موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٢ مارس / آذار ٢٠٢٢

المَحبَّةُ أَقْوَى مِن المَوْتِ

بقلم :
د. أشرف ناجح عبد الملاك - كولومبيا
المَحبَّةُ أَقْوَى مِن المَوْتِ

المَحبَّةُ أَقْوَى مِن المَوْتِ

 

إنَّ الموتَ حدث يوميّ في حياتنا، ومرأى المقابر لا يثير أحدًا؛ ومع ذلك تهزُّنا المفاجأة وينعقد اللّسان حينما يخطف الموت مَن نحبّ مِن الأقارب والأصدقاء، إلى الدّرجة الّتي نحسّ فيها وكأنّنا نسمع بالموت لأوّل مرّة، وندخل عبر تلك البوّابة الميتافيزيقيّة لننظر قسرًا في نافذة الموت بعيون الخرافة أو الفلسفة أو الدّين، وننتقي ونلفِّق من كلّ ذلك ما يناسب حالنا في تلك اللّحظة الجزعة، وما يسكِّن فينا القلق والرّوع ويعيدنا مرّة أخرى إلى مجرى الطّمأنينة والاستغراق في الحياة العادية والاستسلام لخمول الفكر اليوميّ. «والأَحْياءُ يَعلَمونَ أنّهم سيَموتون أَمَّا الأَمْواتُ فلا يَعلَمونَ شَيئًا ولم يَبقَ لَهم جَزاءٌ، إِذ قد نُسِيَ ذِكرُهم» (جا 9/5). إنَّ رائحةَ القبور ستظلّ دائمًا رائحة كريهة وغير مقبولة، حتّى وإنْ كانت تحتوي بداخلها على أعزّ أحبابنا؛ وأحبّاؤنا سيظلّون أحبّاءنا، حتّى لو ابتلعتهم القبور وغمرتهم رائحتها الكريهة. أجل، إنَّ أصعب شعور يختبره الإنسان هو حين يمسك الموت بقبضته على حبيب أو صديق له. فهنا يَظهر الموت في أقسى صورة ممكنة في نظر الأحياء. ولكن ما أبعد ذلك السّرّ عن الإنسان؟ فمن أين للمرء أنْ يكتشفه؟ فهو حين يأتي لا يترك وراءه سوى صمت رهيب!

 

وبالرّغم مِن واقعيّة الموت وحقيقته –وما أقساها حقيقة!– إنّنا كمسيحيِّين لا نصدِّق أنَّ الحبَّ يموت إلى الأبد! فكيف تموت الحياة؟ إنَّ مَن يقول إنَّ الحبَّ يموت إلى الأبد هو كمَن يقول إنَّ الحياة تموت! فإنَّ الحياة في الواقع لا تموت، لأنّها إذا ماتت فهي لم تعد بعدُ حياة، إنّما موت! إنّما قد يتألّم الحبُّ، وقد يزرف الدّموع الغزيرة، بل وقد يُصلب ويموت، مُفضّلًا المحبوب على كلّ شيء آخر؛ وإنّما لا، لن يموت الحبُّ إلى الأبد، لأنّ ثمَّة "القيامة" لكلّ "موت عن محبّة"، وثمَّة "أحد الفصح" لكلّ "جمعة عظيمة"! إنَّ ما نسمّيه "الموت" لأجل مَن نحبّ، ليس هو موتًا، إنّما حياة أبديّة، لأنّ الحبَّ هو الحياة الأبديّة!

 

لقد مات حقًّا يسوع المسيح –الإنسان الكامل والإله الكامل- على الصّليب؛ وهذا بشهادة الشّهود، ليس الأصدقاء فحسب (راجع يو 19/35، 38-42)، وإنّما حتّى الأعداء منهم (راجع يو 19/32-34؛ مر 15/39، 44-45)؛ وليس وَفقًا لصفحات الكتاب المقدّس فحسب، وإنّما وَفقًا للشهادات التّاريخيّة غير البيبليّة أيضًا (فعلى سبيل المثال، شهادة يوسيفو فلافيو اليهوديّ وتاستو الرّومانيّ)! ولكنّ موته هذا لم يكن إلّا "القيامة" بعينها؛ لأنّ موته كان عن حبٍّ ومِن أجل الحبِّ: «قبلَ عيدِ الفِصح، كانَ يسوعُ يَعَلمُ بِأَن قد أَتَت ساعَةُ انتِقالِه عن هذا العالَمِ إِلى أَبيه، وكانَ قد أَحَبَّ خاصَّتَه الَّذينَ في العالَم، فَبَلَغَ بِه الحُبُّ لَهم إِلى أَقْصى حُدودِه [في نوعه وشدّته ومدّته]» (يو 13/1)! ويقول هو ذاته في موضع آخر: «لَيسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعظمُ مِن أَن يَبذِلَ نَفَسَه في سَبيلِ أَحِبَّائِه» (يو 15/13)!

 

كثيرًا ما يُطرح على مسامعنا هذا السّؤال: هل مِن حياة بعد الموت؟ إنَّ الحبَّ الّذي يربطنا بالأشخاص، الّذين نحبّهم ويبادلونا الحبَّ بالحبِّ، هو أعظم علامة ودليل على وجود حياة بعد الموت! فكيف يمكننا أنْ نصدِّق أنَّ الحبَّ محكوم عليه بالعدم والتّلاشي والضّياع؟ أجل، ثمَّة حياة ما وراء القبر، لأنَّ المحبّة أقوى مِن الموت، ولأنَّ «المَحبَّةُ لا تَسقُطُ أَبَدًا [...] فالآن تَبقى هذه الأُمورُ الثَّلاثة: الإِيمانُ والرَّجاءُ والمَحَبَّة، ولَكنَّ أَعظَمَها المَحبَّة» (1 كور 13/8. 13)! لقد طرح الفيلسوف الفرنسيّ غابريل مارسيل بشكل بلاغيّ هذا التّساؤل– وكان على حقٍّ: «أنْ تُحبَّ أحدًا، ألا يعني هذا أنّكَ تقول له ضمنيًّا: أنت لن تموت أبدًا؟» (G. Marcel, «La mort de demani», in Trois pieces, Plon, Paris 1931, 161)! إنَّ هذا عينه ما جعل القدّيس فرنسيس الأسيزي ينشد لله شاكرًا إيّاه لأجل "الأخ-الموت": «كُنْ مُسَبَّحًا، يا سيِّدي، لأخينا موتنا الجسديّ، الّذي لا يَقدرُ إنسانٌ حَيٌّ أن يَفلُتَ منه».

 

إنَّ المحبّة والرّغبة في الحياة الصّالحة لهما أقوى علامتين ودليلين على وجود "الله المحبّة"، وبالتّالي على وجود الحياة ما وراء القبر! فمن جهة، الله وحده هو الضّامن لوجود حياة بعد الموت؛ ومن جهة أخرى، محبّة الإنسان وسعيه الدّؤوب لتحقيق حياة صالحة هنا والآن– هما علامتان مميّزتان للحياة الأبديّة. فلماذا يُحبّ الإنسانُ في الوقت الّذي تنتشر فيه الكراهية والحقد والأنانيَّة؟ ولماذا يرغب في عمل الصّالحات في الوقت الّذي تكثر فيه الإغراءات والإغواءات مِن جهة، أو التّهديدات والمخاطر مِن جهة أخرى؟ فإنْ لم تكن العلّة الأولى لذلك هي وجود الله "المحبّة" ذاتها (راجع 1 يو 4/8، 16)، حيث هو الّذي وضع هذه المحبّة في قلب كلّ إنسان (راجع 1 يو 4/7)، وحيث هو أيضًا الّذي غرس هذه الرّغبة في الحياة الصّالحة في ضمير كلّ إنسان (راجع رسل 17/24-29)، فمَن يكون إذًا؟ ففي الواقع، «يشعر الإنسان في أعماق ضميره بقانون لم يفرضه على نفسه ولكنه عليه الامتثال له– وهذا الصوت الذي لا يتوقّف عن ملاحقته يحثُّه على محبّة الخير وعمله، وعلى تجنّب الشرّ، يردّد في الوقت المناسب في أعماق قلبه "أفعل هذا وتجنّب ذاك". ولا غرو، فإن اللّه قد سجّل هذه الشريعة في قلب الإنسان. فإذن كرامة الإنسان في الخضوع لها وهي التي تحاسبه وتدينه» (وثائق المجمع الفاتيكانيِّ الثَّانيِّ المسكونيِّ، دستور راعويُّ "الكنيسة في العالم المعاصر"، بند 16).

 

فإذا كان "الله المحبّة" موجودًا، وهو موجود فعلًا– سواء قبلنا هذه الحقيقة أو أنكرناها–، فهذا يعني أنّه هو الضّامن الوحيد للحياة بعد الموت! وكلّ مَن يؤمن بالله المحبّة الّذي أوجد الإنسان من العدم، وفداه ودعاه بفضل المحبّة الأزليّة الأبديّة (راجع أش 43/1؛ أر 31/3)، ينال هذه العطية ويدخل منذ الآن في هذه الحياة الأبديّة (راجع يو17/3، 5/24-29). وفي هذا السّياق عينه، يقول قداسة البابا فرنسيس، رابطًا بين "الصّلاة" و"الرّجاء" و"الحبّ": «يدرك الرجال والنساء الذين يُصّلون أنّ الرجاء أقوى من اليأس. ويؤمنون أنّ الحب أقوى من الموت، وأنه سينتصر بالتأكيد يومًا ما، ولو في أوقات وطرق نحن لا نعرفها. الرجال والنساء الذين يصَلُّون يحملون في وجوههم انعكاسًا لومضاتِ النور: لأنه حتى في أحلك الأيام، لا تتوقف الشمس عن إنارتهم. الصلاة تنيرك: تنير نفسك وقلبك ووجهك، حتى في أحلك الأوقات، وفي أوقات الألم الكبير».

 

وفي نهاية الأزمنة، سيتمتّع كلّ إنسان مؤمن بهذا بالحياة الأبديّة في شكلها النّهائيّ والكامل، ولن يكون بمفرده، فسوف يكون مع كلّ مَن امتلأ قلبه وكيانه وعقله بالمحبّة، فعاش بها ومات مِن أجلها، بل سيكون مع الخليقة بأسرها (راجع رؤ 21/1-8، 22/1-7)! «إن سرّ الشركة السعيدة هذا مع الله ومع جميع الذين هم للمسيح يفوق كلَّ فهم وكلَّ تصوّر. والكتاب المقدّس يكلّمنا عليه في صور: الحياة، النور، وليمة العرس، خمر الملكوت، بيت الآب، أورشليم السماوية، الفردوس: "إنّ ما لم تراه عين، ولا سمعت به أذن، ولا خطر على قلب بشر، ما أعدّه الله للذين يحبّونه" (1كو 2: 9)» (التَّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، بند 1027). فـ«ستقع الدينونة لدى عودة المسيح المجيدة. الآب وحده يعرف الساعة واليوم، وهو وحده يقرّر حدوثها. سيعلن بابنه يسوع المسيح كلمته الأخيرة على التاريخ كلّه. سنعرف المعنى الأخير لكلّ تاريخ الخليقة وكلّ تدبير الخلاص، وسنفهم السبل العجيبة التي قادت بها عنايته كلّ شي [شيء] نحو غايته القصوى. وستكشف الدينونة الأخيرة أنّ برّ الله ينتصر على كلّ المظالم التي ترتكبها خلائقه، وأن محبته أقوى مِن الموت» (التَّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، بند 1040). أجل، ففي "الحياة الأبديّة" سنعرف وسنرى كلّ مَن أحببناهم وبادلونا الحبَّ بالحبِّ (راجع 1 كو 13/8-13؛ 1 يو 3/1-2، 14)؛ «فإنَّ الحبَّ قويٌّ كالموت والهوى قاس كمثوى الأموات. سِهامه سِهام نار ولهيب الرَّبّ. المياه الغزيرة لا تستطيع أن تُطفي الحبّ والأنهار لا تغمره» (مثل 8/6-7)!

 

 [نُشرت هذه المقالة في "مجلة الصّلاح"، في عدد ديسمبر 2020].