موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
مُقدّمة
في الصحاري والبراري، وهي بمثابة المناطق القاحلة، خاصة في الشرق الأوسط، عندما تهطل الأمطار، تتعرض الطبيعة لبعض من الأحداث المفاجئة كانفجارات بباطنها تأتيها من السماء وفي لحظات يتحول كلّ شيء من الجاف واليبس إلى الحياة واللون الأخضر، وتصير التلال مغطاة بالمروج الخضراء. صورة قوية يستخدمها اشعيا النبي في الجزء الثاني (أش 40-55) من النبؤة والّذي تمت كتابته أثناء السبي البابلي، واليوم نقرأ هذا النص الشهير لدى اشعيا (55: 10- 11) بالتوازي مع مقطع إنجيلي بحسب متّى الّذي كعادته يُسمعنا صوت يسوع الـمُعلم في خطابه بالأمثال ومن خلال إستعانة يسوع بتعاليم الطبيعة. سنتوقف اليّوم للتعمق في تعليمه الجديد من خلال مثل الزارع (مت 13: 1 - 23). بين كِلا النصين وجدنا أن هناك علاقة وطيدة بينهما ففي النصّ الأوّل مياه الأمطار تأخذ دور البطولة ولكنها رمزيّة لأنها تُستخدم كإستعارة من النبي للإشارة لكلمة الله، وفي النص الثاني البذور وهي أيضًا تشير لكلمة الله بحسب مثل يسوع التعليمي. لذا أعطينا عنوانًا لمقالنا هذا بذور الكلمة الّتي تنمو بنعمة الإصغاء والخوار مع الكلمة الّتي تغني حياتنا وتجعلها أكثر خضوبة وحياة وإخضراراً وهي علامات الحياة. سنتوقف قليلاً في مقالنا هذا لنحمل في أواني قلوبنا بذور وأمطار الكلمات الإلهيّة الّتي لا تُمحى فتصير بمثابة حياة وقوة وسط تقلبات الحياة البشرية الّتي تصاب باليبس والجفاف.
1. الجفاف واليبس (اش 55: 10- 11)
بالنسبة لنبي إسرائيل، أثناء السبي البابلي، عاش كشعب جاف، كالعشب اليابس (راج ش 40: 8)، ووصل إلى اليائس حينما صارت حياته قاحلة، وهذا شعب كان أشبه بالصحراء التّي بلا حياة. ففي هذا الوقت بالتحديد يأتي إعلان النبي اشعيا، حاملاً رسالة الرجاء والخلاص، معلنًا عن مستقبل جديد وغير متوقع، ومحفز أكثر مما راه الشعوب قبلاً. ففي هذه السنوات الّتي عاش فيها بني إسرائيل خارج أرضه بلا كرامة ولا حريّة، فصارت حياته كالصحراء، إذ لا يوجد شيء يوحي بانفجارات الحياة والتطلع نحو مستقبل أفضل. تمامًا كما لو فكرنا في شكل حياة للبذور المدفونة في قلب الصحراء القاحلة، حيث لا يجرؤ أحد على التفكير في أنّ البذور المخبأة والمدفونة بين الرمال والحجارة بالإضافة إلى الشمس الحارقة الّتي تغطيها كلّ ساعات النهار فيستحيل، بحسب المنطق البشري، أن تكون لها حياة بالأخص بدون المياه. لكن بنزول الأمطار بكميات هائلة نُفاجأ إذ في الوقت المناسب ستدُّب في هذه البذور المدفونة الحياة والألوان. فقط يتم هذا التحول بنزول الأمطار، الصحراء بمفردها ليست قادرة على الازدهار. يغرق المطر حتى تنبت البذور المخفية مما يجعل الصحراء تتحول إلى مراعى خضراء. إنها صورة قوية إذا وُضحت لشعب أساس حياته الزراعة والرعي كشعب بني إسرائيل، في وقت يجدون أنفسهم في حالة من السبي والمنفى مما يدل على العقم الشديد وإحتماليّة التطلع إلى مستقبل غالبًا ما تكون مستحيلة لهم. هذه قرائتنا بشكل مُبسط عن تاريخ بني إسرائيل لذلك كلمات اشعيا لتدب الحياة من جديد في هذا الشعب اليابس بحسب الوعد الإلهي المُعلن بالصوت الإلهي القائل: «لِأَنَّه كما يَنزِلُ المَطَرُ والثَّلجُ مِنَ السَّماء ولا يَرجِعُ إِلى هُناك دونَ أَن يُروِيَ الأَرض ويَجعَلَها تُنتِجُ وتُنبِت لِتُؤتِيَ الزَّارعَ زَرعاً والآكِلَ طَعاماً فكذلك تَكونُ كَلِمَتي الَّتي تَخرُجُ مِن فمي: لا تَرجِعُ إِلَيَّ فارِغة بل تُتِمُّ ما شِئتُ وتَنجَحُ فيما أَرسَلْتُها لَه» (55: 10- 11). هاتين الآيتين لا يحملن فقط الوعد الإلهي بقدر المخطط الّذي يرغب الله في تجسيده على حياة الشعب الجافة أثناء السبي كعلامة لنهاية السبي وبدءالشعب في الخصوبة في أرضه بكرامته وبحريّة تامة. تساعدنا هذه القراءة كمؤمنين اليّوم على قراءة تاريخنا المعاصر، سواء جفاف أم خصوبة، فهو يعلن عن نفسه بسبب تجلي أعمال الله وبفضل تدخلات الله صارت الصحراء مزدهرة بقوة كلمته الّتي لابد وأن تترك أثر خصيب فيمَن يصغي إليها حقيقة.
2. فعاليّة الكلمة (مت 13: 1- 10)
نتواصل في هدف المقال بعد أن توقفنا أمام قوة الأمطار بحسب نبؤة اشعيا وهي لا تنهمر فارغة بل لتُخصب ما هو يابس. هكذا النص الإنجيلي من خلال مثل الزارع، نلاخط أن المثل الّذي رّواه يسوع بحسب متى الإنجيل ما هو إلّا قراءة للتاريخ في زمن معاصر له، وأيضًا في هذه الحالة، ليس كتاريخ عام، ولكن يحمل المثل المحدد، تعليم جديد من قِبل يسوع. هذا أيضًا يساعدنا من جديد على قراءة معاصرة لتاريخ الله معنا فهذا النوع من القراءات قادر على القراءة في أعماق الأحداث البشرية وأن ترى فيها حياة تزدهر حتى وإنّ كانت على وشك اليبس والموت أيّ النهايّة.
لأوّل وهلة نتلمس أنّ بهذا المثل شيئ من الـمبالغة من قبل الإنجيلي بسبب تقديم المثل ثم تفسير من يسوع لتلاميذه. هذا بالإضافة إلى إنه لا يُمثل عظة تتماشي مع قوة وفعالية الكلمة الإلهيّة. إنها كلمة واقعة، كلمة تقع في لحظة محددة من حياة المؤمنين وكلمة تقرأ التاريخ بعيون الله.
تتميز قراءة هذا التاريخ بالنظر الدقيق بين الرمال القاحلة والحجارة الهامدة لرؤية تلك البذور الّتي تنتظر ماء سماوي لكي تزهر وتؤتي ثمارها. هذه الأرض القاحلة الّتي تخفي البذور تحتاج إلى كلمة الله لتزدهر، وهي كلمة لا تحمل أيّ معلومات، لكنها قادرة على إعطاء الحياة كالكلمات العشر. إنها خلق جديد يعلنه النبي، أو بالأحرى، خلق مستمر بشق طريقه عبر التاريخ حتى تصل خطة الله إلى اكتمالها. الجوهر اللّاهوتي الّذي يؤكد عليه هذا المثل هو كلمة الملكوت لن تفشل في هدفها. لا داعي للخوف من قبل الصغار أيّ التلاميذ، في مواجهة الفشل، لأن الملكوت سيحمل ثمارًا غير متوقعة بدءًا من فشل ظاهر. وهنا المفاجأة الإلهيّة، متى إكتشفنا إنّ البذور يستحيل عليها الحياة من ذاتها إلّا أنها ستثمر لتحقق الهدف الّذي خُلقت من أجله.
3. الملكوت والبذور (مت 13: 11- 15)
جوهر جميع الأمثال بالعهد الجديد هو "الملكوت"، الّذي يتحقق بشكل أساسي في شخص يسوع ذاته. ظاهريًا، كان يسوع على الصليب غير مُثمر، يابس، كأرض قاحلة وبلا حياة! لكنه في ذات الوقت هو أيضًا البذرة، من وجهة نظر كاتب إنجيل يوحنّا، الّتي تؤتي بثمار كثيرة عندما تُدفن في قلب الأرض (راج يو 12: 14). قبل إتمام يسوع سرّه الفصحي، هناك تمّ إستقباله بالانقسام والرفض وعدم القبول. رؤية يسوع النابعة من تعليمه تنقسم إلى ثلاث أنواع من الكلمة الأوّلى تشير إلى أنّ الكلمة وهي بمثابة البذرة المُلقاة على الأرض، هو ذاته. في ذات الوقت هو أيضّا البذرة الّتي وقعت على الطريق وتمّ إلتهامها من الطيور حالما نبتت. أمّا الثانية تشير إلى أنّ الكلمة تسقط في أرض حجرية بلا عمق، ولا غذاء، ولا سند؛ أي في قلب الجفاف واليبس. تشير البذرة الثالثة للكلمة الّتي وقعت بين الأشواك، في مكان معتاد، وإختنقت بكلمات أخرى كثيرة. ومع ذلك، على الرغم من انتشار هذه التربة التي تسبب فشل الكلمة، هناك أيضًا تربة جيدة تستقبل البذرة إذ تنتج ثمار غير متوقعة وتصير سبب في فرحة الزارع وكمكافأة وفيرة لجهده في العمل. إلّا أنّ يسوع يفتتح الجزء الثاني من النص في حوار خاص مع تلاميذه كاشفًا جوهريّة حواره بالأمثال: «فأَجابَهم: لأَنَّكم أُعطيتُم أَنتُم أَن تعرِفوا أَسرارَ مَلكوتِ السَّمَوات» (مت 13: 11).
هذا التفسير لرسالة يسوع الـمُرسل من قبِل الله الآب يُعرف كيف نرى الهزيمة الظاهرة التي مر بها يسوع في خدمته لأجل نشر الملكوت الّذي نبت في أفق تاريخيّة لتحقيق رغبة الله لنساء ورجال سيصيرون مُرسلين فيما بعد، أيّ من أجل خلق جديد. بدأ هذا الخلق الجديد في يسوع، الإنسان الجديد، ومن خلاله تصل خطة الله الأصلية للبشرية على مرّ التاريخ إلى اكتمالها بتحقق الخلاص الّذي تمّ من خلال رفع الابن على الصليب (راج يو 19: 30). يستمرفقط متّى، من بين الإزائيين، في تفسير هذ المثل ليواصل قرائته في تاريخ جماعته من خلال مَثَل يسوع التعليمي ليحمل متّى جماعته الّتي يكتب إليها إلى الملكوت جوهر رسالة يسوع والنساء والرجال الّذين ينتمون للرّبّ.
الخلّاصة
نوّد أن نؤكد من خلال تفسيرنا لهذين النصيين على أنّ الله الّذي يشير لمانح الأمطار بالنص الأوّل هو ذاته االزارع لا يُميز في إلقاء البذور، أي الكلمات الإلهيّة، وبوفرة من البذور ومن الأمكار الّذين يرمزون للكلمة الإلهيّة. يمكن للجميع، بدون استثناء، الإصغاء إلى هذه الكلمات، فهو يوجه كلامه للجميع ولكل شخص لمفرده لأن الله لا يُفضل بين النساء والرجال. سواء اشعيا (55: 10- 11) أمّ الإنجيلي متّى (13: 1- 23) قدموا لنا تدخلات إلهيّة مجانيّة في أوقات مخنلفة في تاريخه مع بشريتنا، هذه الأمطار والبذور الّتي لها من القدرة على الوصول إلينا عبر الرمال وبين الحجارة لنمو بذرة الحياة المدفونة في الأرض. مدعوين أن نفتح أعيننا بنظرة عميقة لتصبح كنظر الله في يّومنا وتجعلنا قادرين على رفع الشكر على كلماته الإلهية التي تصمد إلى الأبد (راج أش 40: 8) وتعرف كيف تزهر حياتنا وتتجلى حيث لا نرى فيها إلا الصحراء. إنها الخلق الجديد الّذي لا زال يحقق رغبة الله وسر مشيئته. البذور لا تنمو إلا بالأمطار وحين يلقي الله بذرة كلمته فينا يُزهرها بالأمطار لتنمو، لذا مدعوين أن ندخل في دائرة نساء ورجال الرّبّ في كلّ مرة نستقبل بذوره ومياه أمطاره في حياتنا حتي يتم ملكوته فينا. مدعوين أيها القراء الأفاضل بالتعّرف على البذور المخبأة والمدفونة فينا لتستقبل صحرتنا اليابسة من بذور وأمطار فتزهر لأجل ملكوت الله. دُمتم في قراءة لتاريخ الحياة لنجد أنفسنا نساء ورجال مستقبلين للكلمة الّتي تثمر لأجل تحقق الملكوت فينا على مثال يسوع.