موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٣١ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٠

بينَ عامين: عشرون عشرون!

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
على الأملِ نُمسي وَنَبَات، وعلى الأمل نغدو ونُصبح، فكلّ عام وأنتم والأحبّة بألف خير.

على الأملِ نُمسي وَنَبَات، وعلى الأمل نغدو ونُصبح، فكلّ عام وأنتم والأحبّة بألف خير.

 

في مِثلِ هذا الوقت من كلِّ عام، وفي مثلِ هذا اليوم من كلّ سنة ميلادية، نستعدُّ لتوديع عامٍ سَيَمضي، ولاستقبالِ عامٍ سَيأتي. فَسُنّة الحياةِ الدّوران، فالأيام تمضي والأيام تأتي، والسّنوات ترحل وتغادر والسّنوات تطلُّ وتوافي. وعندَ كلّ سنةٍ نُودّعُها، نواري خلفَها مجموعةً من الذّكرياتِ والمواقفِ، منها ما أَسعَدَنا وأَضحَكَنا وأَدخَلَ البَهجةَ والغِبطةَ قلوبَنا، ومنها ما أَحزَنَنا وأبكانَا وأدخل الّلوعةَ والتّأوّه صدورَنا وحياتَنا.

 

هذهِ السّنة كانت ثَقيلة بكلِّ المعايير، كانت سنةً مُتعِبةً للبشريةِ كلّها، كانَت سنةً زادت فيها جُرعة الآلامِ والأوجاع. كانت سنةَ معاناة لكثيرين، سنةً فُقِدت فيها ملايينُ الوظائِف، سنةً زادَ فيها الجوعُ والفقرُ والحاجة. كانت سنةً مُنتِنَةً برائحة الموت، سنةَ جائحة فَتَكت بكثيرين وحطّمت كثيرًا ودمّرت كثيرًا وأطاحت بكثيرٍ.

 

كانت سنةً بَشِعة صحيّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا. سنةً استَقبَلنَاها باغتيالاتٍ، ونودّعها اليوم وطبولِ الحرب تقرعُ هناكَ في الخليج وربّما أقرب، وتُنذر بكارثة أخرى تُضاف إلى رصيدنا من الكوارِث والمآسي، قد لا نكونُ نحن في منأىً عن تَبِعاِتها، وكأنّ هذا الشّرق الأوسط يُعاني من مُتلازمةِ الحروبِ والصّراعات! فكلُّ القوى الكُبرى تتناحرُ فيه وتتطاحنُ فيه وتُصفّي حساباتِها فيه، تَلبيةً لمطامِعها الدّنيئة، وشعوبُ المنطقة يذهبون هباءً منثورًا، دوسًا تحتَ جزمات الجنودِ والمرتزقة والطّامعين.

 

عشرون عشرون، يا سنةَ الحُزنِ والجنون، يا سنةً أدمتِ القلوبَ وأبكت العيون، يا سنةً زادت فيها الحسراتُ والشّجون. يا سنةً كبّدتنا الخسائر وأثقلَتنا بالدّيون. يا سنةً أُغلِقت فيها الكنائِسُ، وأضحت حياتُنا كالسّجون. عشرون عشرون، يا سنةً لا نملِكُ أمامَها سوى الوقوفِ بصمتٍ والتّأمُّلِ بسكون. سائلينَ الله أن يُبرّدَ لهيبَ الأفئدةِ ويُريحَ سهر الجفون. ولو أنَّ ميخائيل نُعيمة كانَ حيًّا وعاصرَ هذا العام، لَسمّى كِتابَه: عشرون وليسَ (سبعون)!

 

عشرون عشرون، يا سنةً أَتعَبَتنا، أَرهَقتنا، أفقَرَتنا، أَبكتنَا، أَوجَعتنا، أَحزَنتنَا، أخافَتنا، قَيّدَتنَا، أبعَدَتنا، أَلزَمتنا البيوتَ والدّورَ والمساكِن. عشرون عشرون، يا سنةً سَتبقين حيّةً حاضرةً في الأذهانِ والعقول. سَنذكُرُكِ ليسَ لجمالِك، بل لأنّكِ كُنتِ سنةً لَئيمةً بَغيضةً كريهة، لِذلِك نودّعُكِ باكينَ مِنكِ لا عليكِ، نودّعُكِ سائلينَ الله ألّا نرى مثيلًا لكِ، ولا شبيهًا بِك مدى الحياة.

 

أيّها الأحبّة، ها نحنُ في هذا اليومِ الكانوني البارِد، وفي هذا المساءِ المضَاء بأنوارِ الميلادِ المجيد، وَطِفلُه يَطلُّ علينا من عتمة المغارة، قد أَمسينا وقوفًا على عَتبةِ عامٍ جديد، نستقبلُه بالرّجاءِ وبالأمل. فالأملُ في قلوبِنا شعلةٌ قد تَضعُفُ، ولكنّها لا تَخبو وَلا تَنطَفِأ. وها هي سماءُ العيونِ، مع نجم بيتَ لحم، تُبرِق ببارقةِ الرّجاء، تلحظُ النّورَ المنبلِجَ مِن فجر غدٍ جديد، مُستبشرينَ فيه الخيرَ والفرجَ والبركةَ للبشرية جمعاء. نُناظِرُ الغَد برجاءِ المسيح الّذي وافانا طفلًا للورى بانَا، نناظرُ الغدَ والقلوبُ منّا مُفعمة بالابتهالِ والاسترحام والاستعطاف والاستغاثة. نناظر الغدَ وقلوبُنا مرفوعة نحو العُلى لدى الرّب، نتوسّل ونتضرّع وندعو. نناظرُ الغَد مناشدينَ ربّ السّماء رحمةَ السّماء وسلامَها للأرض وأهلِها وكلّ مخلوقاتِها.

 

وإن كانَ لَدَيّ أُمنيةٌ أخيرة أُضيفُها في نهاية عام وبدايةِ آخر، فهي السّلامُ بين أَتباعِ الدّياناتِ جَمعاء. أطلبُ من الله أن يُزيلَ أسبابَ الخلافَ والتّناحر، مليّنًا صلابةَ العقول وقسوةَ القلوب. أسألُ الله أن يُخمِدَ خطاب الكراهية المستعرِ في قلوبِ كثيرين، وأن تكون منصّات التوّاصل الاجتماعي، مَحطّاتٍ للتّلاقي الإيجابي والحوار البنّاء لا للسبّ والشّتم والقَذارة. ألا اتركوا الحُكم للحاكم والدّينونةَ للدّيان، ولا شَأنَ لَكم فيمن يذوقُ حلاوةَ النّعيم، أو يَصلَى بنارِ الجحيم.

 

أسألُ الله أن يُطهّر القلوبَ من كلّ رجاسة، ويزيلَ من العيون كلّ نظراتِ الحقدِ والنّجاسَة، ويُجمّل الألسنة بكلامٍ طيّب نافِع، ويُرخي الأيادي المغلولة للتّصافح والمودّة الصّادقة، دون نفاقٍ وبلا مجاملات زائِفة.

 

أسألُ الله أن يَتلاقى جميعُ أبناءِ البشر عيالُ الله، على اختلاف اِنتماءاتِهم وأفكارِهم وتوجّهاتهم وشعوبهم وقبائلهم، على خيرِ البشرية وَنَهضتِها ورُقيّها وارتقائِها ونموّها وازدهارِها. أسألُ الله أن يمحو الأحقادَ الدّفينة، والكراهية الّتي يُضمرها البشرُ بعضُهم لبعض. أسألُ الله ألّا تكونَ تقوى بعضِ النّاس، سببًا لتكفيرِ سائرِ النّاس وإدانتِهم واحتقارِهم وترهيبهم.

 

في كلمتها الختامية المعتادة، الّتي تُلقيها في نهايةِ كلّ عام، مُخاطبةً الأمّة الألمانية في استقبالِها لعام جديد، قَالَت المستشارةُ الألمانية أنجلا ميركل: ((لم يَحدث قَط على مَدى الخمسة عشر عامًا الماضية، أَن كانَ العامُ المنصرم بهذا القَدر مِنَ الثّقَل. ولم يحدث قَط، رغم كلّ المخاوفِ وَبَعضِ الشّكوك، أن كانَ تَطلّعنا إلى العامِ الجديد، بِهذا القَدرِ مِنَ الأمَل)).

 

على الأملِ نُمسي وَنَبَات، وعلى الأمل نغدو ونُصبح، فكلّ عام وأنتم والأحبّة بألف خير.