موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢٦ يوليو / تموز ٢٠٢٣

"تمييّز الـملكـ - وت" بين كاتبي سفر الملوك الأوّل والإنجيل الأوّل

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (1مل 7: 4- 12؛ مت 13: 44- 52)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (1مل 7: 4- 12؛ مت 13: 44- 52)

 

مُقدّمة

 

في هذا المقال الأسبوعي لقرائتنا فيما بين العهدين، سنصل لجوهريّة النصوص التّي تتبعناها، بالعهد الثاني، بحسب إنجيل متّى في خطبة يسوع بالأمثال بالتوازي مع بعض من نصوص العهد الأوّل. سنتمعن اليّوم بنص من العهد الأوّل المأخوذ من سفر الملوك الأول (7: 4- 12)، والّذي يشمل على حوار هام بين الله وسليمان. يُشكل هذا الحوار نقطة إنطلاق هامة في بدء رسالة سليمان الملوكيّة، الّذي يُعتبر الملك الحكيم بامتياز، إلى الله الّذي يطلب منه أيّ شيء في بدء ممكلته إلّا إننا سنفاجأ بطلب سليمان من الرّبّ. وأما بنص العهد الثاني سنتعمق في آخر ثلاث أمثال من خطبة يسوع بالأمثال، الّتي تحدثنا عنها بالمقالين السابقيين لنختتم بهذا المقال خطبة يسوع بالأمثال بحسب متّى. سنكتشف في هذا المقال "حكمة الباحث عن الملـك-وت" من خلال الأمثال الثلاثيّة بالعهد الثاني، حيث يروين عن الكنز المخبأ في الحقل، واللؤلؤة الثمينة والشبكة الّتي أُلقيت في البحر (مت 13: 44 -52). يدعونا نصيّ هذا المقال للتعرف على قراءة تاريخ الله معنا كبشر وهو تاريخ يتسم بالحكمة من جانب الله صاحب المشروع الخلاصي والإنسان أنا وأنت وهو الباحث/ة عن الملكوت ولابد لنا من أن نتسم بحكمة أثناء البحث من أجل التمكن من تمييز الملكوت الحاضر من جانب ومشاركته لنا من جانب آخر في خطته نحن الّذين نعيش في التاريخ البشري. نهدف من خلال هذا المقال أن نتعرف على سمات الحكمة أثناء بحثنا عن الملكـ - وت مرافقين بنصي العهديّن ومستمرين في علمية البحث بحكمة عن الملكـ - وت. أردنا من خلال تقسيم لفظ الملكوت إلى الملكـ - وت، للتعمق في خطوات الملك الأرضي سليمان ليحيا بحسب الملك الإلهي ويسير نحو ملكوته، فهو الملك الحقيقي.

 

1. إحتياج الشاب - الملك (1مل 7: 4- 24)

 

يتكرر مضمون هذا النص بسفر الملوك الأوّل مع نص سفر الحكمة (7) والّذي يروي حوار الله مع الملك المستقبلي، ابن داود، سليمان. ويُشّدد كاتب سفر الملوك بأنّ هناك مبادرة بتجلي الرّبّ، إله داود إلى سليمان إبنه في حُلم في مدينة جبعون. في الحُلْمِ الليليّ، قالَ الله له: «اطلُبْ ما تُريدُ ان اعطِيَكَ» (1مل 7: 5).  نحن نسمع اليوم صوت الإله يضع ذاته في خدمة الملك الأرضي مُستجيبًا لطلباته دون أنّ يتلفظها سليمان. هذا الإله السخي الّذي يضع ذاته في خدمتنا نحن خلائقه. حتى يكون الإنسان بحسب قلب الرّبّ ويسلك في قيادة الشعب بحسب مخطط الرّبّ، يبدأ بالتجلي في حياة الإنسان، سليمان. يفاجئنا سليمان كقراء القرن الحادي والعشرين بإجابته، فهو لمّ يطلب سوى إحتياج باطني، متذكراً عطايا الله لأبيه بالماضي، ومُدركًا أصغريته وشبابه أمام مسئوليّته عن هذا الشعب الكثير العدد قائلاً: «أنت صَنعَتَ إلى عَبدِكَ داوُدَ أبي رَحمَةً عَظيمةً [...] والآن أَيُّها الرَّبُّ إِلهي، أنت مَلَّكتَ عَبدَكَ مَكان داوُدَ أبي، وأَنا صَبِيٌّ صَغيرُ السِّنِّ، لا أَعرِفُ ان أَخرُجَ وأَدخُل،[...] فهَبْ عَبدَكَ قَلبًا فَهيمًا لِيَحكُمَ شَعبَكَ وُيمَيز بينَ الخَيرِ والشَّر» (1مل 7: 6- 10). يدرك الملك الـمُختار من قبل الرّبّ حدوده بل وجهله بالكثير من الأمور، ويطلب فقط قلب فهيم. القلب في الفكر اليهودي هو مركز القرارات والأحكام. لذا الشاب الملك الّذي تنقصه الخبرة، يستجد بالرّبّ في طلب قلب مستمع لمشورته.

 

يأتي تعليق الكاتب بأنّه حسن في نظر الرّبّ هذا الطلب مجيبًا له: «بِما انكَ سَأَلتَ هذا الأمر، ولم تَسأَلْ لَكَ إيَّامًا كَثيرة، ولا سَأَلتَ لَكَ الغِنى، ولم تَطلُبْ نفوسَ أَعْدائِكَ، بل سَأَلتَ لَكَ التَمْييزَ لإِجراءِ الحُكْم، فهاءَنَذا قد فَعَلتُ بحَسَبِ كَلامِكَ هاءنَذا قد أَعطَيتُكَ قَلبًاَ حَكيمًا فَهيمًا» (1مل 7: 11- 12). يتلخص طلب سليمان في أن يمنحه الله "قلبًا مطيعًا" أيّ قلبًا قادرًا على الإصغاء له ليقود الشعب بحسب مخططه. نكتشف من خلال هذا الحوار بنص العهد الأوّل، رغبته في أنّ ينال بطريقة ما نعمة التمييز، فهو كملك يحتاج ليفهم الأمور بحسب المنطق الإلهي وليس البشري. بهذا الطلب يصير الملك الباحث الّذي ليس لديّه كلّ شئ، بل كـمَن يبحث عن كنز الحكمة طالبًا رّوح التميّيز الحكيم. هذا النوع من النعم الإلهيّة الباطنيّة ربما لا تتوازى مع طلباتنا اليّوم، فالمريض يطلب الشفاء، والعاطل العمل، ... وهكذا؛ أمّا نعمة التمييز لما هو للملكوت فقد لا يكون في أولويات طلباتنا أمام الرّبّ. هذا التمييز لسرّ الملكوت والّذي سنجد الطريق إليها في تعاليم يسوع التالية بالأمثال الثلاثيّة: الكنز واللؤلؤة الثمينة من خطبته بالأمثال بحسب متّى.

 

2. جوهر البحث (مت 13: 44- 52)

 

على ضوء الملك الباحث عن الحكمة في طلبته من صاحب الملكـ - وت، نستكمل مقالنا في حوار يسوع في حديثه عن ملكوت الله. يستخدم الإنجيلي، في هذا الخطاب الأمثال والتشبيهات ليصل مع كلّاً منّا كـباحث/ة للوصول إلى جوهر البحث. لدينا في هذا النصّ تشبيهين يتطلبن إلتزمات من قِبل الباحث عن الملكـ - وت. لازال يسوع يفسر ويكشف عن الملكوت الغير مرئي من خلال صيغة كاتب الإنجيل الأوّل  "يشبه ملكوت السموات" الّذي يحمل صيغة إعلان يسوع عن الملكوت الإلهي. هذه الصور الكتابيّة الّتي كشفها يسوع تتمركز حول جوهر بحثنا والّذي سيتجلي من خلال توضيح الثلاث أمثال التاليين:

 

الأوّل: الباحث عن الكنز (مت 13: 44-45)

 

يروي الإنجيل في مثل يسوع الأوّل عن مزارعًا ما بينما  يحرث حقله يفاجأ بانه يحتوي على كنز. لمّ يهدف المزارع للبحث عن شيء فهو مجرد يقوم بعمله العادي، لكنه، بينما هو منغمس في عمله العادي، يُفاجأ بشئ غير متوقع وهو بمثابة حقيقة رائعة لأنها ستُغير حياته، لذا يقرر أنّ يبيع كلّ شيء لأجل أن يشتري هذا الحقل لأن الكنز وهو رمز الملكوت يستحق أنّ يغير مسّار حياة كل إنسان نهايئًا. هذا هو حال المُزارع، إذ بينما لمّ يبدأ في الحرث باحثًا عن الكنز، ولكن بالنهاية، يحمل في قلبه الرغبة في شيء يمكن أن يغير حاله وللأبد وبشكل دائم، لحالنا. وهنا الحكمة في تمييزه السريع لما يغير حياته للأفضل. الغريب إنّ الملكوت يجده بين يديه بينما يقوم ببساطة بعمله اليومي كعامل حرث في حقل ليس يملكه.

 

الثاني: الباحث عن اللولؤة الثمينة (مت 13: 45- 46)

 

أنا المثل الثاني هو الباحث عن لآلئ ثمينة ويجد واحدة فقد، لكنها ذات قيمة كبيرة. الباحث عن اللآلئ الثمينة، هو على عكس المزارع، فإن تاجر اللؤلؤ يبحث عن شيء محدد للغاية وقام بتمييز لؤلؤة ذات قيمة كبيرة وهي رمز للملكوت، فأدرك إنها الّتي تستحق يبيع جميع ممتلكاته، الملكوت هو ثمرة بحث جاد. أليس هذا ما حدث للشاب الغني الذي سأل يسوع عن الحياة الأبديّة (مت 19: 16-22)؟ غادر الشاب الباحث بوجه حزين لأنه غير قادر على "بيع كل شيء" لشراء اللؤلؤة ذات القيمة الكبيرة التي وجدها هذا التاجر كنهاية لبحث طويل ومرهق وقد غيّرت حياته. على مثال ما حدث لهؤلاء الصيادين الّذين كانوا يقومون بعملهم على ضفاف بحيرة الجليل (راج مت 4: 18 - 22)، عندما مرّ يسوع ودعاهم ليتبعوه؟ أليس هذا ما حدث للعشار الّذي يُدعى متّى الجالس في جباية الضرائب (راج مت 9: 9-10)؟ في واقع الأمر لا أحد يبحث عن كنز، كل شخص يحمل في قلبه رغبة ما والرّبّ يلتقي بهم ومَن يميزه تتغير حياته ويستحق ترك كل شيء لتبعيّة الإله الّذي بادر وتجلى لهم قبلاً.

 

الثالث: صدفة الباحث (مت 13: 47- 50)

 

يشبه ملكوت السموات شبكة ملقاة في البحر تحمل كل أنواع الأسماك. أليس هذا هو حال جميع الرجال والنساء الذين يقابلون يسوع: أولئك الذين لا يبحثون والذين يبحثون؟ يتجلى الرّبّ حتى يصل للجميع من خلال كلمته ودعوته وتعليمه. اليّوم يمكننا أنّ نطلق عليه حينما يلتقي بالبعض منا عن طريق الصدفة، والبعض الآخر لأنهم يبحثون عن شيء ما، ولكن ليسنا جميعًا ​​قادرين على إمتلاك هذا "القلب القادر على التمييو" الذي يستحضره سليمان، والّذي يتيح لنا التعرف على الملكوت الّذي هو بمثابة الكنز واللؤلؤة الثمينة، يمكن لقائنا بيسوع الّذي جَلّبَ لنا الملكوت يُغير حياتهنا. قد لا يستطيع جميعنا اكتشاف تجلي الرّبّ لنا وعلينا بطلب نعمة التمييز الإلهيّة.

 

الخلّاصة

 

القراء الأفاضل تتبعنا من كلا الكاتبين لسفر الملوك الأوّل والإنجيل الأوّل مسيرة من طلب نعمة التمييز مِن قِبل سُليمان والّتي تجلت في أمثال يسوع التعليميّة الثلاث (1مل 7: 4- 12؛ مت 13: 43- 52). من خلال هذا المقال تنبينا أنّه فقط القلب هو الّذي يحمل كنز يمكن أن نجد فيه الجديد والقديم متى نتمكن من التَتَلمَذَ «لِمَلكوتِ السَّمَوات» (مت 13: 52). بالعهد الأوّل تتبعنا تلخيص طلب سليمان في أن يمنحه الله "قلبًا مطيعًا" أيّ قلبًا قادرًا على التمييز له ليقود الشعب بحسب مخططه. بهذا الحوار، أصبح سليمان بطريقة ما نموذجًا لـمَن يبحث بل لـمَن وجد أيضًا الكنز واللؤلؤة الثمينة في حكمة القلب. والّتي هي طريقة مختلفة للتحدث عن ملكوت الله بالعهد الثاني. سبق اختيار الله كل اختيار لنا، هذا هو ملكوت الله، الذي يصفه الإنجيل بأنه اكتشاف الباحث ككنز، واكتشاف اللؤلؤة الثمينة. يمكن لهذه الأمثال الثلاثة الصغيرة أن تنير مسيرة بحثنا. نحن أيضًا يمكننا أن نلتقي بملكوت السموات كالمزارع أو التاجر، ولكن من الضروري أنّ نقرر هذا الترك والبيع والشراء لأجل يسوع. ما أثر إحتياجنا اليّوم إلى أن نصبح مثل كاتب أصبح تلميذًا لملكوت السماوات يعرف كيف يستخلص الأشياء القديمة والجديدة منها. كنزه. وكنز الكاتب هو الملكوت. فقط أولئك الذين يعرفون كيفية استخلاص الأشياء القديمة والجديدة من كنز الكتاب المقدس يمكنهنا اكتشاف الكنز واللؤلؤة الثمينة واتخاذ قرار تبعيتنا ليسوع. وعلينا أنّ نكتشف أن الله يحبنا أولاً. أهم الحقائق الّتي تروي بشكل فعال تمييز الملكـ-وت من خلال المكان والزمان، أيّ التاريخ البشري الّذي يحكم فيه الله. سُليمان "الملك" نجح بطلبه للرّبّ أن يعيش "الملكوت" الّذي تجلى في تعاليم يسوع وتحقق فيه. هكذا أيّها القراء الأفاضل، يمكننا كمسيحيين أن نجد الملكوت بالصدفة، أثناء تأديّة العمل اليوميّ، لأن هناك ما يترك أثراً في قلوبنا وتنمله مختبئًا بداخلنا؛ أو يمكننا العثور عليه بعد بحث طويل، علينا بالمثابرة لتمييز جوهر ما نبحث عنه وهو الملك-وت. دُمتم في مسيرة بحث وتمييز للملكـ-وت.