موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
"إفرحي" , هي مستهلّ بشارة مريم من قبل الملاك جبرائيل (لوقا 1: 26-38) . يكشف الملاك بسلامه هذا عن دعوة اللـه لمريم , أن تفرح ! وهذه الكلمة هي ليست التحية الاجتماعية المعهودة باللغة العبريّة آنذاك , "شلوم لخ" , التي تستخدم أيضا بالسريانية , وقد اعتُمدت في الصلاة الشعبية . إنها بالأحرى تلخّص ما ستؤول إليه رسالة الإله المتجسّد , أي الفرح . هذه الكلمة تكشف السبب الذي لأجله يأتي اللـه إلى هذه الأرض , ليعطي , بمريم , فرحه إلى جميع أهلها . فرسالة اللـه ليست مجرّد إرساء سلام إجتماعي , هدوء نسبي , معايشة مسالمة , أو رضى متبادل بين البشر . رسالة الكلمة المتجسّد , يسوع , لا تقتصر على الاجتماعي , لكنّها رسالة ملكوتية , جاء ليؤسّس بها الملكوت الالهي على الارض بشكل نهائي . وهذا الملكوت سيشمل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والديني والى ما هنالك من أبعاد تُعنى بحياة البشر المشتركة. تتكرّر هذه البشارة بالفرح في ظهور ملاك الربّ للرعاة الذي بشرهم بفرح عظيم يكون فرح الشعب كلّه (لوقا 2: 10). وتظهر غاية اللـه من ظهوره جليًّا بعد أن أتمّ يسوع رسالته على الأرض , وهي فرح القائم في انجيل يوحنا , الذي سيعود ليرى تلاميذه فتفرح قلوبهم , وهذا الفرح لن ينتزعه منهم أحد (يوحنا 16: 22). ما مضمون هذا الفرح؟ هو عطيّة الربّ ونعمته : إفرحي أيتها المنعم عليها , يقول الملاك . فالفرح والنعمة متلازمان , لأنه فرح فداء الربّ لشعبه وخلاصهم , فرح تضامن الربّ مع البشر تضامنا كاملا , لأنه لا يمكن ولا يجوز أن يكون ناقصًا (ابن العسّال). فالكامل يتضامن بالكامل . ما يجعل التجسّد موجِبًا يعبّر عن هوية اللـه وكيانه . فلا إله إلا اللـه المتجسّد . هذه هي بالفعل البشارة المسيحية! هذه الدعوة الى الفرح هي امتداد واستمرارية وتحقيق لوعد اللـه في تاريخ الخلاص في الكتاب المقدّس . ففي سلام جبرائيل لمريم صدى لنبؤة صفنيا التي بها ينادي اللـه بنت أورشليم لأن تهلّل وتفرح بكلّ قلبها لأن الربّ إلهها في وسطها - في أحشائها (صفنيا 3: 14-17). إنّما الفرح هو في معيّة الربّ . جاء الربّ ليكون مع شعبه , وهذا هو الفرح الحقيقي . الربّ في وسط شعبه , الربّ في أحشاء مريم , وهذا هو الفرح المنشود . فالربّ بتجسّده في مريم ومنها , يحلّ في وسط شعبه , فيحقّق بها الوعود لصهيون النبي صفنيا , لكن بطريقة جديدة . فتصبح مريم مكان سكنى الربّ حيث يقيم في وسط شعبه , كخيمة الموعد وتابوت العهد . فالكلمة المتجسّد فيها هو شريعة الربّ واكتمالها (لوحي الوصايا في التابوت) , وهو قوة الربّ المخلّصة (العصا) , وهو الخبز السماوي (المنّ) زوادة الطريق نحو الخروج النهائي الى المدينة السماوية. إن كان الفرح هو الشعور الملائم للبشارة , فما مضمونه؟ تحمل مريم بولد يمنحه اللـه لقب ابن اللـه , ويكون له عرش داود أبيه وسيملك على بيت يعقوب الى الأبد وملكه لن يكون له نهاية . في ذلك تحقيق للعهد مع داود الملك ووعد اللـه له في أن يقيم خلفا له من نسله ويخرج من صلبه , ويثبت ملكه ويكون عرشه راسخا للأبد (2 صموئيل 7 , 16) . امرأة بسيطة , من بلدة هامشية لا تذكرها الكتب , تعلم من ملاك أن وعد الربّ للملك داود العظيم سيتحقّق فيها . هكذا بشارة هي بدون شك مصدر خوف , لذلك "لا تخافي", وهي غير معقولة , لذلك شرح الملاك لواقع جديد كلّيا لكنه مرتبط مع المفهوم الديني للعهد القديم (البابا بندكتس السادس عشر). فمضمون هذه البشارة هو "معنا اللـه" , "الربّ يخلّص" , "يسوع" , هو الـ"هو" , الاسم . هذا الكشف الالهي , بدأ بحوار مع مريم بكلمة افرحي , تجيب عليه بشعور القلب أولا , ثم بسؤال العقل , وأخيرا بقرار الارادة . ردّ فعل مريم الاول كان الشعور بالاضطراب , الشديد . إن الحضور الالهي رهيب ومهيب حتى لو استلحقها بالطمأنة , بكلمة لا تخافي وبذكر اسمها . لم يستول عليها الخوف كزكريا (لوقا 1: 12) , لكنها فكرت في داخلها حول سلام الملاك , وفيما عسى أن يكون سلام رسول اللـه (لوقا 1: 29). ومعروف عن مريم هذا الميل الى استبطان الاشياء لتفهم مصدر سلام الملاك لها وحقيقته , هي التي تحفظ جميع هذه الامور وتتأملها في قلبها (لوقا 2: 19, 51) , وهذا ما يميّزها . بعد الاطمئنان , يعلن الملاك المهمة الموكلة الى مريم بأنها ستحمل بابن اللـه , كمال وعوده للآباء والملوك والانبياء وتحقيقها . لم تسأل مريم عن مضمون الكلام لأنها مؤمنة به , ولم تطلب برهانا لحقيقته كما فعل زكريا الذي شك . لكن صعُبَ على مريم أن تتصوّر حبلها من دون رجل . فيؤكد لها الملاك أنها لن تصبح أما بالطريقة العادية , ويشرح لها عن كيفية الحمل بقدرة اللـه وحلول الروح القدس , إذ ما من شيء يعجز اللـه (لوقا 1: 37). وهنا يأتي الكلام على عذروية مريم الذي أراد لوقا من قارئيه أن لا يفوّتوها . لقد تمّ في العالم التشديد والتركيز بشكل مبالغ فيه على العذروية الجسدية لمريم , الى حدّ التغاضي أو حتى نسيان المعنى الحقيقي لها , والى حدّ تشويه التاريخ وضرب التقاليد المعتمدة في المجتمع اليهودي آنذاك (فتاة تُزوّج الى فتى أو شاب) , كلّ ذلك هروبا من إحراجات في موضوع الجسد , لا داعي لها على الاطلاق . فجُعل يوسف عجوزا مسنّا قد أشبعته السنون , أو أرملًا له أولاد من زوجة سابقة سبق وحقّق رغباته كرجل . إن ذلك لا يخدم عفة يوسف ولا عذروية مريم , بل بالعكس . إنه يضع يوسف على هامش رسالة التجسّد الالهي بينما جعله اللـه شريكا فيها (متى 1: 20-21) , ومن مريم مجرّد أداة للربّ ليولد منها وينتهي دورها . إن الكلام على مريم العذراء ليس كلاما عن عذروية مريم بالأساس , لكنه بالأحرى كلام عن ألوهية المولود منها ومصدره الالهي كما بيّنه لوقا . لذلك مريم هي عذراء ويوسف عفيف . يثمر حوار مريم مع رسول اللـه قرارا , تصميما , بأن يكون لها بحسب قوله . عبّر الآباء القدماء بأن مريم حملت من الأذن , بسمعها , وأصبحت أمًا . كان لا بدّ من جواب بشري حرّ بالايجاب , ليصير الكلمة بشرا . إن رفض البشر لتحقيق وعود اللـه لهم سيعيق إتمامها . الشكر لمريم , ابراهيم الجديدة , أم المؤمنين , التي آمنت بأن ما بلغها من عند الربّ سيتمّ (لوقا 1: 45). هنا يتجلّى فقر مريم في انفتاحها على طرق اللـه العجيبة وفي حريّتها باختيارها , بدون أن تفرض على الربّ حلولها بتمسّكها ببرّها . هنا أيضا عذروية مريم , أن يكون لها بحسب قول الربّ , وحسب , لا بحسب أقوال آخرين . وتظهر طاعتها في إيمانها أن قول الربّ سيتمّ , لا أن تتمّمه بنفسها . بحساسيّتها , بإصغائها , بتأمّلها , بإيمانها , بكلّيتها , بها , صار التجسّد حقًا والفرح فعلًا ! صفنيا 3: 16-17 افرَحي وتَهَلَّلي بِكُلِّ قَلبِكِ، يا بِنتَ أُورَشَليم، [...]، في وَسَطِكِ الرَّبُّ إِل?هُكِ !