موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النص الإنجيلي (متى 17: 1-9)
1 وبَعدَ سِتَّةِ أَيَّام مَضى يسوعُ بِبُطرسَ ويَعقوبَ وأَخيه يوحَنَّا، فانفَردَ بِهِم على جَبَلٍ عالٍ. 2 وتَجلَّى بِمَرأًى مِنهُم، فأَشَعَّ وَجهُه كالشَّمس، وتَلألأَت ثِيابُه كالنُّور. 3 وإِذا موسى وإِيلِيَّا قد تَراءَيا لَهم يُكلِّمانِه. 4 فخاطَبَ بُطرُسُ يسوعَ قال: ((يا ربّ، حَسَنٌ أَن نكونَ ههُنا. فإِن شِئتَ، نَصَبْتُ ههُنا ثَلاثَ خِيَم: واحِدَةً لكَ وواحِدَةً لِموسى وواحِدَةً لإِيليَّا)). 5 وبَينَما هُوَ يَتَكَلَّم إِذا غَمامٌ نَيِّرٌ قد ظلَّلهُم، وإِذا صَوتٌ مِنَ الغَمامِ يقول: ((هذا هَو ابنيَ الحَبيبُ الَّذي عَنهُ رَضيت، فلَهُ اسمَعوا)). 6 فلَمَّا سَمِعَ التَّلاميذُ ذلك، سَقَطوا على وُجوهِهِم، وقدِ استَولى علَيهِم خَوفٌ شديد. 7 فدنا يسوعُ ولمَسَهم وقالَ لَهم: ((قوموا، لا تَخافوا)). 8 فَرفَعوا أَنظارَهم، فلَم يَرَوا إِلاَّ يسوعَ وحدَه. 9 وبَينما هم نازلونَ مِنَ الجَبَل، أَوصاهُم يسوعُ قال: ((لا تُخبِروا أَحداً بِهذِه الرُّؤيا إِلى أَن يَقومَ ابنُ الإِنسانِ مِن بَينِ الأَموات)).
مقدمة
يُسلط إنجيل متى الأضواء على كيان يسوع ومهمته الإلهيَّة من خلال مشهد التَّجلي (متى 17: 1-9) لكي يُهيِّئ التَّلاميذ لقبول بأمل وشجاعة آلامه وموته المُذِل فداءً للبشريَّة ". وبَدأَ يسوعُ مِن ذلِكَ الحينِ يُظهِرُ لِتَلاميذِه أَنَّه يَجِبُ علَيهِ أَن يَذهَبَ إلى أُورَشَليم ويُعانِيَ آلامًا شَديدة مِنَ الشُّيوخِ وعُظَماءِ الكَهَنَةِ والكَتَبَة ويُقتَلَ ويقومَ في اليومِ الثَّالث" (متى 16: 21)، لكنَّ التَّلاميذ لم يفهموا لماذا اختار معلمهم ذلك الطَّريق، لذلك أراهم الله شيئا من مجد ابنه ليُزيل الشَّك من قلوبهم بسبب آلامه وصلبه، فأمرهم أن يصغوا إلى تعليمه (متى 17: 5). فالتَّجلي في جبل طابور، والألم في جبل الجلجلة، هما أمرأن من صميم الإنجيل لا ينفصلان. فنحن هنا في قلب البشارة الإنجيليَّة. ومن هنا تكمن أهميَّة البحث في وقائع النَّص وتطبيقاته.
أولا: وقائع النَّص الإنجيلي (متى 17: 1-9)
1 وبَعدَ سِتَّةِ أَيَّام مَضى يسوعُ بِبُطرسَ ويَعقوبَ وأَخيه يوحَنَّا، فانفَردَ بِهِم على جَبَلٍ عالٍ،
تشير عبارة "سِتَّةِ أَيَّام" إلى الأيام السِّتة الواقعة بين يوم الوعد ويوم التَّجلي، إذ وعد السَّيّد المسيح تلاميذه أن قومًا منهم لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتيًا في ملكوته (متى16: 28). أمَّا رقم (6) فيدل على عيد المظال סוכות (معناها مظلة) والمعروف بعيد العُرش، وهو ثالث أعياد الحج عند اليهود إلى جانب عيد الفصح وعيد الأسابيع، ويبدأ في اليوم الخامس عشر من شهر تشرين الأول، ومدته سبعة أيام، أي بعد عيد الكفَّارة أو الغفران (يوم كيبور יוֹם כִּפּוּר). ونستطيع أن نرى أيضًا في الرَّقم 6 عدد ناقص، فالإنسان خلق في اليوم السَّادس وسقط في اليوم السَّادس. ووُجد كماله في يوم التَّجلي، اليوم السَّابع. إذ كان هذا العيد يستغرق سبعة أيام بحيث أنَّ اليوم ألأخير هو يوم راحة، ويُسمى العظيم من العيد "هُو أَعظَمُ أَيَّامِه" (يوحنا 37:7). ويرى العلاَّمة أوريجانوس الرَّمز للمعنى الرُّوحي من خلال الأيام السِّتة: "أن المؤمن لا يقدر أن يرتفع مع السَّيّد المسيح على جبل طابور لينعم بالتَّجلّي ما لم يعبّر الأيام السِّتّة التي فيها خلق الله العَالَم المنظور. فمن يرغب في أن يأخذه يسوع، ويصعد به إلى جبلٍ عالٍ، ويتأهّل لرؤية تجلِّيه منفردًا، يلزمه أن يجتاز الأيّام السِّتّة، فلا يرى المنظورات ولا يحب العَالَم ولا الأشياء التي فيه، ولا يرغب في شهواته التي هي شهوات الجسد، ولا يطلب غنى الجسد ومجده". أمَّا لوقا الإنجيلي فيتكلم عن اليوم الثَّامن في نهاية عيد المظال (لوقا 9: 28) رابطًا القيامة بالحياة الجديدة حيث أنَّ رقم 8 هو رقم رمزي لا رقم تاريخي، ويدل على الحياة الأبديَّة، وهو رقم لاهوتي أراد به لوقا الانجيلي أن يوحي لجماعة المؤمنين أن حادثة التَّجلي هي عبارة عن كشف مسبق لقيامة السَّيد المسيح، التي تدشّن حياتنا في الملكوت. أمَّا عبارة" ببُطرسَ ويَعقوبَ وأَخيه يوحَنَّا" فتشير إلى الشُّهود الثَّلاثة لحدث التَّجلي، كما كانوا هم أيضا شهودًا على إحياء ابنة يائيرس (مرقس 5: 37) وشهودًا على نزاع يسوع في بستان الزَّيتون (مرقس 14: 33) حيث أنَّهم في علاقة حميمة مع يسوع. والعدد ثلاثة يُعدُّ كافيًا لإثبات الشَّهادة بحسب الشَّريعة الموسوّيَّة (تثنية الاشتراع 17: 6). اختار يسوع هؤلاء الشُّهود بالرَّغم من أنَّ بطرس أنكره بطرس، ويعقوب ويوحنا طلبا مكانًا مميزًا في ملكوته (متى 20، 20-23). ويعلق البابا فرنسيس: " أن الشَّهادة هي هبة لم نستحقها ونحن نشعر بأنفسنا غير ملائمين"(عظة التَّجلي الأحد الثَّاني من الصَّوم 2020)؛ أمَّا القديس هيلاري أسقف بواتييه فيركز على فضائل الرُّسل الثَّلاثة للتمتع بالتَّجلي: "اختار السَّيّد المسيح ثلاثة من تلاميذه، هم بطرس ويعقوب ويوحنا، فإن بطرس الذي يعني الصَّخرة يُشير إلى الإيمان، ويعقوب عُرف بجهاده وحياته البارة، كما عُرف يوحنا بالحبيب. وكأن النَّفس لن ترتفع على جبل طابور للتمتّع برؤية عريسها في ملكوته الأبدي، ما لم تحمل في داخلها الإيمان العامل بالمحبّة ". يدعو الله اليوم أيضًا البعض ليكونوا قريبين منه ليتمكنوا من الشَّهادة.أمَّا عبارة "فانفَردَ بِهِم" فتشير إلى انعزالهم عن باقي الرُّسل. لماذا ذهب الرَّبّ يسوع إلى الجبل، وفي ذلك المكان المنعزل المنفرد؟ يشرح لنا القدّيس لوقا السَّبب: " مَضى بِبُطرسَ ويوحنَّا ويعقوبَ وصعِدَ الجَبَلَ لِيُصَلِّي" (لوقا 9: 29)؛ كان السَّيّد المسيح في طريقه إلى الصَّليب، وقد تحدّث مع تلاميذه عدّة مرّات في هذا الأمر. أمَّا عبارة "جَبَلٍ عالٍ" فلا تشير إلى جبل مُحدَّد (متى 14: 23) بل إلى جبل عالٍ، كما كان الأمر في جبل التَّجربة (متى 4: 8) وجبل الإرسال النِّهائي حيث أرسل التَّلاميذ لإعلان البشارة قبل صعوده إلى السَّماء (متى 28: 16)؛ ولم يذكر الإنجيل اسم الجبل ولكن البعض يظن انه جبل حرمون (جبل الشَّيخ) الذي يرتفع حوالي 3000مترعن سطح البحر، وهو يبعد مسافة نحو 20 كم شمال شرقي قيصرية فيلبس (بانياس)؛ وأمَّا التَّقليد الكنسي فيُحدِّد جبل طابور الواقع على مسافة نحو 17 كم من بحيرة طبريَّة في الجليل. هو جبل التَّجلي، وهو جبل عالٍ يبلغ ارتفاعه نحو 575 م وهو يشير للسُّمو، سُمو قدر المسيح الذي سيرونه الآن متجليًا. على كل حال، لهذا الجبل دلالة لاهوتيَّة أكثر منها جغرافيَّة. كان الجبل يرتبط دائمًا مكان الاقتراب إلى الله والتَّلاقي معه تعالى حيث يكشف عن نفسه، ومكان استعداد الإنسان لسماع أقواله تعالى. ويعلق البابا فرنسيس: " الجبل رمز القرب من الله، كي يجعل التَّلاميذ منفتحين على فهمٍ أكثر كمالا لسرِّه، بانه سيتألم ويموت ليقوم بعد ذلك " (عظة التَّجلي الأحد الثَّاني من الصَّوم 2020). وظهر الله لكل من موسى (خروج 24: 12-18) وإيليا على الجبل (1 ملوك 19: 8-18). ويُعلق القدّيس أفرام السِّريانيّ: "إنَّ الجبل أصبح رمزا للكنيسة: على قمّته، وحّد الرَّب يسوع العهدين اللذين استضافتهما الكنيسة. وأعلم الجميع بأنّه سيّد العهدين، العهد القديم الذي تلقّى أسراره والعهد الجديد الذي أظهر مجدَ أعماله" (Opera omnia p. 41). فالجبل هو مكان للوحي (أشعيا 2: 2-3). والوحي الأخير يتمُّ على جبل صهيون (مزمور 2: 6)، جبل نهاية الأزمنة حيث تأتي الأمم، كما تنبأ أشعيا: " يَكونُ في آخرِ الأَيَّام أَنَّ جَبَلَ بَيتِ الرَّبِّ يُوَطَّدُ في رَأسِ الجِبالِ وَيرتَفعُ فَوقَ التِّلال. وتَجْري إِلَيه جَميعُ الأُمَم وتَنطَلِقُ شُعوبٌ كَثيرةٌ وتَقول: هَلُمُّوا نَصعَدْ إلى جَبَلِ الرَّبّ إلى بَيتِ إِلهِ يَعْقوب وهو يُعَلِّمُنا طُرُقَه فنَسيرُ في سُبُلِه لأَنَّها مِن صِهْيونَ تَخرُجُ الشَّريعَة ومِن أُورَشَليمَ كَلِمَةُ الرَّبّ" (أشعيا 2: 2-3).
2وتَجلَّى بِمَرأًى مِنهُم، فأَشَعَّ وَجهُه كالشَّمس، وتَلألأَت ثِيابُه كالنُّور.
تشير عبارة "تَجلَّى" في الأصل اليونانيμετεμορφώθη (معناها تغيّرت الهيئة) إلى تحوّل وتغيير هيئة يسوع، أي أن شكله ومظهره تغيَّر. ويدل الفعل على تحوّل روحي (رومة 12: 2). أمَّا هنا فيدل على تحوّل منظور بمشهد من الرُّسل، إذ تحوّل وجّه المسيح وأضاء كالشَّمس. وربَّما ظهر وقتئذٍ بشيء من المجد الذي لناسوته الآن في السَّماء كما ظهر ليوحنا الحبيب ": فرَأَيتُ في التِفاتي سَبعَ مَناوِرَ مِن ذَهَب وبَينَ المَناوِرِ ما يُشبِهُ ابنَ إِنْسان، وقد لَبِسَ ثَوبًا يَنزِلُ إلى قَدَمَيه وشَدَّ صَدرَه بِزُنَّارٍ مِن ذَهَب. وكان رَأسُه وشَعرُه أَبيَضَينِ كالصُّوفِ الأَبيَض، كالثَّلج، وعَيناه كلَهَبِ النَّار، ... ووَجهُه كالشَّمسِ تُضيءُ في أَبْهى شُروقِها" (الرُّؤيا 1: 12 -17)؛ أمَّا لوقا الإنجيلي فقد تجنّب استعمال كلمة "تجلى" نظرًا لكون سامعيه من الوثنيَّين ذوي الثَّقافة اليونانيَّة؛ فهؤلاء لن يفهموا ماذا تعني كلمة التَّجلي إلاّ بمعنى ضربًا من التَّناسخ والتَّحوّل عند الآلهة الميثولوجيا، ولذا فقد أراد استخدام كلمة "تبدّل"، ἐγένετο ἕτερον أي صار وجها آخر. وكان التَّجلي مقدمة لمجد المسيح الذي سوف يظهر. ويقول يوحنا الرَّسول " هذهِ الأَشياءُ لم يَفهَمْها تَلاميذُه أَوَّلَ الأَمرِ، ولَكِنَّهم تَذَكَّروا، بَعدَما مُجِّدَ يسوع، أَنَّها فيهِ كُتِبَت، وأَنَّها هي نَفسُها لَه صُنِعَت"(يوحنا 12: 16). كان مجد المسيح يستتر بناسوته اتضاعًا، وعند التَّجلي ارتفع الحجاب مُظهرًا مجد يسوع الأزلي. يكشف الله عن نفسه هنا لا من خلال قوى الطَّبيعة، بل من خلال ابنه يسوع الإنسان المتجسِّد، كما جاء في مقدمة إنجيل يوحنا "رأَينا مَجدَه مَجدًا مِن لَدُنِ الآبِ لابنٍ وَحيد " (يوحنا 1: 14. فالتَّجلي هو استباق للقيامة في نظر مرقس الإنجيلي (مرقس9: 2-13). أمَّا عبارة "بِمَرأًى مِنهم"" في اليونانيَّة ἔμπροσθεν αὐτῶν (معناها "قدّامهم") إلى رؤية التَّلاميذ يسوع كما لم يروه من قبل كي يكونوا شهودًا على هذا الحدث حيث انكشف أمام أبصارهم البعد الإلهي ليسوع؛ فيُعلق على هذه العبارة العلاَّمة أوريجانوس بقوله: "إن السَّيّد المسيح هو هو لا يتغيّر، لكن من يتطلّع إليه خلال الأناجيل المقدّسة دون أن يصعد على جبل الحكمة المقدّسة، لا يقدر أن يرى مجده ويُدرك أسراره، أمَّا من يرتفع على هذا الجبل فينعم بالتَّجلّي". يريد الرَّب أن يكشف أمامنا عن مجده. هل نبحث عن حضوره بإيمان وتقوى؟ أمَّا عبارة "فأَشَعَّ وَجهُه" في الأصل اليوناني ἔλαμψεν τὸ πρόσωπον αὐτοῦ (معناها أضاء وجهه) فتشير إلى التَّحوّل المنظور في الوجه المُشعَّ (مرقس9: 2)، إذ بزغ حينئذٍ مجد يسوع الأزلي. إن في أعماق يسوع نورًا يشعُّ في الخارج ويُضيء كل شيء حوله، كما جاء في مُقدِّمة إنجيل يوحنا "فيهِ كانَتِ الحَياة والحَياةُ نورُ النَّاس والنُّورُ يَشرِقُ في الظُّلُمات" (يوحنا 1: 4). ويُعلق القديس ايرونيموس: " صبغ يسوع هيئته بالسُّمُوّ، لكنّه لم ينزع عنه مظهره الخارجي". وهنا إشارة إلى موسى النَّبي لدى لقائه بالله على جبل سيناء كما ورد في سفر الخروج: "لَمَّا نَزَلَ موسى مِن جَبَلِ سيناء، ولَوحا الشَّهادةِ في يَدِه عِندَ نُزولِه مِنَ الجَبَل، لم يَكُنْ يَعلَمُ أَنَّ بَشَرَةَ وَجهِه قد صارَت مُشِعَّةً مِن مُخاطَبَةِ الرَّبِّ لَه" (خروج 34: 29). ولا ننسى أنَّ يسوع هو موسى الجديد. ولكن شتّان ما بين الخادم في بيت الله (موسى) وابن الله (يسوع المسيح). أمَّا عبارة " كالشَّمس " فتشير إلى ضياء الطَّبيعة الإلهيَّة، النُّور غير المخلوق الذي كان كامِنًا في يسوع وأخفاه في ناسوته عند التَّجسد لمَّا اتَّخذ صورة عبد، وكشفه لحظات في التَّجلي. أنه شمس البرِّ (ملاخي 3: 20) كما يُعلق أُوريجانوس: "يضيء وجهه كالشَّمس ليُعلن ذاته لأبناء النُّور، هؤلاء الذين خلعوا أعمال الظُّلمة ولبسوا أسلحة النُّور (رومة 13: 12). وبكشفه عن ذاته يُضيء يسوع عليهم ليس بشمس بسيطة، وإنما بشمس البر". أمَّا عبارة "تَلألأَت ثِيابُه" في الأصل اليوناني τὰ δὲ ἱμάτια αὐτοῦ ἐγένετο λευκὰ (معناها صارت ثيابه بيضاء) فتشير إلى التَّحوّل المنظور في الثِّياب. والثِّياب البيضاء المتلألئة هي احدى علامات المجد السَّماوي (دانيال 7: 9) التي تُمنح للمختارين الذين يُصبحون كالملائكة، كما ورد في سفر الرُّؤيا "الغالِبُ سيَلبَسُ هكذا ثِيابًا بيضًا، ولن أَمحُوَ اسمَه مِن سِفْرِ الحَياة، وسأَشهَدُ لاسمِه أَمامَ أَبي وأَمامَ مَلائِكَتِه" (رؤيا 3: 4). وما ثوب المعموديَّة الأبيض، وثوب العروس الأبيض، وثوب الكاهن الأبيض في القداس إلاّ إشارة إلى الفصح وإلى التَّلاميذ المشتركين مع معلمه (رؤيا 3: 18). أمَّا الخطيئة لا سيما الكبرياء تجعل الإنسان يضع نفسه مكان الله، فيُشوّه نفسه ويُصبح عاريًا يملأه الخجل والعار، كما حدث مع آدم وحواء بعد ارتكابهما الخطيئة "فآنفَتَحَت أَعيُنُهما فعَرَفا أَنَّهما عُريانان. فَخاطا مِن وَرَقِ التِّين وصَنَعا لَهُما مِنه مَآزِر" (التَّكوين ٣: 7). أمَّا عبارة " كالنُّور " فتشير إلى الأناجيل التي توضِّح أن هذا النُّور لم يكن نورًا حسيًا، بل هو ضياء الطَّبيعة الإلهيَّة كما علق القديس غريغوريوس التَّسالونيكي: "هذا هو النُّور غير المخلوق الذي كان كامنًا في السَّيد وأخفاه في ناسوته عند التَّجسد لمَّا اتَّخذ صورة عبد".
3وإِذا موسى وإِيلِيَّا قد تَراءَيا لَهم يُكلِّمانِه
تشير عبارة "موسى وإِيلِيَّا" إلى الشَّاهدين إلى العهد الجديد، والمُمثلين، الواحد للشريعة والآخر للأنبياء على التَّوالي. وكان من المنتظر أن يكون إيليا السَّابق للمسيح (ملاخي 3: 23)، ويُطابق الإنجيل بينه وبين يوحنا المعمدان. (متى 17: 12). ويظهر إيليا وموسى الذي عُرف في الدِّين اليهودي بارتفاعه إلى السَّماء على مثال إيليا (2 ملوك 2: 11). وهما تمتّعا بالمجد (لوقا 9: 31)، لانهما أُشرِكا في عمل الرَّب (خروج 34: 29-35 و2 قورنتس 3: 7-11) وعادا إليه بطريق غامضة (تثنية الاشتراع 34: 34: 5-6 و2ملوك 2: 11). أمَّا يسوع فإنه قد تمتّع بهذا المجد في هذه الأرض قبل قيامته. أمَّا عبارة " تَراءَيا " فتشير إلى ظهور موسى وإيليا في المجد (لوقا 9: 31). وعن موسى قال الكتاب أن الله دفنه " ولم يعرف أحد قبره إلى يومنا هذا" (تثنية الاشتراع 34: 6). وفي الفكر اليهودي اللَّاحق انه أصعد إلى السَّماء. وعن إيليا انه "صعد في العاصفة نحو السَّماء" (2 ملوك ك 2: 11). تراءيا ليسوع في وضع سماوي كانا قد وصلا إليه. وشهد كل من موسى وإيليا بصحة دعوة يسوع وآلامه وموته لتأسيس ملكوته، واعترفا إنَّ وظيفتهما انتهت مع يسوع الذي أكمل الشَّريعة وتمَّم النَّبوءات. أمَّا عبارة " يُكلِّمانِه" فتشير إلى التَّكلم عن موضوع" رَحيلِه الَّذي سَيتِمُّ في أُورَشَليم" كما ورد في إنجيل لوقا (9: 31). نلاحظ أن حديث موسى وإيليا مع السَّيد المسيح عن آلامه يرافق ظهور المجد على جسد يسوع وكأنَّ المعنى المقصود أن آلام الرَّب كانت طريقه إلى المجد. ومن هذا المنطلق، إنَّ موضوع موته لا معجزاته ولا تعليمه ولا مجده الحاضر ولا مجده المستقبل هو أهم المواضيع التي يتكلم عنها يسوع في الأرض. وكانت ذبائح الشَّريعة كلها تشير إلى ذلك الموت وأنبأ الأنبياء كلهم به، كما أكّده بطرس الرَّسول: "عن هذا الخَلاصِ كانَ فَحْصُ الأَنبِياءِ وبَحْثُهم فَتَنبَّأُوا بِالنِّعمةِ المُعَدَّةِ لَكم وبَحَثوا عنِ الوَقتِ والأَحوالِ الَّتي أَشارَ إِلَيها رُوحُ المسيحِ الَّذي فيهِم، حينَ شَهِدَ مِن ذي قَبْلُ بِما عُدَّ لِلمَسيحِ مِن الآلام وما يَتبَعُها مِنَ المَجْد (1 بطرس 1: 11).
4فخاطَبَ بُطرُسُ يسوعَ قال: يا ربّ، حَسَنٌ أَن نكونَ ههُنا. فإِن شِئتَ، نَصَبْتُ ههُنا ثَلاثَ خِيَم: واحِدَةً لكَ وواحِدَةً لِموسى وواحِدَةً لإِيليَّا.
تشير عبارة "فخاطَبَ بُطرُسُ " تكلم بطرس كعادته في المبادرة في الكلام (يوحنا 20: 5، 21: 7) مقترحًا إطالة هذه اللَّحظة قدر المستطاع لإعاقة ذهاب موسى وإيليا، كما يتضح ذلك في إنجيل لوقا " حتَّى إِذا هَمَّا بِالانصِرافِ عَنه قالَ بُطرُسُ لِيَسوع: يا مُعَلِّم حَسَنٌ أَن نَكونَ ههُنا. فلَو نَصَبنا ثَلاثَ خِيَم، واحِدَةً لَكَ وواحدةً لِموسى وواحِدةً لإِيليَّا!" (لوقا 9: 33). أمَّا عبارة" حَسَنٌ أَن نكونَ ههُنا" فتشير إلى عبارة ملتبسة: إمَّا أحسّ بطرس بفرحه واهتم بخدمة الضُّيوف الثَّلاثة مثل إبراهيم (التَّكوين 18)، وإمَّا حسنٌ لموسى وإيليا الذي يريد بطرس أن يقدم لهم مساعدة، وإمَّا خير لبطرس للبقاء على الجبل مع موسى وإيليا ويسوع من التَّجوال بين النَّاس والتَّعرض للتَّعب والإهانة والموت الذي أنبأ الرَّب به، وإمَّا ما يفسره العلامة أوريجانوس: "أن ما قاله الرَّسول بطرس من شوقه للبقاء في هذا الموضع قصد به بقاء السَّيّد هناك حتى لا ينزل ههنا، وذلك لخوفه على الرَّب إذ سمع أنه ينبغي أن يصعد إلى أورشليم. وبالتَّالي لا يتعرّض للموت؛ بهذا يكون هذا الجبل موضعًا لائقًا للاختفاء لا يمكن لأحد المضطهِدين أن يعرفه ". يتبيَّن هنا أن بطرس قد أساء فهمه للموقف، وأراد أن يدوم هذا المشهد، فأقترح أن ينصب خِيَم ونسي ما قاله يسوع أن على ابن الإنسان أن يمرّ في الألم قبل أن يصل إلى المجد. ويعلق القديس أوغسطينوس: "هذا الأمر لم يكن بطرس قد فهمه بعد عندما كان يتمنى أن يعيش مع المسيح على الجبل. لقد حُفظ لك هذا، يا بطرس، إلى ما بعد الموت. وأمَّا الآن فهو نفسُه يقول:" انزلْ إلى الأرض لتكدّ وتتعب، لتخدم على الأرض، لتُزدَرى، لتُصلبَ على الأرض. "يسوع الحياة" ينزل لكي يُقتل؛ "يسوع الخبز" ينزل لكي يجوع؛ "يسوع الطَّريق" ينزل لكي يتعب في الطَّريق؛ "يسوع الينبوع " ينزل لكي يعطش؛ وأنت ترفض أن تشقى؟". أمَّا عبارة " نَصَبْتُ " في الأصل اليوناني (معناها أصنع) فتشير إلى صنع مظال من أغصان الشَّجر للوقاية والرَّاحة، كما صنع يعقوب لمواشيه (التَّكوين 33: 17)، وصنع يونان واحدة منها ليقي نفسه الحرَّ (يونان 4: 5)، وكذلك صنع بنو إسرائيل المظال في صحراء سيناء (الأحبار 23: 42). وكان هدف من صنع تلك المظال هو بقاء بطرس مع المسيح وموسى وإيليا على الجبل. وكأنَّه لا يريد أن تنتهي هذه اللَّحظة، أو أن يوقف الزَّمن ويدخل في الأبديَّة من الآن. أمَّا عبارة " خِيَم " فتشير إلى الخيمة الأصليَّة التي أمر الله موسى أن يقيمها في البريَّة لكي يسكن الله فيها بين شعبه (خروج 25: 8). وكانت مصنوعة من شعر المعزى. وكانت تُنصب مدة السَّفر في البريَّة في وسط المحلَّة تحيط بها خيام الكهنة واللَّاويَّين وخيام بقيَّة الأسباط حواليهم في أربعة أقسام (عدد 2: 2-34). وعندما انتهت رحلات الشَّعب استقرت الخيمة في الجلجال (يش 4: 19 ثم نقلت إلى شيلوه مدة ثلاثمائة أو أربعمائة سنة، ومن هناك إلى نوب (1 صم 21: 1-9). وفي مُلك داود نُقلت الخيمة إلى جبعون (1 أخبار 21: 29). وكانت هناك في مستهل حكم سليمان (2 أخبار 1: 3-13). وبعد إتمام بناء الهيكل نُقلت إليه مع كل أثاثها وآنيتها. وقد بنى الهيكل على نمط الخيمة. وقد كانت خيمة الاجتماع مركز عبادة شعب الله قبل بناء الهيكل. ثم أن نظامها وترتيب العبادة فيها علَّما الشَّعب أشياء كثيرة عن قداسة الله وحلوله بينهم وحضوره في وسطهم، كما علّمت أشياء عن الذبائح والكفارة. وتعتبر الخيمة في العهد الجديد رمزًا للمسيح (عبرانيين 9: 11) ويتحدَّث سفر الرُّؤيا عن سكن الله مع النَّاس وإنه سيسكن معهم. وفيه إشارة إلى دوام الشَّركة الرُّوحيَّة والتَّمتع الأبدي بالحضرة القدسيَّة (رؤيا 21: 3). وهنا تدل الخيمة على عيد الأكواخ (عيد المظال) (خروج 23: 16)، وتذكِّر في آيات الخروج ومواعيد الله للأزمنة الأخيرة. وكان تصرّف بطرس تصرّفا واقعيًا مما يدلُّ على تاريخيَّة القصة.
5وبَينَما هُوَ يَتَكَلَّم إِذا غَمامٌ نَيِّرٌ قد ظلَّلهُم، وإِذا صَوتٌ مِنَ الغَمامِ يقول: هذا هَو ابنيَ الحَبيبُ الَّذي عَنهُ رَضيت، فلَهُ اسمَعوا
تشير عبارة "غَمامٌ نَيِّرٌ" إلى علامة حضور الله وظهوره الإلهي (2 ملوك 2: 7-8)، كما اختبره الشَّعب خلال مسيرة الخروج من مصر (خروج 19: 16)، وفي خيمة الموعد (خروج 4: 34-35) وفي الهيكل يوم تدشينه في زمن سليمان (1 ملوك 8: 10-12). وسُمي هذا الغمام النّيِّر مركبة الله (مزمور 104: 3) وسُمِّي أيضا مجد الرَّب، وهذا الغمام هو الذي ظهر لرعاة بيت ساحور عند ولادة المسيح (لوقا 9: 2) وهو الذي استقبل المسيح لدى صعوده (أعمال الرسل 1: 9) وهو الذي سوف يحيط بالمسيح عند مجيئه الثَّاني (متى 21: 30)؛ أمَّا عبارة " ظلَّلهُم" فتشير إلى الغمام الذي ظلَّل المسيح وموسى وإيليا (لوقا 9: 34). أمَّا عبارة " صَوتٌ " فتشير إلى صوت الله الآب الذي يشهد للابن، وتكررت هذه الشَّهادة ثلاث مرات (متى3: 17 ويوحنا 12: 28). وفي الواقع، صعد يسوع الجبل ليبحث عن صوت الله الآب ويتعرّف إلى مشيئته؛ أمَّا عبارة "هذا هَو ابنيَ الحَبيبُ" فتشير إلى شهادة الله الآب أنّ يسوع ابنه الوحيد، وأنه المسيح، وهي أعظم إعلان يتقبّله الإنسان من الله في أعماق قلبه، وهو إدراك بنوّة المسيح الطَّبيعيَّة لله حيث يستحق المسيح إكرامًا أعظم مما يستحقه موسى وإيليا. وهذا الإعلان كان قد نطق به الآب وقت معموديَّة يسوع ليؤكِّد مهمة يسوع التي بدأت بالمعموديَّة في نهر الأردن. أمَّا لوقا الإنجيلي فقد استخدم عبارة "هذا هوَ ابنِيَ الَّذي اختَرتُه" فكلمة "مختاري"، يُذكرنا لوقا من خلالها ذلك الشَّخص الغامض "عبد الله" الذي تنبأ عنه أشعيا "هُوَذا عَبدِيَ الَّذي أَعضُدُه مُخْتارِيَ الَّذي رَضِيَت عنه نَفْسي (أشعيا 42: 1) كما تُذكرنا بشعب الرَّبّ، كما ورد في نبوءة أشعيا: "ِأَجلِ عَبْدي يَعْقوب وإِسْرأئيلَ مُخْتاري دَعَوتُكَ بِآسمِكَ ولَقَّبتُكَ وأَنتَ لم تَعرِفنْي (أشعيا 45: 4). وفي لحظة الصَّلب، يستخدم لوقا نفس الكلمة من جديد "خَلَّصَ غَيرَه فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَه، إِن كانَ مَسيحَ اللهِ المُختار! " (لوقا 23: 35). فالمسيح هو الابن الحبيب المختار الذي سلَّم حياته حبًا للآب، وأصبح خادمًا للبشر الخطأة. وتسليم مصيره بين يديّ البشر هي طريقته ليُودع حياته بين ذراعي الله الآب. ويصبح يسوع "العبد" و "المختار" في فصحه، أي في خروجه (رحيله) نحو الآب؛ أمَّا عبارة " عَنهُ رَضيت " فتشير إلى الآب الذي رضي خدمة المسيح التي قدّمها على الأرض لخلاص البشر وبشكل خاصة عندما قدَّم نفسه ذبيحة. أمَّا عبارة "لَهُ اسمَعوا" فتشير إلى أمْر الآب السَّماوي إلى التَّلاميذ الثَّلاثة: بطرس ويعقوب ويوحنا، شهوده في بستان الجسمانيَّة، لسِماع يسوع، أي قبول تعليم يسوع الذي كمِّل الشَّريعة والأنبياء لكي يؤمنوا به ولكي يحبُّوه ولكي يُطيعوه ويتبعوه على درب الآلام وما بعد الموت والصَّلب. وتكرَّر هذا الإعلان أثناء عماد يسوع (متى 3: 17). وتدلُّ هذه الكلمات أنَّ يسوع هو الابن (مزمور 2: 7) والعبد المتألم (أشعيا 42: 1)، أمَّا في التَّجلي فإنها تدلُّ أنَّه هو النَّبي الذي تنبَّأ عنه موسى (تثنية الاشتراع 18: 15) الذي قال أنَّه يجب على الشَّعب كله أن يسمع له (أعمال الرسل 3: 22)، لأنَّ بواسطة كلمات يسوع يُعلن لنا الآب ذاته " إنَّ اللهَ، بَعدَما كَلَّمَ الآباءَ قَديمًا بِالأَنبِياءَ مَرَّاتٍ كَثيرةً بِوُجوهٍ كَثيرة، كَلَّمَنا في آخِرِ الأَيَّام هذِه بِابْنٍ جَعَلَه وارِثًا لِكُلِّ شيء وبِه أَنشَأَ العَالَمين "(عبرانيَّين 1: 1-2). في العماد، كان الصَّوت موجّهًا إلى يسوع، أمَّا في التَّجلي فإنه موجّهٌ إلى التَّلاميذ ومن خلالهم إلى الجموع ولكل النَّاس في كل زمان. وللبقاء مع يسوع لا ينفع نصب ثلاث خيم كما اقترح بطرس، بل يتم بالسِّماع المستمر إليه حتى ولو أشار يسوع إلى الآلام والصَّلب والموت.
6فلَمَّا سَمِعَ التَّلاميذُ ذلك، سَقَطوا على وُجوهِهِم، وقدِ استَولى علَيهِم خَوفٌ شديد.
تشير عبارة "فلَمَّا سَمِعَ التَّلاميذُ ذلك" إلى وقت سماع صوت الآب حيث دبَّت الرَّهبة فيهم خاصة عندما ظلَّل الغمام المسيح وموسى وإيليا (لوقا 9: 34) وزادت الرَّهبة عندما سمعوا صوت الله. وهذه هي حالة الكهنة في الهيكل الذين كان يرهبون عند ظهور العلامة لحضور الله (1 ملوك 8: 11). أمَّا عبارة "سَقَطوا على وُجوهِهِم" فتشير إلى الخوف والهيبة (دانيال 8: 18) لدى إحساس التَّلاميذ أنَّهم أمام الحضرة الإلهيَّة فسجدوا تمامًا كما فعل مَن سبقوهم من أنبياء العهد القديم لدى تجلِّي الله. لان اليهود ظنوا أن لا أحد يقدر أن يرى الله ويحيا "إِنَّنا مَوتًا سَنَموت، لأَنَّنا عايَنَّا الله" (قضاة 13: 22)؛ أمَّا عبارة "خَوفٌ" فتشير إلى علامة ترافق الظُّهور الإله. وهو شعور مُبهم يُظهر الطَّابع المقدس في شكل رهبة دون أن يكشف عن طبيعته العميقة، وهو خوف احترامي يترجم بسجود. إنه ردّ فعل المؤمنين العادي أمام حالات ظهور الإله أمام الظَّواهر المُهيبة والخارقة للعادة حيث يشعر الإنسان بحضور يفوقه، فيتلاشى هو تجاهه داخل ضعفه (أشعيا (6: 5)، مثل الخوف التي الذي كان يعتري مشاهدي المعجزات التي صنعها يسوع (مرقس 6: 51).
7فدنا يسوعُ ولمَسَهم وقالَ لَهم: قوموا، لا تَخافوا.
تشير عبارة "فدنا يسوعُ ولمَسَهم" إلى اقتراب يسوع من التَّلاميذ لتهدئة خوفهم مُبيِّنًا لهم انهم في العَالَم الحسي لا في عَالَم الأرواح، وذلك مثل ما حدث مع دانيال "سَمِعت صوتَ أَقْوالِ الرَّجُل، وعِندَ سَماعي صَوتَ أَقْوالِه، كُنتُ في سُباتٍ وأَنا على وَجْهي ووَجْهي مُلتَصِقٌ بِالتُّراب. فإِذا بيَدٍ لَمَسَتْني وأَقامَتني مُرتَعِشًا على رُكْبَتَيَّ وعلى كَفَّي يَدَيَّ" (دانيال 10: 9-10). شجَّع لمْسُ يسوع وصوتُه التَّلاميذ كما شجَّعهم صوته وهو ماش عل البحر (متى 11: 27)؛ أمَّا عبارة “قوموا، لا تَخافوا" فتشير إلى التَّلاميذ الذين صاروا كالموتى، ساقطين على وجوههم فأقامهم يسوع، كما حدث مع دانيال "بَينَما هو يُحَدِّثُني، كُنتُ في سُباتٍ على وَجهِ الأَرْض. فلَمَسَني وأَنهَضَني حَيثُ كُنتُ واقِفًا" (دانيال 8: 18)، وقال لهم يسوع ما قاله للمرأتين في القيامة "لا تخافا" (متى 28: 5). فالحضور أمام يسوع لا تعني التَّشبث في رؤية التَّجلي مثل الرُّسل، بل تكمن في النُّزول إلى أورشليم، إلى طريق درب الحياة والآلام والقيامة.
8فَرفَعوا أَنظارَهم، فلَم يَرَوا إِلاَّ يسوعَ وحدَه.
تشير عبارة" فَرفَعوا أَنظارَهم" إلى التَّلاميذ الذين رفعوا عيونهم ونظروا إلى فوق لدى اطمئنانهم عندما لمسهم المسيح وسمعوا صوته. أمَّا عبارة " فلَم يَرَوا إِلاَّ يسوعَ وحدَه" فتشير إلى نهاية المشهد حيث لم يروا موسى وإيليا مثل بدايته، إذ لمَّا ارتفع الغمام توارى موسى وإيليا من عيونهم. أمَّا عبارة يسوعَ وحدَه" فتشير إلى ما نحتاج إليه الآن وإلى الأبد، فهو أن يبقى يسوع معنا دائمًا كما صرّح صاحب الرِّسالة إلى العبرانيَّين: "يَبْقى كاهِنًا أَبَدَ الدُّهور" (العبرانيَّين 7: 3)؛ فلنصنع له مظال في قلوبنا وفي قلوب غيرنا لتكون له هياكل حيَّة.
9وبَينما هم نازلونَ مِنَ الجَبَل، أَوصاهُم يسوعُ قال: لا تُخبِروا أَحدًا بِهذِه الرُّؤيا إلى أَن يَقومَ ابنُ الإِنسانِ مِن بَينِ الأَموات.
تشير عبارة بَينما هم نازلونَ " إلى صباح الغد كما نستشفه من رواية إنجيل لوقا "وفي الغَدِ نَزَلوا مِن الجَبَل"(لوقا 9: 37). أمَّا عبارة "لا تُخبِروا أَحدًا بِهذِه الرُّؤيا" فتشير إلى ضرورة محافظة التَّلاميذ على سرِّ التَّجلي، لكنهم لم يدركوا ما رأوه إلاَّ بعد قيامته. كما أنهم لن يستطيعوا أن يُبشروا بحقيقة يسوع الإلهيَّة إلا بعد أن اختبروا حدث القيامة، أي التَّمجيد الكامل ليسوع، وحلول الرُّوح القدس عليهم في العنصرة. فكانت غاية التَّجلي تكمن في تثبيت إيمان الرُّسل أن يسوع هو المسيح وإعدادهم أن يكونوا شهودًا على ذلك. ويُميز يسوع بين رسالته على الأرض والزَّمن التَّابع للفصح حيث سيعلن الرُّسل سرَّه. فحافظ التَّلاميذ على السِّر حتى قيامة يسوع، لان قيامته من بين الأموات تكشف مجده. ويحذّر يسوع تلاميذه عن إعلان رؤية التَّجلي قبل قيامته تجنبًا لحدوث أية ثورة شعبيَّة، كما حدث عند معجزة تكثير الخبز السَّمكتين "عَلِمَ يسوعُ أَنَّهم يَهُمُّونَ بِاختِطافِه لِيُقيموهُ مَلِكًا، فانصَرَفَ وعادَ وَحدَه إلى الجَبَل. "(يوحنا 6: 14-15)، ولكيلا يُفهم بشكل خاطئ كما تدل اسئلتهم (متى 17: 10-13)؛ أمَّا عبارة " أَن يَقومَ ابنُ الإِنسانِ مِن بَينِ الأَموات" فتشير إلى ضرورة موت ابن الإنسان وقيامته من الموتى الذين غادروا الحياة. أراد يسوع أن يقترن إعلان تجليه بإعلان قيامته. لكن التَّلاميذ لم يفهموا مراده بالقيامة "حَفِظوا هذا الأَمْر وأَخذوا يَتَساءَلونَ ما مَعنى القِيامةِ مِن بَينِ الأَموات" (مرقس 9: 10). مع أنَّه أخبرهم قبل ذلك صريحًا بانه يقوم بعد ثلاثة أيام لموته فكما بَقِيَ يُونانُ في بَطنِ الحُوتِ ثَلاثةَ أَيَّامٍ وثلاثَ لَيال، فكذلكَ يَبقى ابنُ الإِنسانِ في جَوفِ الأَرضِ ثَلاثةَ أَيَّامٍ وثلاثَ لَيال" (متى 12: 40). لم تكن فكرة القيامة غريبة عن العقليَّة اليهوديَّة، إنَّما ما هو غريب ومُحيِّر بانها قريبة، في حين كان يتوقع اليهود حصولها في آخر الأزمنة.
ثانيًا: تطبيقات النَّص الإنجيلي (متى 17: 1-9)
بعد دراسة موجزة عن وقائع النَّص الإنجيلي وتحليله (متى 17: 1-9)، يمكن الاستنتاج أنَّه يتمحور حول غايات التَّجلي لشخص المسيح وللكنيسة الأولى.
غاية التَّجلي لشخص يسوع المسيح
أعلنت رواية التَّجلي حقيقة يسوع كإبن الله الذي طال انتظاره، وهو " شُعاعُ مَجْدِه وصُورةُ جَوهَرِه" (عبرانيَّين 1: 3). فلم يكن يسوع مجردًا واحدًا من الأنبياء، بل ابن الله الوحيد الذي يفوق سلطانهم وقوتهم. ومن هذا المنطلق، فإن التَّجلي يكشف عن لاهوت يسوع المسيح حول مجده أكثر بكثير مما حدث في قانا الجليل بتحويل الماء خمرًا؛ فالتَّجلي هي آية داخليَّة، أمَّا تحويل الماء خمرا فهي آية خارجيَّة؛ والتَّجلي هو وحي لتمجيد ابن الله هذا كما فهموا التَّلاميذ "فسَقَطوا على وُجوهِهِم، وقدِ استَولى علَيهِم خَوفٌ شديد" (متى 17: 6). ومن هذا المنطلق، إن التَّجلي هي تعزية ليسوع نفسه استعدادًا لاحتمال آلامه. فانَّه كان إنسانًا كما كان إلهًا، واحتاج باعتبار إنسانيته إلى تعزية كما حدث في بستان الجسمانيَّة " تَراءَى له مَلاكٌ مِنَ السَّماءِ يُشَدِّدُ عزيمَتَه" (لوقا 22: 43).
ينكشف هذا المجد المخفيٌ في القيامة، وفي عودة يسوع في آخر الأزمنة "فسَوفَ يَأتي ابنُ الإِنسانِ في مَجدِ أَبيهِ ومعَه مَلائكتُه، فيُجازي يَومَئِذٍ كُلَّ امرِئٍ على قَدْرِ أَعمالِه. الحَقَّ أَقولُ لكم: مِنَ الحاضِرينَ ههُنا مَن لا يَذوقونَ الموتَ حتَّى يُشاهِدوا ابنَ الإِنسانِ آتِيًا في مَلَكوتِه (متى16: 27-28). لذلك يُعد التَّجلي نوعًا من الاستباق في حياة يسوع على الأرض للمجد الذي سيتمتع به يسوع بعد موته لدى قيامته ولدى ظهوره عند مجيء ابن الإنسان آتيًا في ملكوته. فكان التَّجلي عربونًا لمجد المسيح الإلهي الكامل الذي سيظهر عند مجيئه في نهاية العَالَم.
ليس المجد في نظر يسوع تهربًا من الواقع، بل هو إحالة إلى الحياة اليوميَّة. وهو نور في طريق الموت. فقد ربط متى الإنجيلي حدث الآلام والتَّجلي بظرف زمني دقيق "وبَعدَ سِتَّةِ أَيَّام" (متى 4: 1) مما يًظهر جوابًا من الآب إلى إنباء يسوع بآلامه وسيره على درب البذل والعطاء نحو الجلجلة والقبر الفارغ. فهو خبرٌ مسبقٌ عن القيامة.
أوضح لوقا الإنجيلي أن الحوار الذي دار بين يسوع وموسى وإيليا حول رحيل يسوع، أي حول آلامه وموته وقيامته، فربط حدث التَّجلي مباشرة بفصح الرَّب وبالتحديد عبوره بالصَّليب من حياة الذل والهوان إلى حياة المجد). وفي الواقع، يدعو يوحنا الإنجيلي موت المسيح " انتِقالِ" وفصحًا (يوحنا 13: 1)، وأمَّا لوقا الإنجيلي يدعوه لوقا " ارتِفاع" وقيامة (لوقا 9: 51)؛ وفي هذا الصَّدد ترفع الكنيسة صلاتها في مقدمة تجلي الرَّب " كان التَّجلي ليُثبت بشهادة الشَّريعة والأنبياء أن على يسوع المسيح أن يُعاني الآلام فيدخل في مجد القيامة".
يؤكّد التَّقليد المسيحي العلاقة بين جبل سيناء وجبل التَّجلي؛ ففي سيناء لم يرَ موسى (تثنية الاشتراع 34: 1) وإيليا (1 ملوك 19: 1-18) وجه الله، بل سمعا صوته، أمَّا في التَّجلي فشاهدا وجه الرَّب يسوع المُشع كالشَّمس (متى 17: 2). فالمسيح هو أفضل من موسى والأنبياء وكل المعلمين، لأنَّه يفوقهم بطبيعته ومقامه ووظيفته وشفاعته.
علاوة على ذلك، تُذكرنا الخيم بآيات الله في صحراء سيناء لدى خروج بني إسرائيل من مصر، والخوف علامة ترافق الظُّهور الإلهي الذي عبّر عنه الكتاب المقدس بالغمام. ويؤكد التَّقليد المسيحي العلاقة بين التَّجلي الإلهي لعقد العهد القديم وتجلي يسوع قبل صعوده إلى اورشليم حيث يُقيم العهد الجديد بدمه. ومن هنا نستنتج أنَّ كل من موسى الذي يمثل الشَّريعة، وإيليا الذي يمثل الأنبياء لكل العهد القديم أعدّا لمجيء المسيح وشهدا للمسيح.
غاية التَّجلي للكنيسة الأولى
ليس حدثُ التَّجلي أمرًا بالغ الأهميَّة في حدِّ ذاته لشخص المسيح فحسب، إنَّما أيضا للتلاميذ. فلعبت حادثة التَّجلي دورًا هامًا في تدريبهم الرُّوحي لتقبل معلمهم يسوع المسيح الذي ينبغي "أَن يَذهَبَ إلى أُورَشَليم ويُعانِيَ آلامًا شَديدة مِنَ الشُّيوخِ وعُظَماءِ الكَهَنَةِ والكَتَبَة ويُقتَلَ ويقومَ في اليومِ الثَّالث"(متى 16: 21). فدخول السَّيد المسيح يسوع في مجده (لوقا 24: 26) يقتضي منه اجتياز الصَّليب في اورشليم. لهذا "مَضى يسوعُ بِبُطرسَ ويَعقوبَ وأَخيه يوحَنَّا فانفَردَ بِهِم" (متى 17: 1)، وتَجلَّى بِمَرًاى مِنهُم (متى 17: 2) وموسى وإِيلِيَّا قد تَراءَيا لَهم (متى 17: 3) وغَمامٌ نَيِّرٌ قد ظلَّلهُم (متى 17: 5) وطلب صوت الله منهم أن يسمعوا إلى ابنه الحبيب (متى 17: 5) ودنا يسوعُ ولمَسَهم لكيلا يخافوا (متى 17: 7) وهم الذين َروأ يسوعَ وحدَه (متى 17: 8).
ترك التَّجلي أثرا بالغًا في الكنيسة الأولى، كما يؤكد ذلك بطرس الرَّسول " قد أَطلَعْناكم على قُدرَةِ رَبِّنا يسوعَ المسيح وعلى مَجيئِه، لا اتِّباعًا مِنَّا لِخُرافاتٍ سوفِسْطائِيَّة، بل لأَنَّنا عايَنَّا جَلالَه. فقَد نالَ مِنَ اللهِ الآبِ إِكرامًا ومَجْدًا، إِذ جاءَه مِنَ المَجْدِ-جَلَّ جَلالُه-صَوتٌ يَقول: ((هذا هو ابنِيَ الحَبيبُ الَّذي عَنه رَضيت)) وذاكَ الصَّوتُ قد سَمِعناه آتِيًا مِنَ السَّماء، إِذ كُنَّا معَه على الجَبَلِ المُقدَّس" (2 بطرس 1: 16-18). فكان للتَّجلي أثرٌ بليغٌ في تثبيت إيمان الرُّسل وتتميم الشَّريعة والأنبياء والتَّشجيع على سماع كلمة الله وشعور مسبق لمجد الأبرار.
أ) تثبيت إيمان الرُّسل
عرف التَّلاميذ أن يسوع يصعد إلى اورشليم ليتألم "بَدأَ يسوعُ مِن ذلِكَ الحينِ يُظهِرُ لِتَلاميذِه أَنَّه يَجِبُ علَيهِ أَن يَذهَبَ إلى أُورَشَليم ويُعانِيَ آلامًا شَديدة مِنَ الشُّيوخِ وعُظَماءِ الكَهَنَةِ والكَتَبَة ويُقتَلَ ويقومَ في اليومِ الثَّالث" (متى 16: 21)، فأراد يسوع أن يثبِّت إيمان تلاميذه، وذلك بتهيئة الطَّريق نحو الجسمانيَّة والجلجلة والآلام والموت فاظهر سر شخصه أمامهم في تجلي ألوهيته من خلال ثيابه المتلألئة ووجهه المُشع نورًا سماويا، ظهر لهم عند ذلك كشمس البر، نور العَالَم "هو شُعاعُ مَجْدِه وصُورةُ جَوهَرِه" (العبرانيَّين 1: 3). وشهد الآب للابن "هذا هَو ابنيَ الحَبيبُ الَّذي عَنهُ رَضيت، فلَهُ اسمَعوا " (متى 17: 5) لكي يُرسِّخ إيمان الرُّسل بالابن على أنه ليس فقط ابن الإنسان ولكن أيضًا ابن الله.
أراد يسوع أن يُري رسله آية التَّجلي، وقد أبى أن يُريها إلى الكتبة والفريسيَّين (متى 12: 39) وهكذا أعدَّهم لامتحان إيمانهم وقت صلبه، بل مرافقتهم له في درب الآلام لخلاص البشر. وهكذا انفرد يسوع بتلاميذه لكي يُريهم أن طريق الآلام هي طريق المجد. وعلق القديس أفرام السِّرياني: "صعد بهم إلى جبل عال لكي يُظهر لهم أمجاد ألوهيته. فلا يتعثّروا فيه عندما يرونه في الآلام التي قبلها بإرادته، والتي احتملها بالجسد من أجلنا."
ويقول الباحث الدُّكتور كامبل مورجان " أن ما رآه التَّلاميذ لم يكن بهاء اللَّاهوت بل كان مجد النَّاسوت الكامل الذي هو بلا خطيئة". وان الرَّب في تلك اللَّحظة كان مستعدًا للرجوع إلى السَّماء بدون الموت-لان الموت نتيجة للخطيئة وكان هو بلا خطيئة-ولكنَّه للمرة الثَّانيَّة ولىَّ ظهره للسَّماء لكي يشترك كإنسان فأكمل في سرِّ الموت البشري". فالتَّجلي يُبّين للرُّسل أن سرَّ المسيح لا يكمن في المجد فحسب، إنَّما أيضًا في الآلام والموت. يدخل يسوع إلى المجد مارًا عبر الموت، وهو يجرّ الإنسانيَّة كلها خلفه. لذلك يسند التَّجلي الإنسان في حمله الصَّليب والشَّهادة للسيّد المسيح.
أظهر يسوع مجده الذي هو أول صورة عن مجد القيامة. فشعر بطرس في أعماقه أنه أمام حدث عظيم فقال: "يا ربّ، حَسَنٌ أَن نكونَ ههُنا. فإِن شِئتَ، نَصَبْتُ ههُنا ثَلاثَ خِيَم: واحِدَةً لكَ وواحِدَةً لِموسى وواحِدَةً لإِيليَّا ". يبدوا له وكأنَّ ملكوت الله قد حلّ بشكل نهائي على الأرض. وكان بطرس قد عاتب يسوع عندما "بَدأَ يُعَلِّمُهم أَنَّ ابنَ الإِنسانِ يَجِبُ علَيه أَن يُعانيَ آلامًا شديدة، وأَن يرْذُلَه الشُّيوخُ وعُظماءُ الكَهَنَةِ والكَتَبَة، وأَن يُقتَل، وأَن يقومَ بَعدَ ثَلاثةِ أَيَّام" (مرقس 8: 31). لكن التَّلاميذ لم يصدِّقوا ما سمعوا من يسوع عن مأساة الصَّليب وموت معلمهم. فزجر يسوع بطرس وقالَ له :"انسحب! وَرائي! يا شَيطان، فأَنتَ لي حَجَرُ عَثْرَة، لأَنَّ أَفكارَكَ لَيسَت أَفكارَ الله، بل أَفكارُ البَشَر" (متى 16: 23)، وبيّن يسوع أن حبة الحنطة التي يُخيّل للناس أنَّها ماتت في بطن الأرض، إنَّما تحمل في ذاتها سر حياتها" الحَقَّ َ أَقولُ لَكم: إنَّ حَبَّةَ الحِنطَةِ الَّتي تَقَعُ في الأَرض إِن لَم تَمُتْ تَبقَ وَحدَها. وإذا ماتَت، أَخرَجَت ثَمَرًا كثيرًا" (يوحنا 12: 24).
نستنتج مما سبق أن التَّجلي يُهيئ التَّلاميذ لإتِّباع يسوع على درب الجلجلة ورؤية القبر الفارغ. وعلق أفرام السِّرياني: "صعد بهم إلى جبل لكي يُظهر لهم ملكوته قبلما يشهدوا آلامه وموته، فيرون مجده قبل عاره". وقد ثبَّت حدث التَّجلي إيمان التَّلاميذ حيث أن لولاه لتزعزعت بعض تصريحات يسوع (لوقا 8: 31-34). وثبِّت الله إيمانهم بيسوع إلهًا ومسيحًا ومعلمًا بقوله لهم "هذا هَو ابنيَ الحَبيبُ الَّذي عَنهُ رَضيت، فلَهُ اسمَعوا))، وقوّى إيمانهم به إلهًا بقوله " هذا هَو ابنيَ الحَبيبُ"، ومعلما بقوله " فلَهُ اسمَعوا". وفي الواقع بعد انتهاء الرُّؤية بقي الإيمان " فَرفَعوا أَنظارَهم، فلَم يَرَوا إِلاَّ يسوعَ وحدَه" (متى 17: 8).
ب) تتميم للشَّريعة والأنبياء
جاء يسوع ليتمِّم وعود الله لإبراهيم ونسله، وليُكمل الشَّريعة والأنبياء. لذلك لم تكن فكرة المسيح المُتألم مناقضة لإعلان العهد القديم، بل كانت مطابقة تمامًا لشهادة الشَّريعة والأنبياء الذين كان موسى وإيليا يمثلانهم، فالشَّريعة والأنبياء قد تنبأوا بآلام السَّيد المسيح، كما ورد في إنجيل لوقا "فبَدأَ يسوع مِن مُوسى وجَميعِ الأَنبِياء يُفَسِّرُ لَهما جميعِ الكُتُبِ ما يَختَصُّ بِه" (لوقا 24: 27)، وآلام يسوع كانت عملاً بمشيئة الآب "هوَذا عَبدِيَ الَّذي أَعضُدُه مُخْتارِيَ الَّذي رَضِيَت عنه نَفْسي" (أشعيا 42: 1). وهكذا ما حصل على جبل طابور هو امتدادٌ لِمَا حصل على جبل سيناء، ولكن الجديد فيه أن الله صار منظورًا في شخص يسوع. ويؤكد ذلك يوحنا الرَّسول: بقوله: "الشَّرِيعَةُ أُعطِيَتْ عَن يَدِ مُوسَى، وَأمَّا النِّعمَةُ وَالحَقُّ فَقَد أتَيَا عَن يَدِ يَسُوعَ المَسِيحِ" (يوحنا 1: 17). ويعلق البابا لاون الكبير: " بيسوع تمَّتْ وعودٌ تنبّأَ بها الأنبياءُ بالصُّورِ والرُّموز، وتعاليمُ الشَّريعة، لأنّه علَّمَ النُّبوَّةَ الحقيقيَّة لمّا حضر وبالنِّعمة جعلَ العملَ بالوصايا أمرًا ممكنًا" (LP 54, 313).
إن ظهور موسى وإيليا مع يسوع هو تأييد لرسالته بصفته المسيح الذي يتمِّم شريعة الله وأقوال الأنبياء ووعودهم النُّبويَّة. موسى يمثِّل الشَّريعة وتنبأ عن مجي نبي عظيم (تثنية الاشتراع 18: 15-19) وإيليا النَّبي يمثِّل الأنبياء الذين تنبأوا عن مجيء المسيح (ملاخي 4: 5-6). إن موسى وإيليّا جاءا نيابة عن رجال العهد القديم يشاركان رجال العهد الجديد بهجتهم بالتَّمتّع بالمسيح المُخلّص الذي طال انتظار البشريّة له، ويعلق القديس مار أفرام السِّرياني: " لقد امتلأ الأنبياء بهجة وأيضًا التَّلاميذ بصعودهم على الجبل. لقد فرح الأنبياء، لأنَّهم شاهدوا تأنّسه. وابتهج التَّلاميذ لأنَّهم رأوا مجد ألوهيته الذي لم يكونوا بعد قد عرفوه".
يشهد كل من موسى وإيليا بصحة دعوة يسوع وآلامه وموته لتأسيس ملكوته، واعترفا أنَّ وظيفتهما انتهت مع يسوع الذي أكمل الشَّريعة وتمَّم النُّبوءات. إذ اخذ موسى وإيليا يُكلِّمانِ يسوع (متى 17 :3) عن رَحيلِه الَّذي سَيتِمُّ في أُورَشَليم" (لوقا 9: 31). لقد كانا يَعلمان أنّه مزمِعٌ أن يحقّق نبوءة الأنبياء، ويتمّم إرادة أبيه السَّماوي، فيتألّم ويموت ليكفّر عن خطايا البشر، فجاء تأييد التَّاريخ القويّ في ظهور موسى، أعظم المُشرّعين، وإيليا أعظم الأنبياء، ليؤكّدا طريق آلام يسوع وموته. كما كان الرَّحيل (الخروج) الأول قد قاد الشَّعب المختار للخروج من العبوديَّة في مصر إلى أرض الميعاد، كذلك الآن يتحدث موسى وإيليا مع يسوع عن رحيله الجديد (الخروج) الذي سيحقِّقه حيث يقودنا من عبوديَّة الخطيئة إلى وطننا الحقيقي السَّماوي من خلال ألآمه وموته وقيامته.
كما أعطى صوت الله من الغمام على جبل سيناء السُّلطان لشريعته (خروج 19: 9) كذلك صوت الله على جبل التَّجلي اضفى سلطانًا على أقوال الرَّب يسوع. ودلَّ الصَّوت السَّماوي على انه الكلمة بين موسى وإيليا الذي يجب أن يُسمعه الشَّعب. ويعلق القدّيس أفرام السِّريانيّ: "عند لحظة التَّجلّي، خُتمَت الشَّهادة للابن، في آنٍ معًا، بصوت الله الآب وبالنَّبيّين موسى وإيليّا اللذين ظهرا قرب الرَّب يسوع كخادمين له" (Opera omnia, 41).
ونستنتج مما سبق أنَّ يسوع جاء ليكمّل عمل الشَّريعة (موسى) والنُّبوءات (إيليا) فينشئ عهدًا جديدًا، عهد الملكوت. فقد اكّد ظهور موسى أعظم المُشرّعين وإيليا أعظم الأنبياء، وسماع صوت الرَّبّ في أثناء التَّجلي بأنَّ يسوع المسيح يُحقِّق التَّاريخ، والتَّاريخ يكتمل فيه، إذ فيه يتبارك جميع شعوب الأرض، كما وعد الله إبراهيم الذي من خلاله وذريته سيأتي المسيح الرَّب يسوع الذي سيكشف عن مجد ملكوت الله وبركته ويجلب الخلاص لجميع الذين يدعون باسمه (التَّكوين 12: 4).
ج) تشجيع على سماع كلمة الله
أعطى الصَّوت الآتي من الغمام المعنى الأساسي للتجلي "إِذا غَمامٌ نَيِّرٌ قد ظلَّلهُم، وإِذا صَوتٌ مِنَ الغَمامِ يقول: هذا هَو ابنيَ الحَبيبُ الَّذي عَنهُ رَضيت، فلَهُ اسمَعوا" (متى 17: 5). المطلوب هو السِّماع ليسوع كابن الله الذي لكلماته قوة الله وسلطانه. فعلى التَّلاميذ أن يسمعوا له كما كان يسوع يسمع صوت آبيه السَّماوي، لكنَّهم كانوا يسمعون لأفكارهم ورغباتهم الخاصة، وماذا يريدون أن يفعلوا لأنفسهم، وماذا يريد الرَّب إن يفعل لهم؛ أمَّا يسوع فيسمع ماذا يريد أبوه السَّماوي أن يفعل. فالتَّلاميذ كانوا يستمعون إلى المسيح الرَّبّ، ولكنّهم ليسوا بحسب أفكار السَّيّد المسيح. يعيشون معه، ولكنّهم يُفسّرونه ويفهمونه ويرونه بأفكارهم البشريَّة البعيدة بما فيه الكفاية عن أفكار الرَّبّ. يذهبون مع السَّيّد المسيح، ولكنّهم لا يسمعونه، ولا يُفكّرون مثله. فجاء تشجيع صوت الآب لهم أن يسمعوا له "هذا هَو ابنيَ الحَبيبُ الَّذي عَنهُ رَضيت، فلَهُ اسمَعوا" (متى 17: 5). أنه يعيش كلمة الله ويتمّم كلّ نبوءة وكلّ وحي الله، إنَّه مُكمِّل العهد ومِحور تاريخ الخلاص، انه "الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة. لا يَمْضي أَحَدٌ إلى الآبِ إِلاَّ به" (يوحنا 14: 6).
إننا لا نقدر أن ننطلق إلى الملكوت لنرى المجد الإلهي إلا َّ من خلال كلمة الله المكتوبة وكلمة الله المتجسّد. وقد شجَّع الصَّوت الإلهي الرُّسل كي يسمعوا ليسوع المسيح من خلال الشَّريعة والأنبياء وأن يفسِّروا الشَّريعة والأنبياء في ضوء هذا الابن الحبيب الذي هو قاعدة الشَّريعة الجديدة ومركز تاريخ الخلاص والكتاب المقدس. فحادثة جبل التَّجلّي بعثت الرَّجاء في قلوب التَّلاميذ، حتّى ولو لم يفهموا ماذا حدث، جعلتهم شهودًا للمسيح، والشَّاهد هو الّذي يرى ثمّ يُعلن. وهنا على جبل التَّجلّي شاهدوا مجده فشهدوا إنَّ يسوع هو المسيح. لقد كان كلّ من بطرس ويعقوب ويوحنّا شهودًا مُميّزين لمجد المسيح. نحن، كذلك، كتلاميذ المسيح، مدعوّون بأن نكون شهودًا لمجده.
كما حدث في جبل سيناء عندما أعطى الله الشَّريعة للشعب بواسطة موسى كذلك في جبل التَّجلي طلب الله من التَّلاميذ الذين يمثلون شعب الله الجديد إن يسمعوا كلام يسوع، الابن الحبيب في الأزمنة الأخيرة. ويذكِّرنا الصَّوت الاتي من الغمام بذاك الصَّوت السَّماوي لمّا اعتمد يسوع في نهر الأردن " (مرقس 1: 11). فقد حضَّ الله على أهميَّة الاستماع لابنه يسوع عندما يتكلم عن آلامه المقبلة "يقيمُ لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيًّا مِثْلي مِن وَسْطِكَ، مِن إِخوَتكَ، فلَه تَسْمَعون" (تثنية الاشتراع 18: 15). وهو ما لم يكن بطرس مستعدًا أن يعمله " فَانفَرَدَ بِه بُطرُس وجَعلَ يُعاتِبُه فيَقول: حاشَ لَكَ يا رَبّ! لن يُصيبَكَ هذا!" (متى 16: 22). هل سنغرق في الشَّكّ مثل بطرس في كلام يسوع بينما يُعلن لنا الآب في الإنجيل بصورة لا تدعو للشكّ أنّ "هذا هَو ابنيَ الحَبيبُ الَّذي عَنهُ رَضيت، فلَهُ اسمَعوا"؟ لنسمع ليسوع ونحن نتأمل وجهه وثيابه الذي، من خلال بذله لذاته، يكشف عن مجد أبيه السَّماوي.
د) تأكيد مُسبق لمجد الأبرار
يسوع الذي تجلَّى على الجبل وشعّ منه النُّور ليس المسيح الاله فحسب، إنَّما هو المسيح الإنسان أيضًا. فالمسيح صورة الله وصورة الإنسان معًا. والتَّجلي هي صورة يسوع المُمجَّد، وهذه هي هيئة يسوع بعد قيامته في الجسد المُمجَّد. وسنكون على هذه الهيئة بعد موتنا في السَّعادة الأبديَّة. لذلك يقول بولس الرَّسول "ونَحنُ جَميعًا نَعكِسُ صورةَ مَجْدِ الرَّبِّ بِوُجوهٍ مَكشوفةٍ كما في مِرآة، فنَتَحوَّلُ إلى تِلكَ الصُّورة، ونَزدادُ مَجْدًا على مَجْد، وهذا مِن فَضْلِ الرَّبِّ الَّذي هو روح"(2 قورنتس 3: 18). فالتَّجلي هو دخول بالنَّفس إلى تذوّق الحياة الأبديَّة، لترى يسوع قادمًا في ملكوته، مُعلنًا أمجاده الإلهيَّة وهي بعد في الجسد. فيُعد التَّجلي نوعًا من الشُّعور المُسبق للمجد في حياة يسوع على الأرض، هذا المجد الذي أنبأ بان الأبرار سيتمتعون به في آخر الأزمنة في ملكوت الآب (متى 13: 43)، لأنَّ يسوع يمتلك هذه المجد منذ الآن، كما جاء في إنجيل لوقا " فَعايَنوا مَجدَه" (لوقا 9: 32).
ويؤكد بطرس مسبقًا مجد الأبرار، إذ إنّ السَّعادة والرَّهبة اللتين أحسّ بطرس بهما، وهو يرى يسوع متجلّيًا، وحولَه النَّبيّان العظيمان، قد دفعتاه إلى أن يقول:" يا ربّ، حَسَنٌ أَن نكونَ ههُنا " (متى 17: 4)، وكأنَّه لا يريد أن تنتهي هذه اللحظة، أو أن يوقف الزَّمن ويدخل في الأبديَّة من الآن، ولا يريد أن ينزل عن الجبل وتمنى ولو يبقى في حالة السَّماء هذه، وهنا نفهم حقيقة معنى السَّماء على أنَّها الفرح الدَّائم لرؤية وجه الله تعالى.
يضيء التَّجلي النُّور على مصير الإنسان البار، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول " سيُغَيِّرُ المسيح هَيئَةَ جَسَدِنا الحَقير فيَجعَلُه على صُورةِ جَسَدِه المَجيد بما لَه مِن قُدرَةٍ يُخضِعُ بِها لِنَفْسِه كُلَّ شيَء" (فيلبي 3: 21). وقالَ أيضًا: "لأنَّكُم قَد مُتُّم وَحَيَاتُكُم مُحتَجِبَةٌ مَعَ المَسِيحِ فِي الله. فَإذَا ظَهَرَ المَسِيحُ الَّذِي هُوَ حَيَاتُكُم، تَظهَرُونَ أنتُم أيضًا عِنَدَئِذٍ مَعَهُ" (قولسي 3: 3 -4).
أكَّد حدث التَّجلي الشُّعور المُسبَق للأبرار ومصيرهم، وذلك نتيجة ارتباطه بعيد المظال. فعيد المظال هو ثالث الأعياد السَّنويَّة الكبرى التَّي كان يجب فيها على كل ذكر في إسرائيل أن يتراءى أمام الرَّب في الموضع الذي يختاره (تثنية الاشتراع 16:16)، ويُعرَف بالعبرانيَّة "سُّكُّوت"، הַסֻּכּוֹת واشتق الاسم من عادتهم في أن يُقسموا في مظالٍ أثناء مدة العبادة "يُقيمونَ في الأَكْواخِ سَبعَةَ أَيَّام" (الأحبار 23: 40). فقد اختلط العيد بذكرى تاريخيَّة وهي إقامة العبرانيَّين في المظال في البريَّة (عدد 12:29 -38). وتحقق هذا العيد في صورة أكمل وأعمق في العهد الجديد، حين تجلى السَّيد المسيح على جبل طابور أمام ثلاثة من تلاميذه، وإذ رأى بطرس الرَّسول الحصاد الحقيقي قد تمّ إذ ظهر السَّيد المسيح في بهائه وحوله موسى وإيليا، واشتهى أن يقيم عيد مظال لا ينقطع، سائلًا السَّيد المسيح أن يصنع ثلاث مظال، واحدة للمسيح وأخرى لموسى النَّبي وثالثة لإيليا، ليبقى التَّلاميذ في هذا العيد أبديًا (متى 17: 6). لكن السَّيد المسيح أرسل مظلَّة سماويَّة، وهي عبارة عن "سحابة منيرة ظللتهم" لكي يسحب قلب التَّلاميذ إلى الأزمنة الأخيرة حين يأتي السَّيد على السِّحاب لا ليُقيم لهم مظال أرضيَّة، بل ليدخل بهم إلى حضن آبيه السَّماوي. وقد دعا يسوع الحياة الأبديَّة "المظال الأبديَّة" (يوحنا 16: 9).
والمجد يُمنح للأبرار في العَالَم الآتي، كما صرّح بولس الرَّسول: "وَعَظْناكم وشَدَّدْناكم وناشَدْناكم أَن تَسيروا سيرةً جَديرةَ بِاللهِ الَّذي يَدْعوكم إلى مَلَكوتِه ومَجْدِه" (1 تسالونيقي 2: 12)، أن الأبرار يحملون فيهم بذور المجد الآتي حيث يُمكنهم الحصول على جسدٍ ممجَّدٍ، كما صرّح بولس الرَّسول " الَّذي سيُغَيِّرُ هَيئَةَ جَسَدِنا الحَقير فيَجعَلُه على صُورةِ جَسَدِه المَجيد بما لَه مِن قُدرَةٍ يُخضِعُ بِها لِنَفْسِه كُلَّ شيَء" (فيلبي 21:3). ألم يكن التَّجلي صورة من هذا الملكوت السِّري حيث يتجلى مجد الرَّبّ في البشريَّة؟ فكيف لنا أن نحلم بفرح الفصح دون أن نعبر درب الصَّليب وطريق الآلام؟ الم يقل بولس الرَّسول: "أرَى أنَّ آلامَ الزَّمَنِ الحَاضِرِ لا تُعَادِلُ المَجدَ الَّذِي سَيَتَجَلَّى فِينَا؟" (روما 8: 18).
الخلاصة
ننتقل مع السَّيد المسيح من بريَّة التَّخلي في أريحا إلى جبل التَّجلي في طابور حيث أظهر يسوع مجده الإلهي لتلاميذه بطرس ويعقوب ويوحنا وكشف لهم عن طبيعته الإلهيَّة. وارتبط التَّجلّي بأحداث الصَّلب والقيامة، لأنه لم يكن ممكنا للرسل أن يتقبّلوا آلام السَّيد المسيح ويُدركوا سرّ قيامته ما لم يقم المسيح بتهيئتهم خلال ثلاثة منهم بالتَّجلّي. فكانَ الهدفُ الرَّئيسيُّ من التَّجلّي إزالةَ الشَّكِّ من قلوبِ التَّلاميذِ بسببِ الصَّليب. فبعدَ مشاهدِتهم جلالَ كرامةِ المسيحِ المَخفيّةِ لن يضطربَ إيمانُهم عندما يرَون مذلَّةَ الآلامِ التي سيتحمَّلُها طوعًا.
كما كانت المعموديَّة على عتبة حياة يسوع العلنيَّة كذلك كان التَّجلي على عتبة الفصح. بمعموديَّة يسوع "ظهر سر تجدُّدنا الأول" أي معموديتنا؛ والتَّجلي هو "سر التَّجدد الثَّاني أي قيامتنا الخاصة" كما يقول توما الأكويني. فمنذ الآن نشترك في قيامة الرَّب بالرُّوح القدس الذي يفعل في أسرار جسد المسيح.
يجعلنا التَّجلي نستمتع مسبقًا بمجيء المسيح المجيد الذي "سيُغَيِّرُ هَيئَةَ جَسَدِنا الحَقير فيَجعَلُه على صُورةِ جَسَدِه المَجيد" (في 3: 21)؛ ولكن يذكرنا أنَّه "يَجِبُ علَينا أَن نَجتازَ مَضايِقَ كَثيرة لِنَدخُلَ مَلَكَوتَ الله مضايق كثيرة " (أعمال الرسل 14: 22). فلا يُمكن للمؤمن أن يرتفع على جبل التَّجلّي ليرى بهاء السَّيّد المسيح ما لم يقبل صليبه ويدخل معه آلامه ليختبر قوّة قيامته فيه، فيُعلن الرَّب أمجاده له.
دعاء
أيها الآب السَّماوي، يا من تجلى ابنك يسوع المسيح على الجبل، واستطاع تلاميذه أن يشاهدوا مجده، لكي يفهموا، إذا ما رأوه مصلوبًا، فيكرزوا للعَالَم انه حقا ابنك الحبيب مخلص العَالَم، دعنا نصعد على الجبل فنسمع لكلمته، ونتهّب لوجوده في حياتنا، فيثبت إيماننا به ونشهد له ربا والهًا ومخلصًا ونرى مجده مجد الذي "سيُغَيِّرُ هَيئَةَ جَسَدِنا الحَقير فيَجعَلُه على صُورةِ جَسَدِه المَجيد" (فيلبي (3: 21).