موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٦ يناير / كانون الثاني ٢٠١٣

العلاقة بين العذراء والقربان المقدس

بقلم :
د. عدلي قندح

مقدمة تحاول هذه الدراسة سبر أعماق العلاقة بين العذراء والقربان المقدس، ولا تحاول اقناع بعض الناس بوجود علاقة سرية بين العذراء والقربان المقدس، بل جاءت لتقدم نوعاً من التأمل الحُر والتفكير الروحي ورغبة مني في زيادة تكريم تلك الفتاة – العذراء مريم – لأنها ، كما قال عنها الله على لسانِ رئيسِ الملائكة جبرائيل: " مُمتَلِئَةً نِعْمَةً ". (لوقا 1 :28). بهذه الكلمات حيّ الملاك العذراء مريم عندما بشّرها بالأمومة الإلهية. كلمات لم تسمعها أذن من قبل ولم تخطر على قلب بشر، لأنّها تعني قداسة خارقة وتنفي عن مريم كل خطيئة أصلية وفعلية. وكما قالت عنها اليصابات بوحيٍ من الروحِ القدس " مُبَارَكَةٌ أَنْتِ بَيْنَ النِّسَاءِ " (لوقا 1: 42). وكما قالت هي عن نفسها " هُوَذَا مُنْذُ الآنَ جَمِيعُ الأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي " (لوقا 1 : 48). ففي الجزء الأول من الدراسة، قمنا بتفحص شخصية العذراء كما رُمِزَ اليها في العهد القديم وربطنا ذلك بالسلام الملائكي عند البشارة الموجهة اليها من قبل الملاك في العام الأول قبل تجسد الله بشخص السيد المسيح. وفي الجزء الثاني من الدراسة، حاولنا توضيح ماهية القربان المقدس من حيث رموزه في العهد القديم والاشارات التي ألمحت اليه قبل تأسيسه بشكله الذي نعرفه ، وحاولنا توضيح الكيفية التي وصل الينا بها عبر التاريخ. أما الجزء الثالث والأخير فقد خصصناه لدراسة العلاقة بين العذراء أم المسيح وبين القربان المقدس الذي هو جسد ودم المسيح الحقيقيين. الجزء الأول: من هي العذراء؟ مما هو جدير بالذكر في البداية هو أن الكنيسة المقدسة اعتمدت في تأريخ حياة العذراء على عدة مصادر أهمها الانجيل المقدس والتقليد المسيحي الكنسي. وحسب التقليد الكنسي، ولدت العذراء في الثامن من أيلول من العام السادس عشر قبل الميلاد في مدينة القدس (الأب جبرائيل فرح البولسي، 1970: ص 60). وكما أتخيل الجو العائلي الذي عاشته الطفلة مريم، فقد كان جلى اهتمام والديها هو الوصول بطفلتهما الى درجة متقدمة من الايمان والقداسة، وحسب ما أخبرنا التقليد ، كان ذلك بتقديم الطفلة مريم الى الهيكل عندما بلغت سن الثالثة من عمرها ايفاءاً لنذرهما. وأخذت الطفلة تنمو وتكبر تحت مظلة وارشاد والديها المحبين لها وذلك بتعليمها الكتب المقدسة ومختلف أسفار العهد القديم . لذلك فليس غريبا على العذراء التي استوعبت ، بكل تأكيد ، تعاليم وأمثال وحكم وأناشيد ومزامير العهد القديم، أقول ليس غريبا عليها أن تؤلف بكل بساطة وثقة أنشودة " تُعَظِّمُ نَفْسيَ الربْ " (لوقا 1: 46-55) وهي حامل بالله المتجسد. ومما لا شك فيه أن الصبيةَ مريم كانت تعيشُ في محيطِها مؤلفةً لها صديقاتها حيث كانت تشاركهن الحديث واللعب والعمل ، ولكنها كانت بعيدة عن الخطيئة. ولأنها كما سماها الله بلسان الملاك جبرائيل: "ممتلئة نعمة والرب معها" (لوقا 1: 28)، فقد كانت مُعدةً في مخطط الله لأن تكون والدته. وبعد أن وصلت العذراء ال ىسن الزواج وقع النصيب ، ومن يدري فربما كان ذلك أيضاً من مخطط الله ، وخطبها يوسف الصديق الذي كان جديرا بثقتها وهو نجار من مدينة الناصرة. (لوقا 1: 27). العذراء في مشهد البشارة وبعد فترة قصيرة على خطبتها ، وبينما كانت تصلي في مخدعها أرسل الله اليها الملاك جبرائيل ، ولما دخل اليها قال لها: "إفَرحي، أَيَّتُها الـمُمتَلِئَةُ نِعْمَةً، الرَّبُّ مَعَكِ ". فداخَلَها لِهذا الكَلامِ اضطرابٌ شَديدٌ وسأَلَت نَفسَها ما مَعنى هذا السَّلام. 30فقالَ لها الـمَلاك:"لا تخافي يا مَريَم، فقد نِلتِ حُظوَةً عِندَ الله. فَستحمِلينَ وتَلِدينَ ابناً فسَمِّيهِ يَسوع. سَيكونُ عَظيماً وَابنَ العَلِيِّ يُدعى، وَيُوليه الرَّبُّ الإِلهُ عَرشَ أَبيه داود، ويَملِكُ على بَيتِ يَعقوبَ أَبَدَ الدَّهر، وَلَن يَكونَ لِمُلكِه نِهاية" . فَقالَت مَريَمُ لِلمَلاك: "كَيفَ يَكونُ هذا وَلا أَعرِفُ رَجُلاً ؟" فأَجابَها الـمَلاك: "إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ، لِذلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوساً وَابنَ اللهِ يُدعى. وها إِنَّ نَسيبَتَكِ أَليصابات قد حَبِلَت هي أَيضاً بِابنٍ في شَيخوخَتِها، وهذا هو الشَّهرُ السَّادِسُ لِتِلكَ الَّتي كانَت تُدعى عاقِراً. فما مِن شَيءٍ يُعجِزُ الله". (لوقا 1: 29 - 37) وانتهى المشهد الانجيلي بعد مناقشة هادئة بين العذراء وبين الملاك عندما قالَت مَريَم: "أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ". وَانصرَفَ الـمَلاكُ مِن عِندِها. (لوقا 1: 38). ويخبرنا الانجيلي لوقا بأنه بعد دخول العذراء مريم بيت زكريا (زوج خالتها اليصابات) والقاء سلامها على اليصابات خالتها، ارتكض الجنين (يوحنا المعمدان) في بطن أمه وامتلأت اليصابات من الروح القدوس وهتفت بأعلى صوتها : " مُبارَكَةٌ أَنتِ في النِّساء ! وَمُبارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطنِكِ ! مِن أَينَ لي أَن تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي؟ فما إِن وَقَعَ صَوتُ سَلامِكِ في أُذُنَيَّ حتَّى ارتَكَضَ الجَنينُ ابتِهاجاً في بَطْني فَطوبى لِمَن آمَنَت: فسَيَتِمُّ ما بَلَغها مِن عِندِ الرَّبّ". (لوقا 1 : 43-45). في الواقع كان اختياري لمشهد البشارة بالذات في هذا الجزء من الدراسة لأنه يمثل حدثاً عظيماً في تاريخِ البشريةِ قاطبةً مُنذُ عصيانِ آدم وحواء والى الآن، فقبل البشارة كان تاريخٌ واحدٌ وبعدهُ اصبح تاريخٌ ثانٍ، وجميع تراكمات الدهر التي سبقت حدث البشارة منذ يوم العصيان كانت مهيئةً ليومِ البشارة والايام التي عقبت هذا التاريخ كانت قد انحدرت منه. ولأن مصير البشرية وجميع مخططات الله في السماء وعلى الارض لا بد وان تكون مرت مرور البرق امام روح الصبية، حيث كان ذلك متعلقا بجوابها، فما أن قالت "نعم" لله ، من خلال الملاك، حتى أصبحَ اللهُ بشراً وحلَ بيننا وراينا مجدَهُ. العذراء ما بين العهدين القديم والجديد كما أوضح القديس بولس في رسائله ، ان جميع الحوادث المذكورة في العهد القديم ما هي الا رموز لاشياء وحوادث في العهد الجديد، فالاشخاص والمؤسسات والمحرقات والطقوس وحوادث التاريخ المختلفة كانت تحدث وفق مخطط الهي لما سيحدث في عهد السيد المسيح . فأين رموز البشارة، التي اخبرها لنا القديس لوقا، في العهد القديم؟ فغايتنا في هذا الجزء من الدراسة هو محاولة ربط مشهد السلام الملائكي وزيارة العذراء لخالتها اليصابات برموزها واشاراتها في العهد القديم من جهة، ومحاولة تثبيت أيماننا بأن العذراء هي جزء مهم في مخطط الله ولم يكن اختيار الله لها عبثاً، بل هو حصيلة لتراكم ايمان اجدادها من سلالة داوود من جهة أخرى. فانني أتخيل الاله الآب كان قد تتبع ايمان سلالة داوود الملك وقد عرف أن درجة الكمال الانساني الكاملة مئة بالمئة ستكون من نصيب تلك الفتاة، وأتخيل ملاك التجسد جبرائيل قد احتسب درجات الكمال في كل شيء لنسل داوود ، فكانت لوالدي العذراء قد تجاوزت التسعة والتسعين بالمئة لتصل المئة بالمئة لابنتهما مريم، وذلك تاكيدا لقول الملاك "ايتها الممتلئة نعمة" قبل جواب العذراء "انا أمة الرب". فالعذراء بكل تأكيد كانت منتقاة منذ الأزل للقيام بأسمى وظيفة ممكنة ألا وهي الامومة الالهية ، فقد أعد الله لها ، منذ الازل ، النعم الخارقة والامتيازات المجيدة التي انفردت بها بين جميع الخلائق دون استثناء وجعلها أهلا بأبنه الوحيد ، فاننا نقرأ في سفر الامثال :" إِنَّ بناتٍ كثيراتٍ قد أَنشأْنَ لهنَّ فضلًا، أَمَّا أَنتِ ففُقتِ عليهِنَّ جميعًا ". (أمثال 31: 29) ففي لحظة البشارة والحبل العجائبي أصبحت مريم مسكن الله ، وتابوت العهد ، وقدس الاقداس، وهيكل الله ، وابنة صهيون ، وعذراء اسرائيل ، فقد أتم الله وعده بزيارته الأخيرة لشعبه وسكن في وسطهم : " قُولُوا لابْنَةِ صِهْيَوْنَ: «هُوَذَا مُخَلِّصُكِ آتٍ " (أشعيا 62 : 11-12). وحادثة زيارة مريم لخالتها اليصابات هي مشابهة لحادثة العهد القديم : "نهض داوود وأنطلق بجميع الشعب الذين كانوا معه ليُصْعِدوا من هناك تابوت الله الذي كان يدعى عليه بالاسم ، اسم رب الجنود الجالس على الكاروبيم" (سفر الملوك الثاني 6: 1-23). فنقل تابوت العهد (مقر حضور الله) في العهد القديم، يثير فرحاً في الشعب وابتهاجاً في داوود، ويجعله يرقص أمام الرب، كذلك وصول مريم الى بيت زكريا يثير في اليصابات فرحاً وفي يوحنا المعمدان وهو في احشاء أمه ابتهاجا. فصراخ اليصابات هو فعل شكرٍ وتسبيحٍ لله وحده بسبب حضوره المقدس في أحشاء مريم ، فلم تستطع أن تحبس فرحها الذي يشبه الفرح عند ظهور تابوت العهد مكان الله. فالعذراء التي سكن بها الله وتجسد بأحشاءها بشخص السيد المسيح تمثل تابوت العهد مسكن الله في العهد القديم ، وهي التي خلقها الاله الآب فهي أبنة الله الآب وام الله الابن وعروس الله الروح القدوس. والله الآب الذي أعطى الحياة لمريم كان بامكانه أن يتجسد من دون ولادة من مريم كما جاء بآدم وحواء من دون ولادة، ولكنه اختار الولادة ليتشبه بالبشر وليقضي على الهوة الفاصلة بينه وبين الانسان، وكان اختياره للعذراء مريم لتكون أمهُ فهي بذلك مميزة بكل شيء بين سائر الخلائق وهذا التميز يجعلنا نؤمن بأنها قد اخذت شيئاً كثيرا من مميزات الله كما سنرى في نهاية البحث. الجزء الثاني: ماهية القربان المقدس علمتنا الكنيسة منذ نشأتها بأن القربان المقدس "سر يتناول به المؤمن ، تحت شكل الخبز ، جسد المسيح نفسه، وتحت شكل الخمر ، دم المسيح بعينه، لمغفرة الخطايا وللحياة الأبدية". وهذا السر وضعه السيد المسيح نفسه ليلة خميس الاسرار. فقد جاء في انجيل مرقس: " وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ، أَخَذَ يَسُوعُ خُبْزًا وَبَارَكَ وَكَسَّرَ، وَأَعْطَاهُمْ وَقَالَ:«خُذُوا كُلُوا، هذَا هُوَ جَسَدِي». ثُمَّ أَخَذَ الْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ، فَشَرِبُوا مِنْهَا كُلُّهُمْ. وَقَالَ لَهُمْ:«هذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ، الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ." (مرقس 14: 22-24). فماذا يعني هذا الكلام؟ّ! وهل هنالك رموز أو تصريحات في العهدين القديم والجديد لهذا السر قبل انشاءه؟! أعني، هل هنالك مقدمات مهدت الطريق لهذا السر؟! رموز القربان المقدس في العهدين القديم والجديد في الواقع، يرى المسيحيون في الافخارستيا ذكرى لتحرر اسرائيل، أي في فصحها وانعتاقها من أرض العبودية، وفي طعام العهد على جبل سيناء. كما أن نظرة بسيطة لحياتنا العربية والى عقليتنا السامية الشرقية ترينا أن مجرد تناول الطعام بين شخصين أو مجموعتين من الناس تعني أن هنالك عهداً وميثاقاً بعدم الخيانة، واذا ما نظرنا الى العهد القديم نجد أن مثل هذه العهود كثيرة بين أباءنا وأجدادنا، فنرى في سفر التكوين أنه عندما أراد يعقوب أن يترك لابان (خاله أخو أمه) بعدما خدمه من أجل ليئة وراحيل أبنتيه، قال لابان ليعقوب: " فَتَعالَ وَلْنَقْطَعْ أنا وَأنْتَ عَهْداً. وَلْيَكُنْ هَذا العَهْدُ شاهِداً بَينِي وَبَينَكَ. فَأخَذَ يَعقُوبُ حَجَراً، وَنَصَبَهُ عَمُوداً. ثُمَّ قالَ يَعقُوبُ لِأقْرِبائِهِ: «اجْمَعُوا حِجارَةً!» فَأخَذُوا حِجارَةً وَجَعَلُوا مِنْها كَوْمَةً. ثُمَّ أكَلُوا مَعَاً بِجانِبِ كَوْمَةِ الحِجارَةِ . وَسَمَّى لابانُ ذَلِكَ المَكانَ يَجَرْ سَهْدُوثا. وَسَمّاهُ يَعقُوبُ جَلْعِيدَ. (تكوين 31: 44). أما يسوع المسيح، فقد شاء أن يدخل معنا عهداً مقدساً ثبته بجسده ودمه الكريمين. لذلك، ففي تقليد الكنيسة يُسمى يوم الخميس في أسبوع الألآم "بخميس الاسرار" أو "خميس العهد المبارك"، حيث يثبت الانسان بهذا العهد في المسيح ويحتمي فيه لأنه يجده ملجئاً له ضد الخطيئة والشهوات، ويثبت المسيح في الانسان اذ يجد في الانسان هيكلا مقدساً له، فيصير الانسان شريكا للطبيعة الالهية، ومن أجل ذلك تصلي الكنيسة : لكي نكون جسداً واحداً وروحاً واحداً معك أيها الآب. (القمص اسحق صادق، 1983: ص 98). والكنيسة عندما تدعو أبناءها لقبول الأسرار، كلوا وأشربوا، فان ما نأكله ونشربه قد أوضحه الروح القدوس بواسطة النبي قائلا: " ذُوقُوا وَانْظُرُوا مَا أَطْيَبَ الرَّبَّ!" (مزمور 34 : 8) . ففي هذا السر يوجد المسيح طعاماً روحياً ، ومن أجل هذا يقول بولس الرسول في رسالته الأولى الى أهل كورنتوس : " وَجَمِيعَهُمْ أَكَلُوا طَعَامًا وَاحِدًا رُوحِيًّا، وَجَمِيعَهُمْ شَرِبُوا شَرَابًا وَاحِدًا رُوحِيًّا، لأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ صَخْرَةٍ رُوحِيَّةٍ تَابِعَتِهِمْ، وَالصَّخْرَةُ كَانَتِ الْمَسِيحَ ". (كورنثوس الأولى 10 : 3-4). والخبز المكسور والمعطى غذاء لنا نحن السائرين نحو الوطن السماوي، هو خبز الملائكة الذي لا يمكن الاقتراب منه إلاّ بمشاعر قائد المئة في الإنجيل: " يَا سَيِّدُ، لَسْتُ مُسْتَحِقّاً أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَ سَقْفِ بيتي " ( متى 8:8). ولنتساءل الآن، هل مهَد السيد المسيح الطريق قبل أن يعطينا جسده ودمه ميثاقاً وعهداً ؟! الجواب المباشر على هذا التساؤل هو" نعم. فكيف كان ذلك ، ومتى؟! في الواقع، كان هذا واضحاً في ثلاثة مواقف هي؛ معجزة تكثير الخبز في كفرناحوم ، وفي عرس قانا الجليل، وفي مجمع كفرناحوم عند القاء خطبته عن الخبز السماوي. فمثلا في المجمع قال السيد المسيح: " أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ. آبَاؤُكُمْ أَكَلُوا الْمَنَّ فِي الْبَرِّيَّةِ وَمَاتُوا. هذَا هُوَ الْخُبْزُ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ، لِكَيْ يَأْكُلَ مِنْهُ الإِنْسَانُ وَلاَ يَمُوتَ. أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ». فَخَاصَمَ الْيَهُودُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَائِلِينَ: «كَيْفَ يَقْدِرُ هذَا أَنْ يُعْطِيَنَا جَسَدَهُ لِنَأْكُلَ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ، فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ. مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ، لأَنَّ جَسَدِي مَأْكَلٌ حَقٌ وَدَمِي مَشْرَبٌ حَقٌ. مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ. كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ الْحَيُّ، وَأَنَا حَيٌّ بِالآبِ، فَمَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي. هذَا هُوَ الْخُبْزُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. لَيْسَ كَمَا أَكَلَ آبَاؤُكُمُ الْمَنَّ وَمَاتُوا. مَنْ يَأْكُلْ هذَا الْخُبْزَ فَإِنَّهُ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ». (يوحنا 6: 48 – 58). فالمتفحص لكلام السيد المسيح يجده واضحاً ، ومع ذلك يخبرنا الانجيلي يوحنا بأن اليهود أخذوا حجارة ليرجموه بعدما أكمل وعظته في مجمع كفرناحوم. فمما لا شك فيه أن تلك العظة الطقسية تشرح معنى تكثير الخبز الرمزي ، فقد كان الخبز المادي رمز للخبز الروحي: "اِعْمَلُوا لاَ لِلطَّعَامِ الْبَائِدِ، بَلْ لِلطَّعَامِ الْبَاقِي لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّذِي يُعْطِيكُمُ ابْنُ الإِنْسَانِ، لأَنَّ هذَا اللهُ الآبُ قَدْ خَتَمَهُ». (يوحنا 6 : 27). فمعجزة تكثير الخبز هي علامة توجه الايمان الى المسيح ، خبز الحياة، الذي أعطى هذا الخبز كلامه وافخارستيته. أما حادثة عرس قانا الجليل، فلا شك أن لها علاقة أكيدة بالعشاء الفصحي وبالافخارستيا. فمن غير المعقول أن يكون هدف السيد المسيح اللاهوتي والروحي هو فقط الاشفاق على الجميع وعلى هؤلاء الذين كانوا يحتفلون بالعرس، فقد كان هدفه عميق ودائم للأبد. فانتهاء الخمرة في العرس اشارة الى انتهاء العهد القديم وبداية الخمر الحكمة رمز العقيدة المسيحية الجديدة، وعلامة لدم المسيح المسفوك على الصليب. المسيح الذي أنشأ سر الافخارستيا طلب من تلاميذه أن: " أصنعوا هذا لذكري" ، وهو الذي منح السلطة الى الرسل في اقامة الذبيحة الالهية. وهذه السلطة انتقلت من الرسل الى خلفائهم في رسالة الكهنوت. وتقليد الكنيسة يرينا أن الرسل كانوا قد تمسكوا بهذا السر" وكانوا كلَّ يومٍ، يُلازِمونَ الهَيكلَ بنَفْسٍ واحِدةٍ، ويَكْسِرونَ الخُبزَ في البُيوتِ، ويَتَناولونَ الطَّعامَ باَبْتِهاجٍ وسلامةِ قَلْب؛ ويُسبِّحونَ اللهَ، نائِلينَ حُظْوةً عندَ جميعِ الشَّعب. (أعمال الرسل 2 : 46) فمن خلال الوعظة في مجمع كفرناحوم والعشاء الاخير يتأكد بأن القربان المقدس هو جسد ودم السيد المسيح الحقيقيين ، المسيح المولود من العذراء مريم من غير رجل، المتغذي من دمها ولحمها (بيولوجياً) عندما كان جنيناً في أحشاءها ، والمتغذي من حليبها عندما كان طفلا رضيعاً، والمتغذي من فكرها عندما كان يافعاً، والمطيع لها عندما كان شاباً، والسامع لكلامها عندما أصبح رجلاً. فما العلاقة بين العذراء مريم والمسيح القربان المقدس؟! الجزء الثالث: العلاقة بين العذراء مريم والقربان المقدس من الحقائق التي نؤمن بها أن الله كان بامكانه أن يأتي الى العالم من دون امرأة ، كما جاء بآدم وحواء في بدء الخليقة ، ولكنه اختار الولادة ليتشبه بالانسان المخلوق على صورته وكمثاله ، واختار العذراء ليتشبه بالانسان أكثر وليصبح له أماً . فقد جاء الله وسكن في وسط "أبنة صهيون" متمماً نبؤة الانبياء ومصدقا كلامه على لسان رئيس الملائكة. اتحاد العذراء مع المسيح الاله المتجسد بتذكرنا الكيفية التي ينمو بها الجنين في أحشاء أمه والطفل الرضيع بعد الولادة ، نقول بأن السيد يسوع المسيح قد تغذى من العذراء عندما كان جنيناً في أحشاءها مدة تسعة شهور وغذته من حليبها عندما كان طفلاً، فتكون العذراء بذلك قد أعطته من لحمها ودمها. وبذلك فان الانسانية بشخص مريم العذراء، أعطت الكلمة طبيعتها البشرية روحياً ومادياً. ولا يغيب عن ذهننا بأن العذراء حصلت على القوة اللازمة للقيام بعملها هذا من الروح القدوس الذي استقر أزلياً على الكلمة والذي عند ميلاد الكلمة في الزمان، ظلل والدة الاله. فكون العذراء مريم أعطت الكلمة الجوهر البشري فهي والدة الاله القديسة الممتلئة نعمة، وكونها حملت الكلمة في شركة حياة كاملة (تسعة شهور) بالمحبة وبذل الذات الخاصين بالرب، فالتجسد لا يتحقق فقط في شخص واحد بل في شخصين، في المسيح والعذراء مريم، لذلك نرى أيقونة والدة الاله، حاملة الطفل الالهي، هي التعبير الحقيقي لتجسد الله. فهناك اتحاد خاص بين الله الابن وبين العذراء أمه في سر التجسد. اتحاد العذراء مع المسيح القربان المقدس عندما ولد السيد المسيح في القربان المقدس "ولادة ثانية" ، أو عندما حل المسيح الاله في القربان المقدس ، فانه أتاح الفرصة للاشخاص المتناولين لجسده ودمه للأتحاد معه بعمق. فالقربان المقدس هو جسد ودم المسيح الكريمين، ذلك المسيح الذي ولدته مريم البتول وقدمته لعبادة وتقبيل الرعيان والمجوس، وسمعان الشيخ، وحنة النبية، والمتناول لجسد ودم المسيح ينال الحياة الابدية ولا يموت لأن جسد ودم المسيح هما لحياة العالم ، وذلك تصديقاً لكلام السيد المسيح عن الاتحاد بين الآب والابن والروح القدوس ، وبين الأشخاص الذين يتناولون جسد ودم المسيح الكريمين ، فقد أوضح السيد المسيح ذلك بقوله : " مَنْ أكَلَ جَسَدي وشَرِبَ دَمي فلَهُ الحياةُ الأبديَّةُ، وأنا أُقيمُهُ في اليومِ الآخِرِ. جَسَدي هوَ القوتُ الحَقيقيُّ، ودَمي هوَ الشَّرابُ الحَقيقيُّ. مَنْ أكَلَ جَسَدي وشَرِبَ دَمي يَثبُتُ هوَ فيَّ، وأثبُتُ أنا فيهِ." (يوحنا 6 : 54-56). وبما أن العذراء كانت قد تناولت، وبلا أدنى شك، جسد ودم السيد المسيح ، أي القربان المقدسن مع التلاميذ، كما جاء في سفر أعمال الرسل: " كانوا "يصلّون بقلب واحد" (أعمال 1: 14) في علية صهيون. ولا شك أنها، أي العذراء مريم، كانت أيضا موجودة في اجتماعات الكنيسة الأولى التي كانت مواظبة على "كسر الخبز" (أعمال 2: 42)، فبه تكون قد اتحدت وثبتت به وثبت بها. لذلك فان اتحاد العذراء بالمسيح أثناء الحمل ، ومنحه جزءا من دمها ولحمها، وأتحادها به اثناء تناولها اياه مع التلاميذ على شكل الخبز والخمر، أعطاها ميزة كبيرة على سائر البشر، فلا احد استطاع أو يستطيع أن يتحد بالمسيح أكثر من أمه. لذلك، فأنني أستطيع القول أن العذراء مريم هي جزء من القربان المقدس ، فهناك شركة اتحاد واضحة تربط جسد مريم بجسد المسيح، فكما أن جسد المسيح هو في الحقيقة جسد أمه ، هكذا جسد مريم هو أيضاً جسد ابنها القربان المقدس. فمريم هي أول كائن بشري اتحد بطريقة صميمية وحقيقية بالمسيح، فقد لبست حقاً المسيح واتحدت معه، فطوبى للعذراء اما للمسيح الاله، وطوبى لها حاملة اياه عل شكل القربان المقدس. مما سبق نستطيع أن نستنتج أن العذراء قد شاركت بعمل عكسي لما قامت به حواء. فبولادة المسيح وتغذيته وتقدمته لنا على شكل القربان المقدس تكون قد أعادت الحياة الفائقة الطبيعة الى النفوس وهدمت الهوة الفاصلة بين الله والبشر وأعدتنا للاتحاد به كما اتحدت هي معه. فلنتساءل الآن عن مقدار الغبطة التي شعرت بها العذراء حين كانت حاملا بالمسيح الله وحين تناولته عل ىشكل القربان المقدس. هل هناك تعانق أجمل وأسمى من ذلك الذي تم بين العذراء مريم وبين المسيح الاله المتجسد والمسيح القربان المقدس؟! في الحقيقة، ان شعور مريم عندما كانت تحمل المسيح الاله المتجسد في أحشائها كانت قد عبرت عنه عند زيارتها الى خالتها اليصابات، فقد قالت بكل فرح: " تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللَّهِ مُخَلِّصِي، لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى اتِّضَاعِ أَمَتِهِ. فَهُوَذَا مُنْذُ الآنَ جَمِيعُ الأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي لأَنَّ الْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ وَاسْمُهُ قُدُّوسٌ وَرَحْمَتُهُ إِلَى جِيلِ الأَجْيَالِ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَهُ. صَنَعَ قُوَّةً بِذِرَاعِهِ. شَتَّتَ الْمُسْتَكْبِرِينَ بِفِكْرِ قُلُوبِهِمْ. أَنْزَلَ الأَعِزَّاءَ عَنِ الْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ الْمُتَّضِعِينَ. أَشْبَعَ الْجِيَاعَ خَيْرَاتٍ وَصَرَفَ الأَغْنِيَاءَ فَارِغِينَ. عَضَدَ إِسْرَائِيلَ فَتَاهُ لِيَذْكُرَ رَحْمَةً كَمَا كَلَّمَ آبَاءَنَا. إِبْراهِيمَ وَنَسْلِهِ إِلَى الأَبَدِ." (لوقا 2 : 46-55). أما عن شعورها الذي أحست به عندما تناولت المسيح قربانا مقدساً فهو الذي أوضحته لنا على لسان الأب جبرائيل فرح البولسي، فقالت :" أما شعوري عندما حملت وضممت المسيح الى صدري على شكل القربان المقدس، فقد كان يجدد تذكاراتي القديمة عندما حملت به جسداً الاهياً ، فهذا التعانق السري ينسيني نوعاً من لوعة الفراق والبُعاد" . فبذلك تدعونا العذراء للاتحاد بالمسيح كما اتحد بها، فتقول لنا: "ان المسيح يدعو الضعفاء والمرضى والفقراء والعميان الى وليمته الالهية لأنه يعرف تعاستهم ، وتضيف السيدة العذراء بأن الأدعاء بضرورة القداسة الكاملة للتناول يعني اعتبار هذه القداسة شرطاً للتناول، في الوقت الذي هي ثمرته. وتؤكد السيدة العذراء أن ثمرة التناول الحسن ليس بالضرورة أن تكون تذوق التناول ، فعندما لا نشعر بلذة عند تناولنا جسد ودم الرب علينا أن لا نظن بأن الله قد رذلنا، فعلينا أن نتناول جسد ودم ربنا يسوع المسيح بالايمان أكثر مما بالحواس، ولنجتهد في أن نربيه في كل شيء ، واذا ظفرنا بهذا نكون قد وجدنا السعادة التي تاق اليها القديسين. ما نود أن نؤكد عليه هو أن العذراء مريم كانت قديسة منذ أول برهة في وجودها، وتقدمت بالقداسة منذ تجسد الكلمة في أحشاءها ، فوجود يسوع في أحشاءها تسعة أشهر ترك فيها آثار القداسة ولازمتها طيلة حياتها . لذلك فاننا نصلي للعذراء القديسة، مثال الفضيلة والقداسة البشرية، لتستمد لنا من يسوع أبنها كي يتنازل فينظم حركات قلوبنا ويوجهها كلها نحوه كل مرة نتناول بها. ونصلي ليسوع ربنا بأن ينزع منا هذا القلب التعيس غير اللائق به، وليخلق فينا قلباً نقياً وجديداً ، وليمنحنا قلباً شبيهاً بقلب أمه العذراء القديسة، قلباً سخياً ليناً أميناً معه ، مثلما أن قلب يسوع أمينٌ معنا لنسير على طريق القداسة. وأخيراً ، نطلب من العذراء شفيعتنا ن تصلي لنا لكي يسكن الله فينا عند التناول ويريحنا كما أراحها تسعة شهور عندما كانت حاملاً به وبعد القيامة عندما تناولته قربانا مقدسا، وليتحد فينا كما اتحد بها وليثبت فينا كما ثبت فيها، ولنصبح جسداً واحداً وروحاً واحدة مع المسيح الاله القربان المقدس كما أصبحت هي وابنها الاله المتجسد والقربان المقدس جسداً واحداً وروحاً واحداً. آمين. • الدراسة نشرت في مجلة الارض المقدسة، قبل 20 عاماً ، في العدد 299/300 تشرين ثاني /كانون أول 1992 ، ص31-40. المراجع: 1- الكتاب المقدس، العهد الجديد ، أعمال الرسل، الرسائل، الرؤيا، منشورات المطبعة الكاثوليكية 1986، بيروت – لبنان. 2- الكتاب المقدس، العهد القديم والعهد الجديد، دار الكتاب المقدس، 1982، عمان – الاردن. 3- الأب جبرائيل فرح البولسي، 1970، "هوية يسوع". 4- القمص اسحق صادق، 1983، "تأمل العلية" ،الاسكندرية – جمهورية مصر العربية. 5- النظرة الاروثوذكسية لوالدة الاله العذراء مريم ، 1985.