موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
في ظل الأجواء الفصحية التي نعيشها، لا بد لنا من أن نعّرِج على إحدى أهم الصفات التي أرادها الله للمسيحيين أبناء القيامة والأمل والحياة. فعلى الضفاف الشمالية لبحيرة طبريا كان يسوع يعلّم تلاميذه ومعهم الآلاف المؤلفة من الناس. علَّمهم كلام الحق. بدأ يسوع تعاليمه هناك بالعظة الشهيرة المعروفة بعظة الجبل أي التطويبات. وبعد التطويبات تابع يسوع قائلاً: "أنتم ملح الأرض، فإذا فسَدَ الملح، فماذا يُملحُه؟ لا يصلح إلاّ لأن يُرمى في الخارج فيدوسه الناس" (متى 5، 13). نتساءل اليوم ما معنى أن نكون ملحاً لهذه الأرض وخصوصاً في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها وطننا العربي المشرقي. الكثير منّا لا يكترثون أبداً لأي شيء، فترى هؤلاء يضعون رؤوسهم كالنعامة تحت التراب، معتقدين أنهم سيريحون أنفسهم من مشقات الدنيا ومتاعبها. آخرون يريدون أن يكونوا كشجر السرو أو كالنسر المحلق عالياً أو كالبحر الكبير الواسع. أي يظنون أن إيماننا سيصبح مهيمناً ومنتشراً في كل مكان، فلماذا الملح؟ وهذه أوهام أو طموحات غير مسيحية. حتى نفهم هذا المثل لا بد لنا من أن نعي أهمية الملح في أيام يسوع المسيح وفي أيامنا هذه. فالملح كان وما يزال يستخدم في الطب والتطهير من الأوساخ والتلوث ويوقف النزيف. ونستخدمه أيضاً لتذويب الثلج، ونذوبه مع المياه ونضعه على أرجلنا لإراحتها. ويقلل الملح من طعم الحموضة. كما أننا لا نستطيع أن نتجاهل أهمية الملح في الحفاظ على الطعام كما أنه يجعل الطعام يبدو أطيب وشهي المذاق. وفي الزمان القديم كان الملح يستخدم كالعملة. فكان الجنود الرومان يتلقون الملح بدل أتعابهم. أما في الصين القديمة فكان الملح كالذهب من حيث القيمة. يحذّر المسيح من خطر فقدان مذاق الملح وهذا قد يحدث إذا ما اختلط الملح مع عنصر أو عناصر أخرى. ويقصد يسوع المسيح من هذا أنه ليس أي مسيحي معمد يصبح ملحاً للأرض، ولكن من أصبح يعيش بحسب روح التطويبات، فقيرا بالروح، وديعا، رحيما، طاهرا، صانع سلام.... وبالتالي فإننا لن نصبح ملحاً للأرض في حالة أننا لا نطبق ما ورد في التطويبات. ولا بد لنا نحن أتباع يسوع المسيح اليوم من أن نسأل أنفسنا هل أصبحنا ودعاء وجياع إلى البر والحق، ورحماء ومتواضعين وأنقياء القلوب وصانعين للسلام... الملح يجعلنا عطاشًا. ولكن عن أي نوع من العطش أتحدث؟ إنه العطش إلى المسيح والحقيقة والإيمان الجدي المغيّر للحياة. إنه العطش إلى تواضع القلب والنقاوة. العطش إلى أن نكون مسيحيين بكل معنى الكلمة وليس مسيحيين بالاسم فقط، فنشهد للمسيح بكل جرأة ومن دون تردد وخوف، فنحمل صليبنا متجهين إلى القيامة، قيامتي أنا وقيامة المجتمع والوطن. إنه القيامة من الخوف والخطيئة والبؤس والاحتلال والقبلية وكل المظاهر السلبية. الملح يستخدم للحفاظ على الأشياء كما أسلفنا سابقاً. فنحن المسيحيين بحاجة اليوم إلى أن نحافظ على كرامتنا كأبناء لله، وعلى كرامة كل شخص من حولنا حتى وإن كان مختلفاً عنّا في الدين والعرق واللون. وحتى لو كان عددنا قليلًا فهذا لا يهم ولا يجوز أن يجعلنا بؤساء ويفقدنا الأمل، فالقليل القليل من الملح يحافظ على أطنان وأطنان من الطعام. والملح يجعل طعم الأكل أفضل وأطيب. وكذلك المسيحي المعمد فلا بد له من أن يغيّر طعم المجتمع. وفي ظل الاحتلال والظلم والفساد والخوف من المستقبل لا نتقوقع في كنائسنا وأحيائنا. لا بد للمسيحي من أن يعمل عكس ذلك ولا يخاف. يجب أن نكون كالملح، وقليل من الملح يجعل الطعام مختلفاً. إنه يجعل الطعام الحامض أقل حموضةً، كما يجعل الطعام الحلو يبدو أكثر حلاوةً. ونضع الملح على الجروح. فالملح شيء جيد لكنه يؤلم في بعض المرات. الإنسان الذي يريد أن يكون كالملح عليه أن يدرك أنه سيتألم بسبب قناعته وإيمانه. الراحل نيلسون مانديلا قضى سنوات طوال في السجن لأنه كان "ملحاً" لشعبه، لكنه رأى النور في النهاية. إن الذين هم كالملح هم كيسوع المسيح، يتحملون كل شيء في سبيل مساعدة الفقير والمريض والمهموم والمتعب، هؤلاء ينادون بالحق والعدل والنور، فيجعلون مَن حولهم يرون الله على الأرض من خلالهم. القديس هو الشخص الذي يريك الله ويقنعك بوجوده لتصبح مثله وكلنا مدعوون إلى القداسة. فالمسيحي المشرقي عليه أن يحافظ على نفسه وعلى كرامة كل إنسان وعلى كنيسته. وأن يجعل مجتمعه مختلفاً بالطعم من خلال الإيمان والأعمال التي ستظهر أمام الجميع لتعلن البشارة والقيامة بالرغم من الظلمات والمصاعب التي من حولنا. المسيح قام.