موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
"Dégage" أي إرحل. كانت هذه العبارة التي ألهبت مشاعر طارق الطيب محمد البوعزيزي والتي أدت لإضرام النار في نفسه يوم الجمعة 17 من كانون الأول من العام 2010. شاب تونسي بسيط في مقتبل العمر، هشمته الأيام والسنون بشقاوتها. بعد ثماني عشر يوماً من تلك الواقعة توفي البوعزيزي في المشفى ولم يدري أنه قد تم لاحقاً تشييد تمثال له في العاصمة الفرنسية باريس. ومن جهتها فإن الشرطية فادية حمدي، وهي التي كانت قد صفعته، فكانت قد قالت: "أشعر أنني المسؤولة عن كل شيء، وألوم نفسي فأنا التي صنعت هذا التاريخ...، عندما أراقب ما يجري من حولي في المنطقة وبلادي، أندم أشد الندم...". ومن الواضح أن البوعزيزي قد حرك عجلة التاريخ في منطقتنا العربية. والبعض يرى في هذا شيئ إيجابي والبعض الآخر يراه سلبياً تماماً. ولكننا وحتى نستوعب ما جرى ويجري فلا بد للرجوع إلى الوراء قليلاً. فبعد نهاية الحرب الباردة بسقوط الشيوعية تغيرت بوصلة التاريخ الحديث في العام 2001 إثر هجمات أيلول الأسود، مما دعا الولايات المتحدة وحلفائها العرب وغيرهم إلى احتلال العراق وضرب أفغانستان وغيرها من الدول "التي تدعم الإرهاب". وفي العام 2005 ألقت كونداليزا رايس خطاباً لم نفهمه بدايةً بوضوح، وقد جاء في كلامها: "إن الوضع الحالي ليس مستقراً، إن الفوضى التي تنتجها عملية التحول الديمقراطي في البداية، هي فوضى خلاقة، ربما تنتج في النهاية وضعاً أفضل من الذي نعيشه حالياً". لقد تحدثت مس رايس عن الشرق الأوسط الجديد والذي سيولد من كنف "الفوضى الخلاقة" بحسب وصفها. وفي العام 2008 بدأ العالم ينهار اقتصادياً وبدأ الكثيرون يشعرون بالجوع وعدم الرضى عن حكوماتهم الشمولية. فقام البوعزيزي باشعال فتيل ثورة الياسمين وحرق تونس، ومن بعدها التهبت مصر ولسعت النيران ليبيا القذافي ومن ثم سوريا فاليمن. وسرق آخرون الثورات وانتشرت الفوضى العارمة في أرجاء الوطن الذي كان واحداً في إيماننا ووجداننا ولا يقبل القسمة إلى اثنين. أما البلاء الأكبر فهو أن هذا التوتر والاضطراب لا يزال يحرق الأخضر واليابس، مما يدل على أن تحسن الشرق الأوسط اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً لن يحدث إلا بعد زمن وسنوات طويلة من الكفاح اليومي للمواطن والحكومات في سبيل تأمين الكرامة ولقمة العيش والقوت اليومي. لقد تغيرت اللعبة السياسية على الساحة الشرق أوسطية وظهر لاعبون جدد وتبدلت التحالفات. أما إسرائيل فقد غابت عن مشهد الصراع الإقليمي إلا من خلال الغزوات التي قامت بها ضد شعب غزة هاشم. والوطن أصبح وطنين والحكومة حكومتين، ونسي الجميع فلسطين والقضية الفلسطينية أصبحت على هامش اهتمامات المجتمع العربي والإسلامي والدولي. وتهجر الأطفال والكهول، وقضى آخرون في مياه البحر الباردة، وأصبح لحم وعظام العرب حقول تجارب لأقوى جيوش العالم فانتعشت تجارة الاسلحة. وانقسمت السودان إلى سودانين، وشُرد المسيحيون وغيرهم من العراق وسوريا، وتغيرت الخرائط الجغرافية لتلك الدول ليفرض المستعمر نظرية سايس بيكو 2. ويحاول الكثيرون الترويج لفكرة أن الفوضى الخلاقة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالفكر الديني الأصولي. وهؤلاء قد يكونون على حق، ففكرة نتنياهو حول يهودية "الدولة" هي فكرة دينية أصولية هدفها إلغاء الآخر. والسؤال هنا لرايس: هل تبديل الأنظمة والأشخاص يأتي فقط من خلال الفوضى الخلاقة والاضطرابات وإقصاء الآخر وتكفير مبادئ الفكر والعلم والتطور؟ لقد عاش أجدادي المسيحيون العرب منذ ألفي عام في وطننا الكبير هذا وقد اضطروا إلى اتخاذ قرارات مصيرية بشأن بقائهم ومستقبلهم. فقد تعايشوا وعاصروا كل الاحتلالات على مر الزمان. وكان إيمانهم وصمودهم يتعرض للكثير من النكسات والاختبارات. فكانوا يتسائلون حول ماهية الحلول المُثلى للصمود على الأرض. خاف من خاف منهم، وهاجر من هاجر والقلة بقيت لتشهد للتنوع الديني والحضاري والثقافي في الشرق الأوسط. ومما لا شك فيه أن كنائس الشرق الأوسط المشرقية كانت دائماً تخرج من هذه النكسات أقوى من السابق، فقد تابعنا على مر العصور قيام وسقوط العديد من الامبراطوريات، أما نحن بقينا راسخين هنا وسنبقى. ومن خلال جميع تلك التجارب فقد وضعنا عدداً من الثوابت التي نسعى إلى تطبيقها وتحقيقها في المجتمع المشرقي، ومنها: إن الله تعالى قد خلقنا مختلفين، ويجب احترام إرادته باحترام مشاعر وكينونة ووجود الجميع، فكلنا نكون فسيفساءً جميلاً ونادراً في الشرق الأوسط. المسيحيون العرب هم جزء أصيل من هذا المجتمع المتنوع، لنا واجباتنا التي يجب أن نؤديها بمحبة، وحقوقنا التي يجب على الجميع احترامها. وليس ثمة مستقبل للمسيحيين العرب ما لم يكن هناك حاضر ومستقبل للعرب جميعاً بلا استثناء. الدولة يجب أن تقوم على حكم القانون، والتأكيد على ديمقراطيتها ومدنيتها. فالمواطنة هي الأساس الوحيد للتعامل مع الناس في المجتمع. على الدولة والكنيسة تشجيع المسيحيين على الانخراط الكامل في كافة المؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها وذلك لخدمة المواطن لنكون ملحاً للأرض وشهوداً مخلصين للمسيح. المسيحيون العرب مدعوون إلى المساهمة مع إخوتهم المسلمين في تكوين فكر ورؤية عربية جديدة وذلك للرد على ما يجري من حوادث وتخريب، والعمل على الاستمرار بدورهم التاريخي في مد الجسور بين الشرق والغرب وبالنهوض بالثقافة والحضارة العربية الإسلامية المسيحية، وعدم الخوف والتقوقع في أزمة الهوية الحالية. دعم وتشجيع مبادرات الحوار الإسلامي المسيحي عبر حوار الحياة اليومي والمؤسسات المختصة. ولن نجعل التاريخ الحديث ينقلب على التاريخ القديم ويمحي 1400 عام من العيش المشترك. التواصل الفعال والخلاق مع الحجاج المسيحيين بهدف تعميق العلاقات الأخوية بين المسيحيين وتعريفهم بالوجود العربي المسيحي وبالإسلام والمسلمين. العمل على تطبيق مبادئ حقوق الإنسان وكرامته، وهذا يساعد على الاستقرار السياسي والاقتصادي مما يحد من الهجرة إلى الخارج. رفض فكرة تفكيك الدول العربية لتصبح دولاً طائفية. رفض فكرة الهجرة بالرغم من جميع الصعوبات والدعوة إلى التحلي بالرجاء. رفض الفساد بكافة أشكاله ونبذ الفوضى والتخريب. مقاومة الاحتلال يجب أن تكون مقاومة سلمية خلاقة ومبدعة. نعم عددنا قليل لكن أهميتنا تكمن في أعمالنا المجتمعية. تشجيع المسيحيين على الالتزام بقراءة الأحداث والتحديات في ضوء الإيمان والكتاب المقدس. ورفض اللاهوت المستورد الغريب عن بيئتنا المشرقية العربية الإسلامية المسيحية. إن المضي نحو مستقبل أفضل لا يأتي إلا من خلال تجديد عقل وتفكير الشخص ونظرته إلى الإنسان الآخر. فلا الثورة المسلحة تُجدي ولا الأسلحة الفتاكة واسقاط الحكومات والتدخل الخارجي يُفيد. أما الآخر فهو السني والشيعي والمسيحي والكردي، والفقير والمريض والمهمش... إن الديمقراطية لن يعلمنا إياها لا الأمريكي ولا غيره، فهي مزروعة فينا وفي جيناتنا البشرية، إلا أننا مدعوين إلى تطبيقها على أنفسنا وعلى الآخرين من حولنا. ولا وألف لا لسايس بيكو 2.