومُتَمِّمِه، يسوعَ الَّذي، في سَبيلِ الفَرَحِ المَعْروضِ علَيه، تَحَمَّلَ الصَّليبَ مُستَخِفًّا بِالعار" (عبرانيين 12: 2)؟ حياة المسيحي هي صورة لحياة المسيح، وبالتالي عليه مقاومة مكايد الشرير والشر والخطيئة حتى بذل الدم كما يوصي صاحب الرسالة الى العبرانيين " فإِنَّكم لم تُقاوِموا بَعدُ حتَّى بَذْلِ الدَّمِ في مُجاهَدَةِ الخَطيئَة "(عبرانيين 12: 4). ليكُن كلّ مسيحيّ، على مِثال مُعلّمه يسوع وعلى خُطى "البابا فرنسيس" غير خائفٍ من أن يكون «آية مُعرّضة للرفض» (لوقا 2: 45) وألاّ يتردّد بأن يكون ناراً تُضيء وتٌنَقّي، بغَضّ النظر عما يُمكن أن تكون النتائج. "فإِنَّكم لم تُقاوِموا بَعدُ حتَّى بَذْلِ الدَّمِ في مُجاهَدَةِ الخَطيئَة"(عبرانيين 12:4). وقد وجّه البابا فرنسيس إلى الشباب في القدّاس الختامي للأيّام العالميّة للشبيبة هذه الكلمات: "اذهبوا بدون خوف، للخدمة، اذهبوا، وألقوا نارًا على الأرض، تكون قادرة على إشعال نار مصابيح أُخر". الخلاصة إن يسوع الذي نراه في هذا الإنجيل يختلف كثيرًا عن يسوع المسالم الذي يصوره البعض. يسوع لم يكن باحثًا عن المسالمة والطبطبة بأي ثمن. إنما قال " جِئتُ لأُلِقيَ على الأَرضِ ناراً، وما أَشدَّ رَغْبَتي أَن تَكونَ قدِ اشتَعَلَت!" (لوقا 12: 49). فما يقصده السيد المسيح انه سيلقي النار المقدسة في القلوب لتطهيرها، وإشعالها بالغيرة المقدسة لبناء ملكوت الله على الارض. وكما تحوّل النار كل ما تمسه، كذلك يحوّل الروح القدس الى حياة الهية كل ما يلمس قدرته. وقابلت هذه النار الالهية نار العالم المعادية من أعداء الإيمان التي حاولت إبادته. لذلك قال بعد هذه الآية مباشرة، يشير إلى آلامه المستقبلية، “وعَلَيَّ أَن أَقبَلَ مَعمودِيَّةً، وما أَشَدَّ ضِيقي حتَّى تَتِمّ!؟" (إنجيل لوقا 12: 50). وهذه المعمودية هي معمودية آلامه وموته. ويسوع المسيح لن يتراجع عن أن يشهد لنفسه مهما صبغته الآلام، بل سيحتمل آلامه حتى يكمل فداؤنا. أمَّا قول الرب "أتظنون أني جئتُ لأُعطي سلاماً على الأرض. كَلاَّ، أقول لكم، بل انقساماً"(لوقا 12: 51) مع أن المسيح هو سلامنا (أفسس 2: 15،14)، لكن الانقسام الذي جاء به المسيح يصدر عن الايمان بالمسيح الذي يتطلب ان يزهد الانسان بذاته وبشهوات هذا العالم وشهوة الجسد وشهوة العين وكبرياء الغنى (1 يوحنا 2: 16)، كما يتطلب أيضا ان ينقسم الانسان على أخيه الانسان وعلى عائلته إذا وقفوا عائقا لإيمانه. وهذا ما أعلنه المسيح: "مَن كانَ أَبوه أو أُمُّه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي. ومَن كانَ ابنُه أَوِ ابنَتُه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي" (متى 10: 37). وبعبارة أخرى، ليس الانقسام صادر عن يسوع المسيح، بل عن الانسان الذي يرفض الايمان به. بعد أن أتى المسيح انقسم الناس إلى قسمين الذين قبلوا يسوع مسيحًا وسيّدًا، والذين رفضوه. فلم يكن الانقسام من المسيح، وإنما عليه. ولذلك علينا ان نلتهب بنار حب الله لنكون من تلاميذ السيد المسيح. دعاء أيها الآب السماوي، نطلب اليك باسم يسوع المسيح الذي اشتاق الى تغيير العالم ان تجعل نار محبّتك تشتعل في قلوبنا كيّ نتمكّن من تكريس ذواتنا لك بالكامل وفوق أيّ شيء آخر ، ونشعل في العالم من حولنا بشعلة محبتك. آمين