موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٩ يونيو / حزيران ٢٠٢٤

اللمْسَة الرُّوحيَّة لشِفاء المَرضى وإحْياء المَوتى

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحَد الثَّالث عشر للسَنة: اللمْسَة الرُّوحيَّة لشِفاء المَرضى وإحْياء المَوتى (مرقس 5: 21-43)

الأحَد الثَّالث عشر للسَنة: اللمْسَة الرُّوحيَّة لشِفاء المَرضى وإحْياء المَوتى (مرقس 5: 21-43)

 

النَّص الإنجيلي (مرقس 5: 21-43)

 

21 ورجَعَ يسوعُ في السَّفينَةِ إلى الشَّاطِئِ المُقابِل، فازدَحَمَ علَيه جَمعٌ كثير، وهو على شاطِئِ البَحْر. 22 فجاءَ أَحَدُ رُؤَساءِ المَجْمَعِ اسمُه يائِيرس. فلَمَّا رآهُ ارتَمى على قَدَمَيْه، 23 وسأَلَه مُلِحًّا قال: ((اِبنَتي الصَّغيرةُ مُشرِفَةٌ على المَوت. فتَعالَ وضَعْ يَدَيكَ علَيها لِتَبرَأَ وتَحيا)). 24 فذَهبَ معَه وتَبِعَهُ جَمْعٌ كثيرٌ يَزحَمُه. 25 وكانت هُناكَ امرأَةٌ مَنْزوفَة مُنذُ اثنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَة، 26 قد عانَت كثيرًا مِن أَطِبَّاءَ كَثيرين، وأَنفَقَت كُلَّ ما عِندَها فلَم تَستَفِدْ شَيئًا، بل صارت مِن سَيِّئٍ إلى أَسوَأ. 27 فلمَّا سَمِعَت بِأَخبارِ يسوع، جاءَت بَينَ الجَمعِ مِن خَلْفُ ولَمَسَت رِداءَه، 28 لأَنَّها قالت في نَفسِها: ((إِن لَمَسْتُ ولَو ثِيابَه بَرِئْتُ)). 29 فجَفَّ مَسيلُ دَمِها لِوَقتِه، وأَحَسَّت في جِسمِها أَنَّها بَرِئَت مِن عِلَّتِها. 30 وشَعَرَ يسوعُ لِوَقْتِه بِالقُوَّةِ الَّتي خَرجَت مِنه، فالتَفَتَ إلى الجَمعِ وقال: ((مَن لَمَسَ ثِيابي؟)) 31 فقالَ له تَلاميذُه: ((تَرى الجَمْعَ يَزحَمُكَ وتقول: مَن لَمَسَني؟)) 32 فأَجالَ طَرْفَهُ لِيَرَى الَّتي فَعلَت ذلك. 33 فخافَتِ المَرأَةُ وارتَجَفَت لِعِلمِها بِما حدَثَ لَها، فَجاءَت وارتَمَت على قَدَمَيه واعتَرفَت بالحَقيقَةِ كُلِّها. 34 فقالَ لها: ((يا ابنَتي، إِيمانُكِ خَلَّصَكِ، فَاذهَبي بِسَلام، وتَعافَي مِن عِلَّتِكِ)). 35 وبَينَما هُو يَتَكَلَّم، وَصَلَ أُناسٌ مِن عِندِ رئيسِ المَجمَعِ يقولون: ((اِبنَتُكَ ماتَت فلِمَ تُزعِجُ المُعَلِّم؟)) 36 فلَم يُبالِ يسوعُ بهذا الكَلام، بل قالَ لِرئيسِ المَجمَع: ((لا تَخَفْ، آمِنْ فقط)). 37 ولَم يَدَعْ أَحَدًا يَصحَبُه إِلاَّ بُطرُسَ ويعقوبَ ويوحَنَّا أَخا يَعقوب. 38 ولَمَّا وَصَلوا إلى دارِ رئيسِ المَجمَع، شَهِدَ ضَجيجًا وأُناسًا يَبكونَ ويُعْوِلون. 39 فدَخلَ وقالَ لَهم: ((لِماذا تَضِجُّونَ وتَبكون؟ لم تَمُتِ الصَّبِيَّة، وإِنَّما هيَ نائمة))، 40 فَضَحِكوا مِنهُ. أَمَّا هو فأَخرَجَهم جَميعًا وسارَ بِأَبي الصَّبيَّةِ وأُمِّها والَّذينَ كانوا معَه ودخَلَ إلى حَيثُ كانَتِ الصَّبيَّة. 41 فأَخَذَ بِيَدِ الصَّبِيَّةِ وقالَ لها: ((طَليتا قوم!)) أَي: يا صَبِيَّة أَقولُ لكِ: قومي. 42 فقامَتِ الصَّبيَّةُ لِوَقتِها وأَخَذَت تَمْشي، وكانتِ ابنَةَ اثنَتَي عَشْرَةَ سَنَة. فَدَهِشوا أَشَدَّ الدَّهَش، 43 فَأَوصاهم مُشَدِّدًا علَيهِم أَلاَّ يَعلَمَ أَحَدٌ بذلك، وأَمَرَهُم أَن يُطعِموها.

 

 

مقدمة

 

بعد يوم تعليم بالأمثال يروي مرقس الإنجيلي أربع معجزات أجراها يسوع مُبيِّنًا فيها لتلاميذه تصعيدًا في إيمانهم بقدرة يسوع على العناصر الطَّبيعة (تسكين العاصفة 4: 35-41)، وبقدرته على الأرواح الشِّريرة (طرد الشَّيطان عن رجل 5: 1-20)، ثم بقدرته على المرضى والنَّجاسة (المرأة المَنْزوفَة) وأخيرًا بقدرته على الموت (إحياء ابنة يائِيرس (5: 21-43). تمَّت هذه الأعمال الأربعة خلال سفر يقوم به يسوع، إذ كان لا بَّد له من الانتقال إلى أرض الجراسيين من عبور البحيرة، في ذلك الوقت، هبّت عاصفة.  وعلى الشاطئ المقابل، في الأرض الوثنية طرد الشَّيطان عن رجل، ثم عاد إلى الأرض اليهودية، فدعاه يائيرس لِشفاء ابنته، وإذ هو في الطريق، شفى الامرأَةٌ المنزوفة، ولما وصل إلى بيت يائيرس، شفى له ابنته. تمت كل هذه المعجزات في يوم واحد. واليوم يروي مرقس الإنجيلي كيف يحلّ يسوع مشكلتين نعاني منهما كخليقة: النَّجاسة والموت والمشكلتان متداخلتان حيث أنَّ الموت هو بسبب النَّجاسة وذلك من خلال المعجزتين التوأمين، معجزة شِفاء المرأة المَنْزوفَة وإحياء ابنة يائِيرس؛ ومن هنا تكمن أهميَّة البحث في وقائع النَّص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولًا: تحليل وقائع النَّص الإنجيلي (مرقس 5: 21-43)

 

21 ورجَعَ يسوعُ في السَّفينَةِ إلى الشَّاطِئِ المُقابِل، فازدَحَمَ علَيه جَمعٌ كثير، وهو على شاطِئِ البَحْر

 

تشير عبارة "الشَّاطِئِ المُقابِل" إلى الشَّاطئ الغربي من كفرناحوم وهو العَالَم اليهودي حيث يُقيم رئيس المجمع يائِيرس، وكان يسوع قد جاء من العَالَم الوثني (منطقة كرسي – جدارة) في الشَّاطئ الشَّرقي حيث شفى الرَّجل المَمْسوس فطرده أهل البلد، لأنَّه أهلك خنازيرهم بإرسال فيهم الأرواح النَّجسة التي أخرجها من الرَّجل (مرقس 5: 1-20). وهكذا كانت الرِّسالة الإنجيليَّة في بدايتها تنتقل بين العَالَم اليهودي والعَالَم الوثني.

 

22 فجاءَ أَحَدُ رُؤَساءِ المَجْمَعِ اسمُه يائِيرس. فلَمَّا رآهُ ارتَمى على قَدَمَيْه

 

تشير عبارة "أحد رُؤَساءِ المَجْمَعِ" إلى المسؤول عن العبادة في المجمع وإدارة المدرسة الدِّينيَّة الأسبوعيَّة وصيانة المبنى، وكان يُطلق هذا اللَّقب أيضَا على وجهاء الجماعة الدِّينيَّة أيضا (متى 9: 18).  أمَّا "يائِيرس" في الأصل اليوناني Ἰάϊρος في العبريَّة "יאיר" (معناها يضيء أو ينير أو المستنير (أفسس 5: 14) يشير إلى النَّاموس، وابنته تشير إلى الأمة اليهوديَّة التي سقطت تحت تأثير المرض حتى أوشكت على الموت، وأنَّها لا تستطيع أن تنعم بالقيامة من هذا الموت ما لم تتمتع بروح الاستنارة حيث يقودها النَّاموس لا إلى الحرف القاتل، وإنَّما إلى المسيح القادر أن يُقيم الموتى.  أمَّا عبارة "ارتَمى على قَدَمَيْه" فتشير إلى عمل جريء الذي يدلُّ على الاحترام من ناحية، وعلى طرح عن نفسه كل كرامته كرئيس للمجمع في ضيقته الشَّديدة إذ كانت له ابنة توشك على الموت، لم تنجح معها علاج الأطباء، ولا خدمة الأقرباء ولا تضرعات الأحباء، ولم يبق رجاءً إلاَّ في يسوع النَّاصري من ناحية أخرى. ويقابل عبارة "ارتَمى على قَدَمَيْه" فعل "سجد" في إنجيل متى(9:18)، دلالة على الإقرار بان يسوع هو الله.

 

23 وسأَلَه مُلِحًّا قال: اِبنَتي الصَّغيرةُ مُشرِفَةٌ على المَوت. فتَعالَ وضَعْ يَدَيكَ علَيها لِتَبرَأَ وتَحيا.

 

تشير عبارة "ِاِبنَتي الصَّغيرةُ مُشرِفَةٌ على المَوت" إلى توسل يائِيرس يسوع لشفاء ابنته، على مثال كل مؤمن أمام ربِّه.  كانت " ابنةً وحيدةً في نَحوِ الثَّانِيَةَ عَشرَةَ مِن عُمرِها "(لوقا 8: 42). أمَّا عبارة "تَعالَ" فتشير إلى طلب رئيس المجمع بإيمان، ومن المستحيل أن يتغاضى المسيح عن طلب كهذا؛ أمَّا عبارة " وضَعْ يَدَيكَ " فتشير إلى علامة على نقل القوَّة من يسوع إلى المريض، وهذه القوَّة ُّتمر من صاحب السُّلطة إلى طالب النِّعمة.  وهذه العبارة تدل على سلطان يسوع في الشِّفاء (متى 9: 18)، وعلى الحركة الطَّقسيَّة لوضع الأيدي أيًضا، في حالة رسم شخص لمنصب أو وظيفة خطيرة، كما فعل موسى (عدد 27: 18). وكما فعل الرُّسل إذا أرادوا أن يقبل أحد المؤمنين الرُّوح القدس (أعمال الرُّسل 8: 17 -18) أو إذا أرادوا رسم أحد المؤمنين لعمل الخدمة والتَّبشير (1 طيموتاوس 4: 14). ووضع الأيدي يحمل معه مواهب روحيَّة (متى 9: 26). وشفاء للمرضى (مرقس 16: 18). أمَّا عبارة " لِتَبرَأَ وتَحيا " فتشير إلى تشديد على الخلاص التي يحصل عليه المرء بلمس يسوع. ويستحيل أن يتغاضى المسيح عن طلب كهذا مقرون بإيمان. ألم يقل بولس الرَّسول "أَمَّا الْبَارُّ فَبِالْإِيمَانِ يَحْيَا" (رومية 1:17).  أين نحن من إيمان يائيرس؟

 

24 فذَهبَ معَه وتَبِعَهُ جَمْعٌ كثيرٌ يَزحَمُه

 

تشير عبارة " جَمْعٌ كثيرٌ يَزحَمُه " إلى الفرق بين الجموع التي تتزاحم حول يسوع، والقلّة النَّادرة التي تصل إليه وتلمسه بإيمان.  حيث أنَّ لمْسَة الإيمان وحدها هي القادرة أن تُظهر قوَّة الشِّفاء المتأتية من الرَّبّ؛ كثيرون هم الذين يسيرون وراء المسيح ولكن قليلون الذين هم الذين يتقدّمون بإيمان وبانسحاق النَّفس ليلمسوا الرَّب وينالون الشِّفاء. وحدها لمْسَة الإيمان تقدر أن تُظهر قوَّة الشِّفاء المتأتية من الرَّبّ.

 

25 وكانت هُناكَ امرأَةٌ مَنزوفَةٌ مُنذُ اثنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَة

 

تشير عبارة "امرأَةٌ مَنزوفَةٌ" إلى اضطراب المرأة في الحيض أو في الرَّحم ممَّا كان يجعلها نَجسة طقسيًّا كما جاء في الشَّريعة "كُلُّ مَن مَسَّ شَيئًا مِنها يَكونُ نَجِسًا، فيَغسِلُ ثِيابَه ويَستَحِمُّ في الماء، وَيكونُ نَجِسًا حتَّى المَساء"(الأحبار 15: 27)، وتستبعِدُها النَّجاسة من معظم العلاقات الاجتماعيَّة بسائر اليهود. ولم تعدْ لدى هذه المرأة القُدرة أن تلد، وأن تعطي الحياة، لأنَّ الدَّم مرتبط بالحياة. ولم يستطع الأطبّاء أن يفعلوا لها شيئًا. فالله وحده هو سيّد الحياة. ونزيف الدم تعبير ينمّ عن فقدان الحياة. أمَّا عبارة "اثنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَة" فتشير إلى عمر الزواج للفتاة اليهودية حيث تزهر الحياة لكن هذه المرأة ظلت في مرضها أثني عشرة سنة، ولم تكن بقادرة أن تَحي حياة طبيعيَّة، إلاَّ أنَّ الرَّبَّ يسوع غيّر الحال وشفاها.  ويُعلق القديس هيلاريون أسقف بواتييه " إن اثنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَة" هي إشارة إلى قضاء كل زمانها السَّابق في نجاسة الخطيّئة التي استنزفت حياتها. إنها اِلتقت بالسَّيّد في الطَّريق".  إن الله يستطيع أن يغيّر ما يبدو غير قابل للتغيير، فيمنح حياة جديدة ورجاء جديدًا. وهنا يُطرح سؤالٌ: لماذا ادخل مرقس الإنجيلي معجزة المرأَة المنزوفة داخل إحياء ابنة يائِيرس (5: 21-43)؟  أراد مرقس الإنجيلي أن يوجه أيمان القارئ المدعو هو أيضًا لان يؤمن بقدرة يسوع في إقامة الموتى. 

 

26 قد عانَت كثيرًا مِن أَطِبَّاءَ كَثيرين، وأَنفَقَت كُلَّ ما عِندَها فلَم تَستَفِدْ شَيئًا، بل صارت مِن سَيِّئٍ إلى أَسوَأ

 

تشير عبارة " قد عانَت كثيرًا مِن أَطِبَّاءَ كَثيرين " إلى عدم قدرة الأطباء أن يفعلوا شيئا، حيث أنَّ الله وحده هو سيدّ الحياة. عندما تتوقف البشريَّة عن السَّعي لإنقاذ نفسها بمفردها، وتطلب الرَّبَّ، عندها يمكن أن نحصل على الشِّفاء والحياة. أمَّا عبارة " أَنفَقَت كُلَّ ما عِندَها فلَم تَستَفِدْ شَيئًا" فتشير إلى قدرة يسوع تجاه فشل الأطباء الذين اخذوا كل مالها ولم يفدوها. بحيث أنَّ لوقا الإنجيلي كونه طبيب يحترم مهنة الطِّب فلا يقول هذا بل يقول " وكانَت قد أَنفَقَت جَميعَ ما عِندَها على الأَطِبَّاء، فلَم يَستَطِعْ أَحَدٌ مِنهُم أَن يَشفِيَها"(لوقا 8: 43). وعندما ينفق الإنسان ماله ويُصبح فقيرًا، عندها يغتني بالمسيح القادر على شفائه من أمراضه على خطى الشَّاب الغني الذي أراد أن يتبع يسوع (لوقا 18: 18 -27).

 

27 لمَّا سَمِعَت بِأَخبارِ يسوع، جاءَت بَينَ الجَمعِ مِن خَلْفُ ولَمَسَت رِداءَه

 

 تشير عبارة "فلمَّا سَمِعَت بِأَخبارِ يسوع" إلى أهميَّة السِّماع إلى يسوع بإيمان. لو لم تسمع لما جاءت، وان لم يُبشِّرها أحد فكيف تسمع؟  " فالإِيمانُ إِذًا مِنَ السَّماع، والسَّماعُ يَكونُ سَماعَ كَلاَمٍ على المسيح" (رومة 10: 17)؛ أمَّا عبارة "جاءَت بَينَ الجَمعِ مِن خَلْفُ" فتشير إلى تصرُّف متستِّر لهذه المرأة النَّجسة من جرَّاء مرضها، وعارها بسبب نجاستها المُعدية بحسب شريعة موسى (أحبار 15: 18 -27)، حيث لا يحقُّ لها الاختلاط بالجمهور، وكم بالأحرى بالنَّبي.  وبالرَّغم من كل ذلك، اكتشفت المرأة لدى يسوع القدرة التي تحمل الخلاص والشِّفاء. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم: "إنَّ هذه المرأة لم تجسر أن تقترب من المُخلص علانيَّة، ولا أن تأتي إليه من أمامه، لأنَّها حسب الشَّريعة تُعد نجسة، فجاءت من ورائه"؛ ولم يكن الازدحام مانعًا لها، بل اقتربت من خَلفِ المسيح ولمستْ هُدْبَ ثوبه. أمَّا عبارة "لَمَسَت" فتشير إلى لمْسَة الإيمان التي أعادت إلى المرأة المَنْزوفَة الحياة بالرَّغم من إنَّها نجسة، ولا يَحقُّ لها أن تلمس إنسانًا (الأحبار 15: 25). وهنا لا تحمل المرأة النَّجاسة (الموت) إلى يسوع، بل يحمل يسوع إليها الحياة. إذ اكتشفت هذه المرأة في يسوع القدرة التي تحمل إليها الخلاص، في حين كانت لمْسَة الجمع ليسوع هي لمْسَة فضول. أمَّا عبارة " رِداءَه" فتشير إلى معطف يُجعل فوق اللِّباس الدَّاخلي يُشبه العباءة، يستورده الأغنياء من الخارج، دلالة أنهم يعيشون على المستوى "الدُّولي". ورداء الفقير لا يمكن أن يُرهَن بعد المغيب لأنَّه غطاؤه في اللَّيل (خروج 22 :25-26). وكان اليهود يخلعون المِعطف حين يسيرون في الطَّريق أو حين يشتغلون (متى 24 :18؛ مرقس 10 :50). وكانوا يستعملونه لحمل العجين (خروج 12 :34) والخضار (2ملوك 4 :39) واللَّحم (حجاي 2 :12) والحِلي (قضاة 8 :25). وكان لباس خاص بالوجهاء والملوك ويُدعى "الجبّة "(1صموئيل 2 :19). كما كان لباس خاص بعظيم الكهنة (خروج 28 :4، 31) وقد يكون رداء مصنوع من كتَّان والقماش النَّاعم (1أخبار 15 :27).

 

28 لأَنَّها قالت في نَفسِها: إِن لَمَسْتُ ولَو ثِيابَه بَرِئْتُ

 

 تشير عبارة "إِن لَمَسْتُ ولَو ثِيابَه بَرِئْتُ" إلى أمل المرأة الوحيد هو الاقتراب من يسوع المسيح الذي يريد الشِّفاء والحياة للبشر. هناك قوَّة تعمل باللَّمس كما جاء في إنجيل مرقس "لأَنَّه شَفى كَثيرًا مِنَ النَّاس، حتَّى أَصبَحَ كُلُّ مَن بِه عِلَّةٌ يتَهافَتُ علَيه لِيَلمِسَه" (مرقس 3: 10). فالمرأة لمست يسوع روحيًا قبل أن تلمسه جسديًا. صلّت إليه بروحها قبل أن تصلي إليِّه بيدها. حاولت المرأة ألاَّ تَظهر بين النَّاس، لأنَّها خجلت من مرضها الذي يجعلها في حالة النَّجاسة بحسب الشَّريعة. ويُعلق العلامة أوريجانوس: " إنّ الرّبَّ يسوع المسيح الّذي قدّم ذاته قُربانًا هو الأضحية الفريدة والكاملة، التي كانت ترمز إليها جميع الأضاحي في الشَّريعة القديمة وتمثّلها "فكُلُّ مَن مَسَّها يَكونُ مُقَدَّسًا" (الأحبار 6: 11)، فالذي يمسّ جسد هذه التَّقدمة يتقدّس مباشرةً، فإن كان نجسًا، أصبح نقيًا، وإن كان جريحًا التأم جرحه، هذا ما فهمته المرأة النَّازفة" (العظة 4 عن سفر الأحبار). أمَّا عبارة "بَرِئْتُ" فتشير إلى شفاء المرأة المَنْزوفَة دون دواء ودون كلمة، إنما حصلت على الخلاص بلمسها يسوع، لأنَّها رأتِ فيه قدرة الرَّبّ التي تخلّص البشر. وليس لمس الثَّوب هو الذي منح الشِّفاء للمرأة، بل إيمانها، أي اتصالها الشَّخصي ولقاؤها بيسوع، ولسان حالها ما ترنَّم به صاحب المزامير: " شَعْبٌ لم أَعرِفْه يَخدُمُني، يَسمَعونَني يُطيعونَني" (مزمور 18: 43).

 

29 فجَفَّ مَسيلُ دَمِها لِوَقتِه، وأَحَسَّت في جِسمِها أَنَّها بَرِئَت مِن عِلَّتِها.

 

تشير عبارة "لِوَقتِه" في الأصل اليوناني εὐθὺς (معناها في الحال أو للوقت) إلى الشِّفاءُ حالًا، وفي وَقتِه. وهذه العبارة هي تعبير خاص بمرقس التي تكرَّرت (41) مرة في إنجيله. أمَّا عبارة "أَنَّها بَرِئَت مِن عِلَّتِها" إلى شعورها بشفائها الفجائي بصورة لم تكن تتوقَّعها. إنَّها معجزة الشِّفاء، فأصبحت المرأة المَنْزوفَة الآن طاهرة بعد أن تعافت من دائها، يُعلّق القدّيس أفرام السِّرياني: "المجد لك، يا ابن الرَّبّ المَخفي، لأنّ قوّتك الشَّافية تُعلَن من خلال الألم المَخفي لامرأة بائسة.  تمكّن الشُّهود أن يروا الألوهيَّة الّتي لا يمكن رؤيتها، من خلال هذه المرأة الّتي كانوا يرونها.  أصبحت الألوهيَّة معروفة من خلال قوَّة الابن الشَّافية. جُعل إيمان المرأة البائسة ظاهرًا من خلال شفاء المرأة البائسة.  وإن كانت المرأة شاهدة على ألوهيَّة المسيح، فهو بدوره كان شاهدًا على إيمانها.  قد تطلّع إلى إيمانها المَخفي، وأعطاها شفاءً مرئيًّا". إنَّ هذا الشِّفاء دليل على رغبة يسوع الحياة للبشريَّة، ويريدها وافرة (يوحنا 10: 10). ومن هذا المنطلق، قد تمَّ حوار سِرّي بين يسوع والمرأة المَنْزوفَة التي شُفيت، وكأن لم يسمعها أحد. النَّاس لم يعلموا بما حدث، لكن يسوع والمرأة وحدهما عَلما بذلك، لأنَّ المرض كان خَفيَّا.

 

30 وشَعَرَ يسوعُ لِوَقْتِه بِالقُوَّةِ الَّتي خَرجَت مِنه، فالتَفَتَ إلى الجَمعِ وقال: "مَن لَمَسَ ثِيابي؟

 

 تشير عبارة " لِوَقْتِه " في الأصل اليوناني εὐθὺς (معناها في الحال أو للوقت) إلى لَمْسِ طَرَفِ رِدائه كان كافيًا لإتمام الشِّفاءُ الفوري في حينه. أمَّا عبارة " بِالقُوَّةِ " فتشير إلى نشاط يسوع العجائبي بمفهوم مرقس الإنجيلي، لأنَّ كثيرًا ما يشار إلى لأشفية وطرد الشياطين التي يجريها يسوع بكلمة "قوة" (مرقس 6: 1-6). وقد شغلت بال هيرودس أعمال القوة التي كان يسوع يقوم بها (مرقس 6: 14)، وإنَّ أعمال القوة هذه هي علامات تدعو إلى الإيمان والتَّوبة. أمَّا عبارة "مَن لَمَسَ ثِيابي؟" فتشير إلى سؤال يهدف إلى اعتراف المرأة المَنْزوفَة علنيًا (رومة 10: 9-10) لكي يمدَحَ يسوع إيمانها أمام الجموع التي تزحمُه.  أراد يسوع إعلام اليهود أن هذه المرأة لها حقٌّ بالحياة، وأنّ الله يُحبُّها، ولذلك منَحَها الشِّفاء، لأنَّه ما من مريض نَجِس عندما يقترب أمام الله. وكانت لمستُها مقرونة ً بالإيمان الشَّخصي النَّاجم عن شعور عميق بالحاجة واقتناع بقوَّة يسوع الشَّافية، وهذه اللمْسَة تختلف عن لمْسَة الجمع الذين يزحمون يسوع ولم ينالوا الشِّفاء (مرقس5: 30-32). إيمان المرأة يميّز قدرة يسوع الإلهيَّة على الخلاص والشِّفاء. وشفاء المرأة وخلاصها دلالة على قيمة لمس المرأة المَنْزوفَة بإيمان.

 

31 فقالَ له تَلاميذُه: تَرى الجَمْعَ يَزحَمُكَ وتقول: مَن لَمَسَني؟

 

تشير عبارة " تقول: مَن لَمَسَني؟  إلى احتجاج التَّلاميذ الذي يُظهر الفرق الشَّاسع بين ازدحام الجمع على يسوع وبين لمْسَة المرأَةٌ المَنْزوفَة المفعمة بإيمانها الشَّخصي بيسوع واقتناعها بقوته المخلّصة وشعورها العميق بالحاجة.  هناك من يلمس السَّيد بإيمان فيشفى، وهناك كثيرون يزحمونه ويلتفون حوله بلا إيمان فلا يشفون من أمراض أجسادهم ونفوسهم وأرواحهم.

 

32 فأَجالَ طَرْفَهُ لِيَرَى الَّتي فَعلَت ذلك.

 

تشير عبارة "فأَجالَ طَرْفَهُ" إلى نظر يسوع وفيه من تعبير الذي يلاحظه مرقس الإنجيلي وقد تكرَّرت هذه الملاحظة خمس مرات في إنجيله (3: 5، 34؛ 5: 32؛ 10: 23، 11:11). 

 

33 فخافَتِ المَرأَةُ وارتَجَفَت لِعِلمِها بِما حدَثَ لَها، فَجاءَت وارتَمَت على قَدَمَيه واعتَرفَت بالحَقيقَةِ كُلِّها

 

تشير عبارة "اعتَرفَت بالحَقيقَةِ كُلِّها" إلى إحساس المرأة بأنَّها أخطأت فيما فعلت حيث تعدّت وصيَّة من وصايا الشَّريعة حين لمست شخصًا وهي في حالة نجسة من ناحية (الأحبار 15: 45)، ومن ناحية أخرى أعلنت شفاءها وإيمانها. 

 

34 فقالَ لها: " يا ابنَتي، إِيمانُكِ خَلَّصَكِ، فَاذهَبي بِسَلام، وتَعافَي مِن عِلَّتِكِ

 

 تشير عبارة "يا ابنَتي" إلى تكلم يسوع بحنان مع المرأة المَنْزوفَة والخائفة، ولأول مرة يذكر في إنجيل مرقس أن يسوع يدعو شخصًا ما بصفة " الابنة". إذ تجرأت هذه المرأَةٌ على لمس الله ووجدت هويتها وحقيقتها بالكامل كابنة للآب. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم: " دعاها "ابنة" لأنها خُلِّصت بالإيمان، فإن إيماننا بالمسيح يجعلنا أبناء له"؛ أمَّا عبارة "إِيمانُكِ خَلَّصَكِ" فتشير إلى التَّشديد على الإيمان الذي منحها الشِّفاء، كما ورد في إنجيل متى "إِيمانُكِ أَبرَأَكِ " (متى 9: 22) حيث أنَّ إيمان المرأة في حدِّ ذاته هو الذي خلَّصها، لأنَّه ادخلها في علاقة شخصيَّة مع يسوع المُخلص؛ هذا الإيمان جعل المرأة المَنْزوفَة تذهب إلى يسوع من اجل الشِّفاء وتثق به. وهذا الإيمان ما هو إلاّ موقف ثِقَة الذي يرضى به يسوع، ولذلك يلبّي طلبها (لوقا 7: 50). ومن هذا المنطلق الإيمان بالمسيح شرط أساسي للمعجزة.  ألم يقل المسيح إن "كُلُّ شَيءٍ مُمكِنٌ لِلَّذي يُؤمِن؟" (مرقس 9: 23). "إِن كانَ لَكم مِنَ الإِيمانِ قَدْرُ حَبَّةِ خَردَل قُلتُم لِهذا الجَبَل: اِنتَقِلْ مِن هُنا إلى هُناك، فيَنتَقِل، وما أَعجَزَكُم شيء" (متى 17: 20). أمَّا عبارة " خَلَّصَكِ " فتشير إلى قوَّة إيمان المرأة الذي منحها الخلاص، لأنَّه أدخلها في صلة مع يسوع، صاحب الخلاص. فيسوع ينسب شفاء المرأة إلى إيمانها. والإيمان ليس مجرَّد خبرة ذاتيَّة، بل يستمد الإيمان قوته من يسوع المسيح. قصد المسيح بهذه المعجزة شفاءً جسديًا وروحيًا. يجب ألاّ ننظر إلى يسوع كشافٍ للأمراض الجسديَّة فقط، إنَّما كمُخلّص يشفي من الدَّاخل. وهذا يفترض أولًا وآخرًا الإيمان، الذي هو لقاء وحوار شخصي مع المسيح. إيمان المرأة خلَّصها أي شفاها (متى 9:22)، شفى جسدها وخلّص نفسها. فكل سر يخلو من الإيمان الحي بالمسيح لا قوة له. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم: "إنَّها شفيت لا من أجل هُدْبَ الثَّوب في ذاته وإنما من أجل إيمانها".  أمَّا عبار "فَاذهَبي بِسَلام " فتشير إلى ثمرة الإيمان هو سلام القلب. واستعادت الصِّحة، وبذات الفعل لم تعُدْ مهمّشة ومستبعدة، بل بالعكس تحوّلت إلى مُناديه بعظائم الله أمام الشَّعب. أمَّا عبارة "تَعافَي" في الأصل اليوناني ὑγιὴς (معناها متعافية) فتشير إلى الشِّفاء التي بحثت عنه المرأة. فالمرأة نالت أكثر مِمَّا كانت تطلب، إنَّها نالت شفاء الجسد وخلاص الرُّوح. ويدل شفاء المرأة المَنْزوفَة على أنَّ الله يريد الحياة للبشر، وحياة أوفر (يوحنا 10: 11).  إن قدرة يسوع على الشِّفاء لا توقفها نجاسة، كما لا يوقفها الموت نفسه. أين نحن من إيمان المرأة المَنْزوفَة؟

 

35 وبَينَما هُو يَتَكَلَّم، وَصَلَ أُناسٌ مِن عِندِ رئيسِ المَجمَعِ يقولون: "اِبنَتُكَ ماتَت فلِمَ تُزعِجُ المُعَلِّم؟

 

تشير عبارة "بَينَما هُو يَتَكَلَّم" إلى سماح الرَّبَّ يسوع بشفاء المرأة المَنْزوفَة كي يشاهد رئيس المجمع بعينيّه ويلمس عمله الإلهي فلا يشك. أمَّا عبارة "اِبنَتُكَ ماتَت فلِمَ تُزعِجُ المُعَلِّم؟" فتشير إلى اليأس الذي يضعه النَّاس في قلب رئيس المجمع اعتقادًا منهم بأنَّ سلطان يسوع كان يقف على حدود الموت، كما نستشف من قول مرتا ليسوع: "يا ربّ، لَو كُنتَ ههنا لَما ماتَ أَخي" (يوحنا 11: 21). ولم يَعدْ في قدرة أحدٍ أن يفعل شيئا أمام الموت.

 

36 فلَم يُبالِ يسوعُ بهذا الكَلام، بل قالَ لِرئيسِ المَجمَع: "لا تَخَفْ، آمِنْ فقط"

 

تشير عبارة "فلَم يُبالِ يسوعُ بهذا الكَلام" إلى إمكانيَّة الرَّبِّ يسوع أن يُحدث التغيير، عندما يتبيَّن انه ليس في مقدرة أحد أن يفعل شيئًا. فالرَّبُّ يسوع يستطيع أن يفعل المستحيل. أمَّا عبارة "لا تَخَفْ" فتشير إلى أزمة يائِيرس التي جعلته مضطربًا خائفًا بلا رجاء. لكن كلمات يسوع أعانت إيمانه في وسط الأزمة حيث أنَّها دعوة إلى الإيمان والرَّجاء بوعده بالشِّفاء، لان سلطانه قوَّة قيامة. لقد تجاوز يائِيرس ما طلبه، ونال الإيمان القوي الذي كان بحاجة إليه. أمَّا عبارة "آمِنْ" فتشير إلى التَّشديد على الإيمان. آمن! أي راهن على كلمة الله الّتي تريد الحياة وتصنع الحياة مهما ظهر من مظاهر الموت. فالإيمان رهان. طلب يسوع من رئيس المجمع أن يؤمن بالمستحيل، وهو أنّ الموت لا يغلب الحياة، وإن ماتت ابنته فأنّها تحيا. الموت هو تحدّي الإيمان كما جاء في تعليم صاحب الرِّسالة إلى العبرانيين: "الإِيمانُ قِوامُ الأُمورِ الّتي تُرْجى وبُرْهانُ الحَقائِقِ الَّتي لا تُرى" (عبرانيين 11: 1).

 

37 ولَم يَدَعْ أَحَدًا يَصحَبُه إِلاَّ بُطرُسَ ويعقوبَ ويوحَنَّا أَخا يَعقوب

 

تشير عبارة "بُطرُسَ ويعقوبَ ويوحَنَّا أَخا يَعقوب" إلى الشُّهود الثَّلاثة للمعجزة وإلى أهميَّة الوحي الذي سيظهر في المعجزة. ويُعلق القدّيس أمبروسيوس: "عند وصوله إلى المنزل، لم يأخذ الرّبُّ يسوع معه سوى عدد قليل من الشُّهود على القيامة التي ستحصل: إذ لم يكن عدد كبير من النَّاس يؤمن بالقيامة" (شرح لإنجيل القدّيس لوقا 6: 60-63). وكانت تلك المرَّة الأولى التي يأخذ يسوع معه بطرس ويعقوب ويوحنا الذين كانوا معه على جبل التجلِّي (مرقس 9:2) وفي بستان الجسمانيَّة (مرقس 14: 33). إنَّه اختارهم لخدمة خاصة، أو لأنَّهم النُّواة الأكثر استجابة بين جماعة الرُّسل حيث أنَّهم يشاركون على وجه خاص في عمل المعلم أو سرّه.  ويُعلق القديس ايرونيموس: "كان هؤلاء الثَّلاثة يرافقونه: اختير بطرس، وعليه بُنيت الكنيسة، وكذلك يعقوب، أول رسول تسلّم إكليل الشِّهادة، ويوحنا، أول رسول بشّر بالبتوليَّة" (شرح لإنجيل القدّيس مرقس، 2).

 

38 ولَمَّا وَصَلوا إلى دارِ رئيسِ المَجمَع، شَهِدَ ضَجيجًا وأُناسًا يَبكونَ ويُعْوِلون

 

تشير عبارة" يَبكونَ ويُعْوِلون" إلى رثاء بنت يائيرس الصغيرة الميتة، وهو امر مألوف عند موت أي شخص في الشَّرق. وبالعكس عدم البكاء هو عار وازدراء؛ حتى إن كان بعض النَّاس، وبخاصة النِّساء يحترفن الولولة، وكنًّ يتقاضين أجرًا من عائلة الميت للنوح والعويل والبكاء لجمع الدموع في قوارير صغيرة لوضعها مع الميت. وكانت تؤجّر أيضا النَّدَّابات وكذلك الزَّمّارين (متى 9: 23).  

 

39 فدَخلَ وقالَ لَهم: لِماذا تَضِجُّونَ وتَبكون؟ لم تَمُتِ الصَّبِيَّة، وإِنَّما هيَ نائمة

 

تشير عبارة "نائمة" في نظر يسوع أنَّ موتها غير نهائي حيث أن الله يستطيع أن يوقظ الأموات، جاعلا من الموت مجرد نوم. وشبَّه يسوع الموت بالنَّوم بالنَّظر إلى القيامة الآتية. واستعار يسوع الصُّورة نفسها عندما تكلم عن موت اليعازر "إنَّ صَديقَنا لَعازَرَ راقِد، ولَكِنِّي ذاهِبٌ لأُوقِظَه " (يوحنا 11: 11).  الموت في الكتاب المقدس يُعبر عنه بالرُّقاد كما أكّد ذلك متى الإنجيلي "فقامَ كثيرٌ مِن أَجسادِ القِدِّيسينَ الرَّاقِدين" (متى 27: 52). أمَّا الموت كما يراه الله فهو نوم عميق تعقبه يقظة "فأَمَّا ونَحنُ نُؤمِنُ بِأَنَّ يَسوعَ قد ماتَ ثُمَّ قام، فكَذلِك سيَنقُلُ اللهُ بِيَسوعَ ومعَه أُولَئِك الَّذينَ ماتوا" (1 تسالونيقي 4: 14) إنَّ سلطان يسوع يمتدُّ إلى ما وراء القبر (يوحنا 14: 12). عندما يأتي يسوع، لا يعود الموت موتًا، بل رقادًا الذي يسبق اليقظة. هذه الثِّقة بنهوض ابنته من الموت هو ما يطلبه يسوع من يائِيرس.  ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم: "هكذا علّمنا الرّبُّ يسوع ألاّ نخاف الموت لأنّ الموت لم يَعد الموت بالمفهوم نفسه: إنّه النَّوم فحسب... فمنذ مجيء الرّبِّ يسوع المسيح، تحوّل الموت إلى نومٍ عميق"(عظات حول إنجيل القدّيس متّى، العظة 31.). إنَّ الإيمان لا يشفي المرض فحسب، بل يقتل الموت ويساعد الموتى على النُّهوض من الرُّقاد.  وهذه الصَّبيَّة ستقوم على مستوى الجسد، تعود إليها الحياة البشريَّة، ولكن قيامتها ستكون رمزًا إلى قيامة من نوع آخر لا تموت بعدها.

 

40 فَضَحِكوا مِنهُ. أَمَّا هو فأَخرَجَهم جَميعًا وسارَ بِأَبي الصَّبيَّةِ وأُمِّها والَّذينَ كانوا معَه ودخَلَ إلى حَيثُ كانَتِ الصَّبيَّة

 

تشير عبارة "فَضَحِكوا مِنهُ" إلى توقّف الحاضرين عن البكاء على الميِّتة، وبدّلوا بكاءهم بالضُّحك من كلام يسوع حول رقاد الموت لادِّعائه منح الحياة من جديد، حيث كان من الصعب عليهم أن يثقوا بالمسيح، وإنهم بعيدون عن الإيمان الذي تحلّت به المرأة المَنْزوفَة ويائِيرس. ويعلق القدّيس أمبروسيوس: " سخرت الجموع منه، لأنّ الذين لا يؤمنون يسخرون. ليبكوا إذًا موتاهم أولئك الذين يعتبرونهم أمواتًا. عندما نؤمن بالقيامة، لا نرى في الموت نهاية بل راحة دائمة"(شرح لإنجيل القدّيس لوقا 6: 60-63). وفي النِّهاية أصبح ضحكهم شهادة حق أن الصَّبيَّة ماتت وأن المسيح أقامها حيَّة.  أمَّا عبارة "فأَخرَجَهم جَميعًا" فتشير إلى انزعاج يسوع من الضَّجيج والاستهزاء، وكان ردُّ فعله هو إخراجهم من المكان. أمَّا عبارة " ودخَلَ إلى حَيثُ كانَتِ الصَّبيَّة" فتشير إلى دخول يسوع إلى عَالَم الموت للقضاء على الموت. ويُعلق القدّيس كيرِلُّس، بطريرك الإسكندريّة: "بمجرّد أن يدخل الرّبُّ يسوع المسيح فينا بطبيعته البشريّة، فإنّنا نُبْعَثُ أحياءً " (شرح لإنجيل يوحنّا، 4).

 

41 فأَخَذَ بِيَدِ الصَّبِيَّةِ وقالَ لها: طَليتا قوم!، أَي: يا صَبِيَّة أَقولُ لكِ قومي

 

تشير عبارة "فأَخَذَ بِيَدِ الصَّبِيَّةِ" إلى الاتصال الجسدي الذي كان صانعو المعجزات يعلقون أهميَّة كبرى عليه. ويعلق القدّيس العلامة ايرونيموس:" هو لا يلمس الأذن ولا الجبين...، بل اليد، أي الأعمال السَّيّئة" (عظات عن إنجيل مرقس، العظة 2). أمَّا عبارة "طَليتا قوم!" بالآراميَّة טַלְיְתָא קוּמִי (يا صبيَّة قومي) فتشير إلى كلمة يسوع الفاعلة، إذ قامت الفتاة في الحال من ناحية، من ناحية أخرى تشير العبارة إلى إيمان رئيس المجمع الشَّخصي بيسوع. ويُعلق القديس كيرلس الإسكندري: "بكون المسيح الله، فقد أعطى الصَّبيَّة الحياة بأمرٍ فائق القدرة. كما أعطاها الحياة عندما لمست جسده المقدّس، وفي ذلك شهادة بأنَّه في كلمته كما في جسده هناك قدرة إلهيَّة أتمّت هذه المعجزة" (شرح للإنجيل يوحنا 4).  والجدير بالذِّكر بان الآراميَّة كانت لغَّة فلسطين في القرن الأول المسيحي، وبالتَّالي فهي لغة يسوع والتَّلاميذ. وهي تشير في ضوء إنجيل مرقس إلى الطَّابع الاحتفالي اللَّيتورجي.  وترجمة مرقس هذه العبارة الآراميَّة "طَليتا قوم!" إلى اليونانيَّة ἐστιν μεθερμηνευόμενον Τὸ κοράσιον من الأدلة على أن إنجيله كُتب للقَّراء الرُّومانيين الذين كانوا يتكلمون باليونانيَّة وقتئذٍ ومثل ذلك ترجمة" بَوانَرْجِس، أَيِ: ابنَيِ الرَّعْد " (مرقس 3: 17) أو " قُربان" קָרְבָּן (مرقس 7: 11) و ((إِفَّتِحْ!)) אִפַּתַּח  أَيِ: انفَتِحْ (مرقس 7: 24) وأَبَّا، אַבָּא يا أَبَتِ، (مرقس 14: 36)، " ((أَلُوي أَلُوي، لَمَّا شَبَقْتاني؟  אֱלָהִי אֱלָהִי לְמָה שְׁבַקְתַּנִי أَي: إِلهي إِلهي، لِمَاذا تَركتَني؟  (مرقس 15: 34). أمَّا عبارة " قومي " في الأصل اليوناني ἔγειρε (معناها ينهض أو يستيقظ) فتشير إلى التَّعبير عن قيامة الأموات التي تُوحي بصور الاستيقاظ من النَّوم والنُّهوض. وقد استعمل هذا الفعل للحديث عن القيامة الأخيرة (دانيال 12: 2)، وعن إقامة يسوع للموتى (لوقا 7: 22) وعن قيامة الرَّبِّ (لوقا 9: 22).  إحياء يسوع هذه الصَّبيَّة دليل أنَّه الرَّبُّ. ويقدِّم لنا إنجيل مرقس من خلال هذه المعجزة تعليم الكنيسة حول القيامة: " إنَّ مُخَلِّصنا يسوعَ المسيحِ قَضى على المَوت وجَعَلَ الحَياةَ والخُلودَ مُشرِقَينِ بِالبِشارة" (2طيموتاوس 1: 10). ويعلق البطريرك بييرباتيستا بيتسابالا:" تغيرت هذه الغرفة التي تشهد موت الابنة إلى قاعة عرس. أخذ يسوع بيدها كما يأخذ العريس عروسه، فأعطى الوالدان العروس أمام الشهود. حين نكون بخطر، كبطرس في عرض البحر، وعلى وشك الغرق، يمدّ يسوع يده ويُمسك بنا (متى14: 31).

 

42 فقامَتِ الصَّبيَّةُ لِوَقتِها وأَخَذَت تَمْشي، وكانتِ ابنَةَ اثنَتَي عَشْرَةَ سَنَة. فَدَهِشوا أَشَدَّ الدَّهَش

 

 تشير عبارة "فقامَتِ الصَّبيَّةُ لِوَقتِها " إلى إحياء الصَّبيَّة الذي يُذكِّرنا بنبوءة هوشع: "مِنْ يَدِ الْهَاوِيَةِ أَفْدِيهِمْ. مِنَ الْمَوْتِ أُخَلِّصُهُمْ. أَيْنَ أَوْبَاؤُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ شَوْكَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟" (هوشع 13:14)". يريد الله الحياة للبشر، وحياة أوفر كما يؤكد يسوع: "أَنا فقَد أَتَيتُ لِتَكونَ الحَياةُ لِلنَّاس وتَفيضَ فيهِم "(يوحنا 10: 11). وقد روى لنا الإنجيل ثلاث معجزات خاصة بإقامة السَّيّد المسيح للموتى: إقامة ابنة يائِيرس، وإقامة ابن أرملة نائين (لوقا 7: 11-17) وإقامة لعازر (متى 28: 1-8)، وهي تُمثِّل عمله الإلهي في إقامتنا من موت الخطيّئة من ناحية، وقيامته من الموتى من ناحية أخرى. أمَّا عبارة " لِوَقتِها " في الأصل اليوناني εὐθὺς (معناها في الحال أو للوقت) تشير إلى قيام الصَّبيَّة حالًا، وفي وَقتِه.  أمَّا عبارة "ابنَةَ اثنَتَي عَشْرَةَ سَنَة" فتشير إلى عمر البلوغ والزَّواج للفتاة اليهوديَّة وإعطاء الحياة؛ لكنَّها هي الآن على باب الموت. كما يدلُّ على عدد السَّنوات التي عانت فيها المرأة المَنْزوفَة. ولدى هاتين المرأتين، يرتبط العدد في الحادثين بخبرة موت وليس بخبرة حياة، ذلك لأنَّ حياتهما في هذه اللَّحظة كانت مُهدَّدة بالموت. ويُعلق القديس هيلاريوس أسقف بواتييه: " أن "اثنَتَي عَشْرَةَ سَنَة هي إشارة إلى جماعة اليهود الذين ينتسبون إلى اثني عشر سبطًا وقد سقطوا تحت الموت، فانطلق النَّاموس كقائد لهم يُعلن الحاجة إلى مجيء المسيّا ليُقيمهم".  وهناك موازاة بين الخبريْن عمر الابنة اثنَتَي عَشْرَةَ سَنَة يوم ماتت والمرأة المَنْزوفَة مُنذُ اثنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَة (مرقس 5: 25). وترتبط مدة اثنا عشر سنة بتجربة أو بتهديد بالموت بدلا من الحياة والصِّحة. إن هذين الشِّفاءيْن تمّا بواسطة الاتصال بيسوع: المرأة النَّازفة لمستْ رداء يسوع وتوقّف النَّزيف، ويسوع أمسك الصَّبيَّة بيدها، وعادت إليها الحياة.  فكلُّ من يلمس يسوع يُشفى، وكل من يلمسه أيضًا يُشفى. اظهر يسوع سلطانه على الموت بعد أن ظهر سلطانه على المرض. ومن هذا المنطلق، نستنتج أنَّ إحياء ابنة يائِيرس هو استباق لسلطان يسوع على الموت. والإيمان هو محور هاتين المُعجزتين حيث يتمَّ الانتقال من إيمان المرأة المَنْزوفَة التي بحثت عن منفعة خاصة إلى إيمان ثانٍ بلقاء شخصي بيسوع، وأخيرًا إلى إيمان الكامل بذلك الذي يقيم الموتى.   

   

43 فَأَوصاهم مُشَدِّدًا علَيهِم أَلاَّ يَعلَمَ أَحَدٌ بذلك، وأَمَرَهُم أَن يُطعِموها

 

 تشير عبارة "أَلاَّ يَعلَمَ أَحَدٌ" إلى امر يسوع بالصَّمت وكتم السَّر، لأنَّ الوقت لم يأتِ بعد للتَّعرف على قدرة يسوع في القيامة، وأنَّه ابن الله القادر على إقامة الموتى، لأنَّ هذه المعجزة لا يُدرك معناها حقاّ إلاَّ على ضوء قيامة يسوع وبعد قيامته. وبالرَّغم من أنَّ الصَّمت أمرٌ صعبٌ في مثل هذا الوضع وفي تلك الظُّروف، لكن لا يحق للتلاميذ أن يبوحوا الآن بهذا السَّر، لأنَّ الشَّعب بحاجة إلى بعض الوقت لكي يتعرّف على هوية يسوع الذي ما جاء للتَّظاهر، بل للدَّعوة إلى ملكوت الله الذي يمرُّ في الآلام والموت قبل أن يبلغ إلى القيامة. قيامة الموتى هي العلامة المسيحانيَّة الأولى التي يطبق عليها مرقس الإنجيلي نظريَّة السَّر. لكن هذا الوحي بقي سرًا لا يعرفه إلاَّ التَّلاميذ. والجدير بالذكر أنَّ يسوع فرض الصمت في شفاء الأصم الأبكم (مرقس 7: 32-37) وشفاء اعمى بيت صيدا (مرقس (8: 22-26). أمَّا عبارة " أَمَرَهُم أَن يُطعِموها " فتشير إلى حقيقة قيامة الصَّبيَّة كما يُعلق القديس ايرونيموس: "عندما كان يقيم أحدًا من الأموات يأمر بتقديم طعام له حتى لا يُظن أن القيامة وهم"، ويؤكد ذلك القديس أمبروسيوس " ثمّ أمر يسوع بأن تُطعم. هذه هي شهادة الحياة كي لا يُعتبر الأمر مجرّد خيال، بل حقيقة" (مقالة عن القدّيس لوقا 6: 58-61).

 

 

ثانيًا: تطبيقات النَّص الإنجيلي (مرقس 5: 21-43)

 

بعد دراسة وقائع النَّص الإنجيلي وتحليله (مرقس 5: 21-43) يُمكننا استنتاج النُّقطة المشتركة في المعجزتين وهي لمْسَة يسوع التي تُظهر سلطانَه على المرض والموت.  وفي الواقع، بعد أعجوبة "تسكين العاصفة" و"طرد الشَّيطان من رجل" يروي مرقس الإنجيلي (مرقس 5: 21-43) معجزتين متشابكتين في شفاء المرأة المَنْزوفَة وإحياء ابنة يائيرس، وذلك بلمس يسوع مشددًا على الإيمان. ومن هنا سنتناول نقطتين: اللمْسَة الرُّوحيَّة في الإنجيل المقدس وأبعادها ضد المرض والموت والخطيئة والخوف والعبوديَّة.

 

1) اللمْسَة الرُّوحية في الإنجيل المقدس

 

وردت لفظة اللَّمس ἅπτω في الأناجيل ثلاثين مرة في علاقتها مع معجزات الشِّفاء. وبهذه المعجزات يُحقِّق يسوع نبوءة أشعيا "ها أَن هذه قد مَسَّت شَفَتَيكَ، فأُزيلَ إِثمُكَ وكُفِّرَت خَطيئَتُكَ" (6: 5-7). وتشير هذه اللمْسَة إلى ما صرّح به نعمان السَّوري لدى شفائه من البرص على يد النَّبي اليشاع: "كُنتُ أَحسَبُ أنّه يَخرُجُ ويَقِفُ ويَدْعو باسم الرَّبِّ إِلهِه ويحَرِّكُ يَدَه فَوقَ المَكانِ ويَشفِي البَرَص" (2 ملوك 5: 11).

 

برأ الأبرص عندما لمس يسوع بيده كما ورد في إنجيل مرقس "فأَشفَقَ عليهِ يسوع ومَدَّ يَدَه فلَمَسَه فزالَ عَنهُ البَرَصُ لِوَقِته وبَرِئ" (مرقس 1: 40)؛ وكذلك شفى يسوع الأصم المعقود اللِّسان بلمس لسانه، إذ "جعَلَ إِصبَعَيه في أُذُنَيه، ثُمَّ تَفَلَ ولَمَسَ لِسانَه" (مرقس 7: 33). المرض هو تعبير عن شقاء الإنسان وحالته الزَّائلة. أمَّا لمْسَة المسيح فتشفيه من مرضه وتُحرِّره من الخطيئة التي تقوده إلى الموت.

 

ذكر إنجيل مرقس أيضًا الشِّفاء من عَللٍ كثيرة مرتين من خلال اللَّمس: " إذ شَفى كَثيرًا مِنَ النَّاس، حتَّى أَصبَحَ كُلُّ مَن بِه عِلَّةٌ يتَهافَتُ علَيه لِيَلمِسَه" (مرقس 3: 10) "وحَيثُمِا كانَ يَدخُل، سَواءٌ دَخَلَ القُرى أَوِ المُدُنَ أَوِ المَزارِع، كانوا يَضَعونَ المَرْضى في السَّاحات، ويَسأَلونَه أَن يَدَعَهم يَلمِسونَ ولَو هُدْبَ رِدائِه. وكانَ جميعُ الَّذينَ يَلمِسونَه يُشفَون" (مرقس 6: 56). وقد لاحظ المرضى "أنّ قوَّة كَاَنت تَخرُجُ مِنهُ فتُبرِئُهُم جَميعًا؛ لذا "كانَ الجَمعُ كُلُّه يُحاوِلُ أَن يَلمِسَه" (لوقا 6:19) أو لمس ردائِه، كما كان الحال مع المرأة المنزوفة (مرقس 5: 27) أو "يَلمِسونَ ولَو هُدْبَ رِدائِه" (مرقس 6: 56). فكل من كان يلمسه بإيمان، كان يشفى (مرقس 5: 56) أو يخلص διεσώθησαν (متى 14: 36) لأنه لمس المسيح، مصدر الحياة. ويدلُّ الشِّفاء على أنَّ الله يريد الحياة للبشريَّة (يوحنا 10: 10). وشرط الشِّفاء الوحيد هو الإيمان. وقد كشف يسوع إلى المرأة المنزوفة القوَّة الإلهيَّة التي تنبعث منه لما حاولت أن تفهم الشِّفاء ولمسته بإيمان كما جاء في جوابه "يا ابنَتي، إِيمانُكِ خَلَّصَكِ" (مرقس 5:34).

 

عرف يسوع كثير من النَّاس، البعض سعى إليه مثل يائيرس والمرأة المنزوفة، أمَّا هو فقد سعى اليهم جميعًا، دون اعتبار لعظمتهم مثل الحاكم الرُّوماني (مرقس 5: 15: 1-15) قائد ديني بارز (يوحنا 3: 1-21) رجل قانون (متى 22: 34-35) ملك (لوقا 23: 23 7-11) قائد مئة روماني (لوقا 7:1-10) أو احد رجال الحكومة (يوحنا 4: 46-53) رئيس الكهنة (متى 26: 62-68) نبي (متى 3)، أو حقارتهم مثل جابي الضَّرائب المحتقر (متى 9/9) والأبرص المنبوذ (لوقا 17: 11-19) خائن (يوحنا 13: 1-3) رجل مشلول عاجز (مرقس 2: 1-12) أو تلميذه يَشكُّ فيه (يوحنا 2:24-29) أو عدوه يكرهه (أعمال 9: 1-9)؛ سواء كانوا أغنياء مثل الشَّاب الغني (مرقس 9: 17-27) والرَّجل الغنيّ (مرقس 10: 17-23)؛ أم فقراء مثل الأرملة الفقيرة (لوقا 7: 11-17) والشَّحاذ الأعمى (مرقس 10: 10: 46) سواء كانوا خطأة مثل المرأة الزَّانيَّة (8: 1-11) اللِّص اليمين (لوقا 23: 40-43) أم قديسين مثل الرُّسل والتَّلاميذ، فيسوع يهتم بالجميع على حد سواء، وليس أحد يخرج عن دائرة لمْسَة محبته. ومن هنا نجد أبعاد للمس الرُّوحي للجميع: ضد المرض والموت والخطيئة والخوف والعبوديَّة

 

2) أبعاد اللمْسَة الرُّوحيَّة: ضد المرض والموت والخطيئة والخوف والعبوديَّة

 

ا) لمْسَة شفاء ضد المرض

 

يظهر سلطان يسوع على المرض من خلال لمسات يسوع: "كانوا يَضَعونَ المَرْضى في السَّاحات، ويَسأَلونَه أَن يَدَعَهم يَلمِسونَ ولَو هُدْبَ رِدائِه. وكانَ جميعُ الَّذينَ يَلمِسونَه يُشفَون" (مرقس 6: 56) "كانَ الجَمعُ كُلُّه يُحاوِلُ أَن يَلمِسَه، لأَنَّ قُوَّةً كَاَنت تَخرُجُ مِنهُ فتُبرِئُهُم جَميعًا" (لوقا 6: 19). "الَّذينَ مسَّ اللهُ قُلوبَهم" (1 صموئيل 10: 26). وأجلى مثال على لمسات يسوع ضد المرض هي معجزة المرأة المنزوفة (مرقس 5: 25-34). قد تألمت هذه المرأة جسديًا وماديًا أيضًا، لأنَّها أنفقت كل ما عندها، وتألمت نفسيًا أيضًا لأنّها مريضة ولا تملك المال، وتألَّمت اجتماعيًا أيضًا، لأنَّه في ذلك الوقت كانت الشَّريعة تعتبر المرأَةٌ نازفة الدَّم نجسة ومرفوضة من المجتمع. لذا تريد المرأة أن تتستَّر، لأنَّها كانت تخجل من مرضها، ولأنَّها كانت في حالة نجاسة شرعيَّة من النَّاحية الطَّقسيَّة كما تنص الشَّريعة الموسوية: "أَيَّةُ آمَرأَةٍ سالَ دَمُها أَيَّامًا كَثيرةً في غَيرِ وَقْتِ طَمثِها أَوِ آمتدَّ السَّيَلانُ إلى ما بَعدَ وَقتِ طَمْثِها، تكونُ في جَميعِ أَيَّامِ سَيَلانِ نَجاسَتِها كما في أَيَّامِ نَجاسَةِ طَمْثِها: إِنَّها نَجِسَة (الأحبار 15: 25). فهي نجسة وتنجّس كل من يلمسها. ولعلَّ ذلك هو السَّبب في أنَّها أتت من وراء يسوع حتى لا يراها أحدٌ.  

 

كان الاعتقاد قديمًا هو أنَّه حتى المناديل والمآزر التي يُؤتى بها من الشَّخص الذي له القدرة على الشِّفاء كان بها قوَّة شافية كما حدث مع بولس الرَّسول "حتَّى صارَ النَّاسُ يأخُذونَ ما مَسَّ بَدَنَه مِن مَناديلَ أَو مآزِر فيَضَعونَها على المَرْضى فَتَزولُ الأَمراضُ عنهُم، وتَذهَبُ الأَرواحُ الخَبيثة" (أعمال الرُّسل 19: 12)؛ وكذلك ظل الشَّخص الذي له القدرة على الشِّفاء يشفي كما حدث مع بطرس الرَّسول "حتَّى إِنَّهم كانوا يَخرُجونَ بِالمَرْضى إلى الشَّوارِع، فَيَضعونَهم على الأَسِرَّةِ والفُرُش، لِكَي يَقَعَ ولَو ظِلُّ بُطرُسَ عِندَ مُرورِه على أَحَدٍ مِنهُم" (أعمال الرُّسل 5: 15). فحالما مسّت المرأة ثياب يسوع شفيت فورًا. ولكن يسوع لم يدعْها تمضي بدون أن يُفهمها ما حدث، فطرح سؤال "مَن لَمَسَ ثِيابي لشعوره بقوة الحياة الّتي تخرج منه لوقته؟" (مرقس 5: 30)؛ لانَّ يسوع أراد أن يجعلها تقف أمامه وأمام الآخرين بكرامة ودون أن تكون أسيرة للخوف، لأنَّها ابنة للرَّبِّ، وتعلن علنيًّا على أنَّ شفاءها استجابة لِلمْسَة إيمانها، وليس صادرًا عن طاقة نفسيَّة أو علامة سحريَّة. لم تكن هناك قوَّة سحريَّة في ثياب يسوع، وإنَّما ينسب يسوع شفاء المرأة إلى إيمانها: "يا ابنَتي، إِيمانُكِ خَلَّصَكِ، فَاذهَبي بِسَلام، وتَعافَي مِن عِلَّتِكِ" (مرقس 5: 43).

 

إن يسوع الذي تنبَّه للمُعاناة الإنسانيَّة، يدعونا أن نسير على خطاه، وان نفكِّر أيضًا بأولئك الذين يساعدون المرضى على حمل صليبهم بإيمانٍ وفرح، وخاصة الأطباء، والممرِّضين ومقدمي العناية الصَّحيَّة، بالإضافة إلى أولئك الذين يقدِّمون الخدمات الرُّوحيّة والإرشادات الدِّينيَّة خلال العِلاجات الطِّبيَّة وأحيانًا النَّفسيَّة.

 

نستنتج مما سبق أنَّ الإيمان بالمسيح هو شرط ٌ لا بدَّ منه لكلِّ شفاء ومعجزة. والإيمان حسب نصوص معجزات يسوع هو "لمس يسوع المسيح"، ولمسه يعني ملاقاته والوثوق به التَّعرّف إليِّه شخصيًّا. وأكد يسوع أنَّ الإيمان شفاها، والإيمان الحَي يقتضي عملا، والإيمان الذي لا يتحوَّل إلى عمل، ليس إيمانًا. فالإيمان ليس خبرة ذاتيَّة، بل علاقة شخصيَّة مع يسوع. الإيمان هو اختبار روحي يبدأ بمغامرة روحيَّة ومُؤسِّسُه ومنفِّذُه هو الله نفسه. وبعبارة أخرى، لمْسَة المرأة المنزوفة هي لمْسَة إيمان شخصي ناجم عن شعور عميق بالحاجة والاقتناع بقوَّة يسوع الشَّافية. إيمان لا يعرف الخوف ولا التَّعب ولا يضع شرطَا ولا يتَّخذ حُجَجًا. لذلك فان هذه اللمْسَة تختلف عن لمس الجمع الذين كانوا يزحمون يسوع (مرقس 5: 31). فإيمان هذه المريضة هو الذي ميَّزها عن الكثيرين غيرها، الذين كانوا مثلها يطلبون الشِّفاء. ومجرد لمس هُدْبَ ثوب المسيح مقرونًا بالإِيمان، كان باب الخلاص لها، وقد قال الكتاب المقدس: "فالإِيمانُ بِالقَلبِ يُؤَدِّي إلى البِرّ، والشَّهادةُ بِالفمِ تُؤَدِّي إلى الخَلاص" (رومة 10:10). بينما معاشرة يهوذا الإِسخريوطي للمسيح ومساكنته ثلاث سنين دون إيمان لم تأت بهذه النَّتيجة، بل زادته دينونة.

 

ب) لمْسَة الحياة ضد الموت

 

سلطان يسوع لا يقتصر على المرض بل يمتد إلى ما وراء القبر، إلى الموت. ويظهر سلطان يسوع على الموت في لمْسَة ابنة يائِيرس، رئيس المجمع وإحيائها من الموت (مرقس 5: 21-24، 35-43). ويُعلق القديس كيرلس الإسكندري: "إنّ الرّبَّ لم يمنح كلماته القديرة على إحياء الموتى فحسب، إنّما لكي يُظهر أيضًا أن جسده هو جسدٌ مُحيي، كان يلمس الموتى فينفخ الحياة في أجسادهم الميتة". لم يخلق الله الإنسان للموت بل للحياة كما قال صاحب الحمة "لأَنَّ اللهَ لم يَصنعِ المَوت ولا يُسَرّ بِهَلاكِ الأَحْياء فإِنَّه خَلَقَ كُلَّ شيَءٍ لِكَي يَكون"(الحكمة 1: 13).  الله لم يخلق الموت بل هو سيّد ومانح الحياة.  إذ يكشف يسوع إنّ سلطان الموت مؤقت، وليس نهائيًا، والموت ليس له الكلمة الأخيرة! كما أنّ كلّ إنسان ينام ثمّ ينهض من النوم، هكذا يكون الموت بالنسبة ليسوع على الصّليب حيث سيقوم بشكل أبديّ.

 

جاء يائِيرس إلى يسوع في كفرناحوم وهو على شاطئ البحيرة وسجد له طلبًا الشِّفاء لابنته قائلًا: "تَعالَ وضَعْ يَدَيكَ علَيها لِتَبرَأَ وتَحيا" (مرقس 5: 23). فأظهر يائِيرس كامل إيمانه بالمسيح مُتحديًا كلام النَّاس عندما أخبروه أنَّ ابنته قد ماتت. وأصبحت الحياة ممكنة عندما يتقبل المرء محدوديته ويتوقف عن رغبته في تخليص نفسه بنفسه، ويلجأ إلى من يستطيع فعلًا أن يمنح الحياة، ويسعى وراء الرَّبِّ للحصول على الحياة. ويُعلق القديس يوحنّا بولس الثَّاني البابا:" وهنا نرى كيف أن الرَّبَّ يسوع يأتي لملاقاة البشريَّة في المحطّات الأكثر صعوبةً والأكثر ألمًا. إن المعجزة التّي قام بها الرّبُّ في بيت يائِيرس تُظهر لنا قدرته المُضادّة للشّر. إنّه ربُّ الحياة والمُنتصر على الموت" (حديث بتاريخ 02/04/1987 موجّه إلى شباب التشيلي).

 

أتمّ يائِيرس الشُّروط الأربعة اللَّازمة لنيل المعجزة، وهي: القدوم إلى المسيح. والاتضاع أمامه، والحرارة في الطَّلب والإيمان الحي به. فوطّد يسوع إيمان يائيرس بالرَّغم من أن الشُّكوك لا تزال تحوم حول يسوع: "وضحكوا منه" عندما قال أنَّها نائمة. يعلق القدّيس أمبروسيوس: "عندما نؤمن بالقيامة، لا نرى في الموت نهاية بل راحة دائمة" (مقالة عن القدّيس لوقا 6: 58-61). يساعدنا يسوع من خلال هذه المعجزة للاقتراب من أحد أعظم مظاهر هويته كإنسان وكإله معًا.

 

الموت في نظر يسوع ليس موتًا، بل رقادًا يسبق اليقظة. فدخل يسوع مع ثلاثة من رسله وِأَبي الصَّبيَّةِ وأُمِّها إلى غرفة الموت، وبسلطانه أمسك يد الجُثَّة، وكلّم الرُّوح التي فارقت الجسد، وأُرجِعها إليه بقوله: "يا صبيَّة قومي" (مرقس 5: 41).  وللوقت قامت الصَّبيَّة ومشت. ثم أمر أبويها أن يقدّما لها طعامًا. فأحدثت هذه المعجزة دهشة عظيمة فتحقَّقت نبوءة أشعيا "يُزيلُ المَوتَ على الدَّوام وَيمسَحُ السَّيِّدُ الرَّبُّ الدُّموعَ عن جَميعِ الوُجوه" (أشعيا 25: 8). ووصف الرَّسول بولس عمله أنه "أَبْطَلَ الْمَوْتَ وَأَنَارَ الْحَيَاةَ وَالْخُلُودَ" (2 طيموتاوس 1:10). حصل يائِيرس على إحياء ابنته بفضل إيمانه "أَمَّا الْبَارُّ فَبِالْإِيمَانِ يَحْيَا" (رومية 1:17). ونجد لمْسَة الحياة ضد الموت أيضًا في إحياء ابن أرمله نائين (لوقا 7: 11-17)؛ إذ تقدم يسوع ولمس النَّعش وقال: "يا فتى، أقولُ لَكَ: قُمْ! هل تحتاج لقوَّة الحياة بأن تملأ قلبك، أفكارك، كلامك، خدمتك وعلاقاتك؟  ويعلق القدّيس كيرِلُّس، بطريرك الإسكندريّة " فإذا كان مجرّد لمس جسده المقدّس أعطى الحياة لأولئك الأموات، فكم بالحريّ هي الفائدة الّتي نجنيها من تناولنا الإفخارستيّا المُحْيِيَّة " (شرح لإنجيل يوحنّا، 4). لنطلب لمْسَة يسوع بإيمان!

 

ج) لمْسَة التَّقديس ضد الخطيئة

 

نجد لمْسَة التَّقديس ضد الخطيئة في معاملة يسوع مع الخطأة. يسوع هو القُدُّوس، هو الكلي القداسة، إنه الطَّاهر الذي لم يعرف الخطيئة. وعندما كان يتجوّل في خدمته، كان يجلس مع العشَّارين والخطأة ويأكل معهم، وأجمل مثال على ذلك المرأة الزَّانيَّة (يوحنا8: 1-11) اللَّص اليمين (لوقا 23: 40-43) لقد لمسهُ هؤلاء النَّاس ونالوا حالًا الشِّفاء. لمْستُهم لم تُنجس يسوع، بل قدّستهم وصاروا أصحّاء! الم يقلْ سيدنا يسوع المسيح: "ما جِئتُ لأَدعُوَ الأَبرار، بلِ الخاطِئين" (مرقس 2: 17).

 

يسوع لم تنجسه قط لمْسَة من إنسان نجسٍ بحسب الشَّريعة: فقد لمس الأبرص الذي كان من المفروض أن يكون مُنعزلًا عن النَّاس بسبب مرضه (مرقس 1: 40)، ولم يوبِّخ المرأة المَنْزوفَة عندما لمست هُدْبَ ثوبه (مرقس 5: 25). كذلك عندما لمس نعش الشَّاب الميت، رغم أن هذا العمل كان مُعارضًا للشَّريعة اليهوديَّة، لكن يسوع أسمى وأعلى من أي قوانين وشرائع، إنه إله مجيد!  النَّجاسة الحقيقيَّة لا تأتي من أمور خارجيَّة، مثل نزيف الدَّم، والبرص، بل من داخل قلب الإنسان، كما علّم الرَّبُّ يسوع ذات يوم: " ما مِن شَيءٍ خارجٍ عنِ الإِنسان إِذا دخَلَ الإِنسانَ يُنَجِّسُه. ولكِن ما يَخرُجُ مِنَ الإِنسان هو الَّذي يُنَجِّسُ الإِنسان... أَنَّهُ مِن باطِنِ النَّاس، مِن قُلوبِهم، تَنبَعِثُ المَقاصِدُ السَّيِّئةُ والفُحشُ وَالسَّرِقَةُ والقَتْلُ والزِّنى والطَّمَعُ والخُبثُ والمَكْرُ والفُجورُ والحَسَدُ والشَّتْمُ والكِبرِياءُ والغَباوة. 23 جَميعُ هذِه المُنكَراتِ تَخرُجُ مِن باطِنِ الإِنسانِ فتُنَجِّسُه" (مرقس 7: 14، 14، 15، 20،219).  ومهما كنَّا خاطئين، ونرى نفوسنا بأنَّنا في حالة النَّجاسة، يكفي أن نأتي إلى يسوع ونطلب لمسته ننال الشِّفاء من خطايانا، وتتقدس حياتنا وأفكارنا وكلامنا، ونصير إنسانًا جديدًا مُكرسًين لله.

 

د) لمْسَة الأمان ضد الخوف

 

نجد لمْسَة الإيمان ضد الخوف في حادثة التَّجلي حيثِ "استَولى علَي التَّلاميذ خَوفٌ شديد. فدنا يسوعُ ولمَسَهم وقالَ لَهم: "قوموا، لا تَخافوا" (متى 17: 6-8). لكن ما أعظم لمْسَة يسوع، ما أن لمست المرأة المَنْزوفَة الخائفة السَّيد المسيح حتى شعرت سلام القلب، ثمرة إيمانها. وكذلك لمس يسوع تلاميذه الخائفين المُضطربين، فرَدَّ السَّلام إلى نفوسهم. إن قلبه مليء بالحنان والحُب ِّوالعطف، وهو يَرثِيَ لِضُعفِنا (عبرانيين 4: 15)، ولقد اقترب من تلاميذه الضُّعفاء بكل محبَّة، ولمسهم وأقامهم.

 

تكلم الكتاب المقدس كثيرًا عن الخوف، حيث هنالك وعود كثيرة من الرَّبِّ تُشجِّع على عدم الخوف. يسوع نفسه يتفهم مخاوفنا واضطراباتنا، هنالك مخاوف كثيرة في حياتنا: مخاوف من المستقبل، مخاوف من المجهول، مخاوف من التَّغيير. يسوع يتفهم خوفنا، لأنَّه "امتُحِنَ في كُلِّ شَيءٍ مِثْلَنا ما عَدا الخَطِيئَة" (عبرانيين 4: 15). وقبل الصَّلب "جعَلَ يَشعُرُ بالرَّهَبةِ والكآبة. فقالَ لتلاميذه: "نَفْسي حَزينَةٌ حتَّى المَوت". لذلك فهو يعرف تمامًا هذا الشُّعور.

 

في حادثة أخرى، تُبيِّن لمْسَة الأمان ضد الخوف من خلال حادثة إنقاذ بطرس من الغرق "عندَما رأَى بطرس شِدَّةَ الرِّيح، فَأَخَذَ يَغرَق في المياه "فمَدَّ يسوعُ يَدَه لِوَقْتِه وأَمسكَه"، وما إن أصبحت يد بطرس في يد يسوع، حتى عاد السَّلام إلى قلبه وسار على المياه بأقدام ثابتة (متى 14: 22-33). لمْسَة يسوع تُحَوّل القلب الخائف والمُضطرب إلى قلبٍ ثابت يشعر بأمان! لذا علينا ألاَّ نسمح مطلقًا لمخاوفنا أن تمنعنا من الاقتراب منه.

 

ه) لمْسَة تحرِّر ضد العبوديَّة

 

نجد لمْسَة يسوع ضد العبوديَّة خاصة في حادثة شفاء المرأة المنحنيَّة الظَّهر (لوقا 13: 10-17). لقد كانت المرأة مُقيدة بروح مرضٍ لمدة ثمانيَ عشرةَ سنة، ولم تستطع أن تنتصب بسبب هذا القيد! ولم تستطع أن تتمتع بالنَّظر في وجوه النَّاس، بل كانت تنظر إلى الأرض دائمًا، وكان ظهرها مُحّدَبًا. فجاء يسوع وحرَّرها من العبوديَّة وذلك "بوَضَعَ يَدَيهِ علَيها، فانتَصَبَت مِن وَقْتِها" (لوقا 13: 13).

 

هناك قيود وأتعاب جعلتنا منحنيِّن إلى أسفل، حيث يمكن أن نكون عبيد لعادة معينة مثل: التَّدخين، الحلفان باسم الله باطلا، النَّميمة، وقيود جنسيَّة. أو قد تثقل ظهورنا الهموم والمشاكل فننحني ولا نستطيع الوقوف! لكن هذه المرأة تحررت بمجرد لمْسَة واحدة من يسوع، وانتصبت ومجدَّت الله. فلنتقدم نحن أيضًا إلى يسوع بثقة، ولندعه كي يلمسنا ويحرِّرنا من عبوديتنا.  اللمْسَة الرُّوحيَّة تُعلمنا أن نعي عجزنا في التَّغلب على الشَّر وحدنا، بل إنَّنا بحاجة أن نبحث بإيمان عن الخلاص في يسوع المسيح الطَّبيب والحياة. 

 

 

الخلاصة

 

بعد أن واجه السَّيد المسيح العاصفة وأخضعها (مرقس 4: 35-41)، واجه المرض والموت (مرقس 5: 21-43) مُحطمًا شوكتهم بلمسة حبِّه. قد لا يؤمن الإنسان المعاصر بالشِّفاء عن طريق اللَّمس. التي تتحدث عن المرأة المنزوفة. إذ بعد أن نالت الشفاء من يسوع بخفية، تُدعى إلى إظهار نفسها (مرقس 5: 30). فتستجيب، لكنها تفعل ذلك بخوف (مرقس 5: 33).

 

 الواقع ليس اللَّمس الذي يُشفي، إنَّما يسوع هو الذي يبعث في المريض إيمانًا بان يلمسه. فمن لا يؤمن، ويلمسه خارجيا فقط، لن يختبر يسوع وبالتَّالي لن يحصل على الشِّفاء (مرقس 5: 31). أمَّا من يلمس يسوع بإيمان فذاك الذي يشترك في قوَّته الإلهيَّة كما حدث مع المرأة المنزوفة، وكما شفاء يسوع الصَّبي المصاب بالصَّرع "فأَخَذَ يسوعُ بِيَدِه وأَنَهَضَه فقام" (مرقس 9: 27). وهناك أيضا مثال الأمهات اللَّواتي كنَّ يقدمن أطفالهن ليسوع كي يباركهم ويصلي عليهم "وأَتَوهُ بِأَطفالٍ لِيَضَعَ يَدَيهِ علَيهم" (مرقس 10: 13). وليس لهذا اللَّمس أي علاقة في السِّحر، بل إنَّها عادة يهوديَّة يستخدمها علماء الشَّريعة.

 

كيف يمكن أن "نلمس" يسوع اليوم ونَنال المُعجزة التي نريدها؟ من خلال الكلمة؛ عندما تتأصل روحنا مع الكلمة. إن تركنا كلمة الرَّبِّ "تلمسناَ"، فكأنَّ يسوع يلمسنا. إن هذه اللمْسَة تتخطى الحواس؛ إنَّنا نؤمن بروحنا. يقول الكتاب "فالإِيمانُ بِالقَلبِ يُؤَدِّي إلى البِرّ" (رومة 10:10). عندما نؤمن بكلمة الرَّبِّ، ونتجاوب وفقًا لإيماننا، نحن نتواصل مع قوَّة الرَّبِّ. والقوَّة تعمل فقط عندما نؤمن بروحنا ونتصرف بناءً على ذلكَ؛ هذا هو الإيمان: إنَّه استجابة الرُّوح البشريَّة لكلمة الله.

 

الرَّبُّ يريدنا أن نلمسه لمْسَة إيمان. مهما كانت مشكلتنا اليوم. من خطيئة وزنى ومرض وكذب… الرًّبُّ مشتاق أن نلمسه ليُشفينا من كل مرض وموت وخطيئة وخوف وعبوديَّة. لمسته قويَّة، شافية، محرّرة ولها أعظم تأثير. إنها لمْسَة تُغيّر، تُحرّر وتشفي ليس فقط الجسد، وإنما الفكر والنَّفس والرُّوح، لمْسَة تُغيّر المصير! وبوسعنا ألاَّ نلمس طرف ردائه بل جسده ودمه في القربان المقدس. هذا هو إلهنا المبارك، ربنا يسوع المسيح، الذي قيل عنهُ "جَميعُ الَّذينَ لَمَسوه نالوا الشِّفاء " (متى 14: 36).

 

 

دعاء

 

أيها الآب السَّماوي، أنتَ يا من أرسلت ابنك يسوع المسيح إلى أرضينا لكي يهتم بحاجاتنا ويُحرِّرنا من مخاوفنا التي تمنعنا من الاقتراب منه، دعه يلمس حياتنا بقوّته فنعرف حدودنا ونلجأ إليه ونؤمن بالمستحيل، لأنَّه هو وحده القادر أن يشفينا من أمراضنا، ويُعيد إلينا الحياة من خلال علاقتنا الشَّخصيَّة معه على مثال المرأة المَنْزوفَة ويائيرس رئيس المجمع. وها نحن نستودع ذواتنا وحياتنا بين يديك يا رب، ونؤمن بأنَّك تأخذ بيدنا وتدعونا لنقوم، فتحقَّق فينا كلمتك القدوسة "إيمانُنا خَلّصَنا".‏ آمين