موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢١

تعليم يسوع في قانون الزواج والطلاق

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد السابع والعشرون للسنة: تعليم يسوع في قانون الزواج والطلاق (مرقس 10: 2-16)

الأحد السابع والعشرون للسنة: تعليم يسوع في قانون الزواج والطلاق (مرقس 10: 2-16)

 

النص الإنجيلي (مرقس 10: 2-16)

 

2 فدَنا بَعضُ الفِرِّيسيِّينَ وسأَلوه لِيُحرِجوه هَل يحِلُّ لِلزَّوجِ أَن يُطَلِّقَ امَرأَتَه. 3 فأَجابَهم: ((بِماذا أَوصاكم مُوسى ؟)) 4 قالوا: ((إِنَّ مُوسى رَخَّصَ أَن يُكتَبَ لَها كِتابُ طَلاقٍ وتُسَرَّح)). 5 فقالَ لَهم يسوع: ((مِن أَجْلِ قَساوَةِ قُلوبِكم كَتَبَ لَكُم هذهِ الوَصِيَّة. 6 فمُنذُ بَدْءِ الخَليقَة ((جعَلَهما اللهُ ذَكَراً وأُنْثى. 7 ولِذلِكَ يَترُكُ الرَّجُلُ أَباهُ وأُمَّه ويَلزَمُ امرأَتَه. 8 ويَصيرُ الاثنانِ جسَداً واحداً)). ((فلا يكونانِ اثنَيْنِ بَعدَ ذلك، بل جسَدٌ واحِد. 9 فما جَمَعَه الله فَلا يُفَرِّقَنَّه الإِنسان)). 10 وسأَلَه التَّلاميذُ في البَيتِ أَيضاً عن ذلك، 11 فقالَ لَهم: ((مَن طَلَّقَ امرَأَتَه وتَزَوَّجَ غَيرَها فقَد زَنى علَيها. 12 وإِنْ طَلَّقَتِ المَرأَةُ زَوجَها وتَزَوَّجَت غَيرَهُ فقَد زَنَت)).13  وأَتَوهُ بِأَطفالٍ لِيَضَعَ يَدَيهِ علَيهم، فَانتَهَرهُمُ التَّلاميذ. 14 ورأَى يسوعُ ذلك فاستاءَ وقالَ لَهم: ((دَعُوا الأَطفالَ يأتونَ إِليَّ، لا تَمنَعوهم، فَلِأَمثالِ هؤلاءِ مَلَكوتُ الله. 15 الحَقَّ أَقولُ لَكم: مَن لم يَقبَلْ مَلكوتَ اللهِ مِثْلَ الطِّفل، لا يَدخُلْه)). 16 ثُمَّ ضَمَّهم إِلى صدرِه ووَضَعَ يَديهِ علَيهِم فبارَكَهم.

 

مقدمة

 

يصف نص إنجيل مرقس مجموعة من المجادلات مع الكتبة والفريسيين، ومنها حول الزواج والطلاق (مرقس 10: 2-16). فقد كانت هناك مدرستان رئيسيتان لهما آراء متعارضة في قضية الطلاق: مدرسة الرابي هليّل سمحت بالطلاق "لأَيَّةِ عِلَّةٍ كانت" (متى 19: 3).  أمَّا مدرسة الرابي شمَّاي، فهي متشددة فكانت لا تسمح بالطلاق إلا في حالة الخيانة الزوجية فقط. فأين يقف يسوع؟  ذّكر يسوع اليهود بالمعنى العميق للزواج الذي هو عهد حب لا طلاق فيه ويدوم حتى الموت. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

أولاً: تحليل وقائع نص إنجيل مرقس (مرقس 10: 2-16)

 

2 فدَنا بَعضُ الفِرِّيسيِّينَ وسأَلوه لِيُحرِجوه هَل يحِلُّ لِلزَّوجِ أَن يُطَلِّقَ امَرأَتَه

 

تشير عبارة "الفِرِّيسيِّينَ" (من الآرامية הַפְּרוּשִׁים ومعناها المنعزل) إلى إحدى فئات اليهود الرئيسية الثلاث: الفريسيين والصدوقيين والأسينيين، وكانت فئة الفريسيين أضيقها رأياً وتعليماً (أعمال الرسل 26: 5). فقد حصر الفريسيُّون الصلاح في طاعة الناموس فجاءت ديانتهم ظاهرية وليست قلبية داخلية. وقالوا بوجود تقليد سماعي عن موسى تناقله الخلف عن السلف. وزعموا أنه معادل لشريعته المكتوبة سلطةً أو أهمّ منها. فجاء تصريح المسيح بأن الإنسان ليس ملزماً بهذا التقليد (متى 15: 2 و3 و6). أمَّا عبارة "لِيُحرِجوه" في الأصل اليوناني ἐπηρώτων αὐτὸν (معناها ليمتحنوه بسوء نيَّة) فتشير إلى الفريسيين الذين يريدون أن ينصبوا فخا ليسوع (مرقس 8: 11). وسؤال الفريسيين للمسيح موجّه ضمنيا ضد هيرودس انتيباس وهيروديا.  فهيرودس كان قد طلق امرأته بنت الحارث ليتزوج بامرأة أخيه فيلبس (مرقس 6: 17-28).  لو منع المسيح الطلاق لاشتكوه لهيرودس فيقتله كما قتل المعمدان. ولو سمح المسيح بالطلاق لكان أقل من يوحنا المعمدان جرأة في الشهادة للحق. ولكن يسوع استخدم هذه الفرصة ليُبيِّن قصد الله في الزواج. استفاد يسوع من أسئلتهم المغلَّفة ليقدِّم تعليما لتلاميذه. أمَّا عبارة "هَل يحِلُّ لِلزَّوجِ أَن يُطَلِّقَ امَرأَتَه" فتشير إلى سؤال في موضوع الطلاق حول مشكلة تطبيق القاعدة المنصوص عليها في سفر تثنية الاشتراع "إِذا اتَخَذَ رَجُلٌ اَمرَأَةً وتَزَوَّجَها، ثُمَّ لم تَنَلْ حُظْوَةً في عَينَيه، لأَمرٍ غَيرِ لائِق وجَدَه فيها، فلْيَكتبْ لَها كِتابَ طَلاقٍ وُيسَلِّمْها إِيّاه ويصرِفْها مِن بَيته" (تثنية الاشتراع 24: 1). سمحت الشريعة بالطلاق؛ ولكن ما هي الحالات التي يُسمح بها بالطلاق؟  ينص التشريع الموسوي على انه يجوز للزوج أن يعطي زوجته كتاب طلاق إذا ما وجد فيها أمرا لا يليق، ولكن السؤال ما هو هذا الأمر الذي لا يليق. فالطلاق موجود في العالم اليهودي. لكن إلى أي حدٍ يُسمح به؟ في الواقع السؤال في حدّ ذاته سيّئ الطرح، لأنّه يستخدم الشريعة، بشكل مشوّه لتبرير الأنانية الشخصيّة، وللتهرب من الشعور بالذنب، كما لو كان التقيّد الحرفي بالشريعة كافياّ لحياة ناجحة. أمَّا عبارة " يُطَلِّقَ امَرأَتَه" فتشير إلى الانحلال من قيد الزواج وفك الروابط الزوجية.

 

3 فأَجابَهم: بِماذا أَوصاكم مُوسى؟

 

تشير عبارة "بِماذا أَوصاكم مُوسى؟" إلى سؤال يسوع للفريسيين عن وصية موسى.  هل هناك وصية من قِبل موسى. طرح يسوع السؤال وترك الفريسيون يجاوبون ليردَّ عليهم من إجابتهم عينها.

 

4 قالوا: إِنَّ مُوسى رَخَّصَ أَن يُكتَبَ لَها كِتابُ طَلاقٍ وتُسَرَّح

 

تشير عبارة "مُوسى" اسم مصري قديم (معناه ولد)، وفي العبري משֶׁה (معناه منتشل) إلى قائد الشعب العبراني ومؤسس النظام الديني الذي يُسمَّى الآن باسمه حيث أعطى الله الناموس لموسى رأساً ثم منحه قوة على إدراك معناه وإثبات فوائده بحيث صارت مبادئ ذلك الناموس قاعدة لكثير من الشرائع. وأنشأ موسى ناموس الوصايا الجسدية. أمَّا يسوع فقد وهب ناموس الحياة الروحية. أمَّا عبارة "رَخَّصَ" فتشير إلى سماح أو إجازة أو الترخيص أي الإعفاء، والإعفاء لا يلغي الشريعة الأساسية.  فالفريسيون يتكلمون عن ترخيص من موسى، ويسوع يُجيبهم أنها مجرد ترخيص وليس وصية. أعلن يسوع أن الطلاق هو ترخيص وليس وصية في الشريعة. سمح الله بالطلاق لفساد الناس في ذاك الحين، بالغم من انه لم يكن الطلاق مقبولا، لكنه تقرر لحماية الشريك المظلوم في موقف سيئ. أمَّا عبارة "أَن يُكتَبَ لَها" فتشير إلى موسى الذي لم يرخص بالطلاق إنما رخَّص أن يكتب كتاب طلاق فتُطلق الزوجة بموجبه، وهنا يوجد فرق بين التعبيرين، حيث أنَّ الترخيص بالطلاق يجعل منه أمرًا سهلًا، أمَّا كونه يُرخص بكتابة كتاب الطلاق أولًا، فيعني ذلك أن الرجل قبل أن يُطلق امرأته يلزمه أن يذهب إلى أحد الكتبة ليكتب له كتاب الطلاق، وكان يلزم أن يكون هؤلاء الكتبة من العقلاء يباحثونه الأمر، ويهدئون من غضبه ما استطاعوا ويلجئون إلى كبار عشيرته أو سبطه إن احتاج الأمر، فيلطفون من الموقف، محاولين مصالحة الرجل مع امرأته. بل ربما كان الرجل وهو يكتب كتاب طلاق لزوجته ويعرف أن بهذا الكتاب ستصير لآخر، يرجع عن فكرة الطلاق. أمَّا عبارة "كِتابُ طَلاقٍ وتُسَرَّح" فتشير إلى عادة اليهود أن يُعطي الزوج زوجته التي يريد طلاقها كتابًا يشير فيه إلى تاريخ الطلاق وموضوعه وسببه ويسمح لها بالزيجة بِمْن شاءت على ما ورد في الشريعة "إِذا اتَخَذَ رَجُلٌ اَمرَأَةً وتَزَوَّجَها، ثُمَّ لم تَنَلْ حُظْوَةً في عَينَيه، لأَمرٍ غَيرِ لائِق وجَدَه فيها، فلْيَكتبْ لَها كِتابَ طَلاقٍ وُيسَلِّمْها إِيّاه ولَصرِفْها مِن بَيته" (تثنية الاشتراع 24: 1). وكان قانون الطلاق مُصمماً من أجل كبح ظلم الرجل للمرأة، حتى لا يكون تعسّفياً بشكل مطلق. فمن أراد تطليق زوجته، كان عليه أن يفعل ذلك علانية، وأن يتحمل المسؤولية عن ذلك، وكان ينبغي أن يكون لديهم أسباب وجيهة للقيام به. لكن نفهم أن هذا لا يمكن أن يسود علاقة الحب بين الرجل والمرأة. إنّ ما سمح به الرب كان أمرا مؤقتاً.

 

5 فقالَ لَهم يسوع: ((مِن أَجْلِ قَساوَةِ قُلوبِكم كَتَبَ لَكُم هذهِ الوَصِيَّة))

 

تشير عبارة "قَساوَةِ قُلوبِكم" إلى إغلاق قلوبهم عن مشيئة الله. فان موسى رخَّص إن يكتب كتاب طلاق لأجل الضعف البشري لتنظيم الطلاق في حالة المجتمع الفاسدة ولاجتناب شراً أعظم مع انه لم يكن السماح به إلاّ إلى حين.  وفي الواقع، بما إنَّ البشرية تعيش جوا من العنف منذ نوح (تكوين 6: 5-6)، جاء هذا الترخيص حماية للمرأة، أو تجنب الانحراف إلى العبادات الوثنية التي تُبيح بالطلاق، لا دفعا لتكاثر الطلاق لأي سبب.  الطلاق سُمح في مجتمع فقدَ رؤية إرادة الله لترتيب رافق الضعف البشري لكي يُخفِّف من قساوة نتائج الطلاق، لا لتوسيع عمليات الطلاق.  لذلك لا تلغي وثيقة طلاق في شريعة موسى في نظر يسوع شريعة الزواج الأساسية والتي لا تزال قائمة. وحاول يسوع أن يكتشف نيّة موسى حين سمح بالطلاق في حالات شاذَّة لاجتناب شر أعظم والى حين. وراي يسوع في هذا الإعفاء توبيخاً على انحلال ربط الآداب وفقدان الإحساس وإغلاق القلب وعماه عن رؤية مشيئة الله.  هي ثورة الإنسان على النظام الذي وضعه الله لان القلب المتصلب هو قلب أولئك الّذين يعتقدون أنهم يستطيعون ممارسة القوّة على حياة الآخرين دون الالتزام بحبّهم. لكن هذا ليس في تصميم الربّ الأصلي. أمَّا عبارة "الوَصِيَّة" فتشير إلى الفريسيين يتكلمون عن وصية من موسى ويسوع يجيبهم إنها مجرد ترخيص أو إعفاء، لان الوصية هي احدى الكلمات العشر (خروج 34: 28 وتثنية الاشتراع 4: 13).  يحسن بالمجتمع إن يهتدي بتعليم الرب الإيجابي في تحديد الأوضاع للطلاق الذي يُهدِّد الحياة الشخصية وحياة الآسرة ولا يصون المجتمع. فالطلاق يُصَّعب الطريق ويُخالف الشريعة الإلهية والطبيعية. وإن كان موسى قد سمح بالطلاق فملاخي النبي أعلن عن غضب الله على من يغدر بامرأته (ملاخي 2: 8).  وهنا يصرح أن الله يكره الطلاق. فالمسيح يشرح لهؤلاء القساة روح الشريعة وليس حرفه. إذا، يتطلب التفكير المليّ ليس في متى يمكن تطليق الزوجة، بل كيف يمكن تغيير القلب، بحيث لا يبقى قاسياً، غير قادرٍ على الحبّ.

 

6 فمُنذُ بَدْءِ الخَليقَة جعَلَهما اللهُ ذَكَراً وأُنْثى.

 

تشير عبارة "فمُنذُ بَدْءِ الخَليقَة "إلى البداية، إلى إرادة الله حين الخلق (تكوين 1: 27) أي قبل شريعة موسى. ردّ يسوع اليهود إلى الناموس الطبيعي الذي أقامه الله في بدء الخليقة. يدعونا يسوع إلى التوبة عن قساوة القلب لنستعيد بركة الخلق الأولى، بركة المصالحة بين الجنسين. أمَّا عبارة "جعَلَهما اللهُ ذَكَراً وأُنْثى" فتشير إلى إعادة التعليم عن الزواج إلى كرامته الأولى حيث خلق الله الإنسان رجلا وامرأة. وهما يتحدَّان بحسب ما وضعه الله فيهما من تكامل، رغم اختلافهما. يُقرر هنا الرب شريعة الزوجة الواحدة، فالله خلق امرأة واحدة لآدم، ولأن الله خلق امرأة واحدة لآدم، فكيف يطلقها الرجل أو يختار غيرها. إرادة الله الأساسية تُلغي هذا الترخيص أو السماح بالطلاق. في هذه الآية ينتقل يسوع من الكلام الذي يرخِّص بالطلاق إلى الكلام الذي يقوم عليه الزواج باعتباره المثل الإلهي الأعلى للرجل والمرأة والى الرباط دائم الذي لا يُفسخ.  والآن جاء السيد المسيح لا ليُقدم وصايا جديدة، إنما بالأكثر طبيعة جديدة فيها تنتزع قسوة القلب، ويُرد الإنسان إلى الحياة الأولى النقيَّة ويعيد إلى الزواج كرامته الأولى وفقا لمشيئة الخالق ومخططه حيث تقوم شريعة الزوجين الجوهرية على أساس الشركة الزواجية. وهذه الشركة هي تكامل طبيعي، وهبة الذات المتبادلة التامة، وهكذا يهب الزوجان الوجود للولد الذي هو صورة حيَّة لحبِّهما ورمز دائم لوحدتهما الزوجية، وإتمام مشيئة الله المنقوشة في طبيعة الرجل والمرأة منذ البدء.  وتدعو كلمات يسوع "جعَلَهما اللهُ ذَكَراً وأُنْثى" إلى نبذ "المثليّة" أي لا يجوز للرّجُل إن يتحد جسديا برجُلٍ آخر، ولا المرأة أن تتّحد جسديًّا بامرأة أخرى. إذ أنَّ "المثليّة" ظاهرةٌ صعبة التّحليل في أصولها النّفسيّة"، وهي "خلل كبير وجوديّ لا يحقّق التّكامل بين الجنسين ويُغلق الباب أمام نقل الحياة" (التّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة"، رقم 2357).

 

7 ولِذلِكَ يَترُكُ الرَّجُلُ أَباهُ وأُمَّه ويَلزَمُ امرأَتَه

 

تشير "لِذلِكَ" في الأصل اليوناني ἕνεκεν τούτου (معناها من أجل هذا) إلى قول ورد في سفر التكوين بشأن آدم "ولذلِكَ يَترُكُ الرَّجُلُ أَباه وأُمَّه ويَلزَمُ امرَأَتَه فيَصيرانِ جَسَدًا واحِدً " (2: 24) وجاء في بشارة متى انه كلام الله "لِذَلِكَ يَترُكُ الرَّجُلُ أَباهُ وأُمَّه ويَلزَمُ امرَأَتَه ويصيرُ الاثْنانِ جسَداً واحداً. (متى 19: 5) وهو هنا انه كلام يسوع. وليس هناك تناقض لأنَّ آدم تكلم بذلك بالهام من الله ولانَّ يسوع هو الله. أمَّا عبارة "يَترُكُ الرَّجُلُ أَباهُ وأُمَّه ويَلزَمُ امرأَتَه" فتشير إلى اقتباس من سفر التكوين "لذلِكَ يَترُكُ الرَّجُلُ أَباه وأُمَّه ويَلزَمُ امرَأَتَه فيَصيرانِ جَسَدًا واحِدًا"(2: 24). وتدل هذه العبارة على قطع كل علاقة بالماضي لكي يؤسِّس عائلة جديدة. فمن أجل أن يتم سر الزواج يترك الرجل والديه ليستقل عن عائلته ويبنى أسرة جديدة. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "الله لم يربط الرجل بامرأة واحدة فحسب، وإنما أمره أيضًا أن يعتزل والديه ويَلزَمُ (باليونانية προσκολληθήσεται أي يلتصق أو يتحد) بامرأته. ويظهر من هذا التعبير استحالة تحطيم الزواج (بالطلاق)، إذ يقول يلتصق". ومن هذا المنطلق نستنتج إن الرابطة الزوجية أقوى من كل الروابط العائلية ولا تفك. فكما الرجل لا يمكنه تغيير أباه وأمه مهما سبَّب له من المتاعب فكذلك لا يُمكنه تغيير امرأته الذي ترك أباه وأمه من أجلها وبسببها  ونستنتج مما تقدَّم إن الزواج المثالي هو الزواج الذي يستمر بين الرجل والمرأة حتى الموت كما يؤكد بولس الرسول: "إِنَّ المَرأَةَ تَظَلُّ مُرتَبِطَةً بِزَوجِها ما دامَ حَيًّا، فإِن ماتَ زَوجُها أَصبَحَت حُرَّةً، لَها أَن تَتزَوَّجَ مَن شاءَت" (1 قورنتس 7: 39).

 

8 ويَصيرُ الاثنانِ جسَداً واحداً. فلا يكونانِ اثنَيْنِ بَعدَ ذلك، بل جسَدٌ واحِد

 

تشير عبارة "جسَداً واحداً" إلى كائن واحد أو كيان واحد (رومة 1: 3) مما يدل على الغريزة الطبيعية التي تدفع الجنس الواحد نحو الآخر ويكمِّله كما يؤكده الله: " لذلِكَ يَترُكُ الرَّجُلُ أَباه وأُمَّه ويَلزَمُ امرَأَتَه فيَصيرانِ جَسَدًا واحِدً" (تكوين 2: 24). ويستخدم بولس الرسول هذه الآية في رسالة إلى أهل أفسس للدلالة على الزواج المسيحي " يَترُكُ الرَّجُلُ أَباه وأُمَّه ويَلزَمُ امرَأَتَه فيَصيرُ الاِثْنانِ جَسَدًا واحِدًا " (أفسس 5: 30). ومن حصل على نعمة الروح القدس في سر الزواج يضع الروح القدس الحب في قلب الزوجين، ويزيد هذا الحب مع الزمن طوال العُمر. أما عبارة "جسَداً" في الأصل اليوناني (σάρξ) فتشير على الشخص البشري، الذي يغمره الخالق بخيراته، وهو مع ذلك سريع العطب، وعرضة للموت كما جاء في قول أشعيا النبي "كُلُّ بَشَرٍ عُشْبٌ وكُلُّ جَمالِه كزَهْرِ البَرِّيَّة. العُشبُ يَيبَسُ وزَهرُه يَذْوي (أشعيا 40: 6). كل بشر أي كل جسد وكل إنسان، كزهر الحقل مُكلل بالعظمة ومحدود في قدرته وعدد سنيه معا. أما عبارة " فلا يكونانِ اثنَيْنِ بَعدَ ذلك، بل جسَدٌ واحِد" فتشير إلى الحياة الأولى النقية، إلى وصية إلهية وتحمل صورة الزواج الروحي القائم بين السيد المسيح والكنيسة عروسه الواحدة الوحيدة! في هذا يقول الرسول بولس: ولِذلِك يَترُكُ الرَّجُلُ أَباه وأُمَّه ويَلزَمُ امرَأَتَه فيَصيرُ الاِثْنانِ جَسَدًا واحِدًا إِنَّ هذا السِّرَّ لَعَظيم، وإِنِّي أَقولُ هذا في أَمرِ المسيحِ والكَنيسة" (أفسس 5: 31-32). يُعيد يسوع صياغة أساس الزواج وفقاً لمخطّط الرب: وهناك مكتوبُ أنّ الحب يعني الاتّحاد بالآخر بحيث يُصبح الزوجان جسدا واحداً وعندما يصبحان، حقّاً وبكامل الحرّية، جسدا واحداً، كيف يمكننا أن نفصل بينهما؟ وفي هذا الصدد يقول المجمع الفاتيكاني الثاني "إن الرجل والمرأة أصبحا بسرّ الزواج جسداً واحداً لا اثنين (متى 19: 6) ليتعاضدا هكذا ويساعد أحدهما الآخر باتحاد شخصيتهما وأعمالهما اتحاداً وثيقاً. إنهما يُدركان من خلال ذلك وحدتَهما ويعملان دائماً على ترسيخها وتعميقها. إن هذا الاتحاد الوثيق، وهو عطاء متبادل بين شخصين، وخير الأولاد، يتطلبان أمانة الزوجين المطلقة ويُقضيان بوحدة لا تنحل" (دستور رعائي في الكنيسة في عالم اليوم، العدد 48). إن المرأة شريكة متساوية للرجل، ومسيرة الحبّ الجديدة والمُلزمة الّتي يقترحها يسوع، لا يُمكن أن تتحقّق بدون الإسهام الكامل لحريّة كل من الرجل والمرأة ليُصبحا جسدا واحِداً.

 

9 فما جَمَعَه الله فَلا يُفَرِّقَنَّه الإِنسان

 

تشير عبارة "فما جَمَعَه الله" إلى رباط إلهي أراده الله. فالزواج عهد قطعه الزوجان أمام الله لا يستطيعان فسخه باتفاقهما، لان الله هو الذي جمع الزوجين من أجل أن يصبحا جسدًا واحدًاوإذا كان الله هو الذي جمعهما فكيف يفرِّق الإنسان بالطلاق ما جمعه الله. ويُعلق البابا يوحنّا بولس الثاني "إنّ هذه الآية تختزن عظمة الزواج الأساسية وفي الوقت عينه القوة المعنوية للعائلة" (عظة بتاريخ 12 تشرين الأوّل 1980). الله هو الذي وحَّد بينهما، فمن يحق له أن يفصلهما؟ فكي نفهم ما هو الحبّ الزوجيّ، لا تكفي الإشارة إلى ما هو المسموح أو الممنوع من الشريعة؛ بل يجب أن نعود إلى ما هو مكتوب منذ البداية في قلوبنا؛ يجب العودة إلى دعوتنا الأصليّة. إن الحب اقوى من الموت، وعهد الحب يدوم، لأنه يرتبط بالله الذي كان شاهدا بين الرجل ومرأة شبابه.  أمَّا عبارة "فَلا يُفَرِّقَنَّه الإِنسان" فتشير إلى تأسيس قداسة الزواج على سلطة الله نفسه وعدم الطلاق بين الزوجين كما جاء في سفر التكوين "ولذلِكَ يَترُكُ الرَّجُلُ أَباه وأُمَّه ويَلزَمُ امرَأَتَه فيَصيرانِ جَسَدًا واحِدًا" (التكوين 2: 24)، حيث أن الطلاق يقف حاجزا بوجه الأنانية البشرية التي هي المدمّرة الأولى للزواج كما أراده الله.  وقد ردّ يسوع الزواج إلى قدسيته وعدم انحلاله، وردَّ إلى المرأة حقَّها ومكانتها، ورد إلى المجتمع البشري صفاءه القديم وجعل من الزواج وحدة لا تنفصم، وسرا مباركا يمنح النعمة. فأصبح الزواج صورة للاتحاد القائم بين الله وشعبه، وبين المسيح وكنيسته، ويُعلق القديس أمبروسيوس"لمن يرغب في تطليق زوجته: إنك لا تهدم وصية سماوية، إنما تهدم عمل الله".  الزواج المسيحي هو ثمرة عمل الله (متى 19: 6). وبهذا على الزوج والزوجة أن يحتملا بعضهما بثبات للحفاظ على العلاقة التي جمعها الله بينهما.  فالسيد المسيح حين منع الطلاق أعطى لكل زوجين نعمة تصون البيت من الانهيار.  فالزواج وثاق أبدى، لا رجوع فيه ولا طلاق. فهل يصون الزوجان هذه النعمة ويستمرا في جهادهما؟

 

10 وسأَلَه التَّلاميذُ في البَيتِ أَيضاً عن ذلك. 11 فقالَ لَهم: مَن طَلَّقَ امرَأَتَه وتَزَوَّجَ غَيرَها فقَد زَنى علَيها

 

تشير عبارة "مَن طَلَّقَ امرَأَتَه" إلى ما يجري في العالم اليهودي حيث أن الرجل هو الذي يُعلن الطلاق، لا القضاء. أمَّا عبارة "زَنى علَيها" فتشير إلى إعلان الطلاق من قبل الرجل، ولكن هذا الطلاق لا يُحرِّره من شريعة الزواج الإلهية ومن موجباتها الأخلاقية. وفي الواقع، يعلن يسوع أن الطلاق غير مسموح.  ولكن هناك استثناء في أنجيل متى " مَن طلَّقَ امرأَتَه، إِلاَّ في حالةِ الفَحْشاء عرَّضَها لِلزِّنى" (متى 5: 32) وربما أيضا في رسالة بولس الرسول "وإِن شاءَ غَيرُ المُؤمِنِ أَن يُفارِق فلْيُفارِق، فلَيسَ الأَخُ أَوِ الأُختُ في مِثْلِ هذه الحالِ بِمُرتَبِطَيْن، لأَنَّ اللّهَ دعاكُم أَن تَعيشوا بِسَلام" (1قورنتس 7: 15). أمَّا عبارة "زَنى علَيها" فتشير إلى إقامة الرجل علاقة مع امرأة أخرى غير زوجته، وزوجته الأولى (التي طلقها) مازالت زوجته بحسب حكم الله، لذلك قال يسوع زنى عليها لأنها ما زالت زوجته. إذا سمح موسى بالطلاق، أمَّا يسوع فلا. وهكذا قطع علاقته بشريعة التي تتساهل مع متطلبات الملكوت (متى 5: 31).

 

12 وإِنْ طَلَّقَتِ المَرأَةُ زَوجَها وتَزَوَّجَت غَيرَهُ فقَد زَنَت

 

تشير عبارة "وإِنْ طَلَّقَتِ المَرأَةُ زَوجَها" إلى ما كان يجري في بعض الأوساط غير اليهودية التي سمحت للمرأة أن تطلب الطلاق. إذ لم يبح القانون اليهودي للمرأة إن تطلق زوجها (تثنية الاشتراع 24: 1-4) ولم يذكر متى هذه العبارة وليس في شريعة موسى ما يؤذن في ذلك (تثنية الاشتراع 24: 1-4). وليس هي من الأمور التي اعتاد اليهود سوى إن هيروديا طلقت زوجها فيلبس وتزوَّجت هيرودس انتيباس، فوبَّخها يوحنا المعمدان (متى 14: 3-10)، إنما أذنت في ذلك الشريعة اليونانية والشريعة الرومانية   وإِذا كانَ لامرَأَةٍ زوجٌ غَيرُ مُؤمِنٍ ارتَضى أن ُيساكِنَها، فلا تَتَخَلَّ عن زَوجِها " (1 قورنتس 7: 13).  هذا النهي عن الطلاق التقليدي هو من أبرز حالات تخلِّي يسوع عن شريعة موسى.  ويحض يسوع الزوجين على المعاملة بالمثل. لان الرجل والمرأة يتمتَّعان بنفس الحقوق والواجبات. فلا يليق بنا أن نحطم الزواج من خلال إنكار الإيمان علانية بسبب ضيق أو اضطهاد ولا من خلال سلوكنا برفض الوصية، وإلا نكون قد مارسنا طلاقًا ممقوتًا.

 

13 وأَتَوهُ بِأَطفالٍ لِيَضَعَ يَدَيهِ علَيهم، فَانتَهَرهُمُ التَّلاميذ

 

تشير عبارة " لِيَضَعَ يَدَيهِ علَيهم" في الأصل اليوناني ἅψηται (معناها يلمس) إلى علامة للبركة كما فعل يعقوب عندما بارك ابني يوسف: أَفْرائيمُ ومَنَسَّى (تكوين 48: 4).  احضر الأهل إلى يسوع الأطفال ليودعوه تحية المساء وينالوا بركته (لوقا 10: 15) قبل أن يأووا إلى فراشهم. واعتاد الربَّانيون مثل ذاك في مباركتهم اولاد اليهود.  إن الرب حامي الطفولة والأمومة.  وهنا نستدل على أهمية تقديم الأطفال إلى المسيح وإلى الكنيسة لنيل البركة. عبارة "انتَهَرهُمُ التَّلاميذ" فتشير إلى التلاميذ الذين لم يفهموا قيمة الطفل وطبيعة الملكوت فزجرَوا الأطفال أو والديهم بعُنف وأغضبوهم. سمح التلاميذ لأنفسهم بالسعي وراء سلطان استبدادي، من خلال إبعاد الأطفال وزجرهم. لكن إن ملكوت الله ليس ملكوتا سياسيا بل روحيا، وهذا الملكوت لا يميّز بين الطفل والبالغ، حيث إن الجميع مدعوون إلى دخوله. ويُعلق القديس أمبروسيوس" لم يفعل التلاميذ ذلك بقسوة قلب أو سوء نية تجاه الأطفال بل كانت لهم غيرة كخدام ساهرين خشية أن تزحمه الجموع، ففي موضع آخر قالوا: يا مُعَلِّم، الجُموعُ تَزحَمُكَ وتُضايِقُكَ!  (لوقا 8: 45)".

 

14 ورأَى يسوعُ ذلك فاستاءَ وقالَ لَهم: دَعُوا الأَطفالَ يأتونَ إِليَّ، لا تَمنَعوهم، فَلِأَمثالِ هؤلاءِ مَلَكوتُ الله

 

تشير عبارة "استاءَ" في الأصل اليوناني ἀγανακτέω (معناها اغتاظ) إلى ظهور علامة الغيظ والغضب على وجه يسوع. وكان سبب الاستياء أنَّ التلاميذ صرفوا الأطفال عنه. وهذه هي المناسبة الوحيدة التي تنسب هذه الكلمة "استاءَ" إلى يسوع. في ذلك الحين يُمثل الأطفال طبقة محتقرة بلا حقوق.  لقد أخطأ التلاميذ في فهم قيمة الطفل حتى يكون له نصيب في الملكوت. بل بالعكس هو الصحيح، إذ يجب على البالغ إن يتغير ويصير صغيرا (متى 18: 3). أمَّا عبارة "دَعُوا الأَطفالَ يأتونَ إِليَّ، لا تَمنَعوهم" فتشير إلى أولئك الذين استعدّوا لاستقباله كهدية من الله مثل الأطفال. ليس ضروريا إن يصبح الطفل بالغا حتى يكون له نصيب في الملكوت، بل بالعكس هو الصحيح، إذ يجب على البالغ إن يتغير ويصير طفلا.  يطلب يسوع أن نثق في الله ببساطة الطفل وثقته وبراءته. أمَّا عبارة "لِأَمثالِ هؤلاءِ مَلَكوتُ الله" فتشير إلى ملكوت الله الذي يخصُّ أولئك الذين استعدّوا لاستقباله كهدية من الله مثل الأطفال. ليس الطفل هنا براءة، بل الطاعة والاستعداد للتقبُّل. يطالب يسوع تلاميذه أن يبلغوا إلى الطفولة الروحية ليكون لهم نصيب في الملكوت معه. ويُعلق ثيوفلاكتيوس، البطريرك بلغاريا "لم يقل "لهؤلاء"، بل قال: "فَلِأَمثالِ هؤلاءِ مَلَكوتُ الله"، أي للذين لهم في نيتهم كما في تصرفاتهم ما للأطفال بالطبيعة من بساطة وعدم الأذية. فالطفل لا يبغض، ولا يحمل نية شريرة".  وفي هذا الصدد يقول بولس الرسول "لا تَكونوا أَيُّها الإِخوَةُ أَطفالا في الرَّأي، بل تَشَبَّهوا بِالأَطفالِ في الشَّرّ، وكونوا راشِدينَ في الرَّأي" (1 قورنتس 14: 20). ومن لا يقبل حقائق الإيمان بالملكوت ببساطة الطفل، وثقته، يصعب عليه أن يدرك أعماقه وبالتالي أن يدخله. لذلك يجب على البالغين أن يكونوا كالأطفال لكي يدخلوا ملكوت السماوات. أن الصفة الأساسية للطفل والتي تعبّر عن كرامته هي صفة "الابن". فمن يفقد جوهر الطفولة إنما يفقد ذاته. يفقد عناية الله الآب به. يعلق الراهب إسحَق السريانيّ "اقترب من الله لنيل العناية التي يسهر بها الآباء على أولادهم الصغار. لقد قيل: الربّ يسهر على الأولاد الصغار" (الخُطَب النسكيّة، المجموعة الأولى، الفقرة 19). فالذين يمنعون الآن الأطفال عن الإتيان إلى يسوع يغيظونه، والذين يأتون بهم إليه ينالون رضاه.

 

15 الحَقَّ أَقولُ لَكم: مَن لم يَقبَلْ مَلكوتَ اللهِ مِثْلَ الطِّفل، لا يَدخُلْه

 

تشير عبارة "يقبل" إلى قبول الملكوت الذي ليس شيئا يحصل عليه الإنسان أو يستحقه، بل يجب قبوله كهبة مجانية. وفي هذا المجال يتفوق الطفل على البالغين، لأنه مستعدٌ للقبول بسرعة. أمَّا عبارة " مِثْلَ الطِّفل" فتشير إلى المرء المُنفتح والمُستعد لتقبّل العطاء. فالملكوت يُعطى كهدية ليس كنتيجة جهد بشري بل استعداد بثقة للملكوت ومعرفة الأنسان أنه ضعيف.  إن الأطفال والذين يتمثَّلون بهم هم في حالة ثقة تامة.  فمن يقبل بشرى الملكوت بهذه الاستعدادات الباطنية وبدون جدال يدخل الملكوت. فيجب أن نتقبل ملكوت الله كما الطفل يقبله، لان ملكوت الله عطية يجب أن نعرف كيف نتقبلها كهدية من الله.  لا يحسب الطفل انه استولى بالقوة على ما حصل، لأنه ضعيف ومرتبط بغيره. ونحن لن نستولي على ملكوت الله بقوانا.  أمَّا في إنجيل متى، يجب أن نصير أطفالا لندخل ملكوت الله، أي لا بد لنا من التواضع لندخل ملكوت الله. "الحَقَّ أَقولُ لَكم: إِن لم تَرجِعوا فتَصيروا مِثلَ الأَطفال، لا تَدخُلوا مَلكوتَ السَّمَوات.  فمَن وضَعَ نفسَه وصارَ مِثلَ هذا الطِّفل، فذاك هو الأَكبرُ في مَلَكوتِ السَّموات "(متى 18: 3- 4).

 

16 ثُمَّ ضَمَّهم إلى صدرِه ووَضَعَ يَديهِ علَيهِم فبارَكَهم

 

عبارة "ضَمَّهم إلى صدرِه" في الأصل اليوناني ἐναγκαλισάμενος (احتضن) تشير إلى علامة رقة قلب يسوع وحبِّه للأطفال (لوقا 18: 15). زاد إنجيل مرقس هذه العبارة على ما قاله إنجيل متى (18: 3-4). يقوم يسوع هنا بحركة ذات مغزى، وهي احتضان الأطفال وضمّهم إلى صدره، ومباركتهم: وعوضاً عن جنون العظمة والسلطة لديهم، يقوم يسوع بلفتة حنان. أمَّا عبارة "بارَكَهم" في الأصل اليوناني κατευλόγει  (معناها راح يبارك) فتشير إلى بركة يسوع للأطفال باستمرار. ويرد هذا الفعل إلاَّ هنا. ويُعلق القديس كيرلس الكبير "حتى وقتنا الحاضر يُقدم الأطفال للمسيح لمباركتهم من خلال الأيدي المكرسة. مثال هذا العمل قائم حتى اليوم وقد جاء إلينا خلال عادة المسيح مؤسس هذه العادة".  ومن يقبل للرب في بساطة الأطفال يحتضنه الرب كما احتضن هؤلاء الأطفال.  

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (مرقس 10: 2-16)

 

بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي (مرقس 10: 2-16) يمكننا أن نستنتج انه يتمحور حول موضوع قانون الزواج والطلاق وموقف يسوع منهما. ومن هنا نتساءل: بما يقوم موضوع الطلاق في الدين اليهودي؟ وما رد فعل يسوع منه؟

 

1) ما هو موقف يسوع من الطلاق والزواج؟

 

كان موضوع الطلاق في أيام المسيح موضوع جدال وحوار حول نص التشريع الموسوي "إِذا اتَخَذَ رَجُلٌ اَمرَأَةً وتَزَوَّجَها، ثُمَّ لم تَنَلْ حُظْوَةً في عَينَيه، لأَمرٍ غَيرِ لائِق وجَدَه فيها، فلْيَكتبْ لَها كِتابَ طَلاقٍ وُيسَلِّمْها إِيّاه ويَصرِفْها مِن بَيته"(تثنية الاشتراع 24: 1-4). نظمت الشريعة ممارسة الطلاق، لكنها لم تُحدِّد أي "عيب" يسمح للرجل بطلاق امرأته. فالنص يُجيز للزوج أن يُعطي زوجته كتاب طلاق إذا ما وجد فيها أمر لا يليق. ولكن السؤال: ما هو هذا الأمر الذي لا يليق؟ فسأل الفِرِّيسيِّونَ المسيح عن الطلاق لأنهم منقسمون فيه بين تيارين أو مدرستين من مدارس الربانيين: هليل وشمّاي. فمدرسة هليل سمحت بالطلاق لأجل كل علة. وأمَّا مدرسة شمّاي فلا تسمح بالطلاق إلا في حالة خيانة زوجية.

 

لم يأتِ يسوع لكي يرضي الناس حسب أهوائهم، وإنما لكي يرفعهم إلى مستوى لائق كأبناء لله، ولذلك جاء موقفه حول مفهوم الحياة الزوجية كحياة فائقة لا يفصلها إلاَّ الموت:

 

أولا تشريع موسى: صرَّح يسوع أن تشريع موسى كان مجرد موافقة نتيجة الضعف البشري ولحماية الشريك المظلوم الواقع في الموقف السيء؛ فقد سمح بالطلاق في حالة المجتمع العائبة "إِنَّ مُوسى رَخَّصَ أَن يُكتَبَ لَها كِتابُ طَلاقٍ وتُسَرَّح مِن أَجْلِ قَساوَةِ قُلوبِكم كَتَبَ لَكُم هذهِ الوَصِيَّة" (مرقس 10: 5). فان وثيقة الإعفاء أو الترخيص الذي منحه موسى لا تلغي في نظر يسوع شريعة الزواج الأساسية والتي لا تزال قائمة. إن الزواج ليس إجراء كبيع الأرض وشرائها، حيت أدان المسيح هذا التصرف موضِّحا قصد الله، وهو أن يحقق الزواج الوحدة" الدائمة حيث " يَترُكُ الرَّجُلُ أَباه وأُمَّه ويَلزَمُ امرَأَتَه فيَصيرانِ جَسَدًا واحِدًا" (تكوين 2: 24).

 

ثانيا تشريع الله: أوضَح يسوع أنَّ الزواج، قبل تشريع موسى، قد أُسس باعتباره المثال الإلهي الأعلى للرجل والمرأة وأن رباطه دائم لا يفسخ فقال: "فمُنذُ بَدْءِ الخَليقَة جعَلَهما اللهُ ذَكَراً وأُنْثى. ولِذلِكَ يَترُكُ الرَّجُلُ أَباهُ وأُمَّه ويَلزَمُ امرأَتَه. ويَصيرُ الاثنانِ جسَداً واحداً. فلا يكونانِ اثنَيْنِ بَعدَ ذلك، بل جسَدٌ واحِد. فما جَمَعَه الله فَلا يُفَرِّقَنَّه الإِنسان" (مرقس 10: 6-9). وعليه تقوم شريعة الزوجين الجوهرية على أساس أن الشركة الزوجية هي تكامل طبيعي وهبة الذات المتبادلة التامة التي هي صورة حية لحبّهما ورمز لوحدتهما الزوجية وإتمام مشيئة الله المنقوشة في طبيعة الرجل والمرأة منذ البدء" كما جاء في الكتاب المقدس " فمُنذُ بَدْءِ الخَليقَة جعَلَهما اللهُ ذَكَراً وأُنْثى ولذلِكَ يَترُكُ الرَّجُلُ أَباه وأُمَّه ويَلزَمُ امرَأَتَه فيَصيرانِ جَسَدًا واحِدً" (التكوين 2:24). وتدل عبارة "يَصيرُ الاثنانِ جسَدًا واحدًا" إلى عدم الانفساخ التي هي امنيه الحب العميق. ومن الطبيعي أن نُرفق لفظة "دائما" بلفظة "حب". لأنه في الزواج المسيحي يرتبط الزوج الواحد بالآخر بعقد بينهما لا يستطيعان فسخه باتفاقهما. لأنه لا يوجد هناك فقط مشيئتان ملزمتان فقط، بل هناك أيضا مشيئة ثالثة وهي مشيئة الله وعهد قطعه الزوجان أمام الله. ويعلن يسوع أن لا أحد يستطيع أن يفسخ اتحاد الزوجين الأساسي. إذ يتدخل الله ليرسّخ هذه الحب.

 

ثالثا موقف يسوع: أوضح يسوع لتلاميذه على انفراد أن الرجل والمرأة في موضوع الزواج متساويان. إذ قال "مَن طَلَّقَ امرَأَتَه وتَزَوَّجَ غَيرَها فقَد زَنى علَيها وإِنْ طَلَّقَتِ المَرأَةُ زَوجَها وتَزَوَّجَت غَيرَهُ فقَد زَنَت" (مرقس 10: 11-12). إن المرأة تبدو كشيءً خاصٍ بالرجل (خروجٍ 20: 17) فتكون هي وهو واحداً في أمانة متبادلة (تكوين 2: 23 24). ويكشف يسوع هنا عن كل أبعاد الأمانة الزوجية (متى 5: 27-28) بحيث تُلزم الرجل إلزامها للمرأة (مرقس 10: 11)، وتربط الزوجين برباط غير قابل للانفصام (متى 19: 6). وأكد بولس الرسول أن تعاليم يسوع تنص على وحدة الزواج وعدم الطلاق بقوله "وأَمَّا المُتزَوِّجونَ فأُوصيهم، ولَستُ أَنا المُوصي، بلِ الرَّبّ، بِأَن لا تُفارِقَ المَرأَةُ زَوجَها، وإِن فارَقَتْه فلْتَبقَ غَيرَ مُتَزَوِّجة أَو فلْتُصالِحْ زَوجَها وبِأَلاَّ يَتَخَلَّى الزَّوجُ عنِ امرَأَتِه" (1 قورنتس 7: 10-16).

 

ويُقدِّم الأنبياء العهد الذي يجمع بين الإنسان والله برباط حب أمين، تحت رمز زواج غير قابل للفسخ (هوشع 2:4). فلا يجوز للرجل أن يطلق امرأته كما كانت العادة المتبعة في العالم اليهودي. "مَن طَلَّقَ امرَأَتَه وتَزَوَّجَ غَيرَها فقَد زَنى علَيها" (مرقس 10: 11)؛ كذلك لا يجوز للمرأة أن تطلق زوجها كما كانت العادة في بعض الأوساط غير اليهودية "إِنْ طَلَّقَتِ المَرأَةُ زَوجَها وتَزَوَّجَت غَيرَهُ فقَد زَنَت" (مرقس 10: 12) كما فعلت هيروديا ابنة ارسطوبوليس، حفيدة هيرودس الكبير. إذ تزوجت هيرودس فيلبس (متى 14: 3) لكنها طلقته وتزوجت أخاه هيرودس انتيباس (متى 14: 3-10).

 

رابع موقف الكنيسة: بناء على ما تقدم جاء ت القوانين في الحق القانوني للكنيسة الكاثوليكية مؤكدة على دوام الشركة الزوجية وعدم الطلاق. "إن العهد ألزواجي، الذي يقيم به الرجل والمرأة بينهما شركة للحياة كلها، والذي يهدف بطبيعته إلى خير الزوجين وإنجاب البنين وتربيتهم، قد رفعه السيد المسيح إلى مقام سر مقدس بين المعمدين. (مجموعة الحق القانوني للكنيسة الكاثوليكية، 1055) وللزواج ميزتان جوهريتان هما الوحدة وعدم الانحلال، (1056). إذ يقوم الزواج على رضى الطرفين. "والرضى الزواجي فعل إرادة به يتبادل الرجل والمرأة، بعهد لا رجعة فيه، هبة الذات، عطاء وقبولا، ليقيما الزواج بينهما (1057، 2).

 

ونستنتج مما سبق أن تعليم يسوع بالمباينة مع موسى يُحرِّم الطلاق بتاتاً وقد قيل: "مَن طلَّقَ امرأَتَه، فلْيُعْطِها كِتابَ طَلاق. أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: مَن طلَّقَ امرأَتَه، إِلاَّ في حالةِ الفَحْشاء عرَّضَها لِلزِّنى، ومَن تَزَوَّجَ مُطَلَّقَةً فقَد زَنى" (متى 5: 31). أن تشريع موسى هو تكييف مع طبيعة الإنسان الفاسدة. وبما أن يسوع جاء ليعالج هذه الطبيعة الشريرة فإنه يرفض هذا التكييف ويستعيد للزواج مستواه الأصلي كما أراده الله في البدء. فلا يجوز الطلاق ابدأ. وقد اكّد ملاخي النبي أن الله يبغض الطلاق (ملاخي 2: 14-16).

 

 

2) ما هو تفسير "مَن طلَّقَ امرأَتَه، إِلاَّ في حالةِ الفَحْشاء "(متى 5: 32).

 

تعني الجملة الاستثنائية "إِلاَّ في حالةِ الفَحْشاء" الزنى على جميع أنواعه (الزنا، واللواط، السحاق، الجماع مع الحيوانات... أو الجماع الجنسي مع الأقارب (أحبار 18:1) أو الجماع الجنسي مع رجل مطلق أو امرأة (متى 10/11).

 

أمَّا تفسير الكلمة اليونانية "الفَحْشاء (πορνεία) فهناك أربعة معانٍ رئيسية:

 

1) "امر غير لائق" أي عيب كما ورد في سفر تثنية الاشتراع " إِذا اتَخَذَ رَجُلٌ اَمرَأَةً وتَزَوَّجَها، ثُمَّ لم تَنَلْ حُظْوَةً في عَينَيه، لأَمرٍ غَيرِ لائِق وجَدَه فيها، فلْيَكتبْ لَها كِتابَ طَلاقٍ وُيسَلِّمْها إِيّاه ولَصرِفْها مِن بَيته " (تثنية الاشتراع 24: 1)؛ في هذه الحالة يحلل نص التثنية صرف امرأة لأسباب شتّى.

 

2) الزنى أي خيانة المرأة لزوجها. الزنى الفعل الذي ينتهك حرمة تبعية امرأة لرجلها أو خطيبها "وأَيُّ رَجُلٍ زَنى بِآمرَأَةِ رَجُل (الَّذي يَزْني بِآمرَأَةِ قَريبِه)، فلْيُقتَلِ الزَّاني والزَّانِيَة" (أحبار 20: 10). في هذه الحالة يجيز النص نفسه تسريح المرأة الزانية. وترى الكنيسة الأرثوذكسية في هذه الآية تسهيلا قدَّمه يسوع للسماح بزواج لمن وقع ضحية الزنى. فالزنى يجعل الزانية جسد واحد مع الرجل الآخر، وبهذا الأمر هي قطعت علاقة الجسد الواحد مع زوجها.  فالطلاق يقيد تمامًا إلاّ لعلة الزنى. ولا تقبل الكنيسة الكاثوليكية في قوانينها مثل هذا التأويل إنما تطلب التعامل بالرحمة مع الطرف الضعيف كما فعل يسوع مع المرأة الزانية (يوحنا 8: 1-11).

 

3) الزواج المُحرَّم: بحسب تشريع من الأهل والأقارب كما ورد في الكتاب المقدس "لا يَقتَرِبْ أَيُّ رَجُلٍ مِن ذاتِ قَرابَتِه لِكَشْفِ عَورَتِها: أَنا الرَّبّ. عَورَةَ أَبيكَ وعَورَةَ أُمِّكَ لا تَكشِفْ. إِنَّها أُمُّكَ، فلا تَكْشِفْ عَورَتَها. وعَورَةَ زَوجَةِ أَبيكَ لا تَكشِفْ، فإِنَّها عَورَةُ أَبيك. وعَورَةَ أُختِكَ، اِبنَةَ أَبيكَ كانَت أَوِ آبنَةَ أُمَِّكَ، مَولودةً في البَيتِ كانت أَو في خارِجِه، لا تَكشِفْ. وعَورَةَ بنْتِ آبنِكَ أَو بِنْتِ آبنَتِكَ لا تَكْشِفْ، فإِنًّها عَورَتُك.  وعَورةَ بِنْتِ زَوجَةِ أَبيكَ المَولودةِ مِن أَبيكَ لا تَكشِفْ، إِنَّها أُختُكَ، فلا تَكشِفْ عَورَتَها. وعَورَةَ أُختِ أَبيكَ لا تَكشِفْ، فإِنَّها ذاتُ قَرابةٍ لأَبيكَ. وعَورَةَ أُختِ أُمِّكَ لا تَكشِفْ، فإِنَّها ذاتُ قَرابةٍ لأُمِّكَ. وعَورَةَ عَمِّكَ لا تَكشِفْ وإلى آمرَأَتِه لا تَقتَرِبْ، فإِنَّها عَمَّتُكَ. وعَورَةَ كَنَّتِكَ لا تَكشِفْ، إِنَّها زوجَةُ آبنِكَ فلا تَكشِفْ عَورَتها. وعَورَةَ زوجَةِ أَخيكَ لا تَكشِفْ، فإِنَّها عَورَةُ أَخيكَ. وعَورَةَ امرَأَةِ أَبيكَ وآبنَتِها لا تَكشِفْ، ولا تَتَّخِذِ اَبنَةَ آبنِها ولا آبنَةَ آبنَتِها لِتَكشِفَ عَورَتَها، فَهُنَّ ذَواتُ قِرابَتِكَ: إِنَّها فاحِشة. وآمرأةً مع أُختِها لا تَتَّخِذْ لِتَكونَ ضَرَّتَها فتَكشِفَ عَورَتَها مَعَها وهي حَيَّة" (أحبار 18: 6-18) وهذا معنى ورد على الأرجح في أعمال الرسل "فقد حَسُنَ لَدى الرُّوحِ القُدُسِ ولَدَينا أَلاَّ يُلْقى علَيكم مِنَ الأَعباءِ سِوى ما لا بُدَّ مِنُه، وهُوَ اجتِنابُ ذَبائحِ الأَصنامِ والدَّمِ والمَيتَةِ والفَحْشاء. فإِذا احتَرَستُم مِنها تُحسِنونَ عَمَلاً" (15: 28-29). في هذه الحالة يحرّم يسوع كل تسريح امرأة الاّ في حالات الزواج المحرّم المنصوص عنها كما ورد أعلاه (أحبار 18: 6-18).

 

4) حالة زواج غير شرعي: يقصد به الأشخاص الذين يتساكنون معا دون زواج شرعي. فمثلُ هذا الزواج يكون باطلاً بالأساس، وهو يضع الزوجين في "حالة زنى" أدركوا ذلك أم لم يدركوه أي عن حُسْن نيّة أو سوء نيّة.  وعندئذ ينبغي إبطال الزواج، أو تصحيح الزواج إن كان الزوجين مدركين الأمر وعندهما رغبة في ذلك. وتعليم بولس الرسول واضحاً في هذا الصدد " وأَمَّا المُتزَوِّجونَ فأُوصيهم، ولَستُ أَنا المُوصي، بلِ الرَّبّ، بِأَن لا تُفارِقَ المَرأَةُ زَوجَها، وإِن فارَقَتْه فلْتَبقَ غَيرَ مُتَزَوِّجة أَو فلْتُصالِحْ زَوجَها وبِأَلاَّ يَتَخَلَّى الزَّوجُ عنِ امرَأَتِه" (1 قورنتس 7: 10-11).

 

ونستنتج مما سبق أن أيَّة كانت قيمة هذه الافتراضات، تقوم أهمية نص إنجيل مرقس (10: 2-16) على التذكير بعدم انفساخيه الاتحاد الزوجي، علما بأن التقليد الأرثوذكسي يجد فيه أساسا للتحقق في حالة الزنى من وجود طلاق.

 

 

3) ما هو موقف الكنيسة الكاثوليكية من الطلاق؟

 

لا طلاق في التقليد الكاثوليكي، لان الزواج لا ينفصل عندما يكون سرا. والكنيسة لا يمكن تغيير هذا الوضع. إنها عقيدة. إنه سر لا ينفصم عراه. ومن هذا المنطلق الزواج المسيحي قائم على الثبوتية وعدم الانحلال حفاظاً على الأمانة الزوجية والمساواة بين الزوج والزوجة وتأمين تربية الأولاد البدنية والأدبية وخير الآسرة والمجتمع والمحافظة على سر اتحاد المسيح بكنيسته. بينما الطلاق يتنافى والعلاقة الزوجية من حيث المساواة بين الزوجين في الكرامة لأنه رفض للوحدة الكيانية بين الرجل والمرأة ورفض لشبهما مع الله المحبة، الواحد في ثلاثة والثلاثة في واحد. كما انه رفض للغنى الإنساني الذي يكمن في هذه الوحدة الكيانية.

 

وكذلك يناقض الطلاق الثقة الكاملة بين الزوجين؛ لان تلك الثقة يًهدِّدها الشك، الذي يوجده مجرد التفكير بإمكانية الطلاق؛ وفي هذا المعنى قال حافظ الجمالي: "ليس من قلق أكبر من قلق أهل المرأة بل ليس بؤس أكبر من بؤس المرأة في نظام يسمح بالطلاق". وان مجرد توقع الطلاق يدفع كلا من الزوجين أن يسعى لا لخير شريكه والأولاد، بل لمصلحته الخاصة. انه يُعدم الإخلاص بين الزوجين والتضحية في المرأة. وفي الواقع لا تهب المرأة نفسها حقا ألا إذا اطمأنت إلى استقرار حياتها وثبوتها، وعرفت إنها لن تفارق زوجها إلآّ في الموت. وفي هذا الصدد جاء تعليم المجمع الفاتيكاني: " إن الحب الزوجي الذي يقبل به الزوجان بتعهدهما المتبادل، يبقى أمينا وغير قابل الانفصال فكرا وجسدا في السراء والضراء، انه لينبذ كل طلاق (الكنيسة في العالم اليوم، 49).

 

ويضر الطلاق أيضا بمهمة الوالدين بتربية البنين. لا بدَّ في تربية الأطفال الجسمية والأدبية من حياة زوجية مستقرة يجدون فيه المحبة والعاطفة ومعنى السلطة. وفي هذا الصدد قال المجمع الفاتيكاني" إن خير الأولاد يتطلب الأمانة المطلقة بين الزوجين، ويفضي بوحدة لا تنحل" (الكنيسة في العالم اليوم، 48). ونحن هنا في غنى عن القول إن أبحاث علم النفس الحديث قد دلت على أن الطلاق يترك أثرا سيئا طوال الحياة في نفوس الأطفال.

 

ويضر الطلاق أخيرا في نظام والمجتمع وتقدمه. انه يُبدد شمل الأسر ويُثير الشكك والبغضاء والخصومات بين الأزواج وأقاربهم، ويُكثر الأيتام ويُشجع على التحرر من كل قيد أخلاقي ودفع إلى الأجرام. وقد دلت الأبحاث على أن الانتحار يكثر بين المطلقين أكثر منه بين المتزوجين، كما دلت الأبحاث على أن كثيرا من المطلقين ينتهون إلى الأمراض النفسية والجنون، وان عددا غير قليل من المطلقات ينتهين في دور الدعارة.

 

وفي حالة الصعوبات بين الزوجين:

 

إن القوانين الكنيسة الكاثوليكية لا تبيح الطلاق، وإنّما هناك حلّان يمكن الزوجين أن يلجآ إليهما متى استعصى عيشهما معًا؛

 

أولاً: الهجر (أو الانفصال الدائم أو الجزئي) الذي لا يلغي سرّ الزواج ويُعتمد في حالة الزنى أو عندما يشكّل عيش الزوجين معًا خطرًا على أحدهما أو على الأولاد، علماً أن الهجر يتيح للزوجين إمكان التصالح وعودة الواحد إلى الآخر.

 

وثانيًا: بطلان أو فسخ الزواج: قد تبطل الكنيسة الزواج عندما تثبت المحاكمة الكنسية القانونية أن ما بدا وكأنه سر الزواج ولكنه لم يكن في الواقع سراً. عندها تعلن الكنيسة بعد تحقيقٍ دقيق أن الزواج لم يتم في الواقع أبداً لغياب شرط أساسي أو وجود سبب مبطل بحسب القوانين الكنسيّة ، ومنها عدم القدرة النفسيّة على الالتزام بالحياة الزوجيّة، التلجئة بالنسل أو الديمومة أي أن يظهر الفرد عكس ما يضمر فيما يتعلّق برغبته في الإنجاب، الزواج المعقود وفق شرط، الزواج الذي يحمل غشاً وخداعاً في الصفة، الزواج في الإكراه أو الخوف الاحترامي الذي يفرضه الأهل على أولادهم، إضافة إلى الزواج الذي يقرّر ولا يكون مكتملاً أي تقرير الزواج من دون إتمام العلاقة الجسديّة وهو فسخ يقرّره الحبر الأعظم شرط التأكّد من عذريّة المرأة. مع العلم إلى أن من يأخذ حكماً ببطلان الزواج يُصبح حرّاً ويمكنه أن يتزوّج ثانية، عكس من يحصل على قرار بالهجر الذي يبقى زواجه معقوداً.

 

 

الخلاصة

 

إن يسوع برجوعه صراحةً إلى ما وراء شريعة موسى أي إلى مقصد الخالق على ما جاء في كتاب التكوين (مرقس 10: 6-7)، يؤكد الطابع المطلق في الزواج، وعدم قابليته للانفصام (متى 19: 9). الله نفسه هو الذي يُوحَد الرجل والمرأة، مضيفا على اختيارهما الحر تكريساً يفوقهما. إنهما أمامه "جسد واحد"، ولذا فإن الطلاق الذي كان يتغاضى عنه "بسبب قسوة القلوب "، ينبغي حظره في ملكوت الله، حيث يعود العالم إلى كماله الأصلي.

 

فمنذ بدء الخليقة، جعلهما الله ذكرا واحدا وأنثى. وجمع الله بين الاثنين على الحب مدى الحياة. وما جمعه الله لا يفرقنَّه الإنسان. وهكذا انطلق يسوع إلى أصول الزواج وقدسيته بحيث هو رباط ديني لا ينفصم، ووحدة جوهرية لا تنفك، ورفعه يسوع إلى سر من أسرار الكنيسة. ففي سر الزواج يعطى الروح القدس للزوجين أن يصيرا جسدًا واحدًا في المسيح ويجمعهما الروح القدس في محبة روحيّة، يرمز اتحاد هما إلى اتحاد القائم بين الله وشعبه، وبين المسيح كنيسته (أفسس 5: 21-33). لذلك الزواج المسيحي وثاق أبدى، ولا رجوع فيه إذا استوفى شروطه.  فالعروسين يحصلان على النعمة ولكن إن أهملا جهادهما الروحي تنطفئ النعمة التي حصلا عليها في سر الزواج كما جاء في تعليم بولس الرسول " ومن لا يجاهد يطفئ الروح" (1 تسالونيقي 19:5). هل يستطيع الزوجان أن يصونا هذه النعمة ويستمرا في جهادهما؟

 

وأمَّا استثناء "حالة الزنى" (متى 19: 9)، فلا يُبرر الطلاق (مرقس 10: 11 -12، لوقا 16: 18، َ 1 قورنتس 7: 10-11)، وإنما يتعلق دون شك بطرد القرينة غير الشرعية، أو بالحري بانفصال لا يمكن أن يتبعه أي زواج آخر. ومن هنا جاء خوف التلاميذ أمام صرامة الشريعة الجديدة بقولهم ليسوع: "إِذا كانَت حالَةُ الرَّجُلِ مَعَ المَرأَةِ هكذا، فلا خَيرَ في الزَّواج" (متى 19: 10).

 

يحسن بالمجتمع أن يهتدي بتعليم الرب الإيجابي في الزواج لا طلاق فيه، لان الطلاق يُهدد الحياة الشخصية وحياة الأسر وبالتالي المجتمع. والمؤيدون على الطلاق لا ينتمون إلى المسيح. لأنه لا وجود للطلاق في لغة المسيح؛ إنما الوجود كله للحب والسعادة بين الزوجين وللوفاق والاتفاق، وللأمانة والوفاء وللاستمرار في الوحدة ما جمعه الله حتى الموت طلبا لبركته وعملا بمشيئته.

 

 

دعاء

 

أيها الآب السماوي، نسأك باسم يسوع ابنك الحبيب، إن تبارك الزواج المسيحي كي يصبح عهد حب بين الرجل والمرأة، وشركة حياة، يتصف بالوحدة والديمومة والوفاء والأمانة مدى الحياة. قدّس حياتنا  يارب كي نتمكّن من أن نعيش كرجال ونساء مُكرّسين لك. آمين