موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
يطلُّ علينا هذا العام عيد ميلاد يسوع المسيح والشعوب العربية تعيش في حالة من الضياع والتشرذم. حالة مواطني الشرق الأوسط هي أشبه بحالة المريض النفسي المنفصمة شخصيته، فتجده مضطرباً في وجدانه وسلوكه وعقله، غافلاً عما يجري من حوله، خائفاً من المستقبل وغير مدركٍ للماضي وغير معني بالواقع. نتكلم هنا عن اندثار الهوية وزوال فكرة دولة المواطنة، واضمحلال المبادئ وفقدان القيم الإنسانية، وتوار للتعددية بمختلف أنواعها وأشكالها. وفوق كل شيء نرى أن البعض يسعى ليكون القاضي الكبير ليحل مكان ربنا الخالق سبحانه وتعالى، فيُزهقون الأجساد والأرواح باسم ربٍّ تبرّأ منهم. أما الإسلام المعتدل فقد فشل حتى الآن في لعب دورٍ محوري في محاربة التّطرف وتعزيز الوجود المسيحي في الشرق الأوسط. ونشهد في السنوات الأخيرة تراجعاً في أعداد المسيحيين العرب في الشرق الأوسط وقد أدّى هذا إلى خلل في التركيبة الديمغرافية بشكل عام في كل من العراق ومصر ولبنان وفلسطين وسوريا والله أعلم ماذا بعد ذلك؟ البعض سعيد بما يجري، لكن الأغلبية الساحقة ترى في هذا الخلل دمارًا للتاريخ والجغرافيا والتّراث والحضارة. نعيش في واقع أليم ومؤلم ويحيطنا الخوف من الهجرة وصعود الفئات المتطرّفة إلى واجهة المسرح السياسي والقتل ،ودمار البيوت، وحرق الكنائس، وفرض الجزية، والخطف، والعنف بكل أشكاله. فنرى أن المسيحي العربي يتخبّط في كيانه ويصرخ كالمسيح في الجسمانية: "إلهي إلهي لماذا تركتني". والسؤال هنا: هل بالفعل تركنا الله؟ نحن مواطنون عرب وفلسطينيون ومسيحيون، لغتُنا هي العربية لغة الضاد، نحن جزء لا يتجزّأ من هذا التاريخ والثقافة العربية الإسلاميّة المسيحية. نفتخر بمسيحيتنا وبعروبتِنا والشيطان لن يقدر أن يأخذ منا إنجيلنا ومسيحيتنا. أخونا المسلم يقف بجانبنا، نشعر به ويشعر بنا، نضحك ونبكي معاً ولنفس الأسباب. ليس هناكَ شكٌّ بوجود بعض الثغرات والخلل هنا وهناك، فالتّعصب موجود ويزداد بسبب ما يجري فينا ومن حولنا. الطاغية المحتل ينكس علينا حياتنا، لكننا سنعيش هنا في فلسطين في أرضنا المقدسة. وفلسطين هذه هي ليست فقط قطعة من الأرض، بل هي جزء من حمضنا النووي، والاحتلال لن يستطيع أن يسلبها منا بالرغم من أننا نفضل أيضاً أن نعيش أحراراً في فلسطين الجغرافية وكلُّنا نسعى لهذا وبطرق مختلفة. وهنا أعيد السؤال السابق: هل تركنا الله وهجرنا؟ أطرح هذا السؤال وفي ذهني مسيحيي غزة الذين كانوا في العام 2007 حوالي ثلاثة آلاف شخص، أما الآن فهم أقل من ألف وثلاثمائة مسيحي يعيشون هناك. منذ بداية ما يسمى بالربيع العربي كان معظم المسيحيين العرب متشائمين ومشكّكين ومرتابين وخائفين من النتائج والتبعيات، بالرغم من أن رؤيتنا للوضع هي رؤيةٌ متغيّرة كما نلحظ، أي أنها تعتمد على الظروف المحيطة والأحداث التي تقع يوماً بعد يوم. وبالفعل حصل ما حصل وبرهن المسيحيون العرب أنهم كانوا على حق. فالربيع العربي انحرف تماماً عن مساره وأضحى شتاءً ليس فقط للمسيحيين بل لأغلبية الاخوة المسلمين أيضاً. وأدّى هذا الموقف إلى اعتبار المسيحيين العرب متحالفين مع الدولة، فارتبط مثلاً مصير المسيحيين السوريين بالرئيس الأسد وما إلى ذلك. فاُقحم المسيحيون رغماً عنهم في الحروب الأهلية والثورات المذهبيّة العبثية. والنتائج هي قاسية على الجميع من موت ودمار هنا وهناك. ولكن السؤال الخطير المطروح هنا اليوم: هل ما زال الربيع العربي في بداياته وإلى أين نتجه؟ الشرق الأوسط يتغير يومياً وبشكل جذري، مع العلم أنه وتاريخياً فقد بدأ التغيير منذ انطلاق الربيع في ايران عام 1979 بسقوط الشاه وارتداء ايران العمامة الدينية. لكن من الملاحظ أن هذا التغيير لا يمس كل الدول العربيّة بنفس المكيال، فنرى دول الخليج وبالرغم من كونها لاعباً أساسياً وخفيًّا في الصراعً إلا أنها بعيدة عن هذا الربيع. والسؤال هنا: هل ومتى سيصل الربيع إلى فلسطين، وهل هو ربيعٌ أم خريفٌ أم شتاءٌ؟ وهل سيكون ذا طابع سياسي تحرري بحت أم سيلبس الصبغة الدينية؟ أسئلة نسألها نحن المسيحيّين الفلسطينيّين بشكل يومي. وهذا ليس عن ضعف بل عن حب، حب لفلسطين ولهذا التراب الذي روته دماء الشهداء المسيحيين أيضاً. فنحن مع الحرية والاستقلال والتنمية والتعددية. إننا نريد ربيعاً يعدنا ويوصلنا إلى الاستقلال. وكلما شهدت المنطقة الشرق أوسطية أحداثاً هامة وخطيرة كلما ازداد الحديث عن مستقبل المسيحيين العرب. وبما أن الوضع الحالي متوتّرٌ وغير هادئ بسبب المتغيرات المستمرة على أرض الواقع فقد تجددت مؤخراً التساؤلات حول نتائج الربيع أي الشتاء العربي التي سيفرضها على المسيحيين العرب. وما ستكون ردّات الفعل من جانب الأغلبية الإسلامية المعتدلة من جهة ومن المسيحيين الفلسطينيين من الجهة الأخرى على كل ما يجري. أعتقد أنه علينا أن نعي أنه ليس ثمة مستقبل للمسيحيين العرب ما لم يكن هناك حاضر ومستقبل للعرب جميعاً بلا استثناء. ولضمان تحقيق ذلك فلا بد لنا من العمل من أجل رفع شأن الكرامة الإنسانية في العالم العربي، بالإضافة إلى فتح المجال أمام التعدديّة السياسية في بلادنا العربية ووضع دساتير ملائمة ونظام سياسي تتساوى فيها الحقوق والواجبات بين جميع السكان دون استثناء. كما أنه يجب أن نعي مشكلة الشباب الذين هم بحاجة إلى عمل وسكن، بالإضافة إلى دراسة شكل العلاقة ما بين الدين بالدولة. وأخيراً علينا إعادة النظر في الخطاب الديني في الكنائس والجوامع بالإضافة إلى تنقيح وتعديل المناهج المدرسية وخصوصاً إذا ما تحدثنا عن التاريخ والوطنية على سبيل المثال لا الحصر. ميلاد يسوع المسيح هو الجواب على كل الأسئلة التي يمكن أن نسألها ونحن نمر في هذه الظروف القاهرة والصعبة. فلا بد لنا كمسيحيين من أن نقف ونفكّر ونتأمل في إيماننا بتجسد الإله، وكيف نكتشف ونفهم ونستوعب دعوتنا ورسالتنا اليوم، تلك الرسالة التي أرادها الله المتجسّد لنا. يجب علينا أن نتحلى بالصبر والشجاعة لقراءة الاحداث ببصيرة واعية كي نتفاعل ولا نقف مكتوفي الأيدي ومتفرجين على ما يجري من حولنا من دون أن نكون ملحاً وخميرةً ونوراً للجميع وخصوصاً لأولئك الذين من حولنا. إن يسوع المسيح هو "عمانوئيل" أي الله معنا (متى 1، 23). التجسد هو الإيمان بأن الله موجود لنا ومعنا، والمسيح تجسّد لمساعدة الفقراء والمعوزين، وقف بجانب الضعيف والمريض والفقير واللاجئ. جاء لمساندة الإنسان في محنه بحسب ما قال: "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ، وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ الرَّبِّ الْمَقْبُولَةِ" (لوقا 4، 18-19). فلنغتنم الفرصة ولنضع كل صعوباتنا ومستقبلنا الصعب والضبابي أمام هيكل الله المقدس. والروح القدس ما يزال يعمل، إنه روح الله الموجود في كل مكان وزمان، إنه روح المحبة التي نحن مدعوين لتجسيدها أينما كنا ومع الجميع من دون استثناء. فلنضع ثقتنا بالله المتجسد القادر على مؤازرتنا لنتخطى ضعفنا ومصائبنا. فإن كان الله معنا فمن علينا؟ (رسالة القديس بولس إلى أهل روما 8، 31). هذه دعوة للمسيحيين لتأدية دورهم من دون خوف وبثقة بالله المتجسد وهذا يعني أنه علينا ككنيسة، أي كجماعة مؤمنة، علينا أن نلتزم بتغييرٍ فعال في المجتمع والسعي إلى بناء مجتمعٍ أفضل للجميع يرتكز على العدالة والحرية، كما يقول إنجيل يوحنا (10، 10): "أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم الأفضل". وهذا هو معنى التجسد في يومنا هذا، لقد تجسّد الله ليعطينا الحياة لأنه إله حي وإله حياة، وهو وحده قادر على تحويل وقلَب الشتاء العربي إلى ربيع عربي إسلامي مسيحي ينعم به الجميع من خيرات هذه الدنيا ونعمه تعالى.