موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢٠ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٢

الفريسي والعشار

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
الفريسي والعشار

الفريسي والعشار

 

الأحد الثلاثون (الإنجيل لو 18: 9-14)

 

لا يوجد في الكون كلِّه، الّذي يَعدُّ أكثر من 7 مليارات ونصف، شخصان متشابهان بكلِّ شيء، حتّى وإن كانا توائم أو من القرابة الدّموية. فكلّ واحد يختلف عن الآخر، وهذا ما نسمّيه علامات مُميِّزَة، تُفرِّق الواحِدَ عن الآخَر.

 

هذا وماذا نقول عن الاختلافات الدّاخلية؟ فهي أيضا كالاختلافات الخارجية، لا حدود لها. يهوديّان الأوّل فريسي والثاني عشّار، كلٌّ على حاله، يدخلان الهيكل للصّلاة. يسوع كمراقب من بعيد، يصف لنا تصرّف الإثنين المُختلف، أثناء تأديتهما صلاتَهما، كلٌّ على حدة. نتمنّى منه أن يحضر اليوم ويشاهد طريقة صلاتنا، أوّلا بألبستنا الخارجية، ثم بكيفية تأديتنا للصلاة، مع تليفوناتنا وباقي الأجهزة الإلكترونية في أيدينا.

 

حتّى نفهم تعليق يسوع على الإثنين، يجب علينا نحن، ألاّ يكون فينا أيُّ تفكير مُسبقٍ عنهما. هذا مثل أورده لنا لوقا على لسان يسوع، يصف لنا فيه حالة مُعيّنة، حتى نخرج نحن بمغزى القصة، الّتي يريد من ورائها أن يجعلنا نُفكِّر ونجد ونُجدِّد موقفنا الخاص تجاه ربِّنا الّذي نناجيه في الصلاة.

 

نحن نعرف من مواقع أُخرى أن الفرّيسي مُرائي، ولو أنّه شديد التّديّن، وجِدِّي الالتزام والتّمسّك بالشريعة والقوانين الأُخرى، البالغ عددها، إلى جانب العشر وصايا، إلى 614 وصية أخرى لدرجة الوسواس، لا بل كان يتجاوز متطلّبات الشّريعة، ويظهر وكأنّه التّقيُّ المثالي وبلا منازع. لذلك هو يأخذ الوضع الصحيح في الصّلاة، يقف على قدميه ورأسه مرفوع، وهذه علامة الكبرياء. يداه مفتوحتان مرفوعتان إلى السّماء، ويمارس الصّلاة الأجمل على الإطلاق، وهي صلاة الشّكر والتّسبيح. ولكنه لا يشكر الله على عظمته ورحمته، بل يشكره لأنه شخصيّاً يختلف عن الآخرين، مُعظِّماً مُبجِّلا نفسه. ولكي يُقدِّم نفسَه ليهواه، يشعر بالحاجة، إلى أن يتّهم الآخرين جميعا وإجمالا، ينعتهم بالّلصوص والظالمين والفاسقين، فكأنّه بحاجة إلى إطارٍ مظلم حواليه، لكي يَظهربريقُ حسناتُه. حتى الآن كان ينظر إلى العلى، وأمّا الآن فهو ينظر خلفه وحوله، ليُذكِّر الله بأنّه ليس كذلك العشّار. ثمَّ يبداُ بتفصيل استحقاقاته وتوضيح سلوكيّاته، الّتي لا عيب فيها. إذاً هو رجلٌ واثقٌ من نفسه ومن صلاحه، ويشعر أنّه كامل من جميع النّواحي، حتى أمام الله، وأنّه أفضل من غيره (طبعاً مَن يشهد لنفسه فشهادته كاذبة، قال يسوع). وكانت نتيجة صلاته، أنَّ الله نفسَه، كان مَديناً له بالمكافأة. هذه الصّلاة، وبالرغم من مظهرها التّقوي والتّعبًّدي، هي صلاة وثنيّة. إذ هي فقط مديح الذّات، لتسمَعَه ألهتُه الوثنية وتكافئُه. فالرجل الّذي يختفي وراء هذه الصلاة، لا ينتظر من الله شيئاً، وإنّما يستعرض نفسه في الساحة، ويكشف عن مستحقّاته وحقوقه على الله. يا لها من صلاة غريبة، تفوح منها رائحة كبرياءٍ كريهةٍ أمام الله. الحق أقول لكم إنهم قد نالوا أجرهم! أمّا أنت إذا صلّيت فادخل إلى مخدعك وصلِّ إلى أبيك الذي يراك في الخفية.

 

بينما العشّار، وجميع الموظّفين في هذا الفرع، فكانوا مكروهين، ليس فقط من زملائهم الفريسيين، بل وأيضا من باقي الشعب، إذ الرأي العام كان يعتبرهم لُصوصاً منافقين، وقبل كلِّ شيء عُملاء للاحتلال الرّوماني، بسبب وظيفتهم المُخجلة كجُباة. الشعب ما كان قابلاً بالاستعمار ومعارضاً لاستعمال عُملته المالية ويحاول التّملص من دفع الجزية له، وها هؤلاء الموظّفين يُرغِمون الشعب على دفع الجزية بأضعاف ما هو مقرّر. إنّهم كانوا عاراً وخزياً على شعبهم. الّذي كان يعتبرهم شركاء المستعمرين، ولو على نفاق، بل وغشّاشين حقيرين. هذا وكانت العقليّةُ الدّينيَّة اليهوديّة تضعهم في مصاف الخطأة المطرودين من جماعة المؤمنين، وتعتبرهم سائرين على الطريق العريض، الّذي تكلّم عنه يسوع، وهو طريق الهلاك الأبدي. لذلك فهذا العشّار، الذي حنّ للصلاة اليوم، يقف في الزاوية المظلمة من آخر الهيكل، كي لا يراه أحد أفراد شعبه. هذا وهو لا يجرؤ على رفع نظرِه إلى السّماء، ولا حتّى يديه، ربّما لأنّهما فارغتان من عمل الخير أو طافحتان بالشر. هو يستعمل يديه فقط لقرع صدره. وهو لم يجد في نفسه أيّ شيء بوسعه أن يفتخر به، ولم يقع في فخ أنْ يُشعِر نفسَه أفضل بالمقارنة مع الآخرين، أو على الأقل، أقلَّ سوءاً منهم. هو لا يركب على أكتاف القريب، ولا يجعل نقائص الغريب تسديدا لفاتورته. هو لم يتكلّم على الآخرين ولم ينتقدهم ولم يعتبر من الضروري أن يعرف شرَّ الآخرين حتّى يحصل على فضل من الله. الحقَّ أقول لكم إنَّ هذا عاد مُبرّرا إلى بيته أمّا ذاك فلا (لو 18: 14).

 

فماذا أراد يسوع أن يعلِّم الشعب بهذا المثل؟ لا بدّ أن هذه القصة قد أثارت استفزاز سامعيه، خاصّة طبقة الفرّيسيّين ومرآتَهم، إذ هو انتقد طريقة صلاتهم العادية، فهم كانوا يحبّون المظاهر، إذ للصلاة كانوا يبسطون بساطهم في الشارع وفي المحلّات العامّة والمجالس العمومية، ليراهم الناس وكي يُظهروا لهم أنّهم طبقة مهمّة ووجهاء الشعب. كلمة فريسي كانت في ذلك الزمان تصف الطبقة الجيدة وأما العشار فالطبقة الرديئة، لكن جعلها يسوع عكسية. فهي احتقار وتوبيخ للتصرّف المنافي للواقع. إذ ما كان أيُّ يهوديٍّ يتجاسر انتقاد هذه الطّبقة. يسوع لم ينتقد إيمانهم، بل طريقة ممارسته، فلا بدّ أنّهم استغربوا بل تشكّكوا من هذا المثل المُتعسِّف. من وراء الانتقاد كان يسوع يقصد الإصلاح، ولكن هيهات! يسوع أراد أن نتعلّم كيف يكون موقفنا أمام الله حين نُصلّي، كما قالت مريم: حطّ المقتدرين عن الكراسي ورفع المتواضعين. العشار رجع مُبرّراً لأنه ما حاول إخفاء ضعفه أمام الله، بل كان صادقا بما قاله، وأراه تواضعه لا كبرياءه كالفرّيسي. يسوع لم يُبرِّره لأنّه تواضع بل لأنه عرف خطأه وطلب المعفرة: يكون فرح بخاطئ يتوب. لا يضع أي شرط أمام الله، بل يُظهر حاجته للرحمة.

 

فعند الصلاة يجب أن يكون موقفنا موقف التائبين، كما تطلب منّا الكنيسة في بداية كلِّ قداس: فلنندم على خطايا لنكون أهلاً للاحتفال بالذبيحة الإلهيّة. يليها الشكر على نعمته. هذا عاد مُبرّرا بينما الفريسيُّ فلا.