موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٣١ مايو / أيار ٢٠٢٥

انطلاقة الإيمان الناضج

بقلم :
الأب داني قريو السالسي - لبنان
انطلاقة الإيمان الناضج

انطلاقة الإيمان الناضج

 

يُعد عيد الزيارة واحدًا من تلك المناسبات الليتورجية التي تدعونا بعمق إلى الحركة والانطلاق، ليس فقط بمعناها الجغرافي، بل الروحي والوجودي أيضًا، وذلك على ضوء ما ترويه لنا مقطوعة انجيل ختام الشهر المريمي. في هذا العيد، تتجلى مريم العذراء كشخصية ثورية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، إذ تجسد بموقفها واستجابتها نداءً دائمًا لكل من يريد أن يعيش علاقته بالله بجدية وصدق.

 

ففي تلقي البشارة الإلهية من الملاك جبرائيل، لا تنغلق مريم على ذاتها في صلاة متقوقعة أو أنانية، بل تنفتح على الآخرين، وتنطلق بدافع من المحبة. كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: "لا يمكنك أن تصلي حقًا، وأخوك جائع. صلّ له بعملك، لا بكلماتك فقط".

 

إنّها لا تكتفي بتلقي النعمة، بل تسارع إلى مشاركتها، مدفوعة بحسّ داخلي عميق بأن النعمة التي لا تُترجم إلى خدمة ومحبة تفقد معناها.  لأن "المحبّة فعالة! ولكن عندما لا تَخدُم، تموت" (القديس منصور دي بول).

 

وهكذا تنطلق مريم إلى بيت إليصابات، حاملةً معها الكلمة، ليس فقط في أحشائها بل في قلبها وسلوكها.

 

وفي لقاء هاتين المرأتين، يحدث ما هو أعظم من مجرد زيارة عائلية. كلمات إليصابات، الملهمة بروح الله، توقظ في مريم وعيًا أعمق لما تعيشه. فتردّ مريم بتلك الترنيمة الخالدة، ’’تعظّم نفسي الرب‘‘، وهي ترنيمة لا تروي فقط تجربتها، بل تعيد قراءة حياتها في ضوء الإيمان، وتُظهر من خلالها نظرة نبوية للماضي والمستقبل. "نؤمن بما لا نرى، لكي نراه يومًا بما نؤمن به" (القديس أغسطينوس).

 

ترى مريم في داخلها لا مجرد حدث مضى، بل بوادر الغد، وإشارات لعمل الله المستمر. إنها تُعلّمنا أن ننظر إلى حياتنا لا كأحداث معزولة نخرج منها بخلاصات شخصية فقط، بل كمسيرة ينبغي أن نتطلع من خلالها إلى الأمام، بشجاعة ورجاء. فهي تُسبِّح إلهًا يعمل في التاريخ، يُبدّد كبرياء المتعجرفين، ويرفع المتواضعين، ويشبع الجياع، ويُفَرّغ الأغنياء المتخمين.

 

وكل هذا، تُعلنه مريم، وهي التي تعرف أن الطريق أمامها ليس مفروشًا بالورود: ستواجه غطرسة هيرودس، وسوء فهم من أقربائها، وعدم استقرار يوسف، وعمله، والفقر والنفي في أرض غريبة ’’مصر‘‘. لكنها لا تسمح لظلمة الواقع أن تطفئ نور الرجاء الذي بداخلها.

 

الإيمان، كما تُعلّمنا مريم، ليس رؤية الحلول الفورية لكل المشاكل، بل هو القدرة على تمييز الخير الخفي في قلب الظروف الصعبة، على اكتشاف المعنى وسط الألم، والضوء في عمق الظلام.

 

لكن هذه البصيرة ليست متاحة للجميع، بل تُمنح لمن يجعلون من حياتهم فعل محبة حيّ، لمن يُترجمون النعمة إلى خدمة، تمامًا كما فعلت مريم.

 

وفي النهاية، تخبرنا مريم ما هو الهدف الأسمى لكل عمل محبة: ألا وهو زرع الفرح في حياة الآخرين. ومن يعرف كيف يفعل ذلك، يختبر في داخله ذات الفرح، لأنه لا يوجد فرح حقيقي لا يُشارك.