موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٧ يوليو / تموز ٢٠٢٤

تكثير الخبز والسَّمكتين: معجزة وآية ومكان حدوثها

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد السَّابع عشر للسنة: تكثير الخبز والسَّمكتين: معجزة وآية ومكان حدوثها (يوحنا 6: 1-15)

الأحد السَّابع عشر للسنة: تكثير الخبز والسَّمكتين: معجزة وآية ومكان حدوثها (يوحنا 6: 1-15)

 

النَّص الإنجيلي (يوحنا 6: 1-15)

 

1 وعبَرَ يسوعُ بَعدَ ذلك بَحرَ الجَليل (أَي بُحَيَرَةَ طَبَرِيَّة). 2 فتَبِعَه جَمعٌ كثير، لِما رَأوا مِنَ الآياتِ الَّتي أَجْراها على المَرْضى. 3 فصَعِدَ يسوعُ الجَبَل وجَلَسَ مع تلاميذِه. 4 وكانَ قدِ اقتَرَبَ الفِصحُ، عيدُ اليَهود. 5 فرَفَعَ يسوعُ عَينَيه، فرأَى جَمعًا كثيرًا مُقبِلًا إِلَيه. فقالَ لِفيلِبُّس: ((مِن أَينَ نَشتَري خُبزًا لِيأكُلَ هؤلاء 6 وإِنَّما قالَ هذا لِيَمتَحِنَه، لِأَنَّهُ كانَ يَعلَمُ ما سَيَصنَع. 7 أَجابَه فيلِبُّس: ((لوِ اشتَرَينا خُبزًا بِمَائَتي دينار، لما كفَى أَن يَحصُلَ الواحِدُ مِنهُم على كِسرَةٍ صَغيرة)). 8 وقالَ له أّحَدُ تَلاميذه، أَندَراوَس أَخو سِمْعانَ بُطرُس: 9 ههُنا صَبِيٌّ معَهُ خَمسَةُ أَرغِفَةٍ مِن شَعير وسَمَكتان، ولكِن ما هذا لِمِثلِ هذا العَدَدِ الكَبير؟ 10 فقالَ يسوع: ((أَقعِدوا النَّاس)). وكان هُناكَ عُشبٌ كَثير. فَقَعَدَ الرِّجالُ وكانَ عَدَدُهم نَحوَ خَمسِةَ آلاف. 11 فأَخَذَ يسوعُ الأَرغِفَةَ وشَكَر، ثُمَّ وزَّعَ مِنها على الآكِلين، وفَعَلَ مِثلَ ذلك بالسَّمَكَتَين، على قَدْرِ ما أَرادوا. 12 فلَمَّا شَبِعوا قالَ لِتلاميذِه: ((اِجمَعوا ما فَضَلَ مِنَ الكِسَرِ لِئَلاَّ يَضيعَ شَيءٌ مِنها)). 13 فجَمَعوها ومَلأُوا اثنَتَي عَشْرَةَ قُفَّة مِنَ الكِسَرِ الَّتي فَضَلَت عنِ الآكِلينَ مِن خَمسَةِ أَرغِفَةِ الشَّعير. 14 فلَمَّا رأَى النَّاسُ الآيةَ الَّتي أَتى بِها يسوع، قالوا: ((حَقًا، هذا هوَ النَّبِيُّ الآتي إِلى العَالَم)). 15 وعَلِمَ يسوعُ أَنَّهم يَهُمُّونَ بِاختِطافِه لِيُقيموهُ مَلِكًا، فانصَرَفَ وعادَ وَحدَه إلى الجَبَل.

 

 

 المُقدِّمة

 

يروي يوحنا الإنجيلي معجزة تكثير الأرغفة والسَّمك (يوحنا 6: 1-15)، وهي المعجزة الوحيدة التي وردت في كل من الأناجيل الأربعة (متى 14: 13-23، مرقس 6: 30-46، ولوقا 9: 10-17)، وذلك لأهمِّيتها في إثبات لاهوت المسيح. وتُعتبر هذه المعجزة آية في إنجيل يوحنا، إذ هي ذروة نشاط يسوع ونهايته في الجليل وجوهر الخدمة فيها، والاختبار الحاسم بين الإيمان والرَّفض، إذ من خلالها أعلن يسوع العلاقات الجديدة بين البشر في ملكوت الله بالمشاركة في الخبز الواحد الذي قدّمه يسوع للجموع، وهذه المشاركة تدل على الأخوة التي يحتفل بها المؤمنون في عشاء الإفخارستيا وكسر الخبز خاصة يوم الأحد (لوقا 22: 14-20). ومن هنا تكمن أهميَّة البحث في وقائع النَّص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولًا: تحليل وقائع النَّص الإنجيلي (يوحنا 6: 1-15)

 

1 عبَرَ يسوعُ بَعدَ ذلك بَحرَ الجَليل (أَي بُحَيَرَةَ طَبَرِيَّة)

 

تشير عبارة "عبَرَ يسوعُ" إلى اجتياز يسوع من الجانب الغربي إلى الجانب الشَّرقي في جوار بيت صيدا (لوقا 9: 10). أمَّا عبارة "بَعدَ ذلك" فتشير إلى بعد الأمور المذكورة في الفصل السَّابق أي شفاء يسوع مقعدًا في أورشليم  في أيام العيد ( 5: 1- 47) ذهب يسوع للجليل؛ ولم يذكر يوحنا من معجزات المسيح في الجليل سوى اثنتين وهما: تحويل الماء خمرًا في عرس قانا الجليل ( يوحنا 2: 1-12)، وشفاء ابن عامل للملك  ( يوحنا 4: 46- 54)؛ أمَّا عبارة "بَحرَ الجَليل" فتشير إلى بحيرة عذبة تستمدُّ مياهها من نهر الأردن، وهذا البحر مُحاط بتلال وهضاب ما عدا في سهول البطيحة من الشَّمال، والغوير وطَبَرِيَّة الغوير من الجنوب، حيث يلتقي به نهر الأردن في خروجه. أما طول البحيرة من الشِّمال إلى الجنوب فيبلغ نحو 23 كم، وطرفه العريض المقابل لقرية المجدل يبلغ 12 كم. أمَّا سطحه فيقل ارتفاعًا بنحو 207 م عن سطح البحر الأبيض المتوسط. يتصف مناخه بنصف الحار بسبب انخفاض سطحه. وللبحيرة أسماء عديدة منها "بَحرِ كِنَّارةَ " (عدد 34: 11)، بُحَيْرَة جَنّيسَارت (لوقا 5: 1) بحيرة طبريَّة (يوحنا 6: 1 و21: 1) وهو الاسم المعروف بين العرب. ولهذا البحر شأن عظيم في الأناجيل لارتباطه بتاريخ حياة المسيح في بدء حياته العلنيَّة؛ أمَّا عبارة "أي" فتشير إلى تفسير يوحنا الإنجيلي لإفادة قرَّاء بشارته من الأُمم. أمَّا عبارة "بُحَيَرَةَ طَبَرِيَّة " فتشير إلى الاسم الرُّوماني الرَّسمي، الذي يَرجع إلى مدينة طَبَرِيَّة التي تقع على الجانب الغربي من البحيرة التي قام هيرودس انتيباس مؤخرًا بتوسيعها وتجميلها، تكريمًا إلى الإمبراطور طيباريوس قيصر حوالي سنة 26 م. ولم تُذكر مدينة طَبَرِيَّة إلاَّ مرة واحدة في الإنجيل (يوحنا 6: 23) بالرَّغم أنَّها كانت مدينة ذات شأن في أيام المسيح.

 

2 فتَبِعَه جَمعٌ كثير، لِما رَأوا مِنَ الآياتِ الَّتي أَجْراها على المَرْضى

 

تشير عبارة " فتَبِعَه جَمعٌ كثير" إلى رمز بين اتِّباع موسى في الخروج واتِّباع يسوع في الفصح، أذ كانَ قدِ اقتَرَبَ الفِصحُ (يوحنا 6: 4). فكما تبع شعب إسرائيل موسى، مُرسَل الرب، من العبودية ليصبحوا شعب الله، هكذا تبع جمعٌ كبيرٌ يسوعَ. أمَّا عبارة "جَمعٌ كثير" فتشير إلى جمهور غفير يُعلِّله اقتراب عيد الفصح، وتجوال يسوع في الجليل وكثرة ما صنع من المعجزات التي ذكرها الإنجيليون (متى 4: 24، 8: 16؛ 9: 35 ومرقس 6: 56، لوقا 9: 11-12). وهذا الجمع يساعد على توسيع الشِّهادة التي يؤدّيها يسوع. أمَّا عبارة "الآياتِ" في الأصل اليوناني σημεῖον في نظر الأناجيل متى ومرقس ولوقا تشير إلى "الخوارق" التي تدل على أن الأزمنة المسيحانيَّة قد تُدشِّنت (متى 1: 38)، وبدت المعجزة في نظرهم عملًا يدلُّ على قدرة يسوع. أمَّا في إنجيل يوحنا فاعتبرت "الآيات" أعمال رمزيَّة تدل على أن الحدث الإسكاتولوجي قد تمّ في يسوع المسيح. وتدعو هذه الآيات جميع الأمم للاعتراف أنَّ يسوع هو ابن الله. أما عبارة " الآياتِ الَّتي أَجْراها على المَرْضى" فتشير إلى معجزات الشِّفاء التي أوردها الإنجيلي متى (متى 14: 14). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم: " أن ما ورد هنا لا يشير إلى أصحاب عقول حكيمة جدًا، لأنهم انجذبوا بالمعجزات أكثر من التَّعليم، مع أن الآيات هي لغير المؤمنين وليس للمؤمنين" كما يؤكد ذلك بولس الرَّسول " كانَ اليَهودُ يَطُلبونَ الآيات" (1 قورنتس 1: 22).

 

3 فصَعِدَ يسوعُ الجَبَل وجَلَسَ مع تلاميذِه

 

تُذكّر عبارة "صَعِدَ يسوعُ الجَبَل" بعظة الجبل (متى 5: 1-8)، فكما صعد موسى جبل سيناء وأعطى شعبه الشَّريعة كذلك صعد يسوع الجبل ليُعطي الجمهور غذاء الحياة للجسد والنَّفس. وفي كلتا الحالتين قطع الله مع شعبه عهدًا أبديًا. وتتّفق الأناجيل الإزائيَّة في القول أنّ يسوع كان يحب الاعتزال في الجبل ليُصلّي مُخصِّصًا وقته مع الله الآب في علاقة حيويَّة (متى 14: 23 لوقا 6: 12، 9: 28) علمًا أن أغلب الأديان تعتبر الجبل مكان التَّلاقي بين السَّماء والأرض. ولعلّ السَّبب في ذلك ارتفاعه والسَّرّ الذي يكتنفه. كان يسوع يقضي الليل هناك يصلي حتى يُعلمنا أن من يرغب في الاقتراب من الله يُلزمه أن يتحرَّر من كل اضطراب ويبحث عن أماكن هادئة خالية من الارتباك. لان قضاء وقت منفرد مع الله، يُساعدنا أن ننمو روحيًا ويُزيدنا تشبهًا بالمسيح.  ويضيف مرقس الإنجيلي أن يسوع يصعد إلى الجبل ليس فقط للصلاة بل للرَّاحة وتعليم رسله أيضًا (مرقس 6: 30). وأمَّا عبارة َ"جَلَسَ" فتشير إلى يسوع المعلم الذي كان يُعلم تلاميذه وهو جالس كما كان عادة الرَّابي اليهودي الذي يعلم تلاميذه وهو جالس.

 

4 وكانَ قدِ اقتَرَبَ الفِصحُ، عيدُ اليَهود

 

 تشير عبارة "اقتَرَبَ الفِصحُ" إلى سبب حضور الجمع الكثير، إذ كان النَّاس يجتمعون من الجليل استعدادًا للصعود إلى أورشليم. ويعطي عيد الفصح مفتاحًا للفهم الرُّوحي لمعجزة الخبز والسَّمكتين، إذ يربط الإنجيلي يوحنا بين هذه المعجزة وعيد الفصح كما يوضِّح ذلك بولس الرَّسول " فقَد ذُبِحَ حَمَلُ فِصْحِنا، وهو المسيح"(1 قورنتس 5: 7)؛ لانَّ الفصح الحقيقي هو ذبيحة الصَّليب، وهو بعينه الإفخارستيا. أمَّا عبارة "عيد الفِصح اليهودي " فتشير إلى العيد السَّنوي الذي يحتفل به كل ذكر في إسرائيل في أورشليم. والأرجح أن هذا العيد الوارد في إنجيل يوحنا هو الفصح الثَّالث في فترة خدمة المسيح العلنيَّة.  ولم يصعد المسيح إلى أورشليم، لانَّ اليهود رفضوه في الفصح السَّابق (يوحنا 2: 18)، لذلك لم يكن باستطاعته الصُّعود إليه دون مواجهة المخاطر، وخاصة أنَّ ساعته لم تكن قد أتت بعد (يوحنا 5: 1، 18).  في هذا العيد تلتقي طقوس الرُّعاة (يذبحون الحمل) والمزارعين (يقدمون الفطير). وتذكِّر طقوس العيد بالخروج من مصر، فينتعش الإيمان بخلاص شعبه في الماضي، وتبعث الأمانة في زمن الحاضر، وتُشعل الرَّجاء بالخلاص الآتي. وأمَّا المسيحيون فيرون في هذا العيد موت وقيامة المسيح الذي هو الحمل الفصحى الجديد (1 قورنتس 10: 2)؛ أمَّا رموز الفصح (العبور) فدخلت في الكلام عن العماد المسيحي (1 قورنتس 10: 2) وعن العشاء الرَّباني أو الإفخارستيا. ويوحنا الإنجيلي يجعل أفعال يسوع الهامة (شكر وبارك) في إطار الأعياد اليهوديَّة بحيث يعطيها معناها المسيحي النِّهائي. ومن هذا المنطلق، تعتبر معجزة إشباع الجموع رمزًا للفصح الجديد أي الإفخارستيا، وبالتَّالي لم يَعدْ عيد الفصح في نظر المسيحيِّين مجرد عبور البحر وخلاص إسرائيل من عبوديَّة مصر، بل صار ارتفاع الابن يسوع على الصَّليب كحمل الله الذي يَرفع خطيئة العَالَم. لانَّ الفصح الحقيقي هو تقديم جسد المسيح ذبيحة على الصَّليب، وهو بعينه الإفخارستيا، التي" هي سرّ فصحي بكلّ معنى الكلمة، والتي تحتل مركزًا مرموقًا في قلب حياة الكنيسة"(القديس البابا يوحنّا بولس الثَّاني، الرِّسالة العامّة: "الإفخارستيّا حياة الكنيسة الأعداد 3-5).  وفي هذا الإطار تمّت معجزة تكثير الأرغفة والسَّمك.

 

5 فرَفَعَ يسوعُ عَينَيه، فرأَى جَمعًا كثيرًا مُقبِلًا إِلَيه. فقالَ لِفيلِبُّس: مِن أَينَ نَشتَري خُبزًا لِيأكُلَ هؤلاء

 

تشير عبارة "رَفَعَ يسوعُ عَينَيه" إلى نظرة يسوع إلى الجموع التي كانت تحيط به لكي يُعطيها الخبز المادي وخبز الكلمة وخبز القربان. أمَّا عبارة " فرأَى جَمعًا كثيرًا مُقبِلًا إِلَيه " فتشير إلى نظرة يسوع الحنونة الشَّفوقة إلى الجموع، فأراد أن يكافئهم لإقبالهم على سماع كلمة الله، كما أراد أن يقوِّي إيمان تلاميذه، فأقدم على إجراء معجزة تكثير الخبز والسَّمك.  أمَّا عبارة " ِفيلِبُّس" اسم يوناني Φίλιππος (معناه مُحب للخيل)، فتشير إلى أحد الرُّسل الاثني عشر (متى 10: 3). وكان من بيت صيدا الواقعة على بحيرة طَبَرِيَّة، وهي مدينة أَندَراوَس وبطرس. التقى يسوع بفيلِبُّس أولًا في بيت عنيا عبر الأردن حيث كان يوحنا يُعمّد، فدعاه وتبعه. ووجد فيلِبُّس نثنائيل فجاء به إلى يسوع ثقة منه بأن مقابلة واحدة منه مع يسوع تُقنعه أنه هو المسيح (يوحنا 1: 43-49). وبعد ذلك بسنة اختاره يسوع ليكون تلميذًا له. ولدى دخول يسوع أورشليم منتصرًا جاء بعض اليونانيِّين يريدون مقابلة يسوع، فقدَّمهم فيلِبُّس إليه (يوحنا 12: 20-23). وعندما كلّم يسوع تلاميذه مُبينًا لهم أنهم قد رأوا الآب لم يفهم فيلِبُّس الكلام على ما يبدو، فقال ليسوع: " يا ربّ، أَرِنا الآبَ وحَسْبُنا"(يوحنا 14: 8). وكان هو أحد الرُّسل المجتمعين في العِليَّة بعد القيامة (أعمال الرَّسل 1: 13)، وهذه آخر ملاحظة معتمدة عنه. ويقول يوسابيوس، مؤرخ الكنيسة، أن فيلِبُّس قد دفن في هيرابوليس في آسيا الصُّغرى. أمَّا سؤال يسوع لفيلِبُّس " "مِن أَينَ نَشتَري خُبزًا لِيأكُلَ هؤلاء" فتشير إلى تساؤل جوهريّ، إنه امتحان طريقة التَّلميذ في التَّفكير، أو لعل فيلِبُّس كان أقرب التَّلاميذ ليسوع، إذ كان أحد السَّتة الذين كانوا في قانا الجيل يوم تحويل الماء خمرًا. وقد سال يسوع فيلِبُّس "مِن أَينَ نَشتَري " لكن فيلِبُّس أجابه على شيء آخر وقال بمئتي دينار.  أمّا عبارة "مِن أَينَ" في الأصل اليوناني Πόθεν فتشير إلى ظرف مكان يستخدمه يسوع عادة للدلالة على المصدر الإلهي، هي اللحظات التي يكشف فيها يسوع عن نفسه على أنه الشَّخص الذي يأتي من الآب ويعطي حياة الآب، كما حدث مع وكيل المائدة في عرس قانا الجليل " فلَمَّا ذاقَ الماءَ الَّذي صارَ خَمْرًا، وكانَ لا يَدري مِن أَينَ أَتَت" (يوحنا 2: 9)، وعندما كشف يسوع عن سر الرُّوح القدس لنيقوديمس " فالرِّيحُ تَهُبُّ حَيثُ تَشاء فتَسمَعُ صَوتَها ولكنَّكَ لا تَدْري مِن أَينَ تَأتي" (يوحنا 3: 8)، وفي حوار يسوع مع المرأة السَّامريَّة تسأله " مِن أَينَ لَكَ الماءُ الحَيّ؟ " (يوحنا 4: 11) وفي أقوال النَّاس عن يسوع يتساءلون " وأَمَّا المسيح فلا يُعرَفُ حينَ يأتي مِن أَينَ هو " (يوحنا 7: 27).

 

6 وإِنَّما قالَ هذا لِيَمتَحِنَه، لِأَنَّهُ كانَ يَعلَمُ ما سَيَصنَع 

 

تشير عبارة "وإِنَّما قالَ هذا لِيَمتَحِنَه" إلى اختبار يسوع قوة إيمان فيلِبُّس به من حيث قدرته على إشباع ذلك الجمع الكثير، إذ سأله عن حل بشري لا حلَّ له. أمَّا عبارة "لِأَنَّهُ كانَ يَعلَمُ ما سَيَصنَع" فتشير إلى شهادة يوحنا البشير بمعرفة المسيح بانَّه لن يُشبع هذا الجمع الغفير إلاَّ بمعجزة إلهيَّة الذي هو مزمِعٌ أن يصنعها كآية عظيمة أمام تلاميذه كي تُساندهم عندما يُكلمهم عن خبز الحياة الأبديَّة "أَنا الخبزُ الحَيُّ الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماء مَن يَأكُلْ مِن هذا الخُبزِ يَحيَ لِلأَبَد. والخُبزُ الَّذي سأُعْطيه أَنا هو جَسَدي أَبذِلُه لِيَحيا العَالَم" (6: 51).

 

7 أجابَه فيلِبُّس: لوِ اشتَرَينا خُبزًا بِمَائَتي دينار، لما كفَى أَن يَحصُلَ الواحِدُ مِنهُم على كِسرَةٍ صَغيرة

 

تشير عبارة " لوِ اشتَرَينا خُبزًا بِمَائَتي دينار" إلى جواب فيلِبُّس المرتبط بمشكلة ماليَّة. كما لو أن المال وحده هو القادر على إيجاد الحل المناسب لمشاكل الحياة. ارتبط جوابه بمنطق بشريّ عمليًا وحسابيًا، وبالتَّالي بضعف إيمانه بيسوع، لأنه لم يلتفتْ إلى قدرة المسيح على كل شيء بل حصر فكره في إشباع ذلك الجمع. أنه لا ينظر إلى الموقف في نور الإيمان ومقدرة الرَّب على سدِّ حاجات الشَّعب، لإنَّ المبلغ لشراء الخبز أكبر بكثير مِمَّا كان يملكه مع التَّلاميذ. وهكذا أراد يسوع أن يُعلم فيلِبُّس أن الموارد الماديَّة ليست أهم شيء. فإنَّ الله قادر أن يصنع المعجزات. أمَّا عبارة " بِمَائَتي دينار " فتشير إلى أجرة عامل في مئتي يوم (متى 20: 9-10)، ولا شك أن فيلِبُّس ذكر المبلغ لاعتباره انه يتعذر على جميع التَّلاميذ جمعه.  أمَّا لفظة "دينار" فتشير إلى مبلغ كبير؛ إذ إن الدِّينار كان أجرة يوم عمل زراعي (متى 20: 2، لوقا 10: 34). وقد ورد في المشنة إن وجبة الخبز اليوميَّة لشخص واحد ثاني عُشر دينار. وهكذا فان مائتي دينار تدل على عظمة المعجزة من ناحية، كما تدل على عجز التَّلاميذ أن يُطعموا الشَّعب بعد تفقدهم ما لديهم من خمسة أرغفة وسمكتين. أمَّا عبارة " لما كفَى أَن يَحصُلَ الواحِدُ مِنهُم على كِسرَةٍ صَغيرة " فتشير إلى عدم وجود إمكانيات في المكان لإشباع هذه الجماهير، وحتى وإن وُجدت الإمكانيات العينيَّة فمن أين للتلاميذ أن يشتروا هذه الكميَّة من الخبز، فهم بحاجة إلى أكثر من 200 دينارًا.  اظهر جواب أَندَراوَس عظمة الحاجة، حيث لا يمكن شراء الخبز بل يمكن الحصول عليه، ومن أجل الحصول عليه ينبغي الدُّخول في منطق المجانيَّة والهبة والإلهية.

 

8 وقالَ له أّحَدُ تَلاميذه، أَندَراوَس أَخو سِمْعانَ بُطرُس

 

تشير عبارة "أَندَراوَس" اسم يوناني Ἀνδρέας (معناه رجل حقًا) إلى اسم أحد تلاميذ المسيح، وهو أخ سمعان بطرس، وكان موطنه بيت صيدا (يوحنا 1: 44) وكان صيادًا كبطرس (مرقس 1: 16 -18)، وكان لأندَراوَس بيت مع بطرس في كفرناحوم (مرقس 1: 29)، وكان تلميذًا ليوحنا المعمدان الذي أرشده إلى يسوع، حمل الله. وبعد ما اقتنع أَندَراوَس بأن يسوع هو المسيح أحضر أَندَراوَس بطرس أخاه إلى يسوع (يوحنا1: 35 -42) ليتبعه (مرقس 1: 16).  وقد جاء ذكره في قائمة الرُّسل (مرقس 3: 18). وأَندَراوَس هو الذي أخبر يسوع عن الصَّبي الذي كان معه خمسة أرغفة وسمكتان عند إطعام الخمسة آلاف (يوحنا 6: 8 و9)؛ وقد سأل هو وبطرس ويعقوب ويوحنا عن خراب أورشليم ومجيء الثاني للمسيح (مرقس 13: 3 و4) وأخبر هو وفيلِبُّس يسوع برغبة بعض اليونانيِّين في رؤيته (يوحنا 12: 22). ويقول التَّقليد أن أَندَراوَس استشهد في باتريا في أخائية في القسم الجنوبي من بلاد اليونان وأنه صُلب على صليب بشكل X، هذا النَّوع من الصُّلبان يُسمَّى في أيامنا صليب القديس أَندَراوَس. ويقول تقليدٌ آخرٌ أن سفينة التي غرقت بالقرب من المكان المعروف الآن باسم مدينة القديس أَندَراوَس في إسكتلندا كانت تحمل شيئين من بقايا أَندَراوَس. وتقام ذكرى استشهاده في 30 من تشرين الثَّاني من كل عام، وتلقى العظات في ذلك اليوم في بعض الكنائس عن الإرساليات التَّبشيريَّة بما أن يُبرز في الأناجيل كالشَّخص الذي يُحضر الآخرين إلى يسوع. ومما هو أكيد ومُثبت أن الرَّسول أندَراوَس لم يكتب سفر الأبوكريفا المعروف باسمه "أعمال القديس أَندَراوَس ".

 

9 ههُنا صَبِيٌّ معَهُ خَمسَةُ أَرغِفَةٍ مِن شَعير وسَمَكتان، ولكِن ما هذا لِمِثلِ هذا العَدَدِ الكَبير؟

 

تشير عبارة " ههُنا صَبِيٌّ معَهُ " إلى جواب أَندَراوَس الذي يلفت انتباه يسوع أن هناك صبيًا معه خمسة أرغفة وسمكتين إمَّا للبيع أو وجبة له. فهذا الصبي الذي لم يبخل بالقليل ما يملك بالرغم من حداثة عمره يُعلمنا السخاء. ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم: " ما نطق به أَندَراوَس ليس مصادفة إنَّما سمع عن معجزات الأنبياء وكيف صنع أليشاع آية بالأرغفة ".  وفي الواقع تُذكرنا َ أرغفة الشَّعير بما فعله اليشاع حين أطعم مئة رجل بعشرين رغيفًا، وأكلوا وفضل عنهم (2 ملوك 4: 42-44). الله لا يُطعم ولا يُكسي النَّاس إلاَّ من خلال النَّاس. أمَّا عبارة "خَمسَةُ أَرغِفَةٍ مِن شَعير وسَمَكتان" فتشير إلى صبي يحمل وجبته من ناحية، ومن ناحية أخرى تدل على علامة شعور الإنسان بدوره الحيوي ومساهمته في خدمة البشرية كما جاء في كلمات داود النَّبي: " ومِن يَدِكَ أَعطَيناكَ" (1أخبار 29: 14). فهُناكَ صلاةٌ بيزنطيَّة تقولُ: "ما لَكَ، ممّا هوَ لكَ، نُقرِّبُهُ لكَ، عَن كُلِّ شَيءٍ، ومِن أجلِ كُلِّ شَيء". ويقول البابا بِندِكتُس السَّادس عشر: "إنّ أرغفة الخبز المصنوعة من الشَّعير في حياتنا قد تبدو غير مفيدة، لكن الله بحاجة إليها وهو يطلبها منّا". يأخذ يسوع الأرغفة الخمسة والسَّمكتين ليُعطي مائة ضعف. من خلال الإيمان، يصبح كل عمل متواضع من أعمال المحبة وفيرًا، يكفي لسد حاجات الآخرين. ويُعلق القديس أوغسطينوس: " إنَّ الأرغفة الخمسة من الشَّعير ترمز إلى العهد القديم الذي يضم أسفار موسى الخمسة، وهي من الشَّعير، لأنَّ قشرة الشَّعير جامدة ويصعب نزعها، كالعهد القديم حين كان اليهود يمارسونه بالحرف، ويستصعبون إدراكه بالرُّوح. وأمَّا السَّمكتان فتشيران إلى الشَّخصيتين الرَّئيسيتين في العهد القديم، وهما النَّبي والملك.  فيسوع هو الكاهن، إذ يقدِّم نفسه للَّه ذبيحة من أجلنا، وهو الملك إذ يملك علينا. وقد ترمز السَّمكتان إلى العهدين الجديد والقديم".  أمَّا عبارة " أَرغِفَةٍ " في الأصل اليوناني ἄρτους فتشير إلى أرغفة صغيرة كالأقراص المدوّرة. وأرغفة الشَّعير هي طعام عامة النَّاس في الجليل وخاصة الفقراء. يكشف لنا الرّبّ الإله اليّوم ونحن أبناءه الّذين نؤمن به بأن أزماتنا الاقتصادية وجوعنا وحياتنا الّتي ينقصها الأساسي لن تستمر لأنّ الله لا يزال يتدخّل، من خلال كلماته وأفعاله. أمَّا عبارة " سَمَكتان" في الأصل اليوناني ὀψάρια فتشير إلى سمكتين صغيرتين لهما زعانف، إذ أن الشَّريعة ميَّزت بين السَّمك الطَّاهر والسَّمك النَّجس، فالذي له زعانف وحراشف هو طاهر، والذي ليس له زعانف وحراشف هو نجس (اللاويِّين 11: 9-12)، وهما سمكتان مملحتان كعادة أهل السَّواحل في الاحتفاظ بفائض الأسماك، ويُعلق القديس أوغسطينوس: " إن السَّمكتين هما وصيتا حب الله وقريبنا، أو هما الشَّعبان: أهل الختان وأهل الأمم، أو الشَّخصيتان للملك والكاهن". ويُكثر السَّمك في بحيرة الجليل، وهناك أكثر من ثلاثين نوعًا من السَّمك الصَّالح للطعام (متى 13: 47 و48). وقد رمز المسيحيون الأولون بالسَّمكة إلى إيمانهم، فكانت السَّمكة رمزًا سريًا أيام الاضطهاد الرُّوماني، حيث كان المسيحيُّون يتعرفون على بعضهم بعلامة السَّمكة، والواقع أن حروف السَّمكة في اللغة اليونانيَّة ΙΧΘΥΣ هي بدء كلمات تؤلف الجملة التَّالية "Ἰησοῦς ΧριστόςΘεοῦ Υἱός, Σωτήρ" أي يسوع المسيح ابن الله المُخلص. أمَّا عبارة "ما هذا لِمِثلِ هذا العَدَدِ الكَبير؟" فتشير إلى رد فعل فيلِبُّس الذي يبدو محيرًا بل مستحيلاً مبينًا قلة الوسائل من ناحية، ودليل على ضعف إيمانه من ناحية أخرى علمًا أن الإيمان بشخص المسيح يتجاوز حدود العقل والمنطق. ويُعلق القديس كيرلس: "تحول عدم إيمان أندرواس إلى شهادة حسنة للمسيح، لأنَّه باعترافه أن مبلغًا كبيرًا كهذا المال لن يكفي الجموع ولو لشراء زادٍ طفيف، بهذا الأمر يُكلل قدرة رب الجنود، هذا الذي عندما لم يتوفر شيء... تمَّم عمل محبته نحو الجموع بغنى فائق". إن الموقف الذي يبدو مستحيلاً بالوسائل البشريَّة، هو فرصة لله لتدخُّل.  لقد فعل التَّلاميذ كل ما كان في قدرتهم: قدّموا الطَّعام الموجود خمسة أرغفة وسمكتين وجعلوا النَّاس يقعدون على العشب ثم صنع الله المستحيل استجابة للصَّلاة.  استخدم الرَّب الخمسة الأرغفة والسَّمكتين كي يُطعِم الجموع، كي يُقدِّموا النَّاس ما عندهم مهما كان قليلًا كالعبد الأمين الذي يستثمر وزناته بقدر ما أُوتي به من قوة وهبات. علينا إن نلقي القليل مما توفَّر لدينا بين يديه، فهو قادر أن يأخذ القليل ويُكثره لأنَّه النَّبي المقتدر.  الله يأخذ ما نقدمه له من وقت أو قدرة أو موارد ويضاعفها بوفرة تفوق اقصى توقعاتنا. إنه يأخذ من أجل أن يُعطي.  وما أحلى ما قاله يهوشافاط الملك: "لا نَعلَمُ ماذا نَصنعَ، وإِنَّما عُيونُنا إِلَيك" (2 أخبار 20: 12). إنّ الرَّبّ قادر أن يُبارِك في القليل فيفيض. فلنُقدِّم ما عندنا من إمكانات محدودة وهو يستثمرها لمجده. وهنا يُعلمنا يسوع طرق التَّضامن والمشاركة والتَّعاون التي تساعدنا في سدِّ حاجات النَّاس الماديَّة والمعنويَّة من طعام وملبس ومسكن وتعليم وصحَّة، وتَطلع للعدالة والكرامة والحرّيَّة.

 

10 فقالَ يسوع: أَقعِدوا النَّاس. وكان هُناكَ عُشبٌ كَثير. فَقَعَدَ الرِّجالُ وكانَ عَدَدُهم نَحوَ خَمسِةَ آلاف

 

تشير عبارة "أَقعِدوا" إلى طلب السَّيد المسيح من تلاميذه أن يتكئ النَّاس على العشب قبل أن يقدِّم لهم الطَّعام تسهيلا لقيادتهم ولتجنب التَّشويش والارتباك. ونلاحظ هنا سلطة يسوع على الجموع. لقد طلب منهم يسوع الطَّاعة المرتبطة بالإيمان ليروا خلاص الله العجيب. ويُعِد يسوع تلاميذَ للمساهمة في عمله (مرقس 6: 30). ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم " أطاع التَّلاميذ يسوع في الحال، ولم يضطربوا، ولا قالوا ما هو هذا، كيف يأمرنا أن نتكئ الجموع ولم يظهر شيئًا في الوسط؟ بهذا ابتدأوا بالإيمان قبل نظرهم إلى المعجزة". لو لم يقبل الرُّسل الإيمان أولاً لما نالوا المعجزة ثانيًا. أمَّا عبارة "النَّاس" في الأصل اليوناني ἄνθρωπος  (معناها الرِّجال) فتشير إلى رؤوس العائلات. وكان من عادة اليهود أن يحصُوا الرِّجال وحدهم من سن العشرين فما فوق دون النِّساء والأطفال. وجلسوا في ترتيب حيث "قَعدوا أَفواجًا مِنها مِائة ومِنها خَمْسون"(متى 6: 40) لتسهيل توزيع الخبز عليهم بالسَّواء. فإلهنا إله ترتيب ونظام وليس إله تشويش وارتباك. ويضمن التَّرتيب الذي به أجلس النَّاس على الأرض لإعطاء كلَّ واحدٍ نصيبه "لْيَكُنْ كُلُّ شيَءٍ بِأَدَبٍ ونِظام" (1 قورنتس 14: 40).  أمَّا عبارة " وكان هُناكَ عُشبٌ كَثير" فتشير إلى أيام الرَّبيع وزمن عيد الفصح، أي في شهر نيسان. وهنا يتصرّف يسوع كالرَّاعي الصَّالح الذي يقود شعبه إلى مكان مليء بالعُشب كما ورد في المزمور " الرَّبُّ راعِيَّ فما مِن شيَءٍ يُعوِزنيفي مَراعٍ نَضيرةٍ يُريحُني. مِياهَ الرَّاحةِ يورِدُ في ويُنعِشُ نَفْسي (مزمور 23: 1-2). يشير العشب إلى كثرة الطعام والمياه. حيث تكون المراعي خصبة، تكون الحياة وفيرة. فالله يرشد إلى هناك لأنه الراعي الصالح الذي يقود قطيعه إلى تلك المراعي الخضراء. وهذه الصُّورة تذكرنا بصورة سفر الخروج " رأَوُا اللهَ وأَكَلوا وشَرِبوا " (9:24-11). أمَّا عبارة "فَقَعَدَ " في الأصل اليوناني ἀνέπεσαν (معناه أتكأ) فتشير إلى اتكاء الرِّجال على الكوع الأيسر، وهي الطَّريقة العاديَّة حينئذ لتناول الطَّعام. يتكرَّر فعل "قعد" مرتين في هذه الآية مما يدل على أهميته. إنه يدلّ على الجلوس على مائدة، وتحديدًا لحضور وليمة. وبالتالي، فإن هذا الاجتماع يرمز إلى جميع المدعوين للمشاركة في وليمة الملكوت العظيمة التي يمدّها الله لجميع الشعوب على الجبل العالي (أَشَعْيا 25: 6-10).  أمَّا عبارة "خَمسِةَ آلاف" فتشير إلى عدد كبير جدًا، ولاسيما حين نعلم أنَّه كان في كل من كفرناحوم وبيت صيدا نحو 2000 أو 3000 نسمة. لهذا، نفهم أنَّنا أمام عدد رمزي نجده أيضًا في الجماعة المسيحيَّة الأولى في أورشليم (أعمال الرسل 4: 4).  وبعبارة أخرى 5000 هو رقم الكمال في العَالَم اليهودي (مرقس 6: 40، 44) وهو علامة الجماعة الكاملة في نهاية الأزمنة. ويأتي من ضرب 5 (عدد مقدس في العَالَم اليهودي) X 1000 (هو عدد كبير جدًا وهو مكعب عشرة)، وهو رقم يوافق التَّنظيم الذي وصفه مرقس "فقَعدوا أَفواجًا مِنها مِائة ومِنها خَمْسون " (مرقس 6: 40) ويوحي هذا العدد بتجمّع إسرائيل. لقد ضاعف يسوع الأرغفة الخمسة والسَّمكتين حتى أشبعت أكثر من خمسة آلاف نفس. ويُعلق القديس كيرلس الكبير "المؤمن رمزه 5000 (خمس حواس × حياة سماويَّة "1000" = 5000)، حيث أنَّ رقم 5 يشير إلى حواس المؤمنين الخمس وقد سمت لتصير سماويَّة حيث رقم 1000 يشير في الكتاب المقدس إلى الحياة السَّماويَّة".  ما قُدِّم التَّلاميذ ليسوع أساس غير كافٍ، ولكن بين يديه أصبح أكثر من كافٍ. عندما نعطي يسوع تتضاعف مواردنا.                                                                                                                                                   

11 فأَخَذَ يسوعُ الأَرغِفَةَ وشَكَر، ثُمَّ وزَّعَ مِنها على الآكِلين، وفَعَلَ مِثلَ ذلك بالسَّمَكَتَين، على قَدْرِ ما أَرادوا

 

تشير عبارة " فأَخَذَ يسوعُ الأَرغِفَةَ " إلى المنّ الذي نزل من السماء في الصحراء وأطعم الشعب الخبز خلال مسيرتهم. ودون الخبز لا يوجد أمكانية للسير ولا للحياة. لكن مع اختلاف أن الخبز الذي قدّمه الصبي لم ينزل من السماء، بل كان تقدمة من صَبِيٌّ لا يملك إلاَّ خَمسَةُ أَرغِفَةٍ مِن شَعير (يوحنا 6: 9). وعلى الرغم من أن كمية الخبز كانت قليلة جدًا، إلاَّ أنها كانت في غاية الضرورة للمقاسمة مع الجميع. إذ أنَّ الخبز الذي يقدِّمه يسوع للجموع يجسد جوهر المشاركة والأخوة، وهو رمز الوحدة والشراكة بين أبناء الله. وهذا الخبز لا يمكن شراءه، إنَّه يُنال بالإيمان، أمَّا عبارة "شَكَر" في الأصل اليوناني εὐχαριστήσας وبالعبريَّة יְבָרֶךְ (معناها يبارك) فتشير إلى صلاة التَّسبيح والشُّكر والبركة التي ترافق "كسر الخبز" في رتبة المائدة عند اليهود. وفيما يسوع يُبارك الزَّاد الموجود يتكاثر بصورة معجزيه ليكفي الجمهور إذ "ففيه خُلِقَ كُلُّ شيَء " (قولسي 1: 16).  فالخبز والسَّمك كان يتضاعف بين يدَي الرَّب. والطَّعام لم ينفذ حتى أكل الجميع وشبعوا (متى 14: 20؛ 15: 37؛ مرقس 6: 42). ويُعلق القديس أوغسطينوس: "كانت الخمسة أرغفة هذه مثل بذور لم تُرمَ في الأرض، ولكنّ الّذي صنع السَّماء والأرض قام بتكثيرها". وصلاة الشُّكر شبيهة في رتبة الإفخارستيا حيث تتَّخذ هذه الصَّلاة معنى جديدًا. وهذه الصَّلاة تُذكرنا بنعم الله على الشَّعب وعظمة عطاياه. وما يدعو هنا إلى فعل الشُّكر هو عمل الله الذي يظهر خصوصًا في معجزة الخبز والسَّمكتين. فإن اللَّفظة العبريَّة للشكر هي إمَّا (תודה) التي تعبّر عن الاعتراف بالجميل، وإمَّا "ברך " (بارك) التي تعبّر عن التَّبادل الجوهري بين لله والإنسان. فهي صدى بركة الله الذي يهب خليقته الحياة والخلاص (تثنية الاشتراع 30: 19)، هي البركة التي يشكر الإنسان بوساطتها خالقه (دانيال 3: 9). أمَّا في أسفار العهد الجديد فان فعل "الشُّكر" لا ينفصل عن الاعتراف (ἐξομολογέω  (متى 11: 25) وعن الحمد والتَّسبيح (αἰνέω) (لوقا 2: 13) وعن التَّمجيد (δοξάζω)  متى 5: 16) وخاصة عن البركة (εὐλογέω)  (لوقا 1:64)، لأنَّن الشُّكر يجلب البركة ، فشكر والبركة  لهما معنى واحد. وهناك عبارة جديدة لا يعرفها العهد القديم، وقد وردت 60 مرة وهي كلمة الإفخارستيا (ευχαριστία) التي تعبّر عن الشُّكر المسيحي كجواب للنِّعمة التي وهبها الله في يسوع المسيح. وتشير هذه الآية إلى صورة عشاء الرَّب (متى 26: 26). كان يوحنا الإنجيلي يفكر في الإفخارستيا، وذلك من خلال إشارته الواضحة إلى اقتراب عيد الفصح، وكانت الكنيسة في ذاك الوقت تحتفل بسر الإفخارستيا قبل أربعين أو خمسين سنة على الأقل. أمَّا عبارة "وشَكَر، ثُمَّ وزَّعَ " في الأصل اليوناني εὐχαριστήσας διέδωκεν(معناه شكر ووزَّع) فتشير إلى فعلين في اليونانيَّة يختلفان من حيث صيغة الزَّمن،  فصيغة فعل "شكر" هنا يدل على  الاستمراريَّة، ذلك كان يتكاثر الخبز عند توزيعه. ويعلق القدّيس هيلاريون: "لم تصر الأرغفة الخمس عديدة بفعل التَّكثير، بل صارت القطع تتابع وتدهش الّذين يقطعونها، كما لو كانت قد قُطِعَت مُسبَقًا! فالمادّة واصلت امتدادَها" (شرح لإنجيل القدّيس متّى).  إن دلّت أعجوبة تكثير الخبز وسر الإفخارستيا على شيء، إنَّما يدلان على الحبِّ الشَّديد الذي يكنُّه الله للبشريَّة جمعاء. لا يتجاهل الرَّب يسوع احتياجات الإنسان فهو يهتم بكل جانب من حياتنا، الجانب المادي والجانب الرُّوحي أيضًا، ويُعلق القديس أمبروسيوس: "أعطى يسوع للبعض خبزًا من الشَّعير لئلا يخوروا في الطَّريق، ومنح سرّ جسده للآخرين (متى 26: 26) لكي يجاهدوا من أجل الملكوت". قبل أن يوزِّع السَّيد المسيح الخبز والسَّمكتين على تلاميذه شكر لكي يُدرِّبنا على حياة الشُّكر. إنه يُعلمنا أن نقدم الشُّكر لله على كل بركاته الرُّوحيَّة والجسديَّة، فإن ما لدينا هو عطيَّة مجانيَّة من لدنه. وكما يقول بولس الرَّسول: " فكُلُّ ما خَلَقَ اللهُ حَسَن، فما مِن طَعامٍ مَرْذولٍ إِذا تَناوَلَه الإِنسانُ بِشُكْر، لأَنَّ كَلامً اللهِ والصَّلاةَ يُقَدِّسانِه " (1 طيموتاوس 4: 4-5). وهذه المعجزة هي المعجزة الوحيدة التي ذكرها كل من الإنجيليِّين الأربعة. وذكرها يوحنا كمقدِّمة لخطابه.  وهذه المعجزة دعوة لكل المؤمنين كي يسدّوا احتياجات الآخرين كخدمة إيمانيَّة مسيحيَّة وليست اجتماعيَّة فقط. أمَّا عبارة "على قَدْرِ ما أَرادوا" فتشير إلى توفير الله للنَّاس ما يحتاجون إليه من طعام كما تنبأ النَّبي أشعيا:" لا يَجوعونَ ولا يَعْطَشون ولا تَلفَحُهمُ السَّمومُ ولا الشَّمْس لِأَنَّ راحِمَهم يَهْديهم وإِلى يَنابيعَ المِياهِ يورِدُهم" (أشعيا 49: 10). إن هذا التَّكاثر هو سر الحياة. بأنّ المستحيل بشريًا غير مستحيل إلهيًا.  فيحسن إن نردِّد مع صاحب المزامير "ما أَعظَمَ أَعْمالكَ يا رَبّ لقد صَنعتَ جَميعَها بِالحِكمة فاْمتَلأَتِ الأَرضُ مِن خَيراتِكَ" (مزمور 104: 24). وكان يسوع ينوي بمعجزة تكثير الخبز إلى تهيئة تلاميذه لقبول المعجزة الكبرى التي قرَّر إن يصنعها قبل إن يتألم وهي إن يحوِّل الخبز إلى جسده والخمر إلى دمه، كما جاء في إنجيل متى "أَخذَ يسوعُ خُبزًا وبارَكَ ثُمَّ كَسَرَه وناوَلَه تلاميذَه وقال: ((خُذوا فَكُلوا، هذا هُوَ جَسَدي".  ثُمَّ أَخَذَ كَأسًا وشَكَرَ وناوَلَهم إِيَّاها قائلًا: ((اِشرَبوا مِنها كُلُّكم فهذا هُوَ دَمي، دَمُ العَهد يُراقُ مِن أَجْلِ جَماعةِ النَّاس لِغُفرانِ الخَطايا)) (متى 26: 26-28).  وتعلق القديسة الأُم تريزا دي كالكوتا: " ماذا يمكن لِربّي يسوع أن يعطيني أكثر من جسده طعامًا؟ لا، لا يستطيع الله أن يفعل أكثر من ذلك، ولا أن يُظهِر لي حبًّا أكبر" (فكرة روحيَّة). أمَّا عبارة "وزَّعَ " فتشير في إنجيل يوحنا إلى تجنب استعمال كلمة "كسر" لكي يلمح أن المسيح " لَم يَكسِروا ساقَيْه (يوحنا 33:19)؛ فيوحنا يكتب هذه المعجزة ويطابق بينها وبين ما حدث على الصَّليب، وبينما تستعمل الأناجيل الأخرى كلمة "كَسَر" (متى 14: 19، مرقس 6: 41، لوقا 9: 16).

 

12 فلَمَّا شَبِعوا قالَ لِتلاميذِه: اِجمَعوا ما فَضَلَ مِنَ الكِسَرِ لِئَلاَّ يَضيعَ شَيءٌ مِنها

 

 تشير عبارة " شَبِعوا " في الأصل اليوناني ἐνεπλήσθησαν (معناها امتلأوا) إلى تلميح للمّنِّ الذي أُعطي لإسرائيل في البريَّة (خروج 16: 4)؛ فكما أطعم الله شعبه في برِّية سيناء، كذلك فعل يسوع في ذاك المكان المُقفر (مرقس 6: 30). فقد سدَّ كل احتياجات الإنسان: روحًا ونفسًا وجسدًا وأشبعه ليس من الخبز فقط، إنما أيضا من خبز الحياة الأبديَّة. ليس تناول الخبز هام وحسب، إنَّما إدراك ما الّذي نأكله، وإدراك مصدره، وأيّ حياة يُغذّي فينا. ويعلق القديس يوحنا فيانِّيه: " تعالوا إلى يسوع، تعالوا كي تعيشوا فيه، بهدف العيش من أجله" (الشَّركة الإفخارستيا). نحن مدعوُّون هنا لاكتشاف إلهنا كمصدر لتغذيتنا وتحرُّرنا من الجوع الأرضي، فهو الّذي يّطعِمنا ويُنقذنا من الجوع، ويجعلنا نرتاح في المراعي الخضراء الّتي يرافقنا إليها وقد أعدها خصيصًا لنا (مزمور 23: الرب الراعيَّ). أمَّا عبارة "اِجمَعوا ما فَضَلَ مِنَ الكِسَرِ لِئَلاَّ يَضيعَ شَيءٌ مِنها" فتشير إلى الوِفرة (2ملوك 4: 43)، وهكذا يتأكد الإيمان بأنَّه كانت هناك وفرة من الطَّعام حقًا، وإن ما حدث لم يكن تخيلًا، وتلمح العبارة أيضا إلى المائدة التي لا تزال مفتوحة للجميع، إذ ترمز هذه الفضلات إلى طعام المّنِّ الذي أعطاه الله في البريَّة (خروج 17)، وأخيرُا ترمز إلى القربان الأقدس، ومراده ذلك إبراز وفرة المواهب السَّماويَّة القادرة على إشباع المؤمنين (يوحنا 6: 35).  وفي الواقع، كان اليهود يتطلَّعون إلى الخبز كونه الطَّعام الرَّئيسي الذي يمثِّل بركة من الرَّب، لذا فإنهم يحرصون ألاَّ يسقط فتات خبز على الأرض، ولا يطأ أحدٌ بقدميه على فتات الخبز. جاء في أمثال اليهود: "من يحتقر خبزًا يسقط في أعماق الفقر".   أمَّا عبارة "الكِسَرِ" فلا تشير إلى الفتات التي سقطت على الأرض، بل إلى خبز الفائض الذي وزّعه يسوع. وما كتبه يوحنا الإنجيلي يقودنا أخيرًا إلى الكلام عن خبز الحياة، فيسوع ليس هو فقط معطي الحياة، بل هو خبز الحياة.  أما عبارة " لِئَلاَّ يَضيعَ شَيءٌ مِنها " فتشير إلى بقايا الطَّعام التي هي ليست تافهة بل تسدُّ جوع المحتاج. فالأمين في القليل يُقيمه الله على الكثير، كما جاء في الكتاب المقدس: "كُنتَ أَمينًا على القَليل، فسأُقيمُكَ على الكَثير" (متى 25: 21).

 

13 فجَمَعوها ومَلأُوا اثنَتَي عَشْرَةَ قُفَّة مِنَ الكِسَرِ الَّتي فَضَلَت عنِ الآكِلينَ مِن خَمسَةِ أَرغِفَةِ الشَّعير

 

 تشير عبارة "اثنَتَي عَشْرَةَ قُفَّة مِنَ الكِسَرِ" إلى عدد الرُّسل الاثني عشر الذين اختارهم يسوع وهم يرمزون إلى أسباط إسرائيل الاثني عشر، وبالتَّالي إلى مُجمل الكنائس. فهي رمز لكنيسة المسيح، كنيسة الاثني عشر تلميذًا، التَّي اجتمعت حول المسيح لتصير واحدًا في المسيح يسوع. وهذه الكِسر من الخبز تعطى طعامًا للكنيسة من خلال القربان المقدس حتى مجيء المسيح (مرقس 6: 43). ولقد وضع اليهود لأنفسهم قانونًا أن يقضي بترك كسرة خبز بعد الطَّعام إشارة إلى أن البركة قائمة في البيت "لم يُبقِ نَهَمُه على شَيءٍ لِذلِكَ نُعْماه لا تَثبُت" (أيوب 20: 21). إنَّ بقاءَ الاثنتَي عشْرةَ قُفَّة، بعَددِ التَّلاميذِ، لكُلِّ واحِدٍ قُفَّة، يَهدُفُ إلى مُتابَعةِ ما قامَ بهِ يسوع من خلال كنيسته. أمَّا عبارة "قُفَّة" في الأصل اليوناني (κόφινος) فتشير إلى سلَّة صغيرة من الخيزران الصَّلب تُحمل على الذِّراع للتسوق (لوقا 9: 17)، أو كان اليهود يحملون فيها مؤونتهم حتى يتجنَّوا شراء الطَّعام من الأمم الوثنيَّة (مرقس 8: 8).  وأمَّا السَّلة باليونانيَّة σπυρίς فهي خاصة باليونانيِّين (متى 15: 37)؛ أمَّا عبارة "الكِسَرِ الَّتي فَضَلَت عنِ الآكِلينَ" فتشير إلى الوفرة (2 ملوك 4: 43-44) ويدل رفع الفضلات على المائدة التي لا تزال مفتوحة بواسطة الرُّسل لجميع النَّاس. هناك وجه شبه بين هذه المعجزة ومعجزة اليشاع في تكثير الأرغفة (2 ملوك 4: 42-44)، والمن الذي أعطاه الله في البرِّيَّة (خروج 16، مزمور 78: 34-25). فكانت الكنيسة الأولى تنظر إلى تحقيق هذه النُّصوص في يسوع، تلك النُّصوص التي كان يُعاد قراءتها في الدِّين اليهودي المعاصر لهم، نظرهم إلى الإنباء بأعمال الله والمسيح في آخر الأزمنة.

 

14 فلَمَّا رأَى النَّاسُ الآيةَ الَّتي أَتى بِها يسوع، قالوا: حَقًا، هذا هوَ النَّبِيُّ الآتي إِلى العَالَم

 

تشير عبارة "النَّبِيُّ الآتي إِلى العَالَم" إلى ترقُّب عامة الشَّعب مجيء المسيح إلى العَالَم وإدراكهم أن يسوع هو نبيُّ الأزمنة الأخيرة (يوحنا 1: 21)، ذلك النَّبي المنتظر الذي تكلم عنه موسى (ثنية الاشتراع 18: 15-18)، وهو المُرسل من الله إلى العَالَم ليتزعَّم حركة تحرير قومي يُحرِّر اليهود من استعمار الرُّومانيِّين ويُؤسِّس لهم دولة قويَّة، ويُقيم سلطان إسرائيل. ولذلك همّوا بإعلانه ملكًا (يوحنا 6:15). لكن يسوع عَلِم التباس هذه المسيحانيَّة الشَّعبيَّة، ورفض هذا التَّنصيب الملكي المشبوه، والانزلاق في عمليَّة منافية لرسالته.  نبذ هذا الشَّعب تعليم الرَّب، ووجَّه قلبه وعقله لا إلى التَّقوى ونشر ملكوت الله، بل إلى ملكوت سياسي دُنيوي بعيد عن رسالة الخلاص التي جاء إليها المسيح على الأرض. وباختصار، الشَّعب يفكر في خبز مادي، ويسوع يفكر في خبز الحياة الأبديَّة، الشَّعب يفكر في مملكة أرضيَّة، ويسوع يفكر في مملكة روحيَّة. 

 

15   وعَلِمَ يسوعُ أَنَّهم يَهُمُّونَ بِاختِطافِه لِيُقيموهُ مَلِكًا، فانصَرَفَ وعادَ وَحدَه إلى الجَبَل

 

تشير عبارة " يَهُمُّونَ بِاختِطافِه لِيُقيموهُ مَلِكًا" إلى مظاهرة مسيحانيَّة حِماسيَّة تُهدِّد رسالة يسوع بالتَّشويه. إذ قرَّر الشَّعب أنه لو رفض المسيح مطلبهم يختطفونه ويجعلونه ملكًا زمنيًا حسب إرادتهم. ولم يروا فيه المخلِّص الذي ينتزعهم من موت الخطيئة، وإنما الملك الذي ينقذهم من سيطرة المُحتل الرُّوماني ومن استبداد الملك هيرودس. لكن يسوع لم يأتِ ليأخذ مُلْكًا على الأرض، وإنما ليكون فصحًا فريدًا يدخل بدم جسده مرة واحدة إلى الأقداس ليصنع فداءً أبديًا كما جاء في تعليم صاحب الرِّسالة إلى العبرانيِّين "دَخَلَ القُدْسَ مَرَّةً واحِدَة، لا بِدَمِ التُّيوسِ والعُجول، بل بِدَمِه، فحَصَلَ على فِداءٍ أَبَدِيّ (عبرانيِّين 9: 12). ومن هذا المنطلق، فهِم الشَّعب اليهودي المسيح بطريقة خاطئة كما نفهمه حتى الآن، فكل ما نريده هو الشَّبع والخيرات الماديَّة وحل مشاكلنا مع الآخرين. أمَّا عبارة "فانصَرَفَ" فتشير إلى رفض يسوع مملكة من هذا العَالَم، لا يريد مُلكًا في العَالَم، بل أن يملك على الصَّليب، لأنَّه أتى إلى العَالَم لِنشر ملكوت الله على الأرض، ملكوت روحي كما أعلن: "لَيسَت مَملَكَتي مِن هذا العَالَم" (يوحنا 18: 36)، رفض تولي مُلك أرضي كما يفهمه الجموع. وسبق أن رفض يسوع التَّجربة في الصَّحراء كما ورد في إنجيل متى "مَضى بِه إِبليسُ إِلى جَبَلٍ عالٍ جدًّا وأَراهُ جَميعَ مَمالِكِ الدُّنيا ومَجدَها، وقالَ له: أُعطيكَ هذا كُلَّه إِن جَثوتَ لي سـاجدًا.  فقالَ له يسوع: اِذهَبْ، يا شَيطان! لأَنَّه مَكتوب: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسجُد وإياه وَحدَه تَعبُد" (متى 4: 8-10). وهنا تمَّت القطيعة بينه وبين أصحاب النَّظريات الشَّعبيِّة حول مسيحانيَّة سياسيَّة.  وأمَّا عبارة "عادَ وَحدَه إلى الجَبَل" فتشير إلى عودة يسوع إلى الجبل كملجأ بعيدًا عن الدِّعاية الصَّاخبة في تمليكه (يوحنا 6: 15) في حين تتّفق الأناجيل الإزائيَّة في القول أنّ يسوع كان يحب الاعتزال في الجبل ليُصلّي (متى 14: 23 لوقا 6: 12، 9: 28). قضى يسوع وقت مع أبيه السَّماوي في الصَّلاة في علاقة حيويَّة على الجبل حيث أن أغلب الأديان تعتبر الجبل مكان التَّلاقي بين السَّماء والأرض. ولعلّ السَّبب في ذلك ارتفاعه والسَّرّ الذي يكتنفه. إن قضاء وقت على انفراد مع الله، يُساعدنا على أن ننمو روحيًا ونزداد تشبهًا بالمسيح.  

 

 

ثانيًا: تطبيقات النَّص الإنجيلي (يوحنا 6: 1-15)

 

بعد دراسة وقائع النَّص الإنجيلي وتحليله (يوحنا 6: 1-15) يمكننا أن نتناول ثلاث نقاط: الفرق بين المعجزة والآية، ومعنى معجزة تكثير الخبز والسَّمك ومكان المعجزة.

 

1) الفرق بين المعجزة والآية

 

الإنجيلي يوحنا هو الوحيد الذي رفض استخدام كلمة معجزة بل استخدم كلمة "آية" بمعنى أنه مهما كان العمل خارقًا ليس المهم كم هو خارق، إنَّما المهم والجوهري ما هي الرِّسالة التي سيوصلها المسيح من خلال هذا العمل الخارق. ومن هذا المنطلق، إن تكثير الخبز في نظر يوحنا الإنجيلي ليس فقط معجزة أي تحدي للقوانين الطَّبيعيَّة بل هي في الدرجة الأولى آية الهيه فعّالة، أي لها شارة رمزيَّة؛ ويكتشف القديس أوغسطينوس بعيني الإيمان في معجزة تكثير الخبز والسَّمك علامة الحبّ والقدرة الإلهيِّين". ومن هنا لا بُدَّ من التَّمييز بين المعجزة والآية.

 

الألفاظ التي تشير إلى المعجزات في الكتاب المقدس بالعبريَّة هي: إمَّا (אֹתֹת) أي آيات (خروج 10: 1) أو (מפְתִים) أي خوارق رمزيَّة (تثنية الاشتراع 7: 19). فالمعجزة تمتاز عن الآية بطابعها الخارق للعادة. فهي تنطوي على وقائع من الطَّبيعة التي تتجاوز غالبًا ما اعتاد الإنسان أن يراه في الكون، ولا يستطيع أن يصنعه. وفي هذا الصَّدد يقول القديس أوغسطينوس: "إنّ المعجزات الّتي صنعها ربّنا يسوع المسيح هي حقًّا أعمالٌ إلهيّة. إنّها تهيّئُ العقل البشريّ لمعرفة الله من خلال ما هو مرئيّ، إذ أنّ عيوننا لا تستطيع أن تراه بسبب طبيعتها".

 

من هذا المنطلق، إن المعجزة هي أية تمتاز بوجه خاص بالكشف عن قدرة الله ومأثره (خروج 15: 11) أو إنّها شيءٌ عظيمٌ (مزمور 106: 7)، أو شيءٌ مخيفٌ (خروج 34: 10)، أو أعجوبة (بالعبريَّة פֶלֶא) (خروج 15: 11) أو عجيبة (بالعبريَّة נִפְלה) (مزمور 106: 7). ويعلق الكردينال جوزف راتزنغر (البابا بندكتُس السَّادس عشر: "لا يرفض يسوع كلّ أنواع الآيات، لكنّه يرفض النَّوع الذي يطلبه "هذا الجيل". وعد الرَّبّ بالآية الخاصة به وأعطاها، اليقين الصَّحيح الذي يتّفق مع الحقيقة التَّالية: "فكما كان يونان آية لأهل نينوى، فكذلك يكون ابن الإنسان آية لهذا الجيل" (لوقا 11: 30). إنّ يسوع نفسه، بشخصه وكلامه وشخصيّته الكاملة هو آيةٌ لجميع الأجيال. إنّه جواب عميق جدًّا مطلوب أن نتأمّل به باستمرار. "مَن رآني رأى الآب"، هذا ما أكّده الرَّبّ لفيليبّس عندما سأله: "أرنا الآب" (يوحنا 14: 8). نحن نريد أن نرى قبل أن نؤمن. أجابنا يسوع: "نعم، يمكنكم أن تروا". فمن خلال الابن، أصبحت رؤية الآب ممكنة. رؤية يسوع هي الجواب. نحصل على الآية، الحقيقة التي تُبرهن عن نفسها. وفي الواقع، أليس وجود يسوع في كلّ الأجيال هو آية عظيمة؟ أليست شخصيّته القوية جذّابة للوثنيِّين ولغير المسيحيِّين وللمُلحدين أيضًا؟ "(الرِّياضة الرُّوحيَّة في الفاتيكان سنة 1983).

 

 بعبارة أخرى، تكمن المعجزة في إنجازات مستحيلة على الإنسان، والله وحده قادرٌ على إتمامها، لأنَّه إله المستحيلات كما يترنَّم صاحب المزامير" لأَنَّكَ عَظيمٌ وصانعُ العَجائب وَحدَكَ أَنتَ اللّه" (مزمور 86: 10)، ومن خلالها يُظهر مجده (خروج 15: 1) وشعاع قداسته وسموه (خروج 15: 11). فالمعجزات في النِّهاية هي آيات فعّالة ومواهب مجانيَّة تدلُّ على محبِّة الله (مزمور 16: 7)، وتدعو إلى الإيمان.

 

2) معجزة تكثير الخبز والسَّمك هي معجزو وآية

 

تكثير الخبز والخمر في رؤية يوحنا الإنجيلي هو معجزة وآية.

 

أ) تكثير الخبز والسَّمك هي معجزة، يبارك يسوع الأرغفة الخمسة والسَّمكتين وبصورة معجزة يتكاثر الخبز والسَّمك ليكفي الجمهور، ويزيد اثنتا عشرة قُفَّة من الكسر فيُدرك الجمهور دلالة المعجزة المسيحانيَّة ويعترفوا انه هو حَقًا، هذا هوَ النَّبِيُّ الآتي إِلى العَالَم" أي النَّبي الذي ورد ذكره في تثنية الاشتراع (18: 15).

 

ب) تكثير الخبز والسَّمك هي آية بسبب الرَّمز الذي تُخفيه المعجزة. وعلى هذا النَّحو فان تكثير الخبز تُظهر يسوع كآية:

 

أولا: لأنَّ وجود يسوع يرمز إلى حضور الله الذي يعمل من خلاله كما تنبأ أشعيا النَّبي "هاءَنَذا والأَبْناءَ الَّذينَ أَعْطانيهمِ الرَّبُّ آياتً وعَلاماتٍ في إِسْرائيل من لَدُنْ رَبِّ القُوَّات السَّاكِنِ في جَبَلِ صِهْيون" (أشعيا 8: 18).

 

ثانيًا: تكثير الخبز والسَّمَك هي آية، لأنها تُثبت أن يسوع هو مرسل من الله (خروج 4: 1-5)، وتُثبِّت عطيَّة الله.

 

ثالثًا: تكثير الخبز والسَّمَك هي آية، لأنِّها إعلان صارخ للمسيحانيَّة، لأنَّها هي تُظهر عطاء المسيح الملوكي لشعبه، كما يترنَّم صاحب المزامير "ستُبَيَنُ لي سَبيلَ الحَياة. أَمامَ وَجهِكَ فرَحٌ تامّ وعن يَمينكَ نَعيمٌ على الدَّوام" (مزمور 16: 11). ويظهر يسوع من خلال هذه المعجزة أنَّه هو المسيح الذي يستقبل على مائدته شعب الله، ويُشبعه. إذ تبعه جمع كبير، لما رأوا من الآيات التي أتى بها يسوع فشفى المرضى، واخذ المبادرة لإطعام الجماهير، حيث أخذ الأرغفة ثم وزّع على الحاضرين. وفعل بالمثل بالسَّمَكتين بمقدار ما أرادوا. وهو الذي أمر تلاميذه أخيرًا بان يجمعوا ما فضل من الكسر. وان كل شيء يظهر عظمة الآية: ضخامة الجمهور الذي يقدّر بنحو خمسة آلاف رجل، وتقدير المواد اللَّازمة لإطعامه كما قالَ ليسوع أَندَراوَس أَخو سِمْعانَ بُطرُس: " لوِ اشتَرَينا خُبزًا بِمَائَتي دينار، لما كفَى أَن يَحصُلَ الواحِدُ مِنهُم على كِسرَةٍ صَغيرة" (يوحنا 6: 7). وبناء على امر يسوع رفع التَّلاميذ ما فضل من الكسر، فملاوا اثني عشرة قُفَّة، أي ما يكفي لإطعام شعب الاثني عشر سبط. كن النَّاس لم يروا فيها إلا مقدرة فائقة الطَّبيعة للملك المسيحاني الزَّمني. وكشف مُلك أحلامه المسيحاني.

 

علم يسوع التباس هذه المسيحانيَّة الشَّعبيَّة ورفض أن يشارك فيها. فشعر أنَّهم يهتمُّون باختطافه، ليُقيموه ملكًا كما يريدون هم، فابتعد عنهم، وعاد وحده إلى الجبل. رفض هذا التَّنصيب، لأنَّه منافي لمعنى رسالته الخلاصيَّة.  فيما يتيه الشَّعب في مسيح سياسي قومي نرى يسوع يهدف إلى حقيقة روحيَّة؛ انه يفكر بالخبز الخالد وبالمائدة القربانيَّة حيث سيُشبع شعبه إلى الأبد. وفي هذا الصَّدد نقرأ في التَّعليمِ المسيحي للكنيسةِ الكاثوليكيَّة: "عِندَما انتقل المسيحُ مِن هذا العَالَم إِلى أَبيه، تَرَكَ لنا الإِفخارِستِيَّا عُربونَ المَجْدِ لَدَيه: فالاشتراك في الذَّبيحَةِ المُقدَّسَةِ يَجْعَلُنا في شِبْهِ قلبِه، ويُسْنِدُ قِوانا في دروبِ هذه الحياة، ويُشَوِّقُنا إِلى الحياةِ الأَبَدِيَّة، ويَضُمُّنا مَنذُ الآن إِلى كنيسةِ السَّماءِ والقديسةِ العذراءِ وجَميعِ القِدِّيسين" (رقم 1419).

 

تدل معجزة تكثير الخبز على سر الإفخارستيا، ومعجزة تكثير الخبز والإفخارستيا يدلان على الحب الشَّديد الذي يكنُّه الله للبشريَّة كما يقول القديس يوحنا "الله محبة" (1 يوحنا). إن يسوع لا يهمل "الجوع الجسدي: غير انه يفكر بنوع خاص في "الجوع إلى الله" الذي هو أهم بكثير من أيِّ كل جوع آخر.  ويعلق القدّيس أفرام السريانيّ: "قامَ الرَّبّ بتكثير الأرغفة في البرِّيَّة، فعوّدَ تلاميذه بذلك على أن يألفَ فمُهم مذاقَ خبزه إلى حين تأتي الساعة التي يقدِّمُ لهم فيها جسدَه ودمَه. لقد جعلهم يتذوّقون خبزًا وخمرًا انتقاليّين حتّى يبثَّ فيهم الرَّغبة في تذوّق جسده ودمه المُحيِي" (تعليق على الإنجيل الموافق، 12: 1-4 ).

 

إن المعجزة، في الواقع، هي إيضاح للتغذِّي بالقربان الأقدس وبكلمته في قلوبنا بالإيمان.  وتعلق القديسة الأُم تريزا دي كلكُتَّا: "إِنَّ القُربانَ الأَقدَسِ هو غِذائي الرُّوحي الَّذي يُبْقيني على الحياة. فبدونِه لَما كُنتُ أَستَطيعُ أَنْ أَصمُدَ يومًا واحِدًا، ولا ساعَةً واحِدَةً من حياتي" (فكرة روحيَّة).  فيسوع ليس هو فقط مُعطي الحياة، بل هو الذي يسند الحياة ويعولها، وهو ضروري للحياة المسيحيَّة كالخبز اليومي للجسد، هو الغذاء الكامل للنَّفس المؤمنة التي تتغذى بالقربان الأقدس وبكلمته الذي يُمكن أن يتغذى بها كل يوم وكل ساعة بواسطة الإيمان. وفي هذا الصَّدد يقول البابا بِندِكتُس السادس عشر: "في الإفخارستيا، نستقبل تكثير الخبز الذي لا ينضب من حبّ الرّب يسوع المسيح الغني بما فيه الكفاية ليُشبع جوع كلِّ العصور".

 

3) مكان معجزة تكثير الخبز والسَّمَك

 

التَّسمية:

 

يسمى مكان تكثير الخبز والسَّمَك اليوم بمنطقة "الطَّابغة". ويشتق اسم الطَّابغة -التَّسمية العربيَّة– من اليونانيَّة Heptapegon (هبتابغون) ومعناها الينابيع السبعة، إذ تكثر الينابيع هنا التي كانت تُدير طواحين في تلك المنطقة. وعليه يشار إليها بالعبريَّة " עין שבעأي "عين السبع".

 

أطلق على هذه المنطقة في أيام المسيح اسم (مجدان) ربما مشتقَّه من العبريَّة (מי גד) ومعناها مياه السَّعادة (متى 15: 39) أو (دلمانوتا) (مرقس 8: 10). ويبدو بحسب الأناجيل أن هذه المنطقة كانت مقفرة، فيذكرونها بعباره يونانيَّةἔρημον τόπον   (معناها مكان قفر) ويشير القديس ايرونيموس لهذا المكان بأنه " العزلة". إذ يطل الموقع على البحيرة حيث كان يسوع وتلاميذه يعتزلون فيه ليستريحوا قليلا (مرقس6: 30).

 

عُرف هذا المكان منذ القرن الثَّاني عشر باسم لاتيني “Mensa Christi” أي عشاء المسيح أو "Tabula Domini) " أي مائدة الرَّب،) وذلك لتكثير الخبز الأول وفطور يسوع مع تلاميذه بعد قيامته من الأموات (يوحنا 21: 9-13).

 

الموقع:

 

تقع الطَّابغة من الجهة الشَّماليَّة من بحيرة طبرية على مسافة 4 كم جنوب شرق كفرناحوم. وفي أيام سيدنا يسوع المسيح امتدت منطقة كفرناحوم الواقعة غربي بحيرة طبرية من الطَّابغة حتى مصب نهر الأردن. وتناقل المسيحيِّون الأولون من كفرناحوم في القرون الأربعة الأولى ذكريات حياة المسيح في تلك المنطقة بربطها في ثلاثة صخور: الصَّخرة الأولى لتذكار معجزة الخبز والسَّمَك الأولى (يوحنا 6: 1-15، متى 14: 13 -21)، مرقس 6: 30-44)، والتي عليها بُنيت كنيسة تكثير الخبز؛ والصَّخرة الثَّانيَّة هي مغاره صخريه قرب منحدر الجبل تُحيي ذكرى عظة يسوع الكبرى عن التَّطويبات (متى 5: 1-7) فبنيت كنيسة التَّطويبات، أمَّا الصَّخرة الثَّالثة فتُحيي  ذكرى ترائي يسوع لتلاميذه على شاطئ بحيرة طبرية ورئاسة بطرس (يوحنا221: 9-13) فأقيمت كنيسة الطَّابغة للفرنسيسكان.

 

تاريخ معالم كنيسة تكثير الخبز والسَّمَك

 

يذكر الإنجيل هنا معجزة تكثير الخبز والسَّمَك وإشباع الجموع (يوحنا 6: 1-15). وقد حدثت في 29 نيسان، إذ أَمَر يسوع تلاميذه " أَقعِدوا النَّاس. وكان هُناكَ عُشبٌ كَثير" (يوحنا6: 10)، وقد رفع أثنتا عشرة قُفَّة ممتلئة من الكسر وكان الآكلون من الأرغفة خمسة آلاف رجل (يوحنا 6: 1-14).

 

بقي الموقع مدفونًا أكثر من 1300 سنة تحت الرَّدم حتى قام باكتشافها في القرن التَّاسع عشر بيفر Z. Biever عام 1891 وكرجه P. Karge في عام 1911. ثم تابع الآباء البندكتان عام 1932 الحفريات بإشراف علماء الآثار مادر A. E. Mader وشنايدر A. M. Schneider حيث قاموا بكشف الأساسات القديمة والفسيفساء البيزنطيَّة لكنيستين بيزنطيتين ذكرى لمعجزة تكثير الخبز والسَّمَك:

 

الكنيسة الأولى: عام 350 بنى الكنيسة الأولى الكونت يوسف من طبريا الذي اعتنق الدِّيانة المسيحيَّة، وكان له علاقة وثيقة مع الإمبراطور قسطنطين. وقد شيَّد كنائس طبرية وقانا الجليل(كفركنا) وكفرناحوم وصفورية والنَّاصرة. وبلغ طول الكنيسة نحو 15.5 م وعرضها 9.5 م. ويمكن إن نرى بقايا أساسات الكنيسة الأولى تحت الزُّجاج الواقع على يمين المذبح الحالي في الزَّاوية الشَّماليَّة. والجدير بالذِّكر أن اتجاهات هذه الكنيسة تختلف قليلا عن اتجاهات الكنيسة اللَّاحقة.

وفي عام 383 زارت السَّائحة إيجاريه المكان ووصفته بهذه العبارة "في مكان ليس بعيدًا عن كفرناحوم مقابل بحر الجليل أرض مروية جيدًا تنمو فيها الحشائش وكثيرٌ من الأشجار والنَّخيل. ويقع في هذا المكان الينابيع السَّبعة الوفيرة المياه. في هذا البستان المثمر أطعم يسوع خمسة آلاف شخص مع خمسة أرغفة خبز وسمكتين". وشاهدت أمام حنية الكنيسة الحجر الذي وضع عليه الرَّب يسوع الأرغفة والسَّمَكتين قبل مباركتها. كانت السَّائحة إيجيرية هي أول من ذكرت كنيسة في موضع تكثير الخبز. وفي عام 419 هدم زلزال كل المنطقة بما فيها من الكنائس والبيوت.

 

الكنيسة الثَّانية: في عام 450 بُنيت كنيسة ثانية على أنقاض الكنيسة الأولى وكانت واجهتها نحو الشَّرق، وقد رُصت أرضيتها بالفسيفساء المرسوم عليه العصافير والزُّهور والحيوانات والسَّمَك. وقد وضع الحجر المقدس الذي حدثت عليه معجزة الخبز والسَّمَك تحت المذبح بدل من الذَّخيرة، وقد زين بفسيفساء يمثل سلة فيها خمسة أرغفة والسَّمَكتان. وقد تأثرت الرُّسومات بالطَّابع المصري بفضل مارتيريوس، بطريرك القدس (479-486) الذي مكت فترة في مصر. وقد ذكر اسمه على يسار المذبح باللُّغة اليونانيَّة. ومن بين الحجاج الذين زاروا هذه الكنيسة القديس سابا (439-532)، المعروف باسمه دير مار سابا في صحراء بيت لحم.

 

في العصر البيزنطي ذكر الرَّحالة هذا الموضع، منهم ثيوذسيوس الذي زار فلسطين عام 530 وأنطونيوس بلاشنتينوس (570).  وفي سنة 551 حدث زلزال آخر هدم الكنيسة، ويؤكد ذلك ما جاء في كتابات الحاج دي بياشنسا الذي زار المنطقة عام 570 ولم يشاهد في المنطقة بعد ذلك إلا أخربة.

 

ربما رممت الكنيسة في عام 575، ولكن الفرس اجتاحوا البلاد عام 614 وأشعلوا النَّار في الأماكن المقدسة وذبحوا الكثير من الرُّهبان. بقيت جدران الكنيسة قائمة سوداء وفسيفساؤها مغطاة حتى النَّصف الأول من القرن العشرين.

 

بعد الفرس احتل العرب عام 637 البلاد، وانتهت الحقبة اليونانيَّة وبدأت الحقبة العربيَّة الإسلاميَّة. فحين زار المطران اركولف Arculfe في سنة 670 منطقة بحيرة طبرية وقف على الأطلال المسيحيَّة يتحسر عندما رأى بعض أعمدة الكنيسة فقط ملقاة بقرب ينابيع المياه.

 

في زمن الإمبراطور شارلمان 808 جاء رهبان من الغرب وضربوا خيامهم قرب الكاتدرائيَّة المدمَّرة ثم بنوا معبدًا يُقيمون فيه فروضهم الدِّينيَّة. ولم يتمكنوا من بناء كنائس فيها إلاَّ زمن الانتداب البريطاني. وفي عام 1932 أقام الآباء البندكتان كنيسة فوق الأرضيَّة الفسيفسائيَّة. وفي عام 1965 أنشأوا ديرًا مجاورًا ثم الكنيسة الحاليَّة وساحتها عام 1982.

 

 

الخلاصة

 

قدَّم لنا يوحنا في إنجيله أولا المسيح أنّه واهب التَّجديد، ثم واهب الحياة، واليوم يقدمه نفسه الخبز السَّماوي الذي يقوت النَّفس ويشبعها لتبقى حيَّة وناميةإنه الكلمة المُتجسد، بكلمته يقيمنا للحياة الجديدة، وبجسده الذي هو الخبز السَّماوي ينعشنا لنثبت فيه. ونحصل منه على كل احتياجاتنا.

 

نرى السَّيد المسيح يُشبع الجموع بسمكتين وخمسة أرغفة شعير قدَّمها غلام وهو قادر أن يشبعنا جسديًا ويشبعنا نفسيًا ويُشبعنا روحيًا.  بالرَّغم من أن يوحنا الإنجيلي لا يكرِّر ما جاء في الأناجيل الإزائيَّة، لكنه ذكر هذه المعجزة لارتباطها بما سيذكره فيما بعد عن يسوع خبز الحياة. هنا نسمع عن الجسد والدَّم كسرِّ حياة في المسيح والثَّبات فيه، لذلك اهتم بذكر هذه المعجزة، وهي المعجزة الوحيدة المذكورة في الأربعة أناجيل (متى 13:14-21، مرقس 30:6-44، لوقا 10:9-17).  لذلك ينبِّه يوحنا أن الفصح كان قريبًا.

 

المسيح أعطانا جسده مأكلًا ودمه مشربًا في الفصح الذي يلي هذا الفصح فصار هو فصحنا الجديد، جسد المسيح المكسور لإشباع العَالَم والمسيح.  وفي كل قداس يكرِّر المسيح معجزة إشباع الجموع ولكن على مستوى الحياة الأبديَّة بحيث يحضر يسوع في الوسط ويكسر ويعطي جسده ودمه مأكلا ومشربًا للمؤمنين ويحوِّل الحياة الحاضرة لحياة أبديَّة.

 

 

دعاء

 

أيها الآب السَّماوي، أنتَ يا من أرسلتَ إلينا ابنك الوحيد، لكي نجتمع حول مائدته لكي نباركك، أنت يا رب إله الكون، يا من جدَّت علينا بالخبز من ثمر الأرض وعمل الإنسان ونحتفل في القربان الخبز الحي النَّازل من السَّماء فنقدِّم لك أعمالنا ونضع إمكانياتنا البشريَّة المتواضعة بين يديك لكي تباركها فتسدّ جوعنا المادي وجوعنا الرُّوحي، جوعنا إلى كلمتك المقدسة، وجوعنا إلى خبز الحياة الأبديَّة، والى الله تعالى له المجد والعزة. آمين