موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٣٠ يوليو / تموز ٢٠٢٣

الزواج المسيحي والعفاف

بقلم :
المطران كريكور كوسا - مصر
المطران كريكور اوغسطينوس كوسا، اسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك

المطران كريكور اوغسطينوس كوسا، اسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك

 

قال الرب يسوع: "لذلك يَتْرُك الرجُل أباهُ وأُمَّهُ ويَلزم امرأتهُ، ويصير الإثنان جسَداً واحِداً. فلا يكونان اثنين بعد ذلك، بل جَسَدٌ واحد. فما جمعه الله فلا يُفرِّقَّ الإنسان" (متى ١٩: ٥-٦)

 

الزواج المسيحي محبة الله وعفَّة وانتصار على شهوة الجَسّد:

 

الزواج أمر حللهُ الله بين اثنين ضمن إطار علاقة زوجية صحيحة مبنية على أساس من المحبة والتفاهم والصراحة.  والإنسان لابدّ أن يلتزم ضمن هذا الإطار ولا يتجاوزه. والحب مع الالتزام أمر بغاية الأهمية في العلاقة الزوجية، إلتزام بعهد الله والوعد الذي قطعهُ أمام الكاهن الذي هو وكيل المسيح ، في مذبح الربّ، وتجاوزهُ خطيئةٌ.

 

عندما نقول بأن الله خلق الإنسان على صورتهِ ومثاله، فنقصدُ بها صورتهِ في الروح والطهارة والعفة، روحهُ التي تكون مُحبة للتقوّى والبرّ وفي عمل الخير، وتكون الروح قوية إذا نالتْ الخلاص مع الروح القدس الذي أنعمها الله على الإنسان وينالها بالأعمال الصالحة، والتي بها يأخذ سلطاناً على الجسّد وشهوتهِ.

 

يقول القديس بولس الرسول في رسالتهِ إلى أهل غلاطية: "اسلكوا سبيلَ الروح ولا تشبعوا شهوة الجسد، لأنَّ  الجسدَ، يشتهي ما يُخالفُ الرٌوح، والروحَ يَشتهي ما يُخالفُ الجسدَ، كِلاهُما يُقاوِمُ الآخر" (غلاطية ٥: ١٦-١٧).

 

رسالة يسوع المسيح للبشرية كانت وما زالت وستبقى رسالة محبة، ولهذا تجسّد، وصار إنساناً وبذل نفسهُ في سبيل خلاصِنا من الخطيئة. بهذا تظهر عظمة الله ومحبّته لنا، إذ أرسل الله إبنهُ الوحيد إلى العالم ليموت هو ونحيا نحن، لأنهُ بموتهِ أمات كل ما هو أرضي في الإنسان والذي أفسدتهُ الشهوات الخادعة، من "زِنى وفحشاء وهَوّى وشهوةٍ فاسدة وطمعٍ وهو عبادةُ الأوثان" (قولسي ٣: ٥). وتَخلَّصَ من كُل ما يُسيء إلى جسّده، وألبسهُ الإنسان الجديد المُتجدد بإعمالهِ التي تُقربنا من الله" فقد خلعتم الإنسان القديم وخلعتم معه أعمالهِ، ولبستم الإنسانَ الجديد، ذاكَ الذي يُجَدَّدُ على صورة خالقهِ ليصِلَ إلى المعرفة" (قولسي ٣: ٩-١٠)، ونتجدد روحاً وعقلاً بصورة الإنسان الذي خلقهُ الله في البر وقداسة الحق، "وأن تَتَجدَّدوا بتَجَدُّدِ أذهانِكمُ الرُّحي فَتَلبَسوا الإنسانَ الجديدَ الذي خُلِقَ على صورةِ اللهِ في البِرِّ وقداسةِ الحقّ" (افسس ٤: ٢٣-٢٤).

 

فالله اختارنا وقدسنْا وأحبّنْا وألبسنْا "عواطف الحنان والُّطفِ والتواضُع والوداعة والصبرِ والتسامح". وألبسنا وجسّدنا في المحبةِ "والبسوا فوقَ ذَلِكَ  كُلَّه ثوب المحبّة فإنَّها رِباطُ الكَمال" (كولوسي ٣: ١٢-١٥). وبما أننا خلقنا على صورة الله ومثالهِ فيجب أن نكون على قدر هذه المحبة ليس لأنفسنا فقط بل للجميع. لأنهُ "من لا يُحب فأنهُ لا يعرف الله، لأن الله محبة" (يوحنا الأولى ٤: ٨). ولذلك في أعماق قلبِ كُلِّ واحدٍ منا طاقة حُب لله وللآخر. وعلينا أن نعيش هذا الحب كما أرادهُ الله لنا. حُباً كاملاً، طاهراً، ونقياً، مثل ينبوع الماء الصافي، بدون أية شائبة تشوههُ. فهل نحن اليوم نعيش الحُبّ الذي منحهُ الله لنا؟ أم إن الشهوة هي من تقودهُ وتُفسدهُ؟ يقول بولس الرسول في رسالتهِ إلى أهل غلاطية: "اسلكوا سبيلَ الروح ولا تشبعوا شهوة الجسد، لأنَّ الجسدَ، يشتهي ما يُخالفُ الرٌوح، والروحَ يَشتهي ما يُخالفُ الجسدَ، كِلاهُما يُقاوِمُ الآخر" (غلاطية ٥: ١٦-١٧).

 

ماذا يقصد القديس بولس الرسول في قوله: "ما يشتهيهِ الجسّد يُناقض الروح"؟

 

يقصد به جسّد الإنسان الخاطئ، الذي يعيش بشهوته المُسيطرة على جسده وتقودهُ إلى الخطيئة، هذا هو الجسد الذي يناقضُ الروح. فهو بشهوتهِ هذه يخطأ ويُذنب إلى جسده وإلى الله "أوَما تعلمون إن أجسادكم هي هيكل الروح القدس، وهو فيكم قد نِلتُمُه من الله، وأنَّكُم لَستُم لأَنفُسِكُم؟ فقد اشتُريتم وأُدِّيَ الثمن. فمجِّدوا الله إذاً بأجسادِكم" (قورنتس الأولى ٦: ١٩-٢٠). فنحن لسنا مُلك أنفسنا فقط بل مُلك لله، فعلينا أذاً أن نُمجدهُ في أجسادنا ونُقدسهُ. ولا ندعّ الخطيئة تُسيطر عليه وتقودهُ وراء شهواتهِ "فلا تَسودَنَّ الخطيئةُ جسدكمُ الفاني، فتنقادوا لشهواتهِ... فلا يكونَ للخطيئةِ من سُلطانٍ عليكم. فلستُم في حُكْمِ الشَّريعة، بل في حُكْمِ النِّعمَة" (رومة ٦: ١٤-١٦).

 

علينا أن نكون كاملين في جسدنا وروحنا، لأنهُ بهما تكتمل محبتنا لله. "كُلُّ مَن آمن بأنَّ يسوع هو المسيح فهو مَولودٌ لله وكُلُّ مَن أحبَ الوالِد أحبَّ المُولودَ منهُ ، ونَعلَمُ أننا نُحبُّ ابناء الله، إذا كُنَّا نُحِبُّ الله ونعملُ بوصاياه، لأنَّ محبةَ اللهِ أن نحفظَ وصاياه، وليست وصاياه ثقيلةَ الحَمْل، لأنَّ كُلَّ ما وُلِدَ الله يَغلِبُ العالم، وما غلبَ العالمَ هذه الغلبة هو إيمانُنا" (يوحنا الاولى ٤: ١-٤). فسلوكنا حياة الروح وإشباعها بكلام الله وتعاليمهِ بالصلاةِ والصومِ والترانيمِ والتسابيحِ والألحان نسمّو بها ونجعلها تمتلئ من الروح القدس وتقترب من الله وتتحد به. لذا "دَعَوُا الرُّوحَ يملأُكُم، واتلوا معاً مزاميرَ وتسابيحَ وأناشيد رُوحيّة، رتِّلوا وسَبِّحوا للرَّبِّ من أعماق قُلوبكم" (أفسس ٥: ١٨-٢٠). هكذا نُغذي روحنا ونهتم بها، ونجعلها تحمل ثمر محبة الله الذي أحبنا من خلال أبنهِ، ونَثبُتُ فيهِ وفي محبتهِ "كما أحَبَّني الآب، فكذَلِك أحبَبتُكم أنا ايضاً. اثبتوا في مَحَبَّتي. إذا حَفِظتُم وصايايَ تثبتونَ في مَحَبتي، كما أنّي حَفِظتُ وصايا أبي وأثبُتُ في مَحبتِهِ" (يوحنا ١٥: ٩-١٠). وطبعاً الجسّد يحتاج إلى إشباع م، ولكن ليسَ بالشهّوة وإغضَاب الرب، وإنما برضَى الربّ وبما حللهُ لهُ.

 

عندما خلقَ الله الإنسان جعلهما ذكراً وأنثى، أرادا لهما حياة مقدسة تكون انعكاسًا لطبيعتهِ الإلهية الكاملة، وقال: "ويصيرُ الاثنان جسداً واحِداً. فلا يكونان اثنين بعد ذلك، بل جسدٌ واحد. فما جمعه الله فلا يُفَرِّقَّنه الإنسان" (متى ١٩: ٥-٦). يتحدان ليصبحا شخصاً واحِداً في الأبناء الذين يأتون بهم للحياة، أي إن الله خلق الإنسان وبداخله الرغبة والحب للآخر. وأراد للإنسان أن يسمّو بمشاعره وعواطفهِ للآخر.

 

ولكن كيف؟ بالشهوة، أم ضمن إطار علاقة زوجية يتخللها الحب والتفاهم وتمتد مدّى نهاية حياة أحدهما ؟

 

لقد خلق الله هذه الغريزة في الإنسان كتعبير عن الحُب والعواطف والألفة الجسدّية المُحبة والعلاقة الحميمة للآخر. خلقهما الله لهدف في الحياة وهي "انموا وأكثروا واملأوا الأرض". وهذا الحب يجب أن يُفهم على أنهُ بذل الذات من أجل الآخر. من أجل أن تكسب حبهُ ومحبتهِ لشخصهِ وذاتهِ التي هي ذاتك، وأن لا يُنظر إليهِ كشيء من الأشياء أو كأداة تنتهك حُرمة شخصه وتُحولهُ إلى مصدر لإشباع الشهوة. فالحب والشهوة في نقيض دائم وصراع. نعم، الاثنان ينبعان من القلب، لكن لكل منهما طريقتهُ في حياة الفرد، والإنسان هو من يحدد بإرادته الذاتية، كيفية كبحّ لجامها. والثقافة المُعاصرة التي هي الأخرى تُستغل بأسلوب خاطئ من قبل البعض، وأفسدتْ هذا المعنى وأبعدتهُ بعيداً عن مفهومهِ تماماً.

 

فأي شيء يقوم به الإنسان على نقيض إرادة الله هو خطيئة، والشهوة خطيئة، إذ  تَمتحنُ الإنسان حين تُغويهِ وتُغريهِ "والشهوة إذا حَبِلَتْ ولَدَتِ الخطيئةَ، والخطيئة إذا نمَّ أمرها خَلَّفَتِ الموتَ" (يعقوب ١: ١٥). قال الرب يسوع "سمعتم أنه قيل: "لا تزن"، أما أنا فأقول لكم: من نظرَ إلى امرأة بشهوة، زنى بها في قلبه" (متى ٥: ٢٧-٢٨). دليل على أن الشهوة بالنظر هي ارتكاب الزنى في القلب وهي خطيئة ، ومن فكرَ بقلبهِ فربما هذا التفكير يتطور إلى سلوك ونشاط فعلي وصريح ويُمارس خارج إطار العلاقة الزوجية "فمِنَ القلبِ تَنبَعثُ المقاصد السيّئة والأفكار الشريرة، والقتلُ والزنى والفُحْشُ والسرقة وشهادةُ الزُّورِ والشَّتائم. تلكَ هي الأشياء التي تُنجِّسُ الإنسانَ" (متى ١٥: ١٩-٢٠ ). وهذه خطيئة تأتي من العالم، ومن يُحب العالم لا تثبت محبة الله فيهِ "لأنَّ كُلَّ ما في العالم من شهوةِ الجسد وشهوةِ العين وكبرياءِ الغِنى ليس من الآب، بل من العالم" (يوحنا الأولى ٢: ١٦).

 

لذا "اهربوا من الزنى، فكّلُّ خطيئةٍ يرتَكِبُها الإنسانُ هي خارجةٌ عن جسدهِ، أمَّا الزاني فهو يخطأُ إلى جسدِهِ" (قورنتس الأولى ٦: ١٨). ومن يُذنب بحق جسده ِيُذنب إلى هيكل الروح القدس، الذي وهبهُ الله فينا، وعلينا أن نُمجد الله في أجسادنا ونُبقيها طاهرة وبعيدة عن تجارب الأشرار، تيقظوا واسهروا، "إنَّ خصمَكم  كالأسد الزائر يَرودُ في طلبِ فريسةٍ لهُ، فقاوموه راسيخين في الإيمان" (بطرس الأولى ٥: ٨-٩). "لا تجعلوا لإبليس سبيلاً" (أفسس ٤: ٢٧). و"لا تُحزِنوا رُوحَ اللهِ القُدوُس الذي به خُتِمتُم ليوم الفداء" (أفسس ٤: ٣٠).

 

"أمّاً جسدُ الإنسان فليسَ للزِنى، بل هو للربِّ، والرَّبُّ للجسَدِ" (قورنتس الأولى ٦: ١٣). ولكن خوفًا من الوقوعِ في الزنى "فليكن لِكُلِّ رجُلٍ إمرأتهِ ولكل أمرأة زوجها" (قورنتس الثانية ٧: ٢). غير أن المحبة الجسدية وضمن إطارها الصحيح والشرعي شيء جميل  "عودا إلى الحياة الزوجية  لئلا يُجرِّبكما الشيطان لقلَّةِ عِفَّتِكُما" (قورنتس الثانية ٧: ٥) والرب من خلال روحهُ القدوس هو مصدر القوة في الإنسان، وهو الذي يساعدهُ في كيفية توجيه طاقتهِ الجنسية والسيطرة عليها، بشكل روحي وضمن إطار الزواج. لذا: "لا تحبوا العالم وما في العالم، من أحبَّ العالم لم تكُن محبَّةُ الرَّبّ فيه" (يوحنا الأولى ٢: ١٥). و"أُهرُب من أهواء الشباب وأطلب البرّ والإيمان والمحبة والسلام مع الذين يدعون الربّ بقلبٍ طاهر" (طيموتاوس الثانية ٢: ٢٢). "فليس لنا عظيمُ كهنة لا يستطيعُ أن يَرثيَ لِضُعفِنا: لقد امتُحنا في كُلِّ شَيْءٍ مِثلنا ما عَدا الخطيئةَ" (عبرانيين ٤: ١٥). فالرب لا يريد أن نكون مثقلين بذنوبنا بلْ بالمحبة التي وهبنا إياها من خلال الفداء بالمسيح يسوع.

 

وإذا استبدلنا الحب بالشهوة ستنتهي البشرية بشعور غير أصيل، ولا يكون الإنسان إلاّ وسيلة لإشباع غريزة جسدّية فقط. وإذا حصل هذا، فما الفرق بين الإنسان وبين الحيوان؟

 

سيكون الإنسان عبدًا لشهواتهِ، وبالتالي عبدًا للخطيئة، والخطيئة تشوه الجسد. فلا يكون معنى وطعم لحياتنا، وللحب الحقيقي والطاهر. هذه كانت غاية فداء المسيح نفسهُ من أجلنا، ومن أجل خلاصنا من الخطيئة، وبعد هذا كلهُ، هل نستمر في مسيرتنا، أم نسمّو بإنساننا وإنسانيتنا، لنكون على علاقة حميمة ومحبة مع الله ومع الآخر، وأن نتجاوب معهُ ومع وصاياه، لنصل إلى الكمال الذي به نستمدُ قوتنا من الله لننتصر على الشهوة والخطيئة، ونثبتْ في المحبة. وهذا متوقف على ذات كل إنسان وعلى قدرتهِ في السيطرة على نفسهِ وشهواتها.