موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١٨ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠١٦

الطائفية لا تُواجَه بالطائفية

بقلم :
د. شارلي ابوسعدى - فلسطين

في عصر ما يسمى بالربيع العربي طغى مصطلح الطائفية على الساحة، فبدأنا مرحلة عصور وسطى جديدة يميزها عدم مقدرة الإنسان على التفكير والإبداع والانفتاح على الآخر والثقافات الأخرى. فتقوقع المواطن العربي على ذاته لخوفه من نفسه أولاً ومن أطماعه، ومن ثم مما يحيط به من تقلبات عصفت عليه بسبب مطامع عالمية وأخرى لها علاقة بالسرطان المتفشي في أحشاء الوطن العربي والذي اسمه الاحتلال. ومع بداية الألفية الثالثة يواجه المواطن العربي المسيحي نكسات تدق في جسده ونفسه مسامير من الغضب والحقد. فتحول العربي المسيحي من المدافع الأول عن العروبة إلى لا مبالي. وتقوقعنا كل في حزبه، أو في دينه، أو في كنيسته وفي بلدته. وكانت فكرة الانتخابات المحلية الأخيرة في فلسطين بمثابة ضربة موجعة في الصميم بسبب طبيعة وقوانين الانتخابات التي كرّست الطابع العشائري والقبلي، وهذا سيساهم وبلا شك في تراجع المستوى الفكري والتقدمي لدى عموم الناس. فتعارك الأخ مع أخيه وهذه الحمولة مع تلك، وهذا الفصيل مع ذاك الحزب. ونسينا فلسطين ووضعنا مصالحنا الفئوية فوق المصلحة العامة ومصلحة الوطن وكرسنا مفهوم الطائفية والعشائرية لدى أولادنا. وكتب البطريرك السابق ميشيل صباح أنه على المواطن أن يتحرر من ذاته الطائفية "أي عدم تحويل الدين إلى طائفة وحساسيّات ومواقف طائفيّة. أي معرفة الذات إنسانًا مساويًا لكلّ إنسان في المجتمع الذي يعيش فيه المسيحيّ. لا ينظر إلى مطالبات له لأنّه مسيحيّ. لا ينظر إلى مجتمع يظلمه أو يجهل وجوده لأنّه عدد قليل: بل يثبِّت نفسه بكفاءته وقوّة نفسه وصدق إيمانه، ولو كان فردًا واحدًا في مجتمعه". فيرى البطريرك صباح أن المواطن العربي المسيحي أمام خيارين لا ثالث لهما. فإما أن يسيطر عليه الخوف والجمود فينتهي به المطاف مكرساً للطائفية والفُرقة، فتراه يشكي ويشتكي وينوح أيضاً على الماضي. أما الخيار الثاني فهو أن يرى ويدرك النور البعيد الذي يشق طريقه في داخل ذلك النفق المظلم والطويل، فيبدأ بالعمل على إثبات ذاته بشجاعة بالرغم من كل الصعوبات والمعيقات. وكذلك كل مؤمن في دينه، إذا سيطرت عليه روح الطائفية، انعزل وقسم الوطن، وخاف إن كان ضعيفا، واستقوى إن كان قويا، واعتدى على غيره، وحين يعتدي على غيره فهو يعتدي على الوطن كله من غير أن يدري. إن الطريق طويلة وشاقة ومربكة بلا شك والظروف صعبة ومعقدة. فإما أن نستسلم وإما أن نجابه الشر والشرّير متسلحين بروح الكتاب المقدس والإيمان بالصليب وبالقيامة. إن الكثيرين منا استسلموا للواقع الأليم، فهاجر البعض إلى بلاد الغربة. وآخرين لا تسمع صوتهم ولا حتى تراهم لا هنا ولا هناك، وهؤلاء يكرسون وبدون وعي مفهوم الطائفية والانقطاع واللامبالاة. ومنا أيضاً من هم في المراكز المهمة ولكنهم لا يستطيعون أن يكونوا لا ملحاً ولا خميرةً في المجتمع مساهمين بذلك في تثبيت وترسيخ روح الانعزال المسيحي في المجتمع. وهؤلاء وكما يكتب البطريرك صباح يتخلّون عن الذات المسيحيّة في عمق النفس، فينتمون إلى طائفة ما، ولكنهم يذوبون في المجتمع متخلين بالتالي عن كلّ الميزات الخاصّة بالمسيحيّ. إن مستقبل المسيحيين العرب مرهون بالبعد الإيماني بالدرجة الأولى. المؤمن القادر على أن يعيش بحسب إيمانه ليكون به قويا هو، ويقوي به كل أخ له في المجتمع، المسلم والمسيحي على السواء، هو المؤمن الذي يحتاج إليه المسيحي ويحتاح إليه كل المجتمع الفلسطيني والعربي. قد يبدو الأمر صعباً أو خيالا، ولكن حياة الروح هي التي تجعل الإنسان إنسانا، وتجعله قادرا على خدمة المجتمع الخدمة التي يحتاج إليها. والمصدر الأول للغذاء الروحيّ للمسيحي هي الصلاة الجماعية ولا سيما ما يعرف "بصلاة القداس" وما فيه من حضور إلهي. ومصدر آخر، وبالأهمية نفسها، يغذي الإنسان حياة الروح فيه، بكلام الله أي الكتاب المقدَّس، به نتعلم أن نرى الله، وفي رؤيتنا لله، نرى العلاقة الصحيحة مع جميع إخوتنا. وندرك رسالتنا في الحياة. وبذلك ينتفي الخوف من نفوسنا، لن نخاف من سماع وجهات النظر المختلفة عنا، وسنواجه الإختلاف والمختلف بقوة المحبة، فنحن خُلقنا مختلفين لنحب بعضنا بعضا. الدين شيئ والطائفية شيئ آخر. الأخيرة هي الانتماء إلى طائفة معينة، وهذا لا يُلغي مفهوم التعددية، فالله تعالى خلقنا سواسية ومختلفين في نفس الوقت. والإنسان مدعو إلى العيش من أجل الآخر، وليس من أجل ذاته. خُلق الإنسان للحب، أي محبة الجميع بلا استثناء. فالمواطن أياً كان فإنه مدعو إلى الخروج من الأنا وهم، الخروج من هذه الإزدواجية القاتلة. فيُصبح الإنسان كأخيه الإنسان، الواحد كالآخر. وهنا يستطيع الإنسان أن يشعر أنه مثل أي واحد في المجتمع، لا يفرقه عن الآخر لا الدين ولا اللغة واللون ولا العِرق... فيصبح بالتالي لكل مواطن مكانٌ كاملٌ في المجتمع الذي يعيش فيه. مكان يسمى الوطن يخدمه الجميع بكل وقار ومحبة وصدق. مفهوم الطائفية والانعزالية والتقوقع يُحارَب بالتعمق في معرفة الإيمان، وبالتعمق في حياة الروح أولاً. وثانيا بالعمل الجاد والدؤوب للمحافظة على مجتمع منفتح على الجميع حيث كل واحد يعرف أن يتعامل مع المختلف عنه ويرى فيه أخاً ومواطناً مساوياً له في كل شيء. وأخيراً أضم صوتي إلى صوت البطريرك صباح الذي يؤكد أن الطائفية لا تُحارَب بالطائفية وإلا أدت إلى فتنة أو إلى إضعاف لا بل إلى إفناء الضعيف. كما أن الطائفية لا تُحارب على مواقع التواصل الإجتماعي فقط، بل على الأرض وبين الناس وخصوصاً في البيوت والمدارس والجوامع والكنائس. إلاّ إذا قررنا الموت والاستسلام للظلامية، وهذا مرفوض لأن الله أعطانا الحياة لنعيش كراما وكبارا بمحبتنا بعضنا لبعض.