موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢٦ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٤

الحروب ليست حلّاً

د. رضوان السيد

د. رضوان السيد

د. رضوان السيد :

 

عالم الحروب اليوم أعمق وأخطر، وقد وصل إلى قلب أوروبا بهجمة روسيا على أوكرانيا عام 2022 التي استمرّت حتى اليوم. وكأنّما كانت إسرائيل تنتظر مسوِّغاً لحربٍ مصيريّةٍ مع إيران وأذرُعها فأعطتها حماس وأعطاها “الحزب” الذريعة الملائمة، فأثارت عليهما وعلى إيران وعلى كلّ الفلسطينيين والأذرُع حرباً لا هوادة فيها منذ أكثر من عام. هي عولمةٌ للحرب ليس لأنّ دولةً كبرى عضواً في مجلس الأمن مشاركة فيها، بل ولأنّ الولايات المتحدة سارعت للمشاركة سواء في أوكرانيا أو في الشرق الأوسط.

 

كان كتاب غسان سلامة قبل شهور عن “إغراء الحرب” لفتاً بارزاً إلى هذه النزعة التي تنامت في العقد الأخير. وليس معنى ذلك أنّ العقدين الأوّلين من القرن الحادي والعشرين كانا برداً وسلاماً. لكنّ الحروب التي اشتعلت خلالهما أثارتها اندفاعات الجهاديين باسم الإسلام، والتي ردّت عليها الولايات المتحدة بالحرب العالمية على الإرهاب (الإسلامي). وما انتهت تمرّدات الإسلاميين، لكنّها صارت مشهداً فرعياً في غرب إفريقيا وبقايا في سورية والعراق.

 

إلى هاتين الجبهتين اللتين تهدّدان بالتوسّع في أوروبا والشرق الأوسط، هناك الجبهتان الأُخريان: جبهة الصين وتايوان أو صراع الصين والولايات المتحدة على تايوان، والجبهة الأخرى جبهة غرب إفريقيا التي تبدو صراعاً بين الدول الثلاث أو الأربع والميليشيات المسلّحة التي اخترقت أراضيها في مالي والنيجر ونيجيريا وبوركينا فاسو، لكنّها في الحقيقة صراعٌ بين الولايات المتحدة (وفرنسا) من جهة وروسيا والصين من جهةٍ ثانية على النفوذ والموارد.

 

 

انهيار النّظام الدّولي

 

هي جميعاً حروب القوّة المطلقة، فليس فيها محرَّم لجهة صون المدنيين، ولا لجهة الأهداف المحدودة أو المحدّدة التي تنتهي الحرب بتحقّقها.

 

في العدد الأخير لمجلّة الشؤون الخارجية الأميركية (وهو بعنوان: عالم الحروب)، إضافةً إلى ذكر أهوال الحروب المختلفة، تنبيهٌ في مقالة منفصلة إلى أمرٍ آخر: انهيار النظام الدولي أو مجلس الأمن على الأقلّ، لأنّه تعذّر ويتعذّر عليه حسم الصراعات أو التوسّط فيها أو إرسال قوّات سلام كالعادة.

 

لا أحد يعرض قوّات سلام بين روسيا وأوكرانيا، ولا بين غزة وإسرائيل، وأمّا قوّات الأمم المتحدة في جنوب لبنان فتتعرّض للضرب من الطرفين المتصارعين. وحتى قرارات مجلس الأمن التي لا يواجهها الفيتو لا يمكن إنفاذها لأنّ أحد الطرفين أو كليهما لا يأبه لها.

 

وكما سبق القول، يتمّ استخدام القوّة المطلقة في الحروب الدائرة أو المهدِّدة من دون أهداف محدّدة للصراع استمراراً أو توقّفاً. هذا يجعل من تلك النزاعات حروب إبادة، ويستوي في ذلك القويّ المتفوّق والضعيف أو الأقلّ قوّة. ولا يزال الروسيّ يهدّد بالنوويّ، بينما يهدّد الإيراني بسحق إسرائيل. والسؤال هنا ليس عن مدى جدّية التهديد، بل إرادة القوّة التي لا تهدأ أو تضع اعتبارات إنسانية أو عملية. ولا تختلف الولايات المتحدة في ذلك عن روسيا وإسرائيل وإيران. فقد حشدت بالشرق الأوسط أسلحة هي من القوّة والكثافة بحيث تصلح للمشاركة في حرب عالمية.

 

حتى الآن وبعد أكثر من سنتين ليس هناك وسطاء لوقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا. أمّا في الصراع الإسرائيلي- الإيراني والصراع مع الأذرع، فتقدّم الولايات المتحدة نفسها وسيطاً على الرغم من انحيازها العلنيّ لإسرائيل. وتقبل الأطراف الوساطة، لكنّ الإسرائيليين يريدون استمرار الحرب وأميركا تغضّ النظر.

 

أمّا إيران وأذرُعُها فقد كسرتهم الحرب ويريدون وقف النار فعلاً مع معرفتهم أنّه لا يمونُ على إسرائيل غير الولايات المتحدة، وبعد شهرٍ ونصفٍ يتسلّم دونالد ترامب سلطات الرئاسة، وقد يعطيه الإسرائيليون مسبقاً هدية كما يشاع وقف الحرب مع لبنان على الأقلّ.

 

 

وقف النار أولاً والعدالة لاحقاً

 

يقول عدد من الكتّاب في مجلّة الشؤون الخارجية الأميركية إنّ للحرب الجديدة عدّة خصائص: التكنولوجيا المتطوّرة، وهي تتعادل في الصراع بين روسيا وأوكرانيا لأنّ الولايات المتحدة والأوروبيين يساعدون أوكرانيا.

 

يتفوّق الإسرائيليون ويساعدهم الأميركيون أيضاً، في حين تصمد الأذرع الإيرانية بقدر الإمكان مع ظهور تفوّق الآخر. والتحدّي التكنولوجي متعادل في بحر الصين. كما أنّ التفاوت لا يلعب دوراً كبيراً في غرب إفريقيا، حيث الميليشيات تخوض حرب “إضرب واهرب”، وتواجهها الجيوش الضعيفة وقوات فاغنر الميليشياوية الروسية بدورها.

 

ظلّ العُمانيون شديدي الاعتزاز بقدرات الوساطة العُمانية في النزاعات. وحسب فكرة السلطان الراحل قابوس، فإنّ السلام والعدالة فكرتان متلازمتان في أذهان البعض، وبخاصّةٍ العرب. لكنّك في التفاوض إذا أصررت على الأمرين فإنّ الحرب سوف تستمرّ. فلنعمل كوسطاء على وقف النار، وعندما تهدأ الأمزجة يمكن الحديث بالفعل عن العدالة، إذ إنّها ضرورية لاستمرار وقف النزاع وللانتقال إلى السلام الدائم.

 

لكن من يرضى الآن بوقف النار وحسب؟ فالصين لا ترضى من دون الاستيلاء على تايوان باعتبارها جزءاً من الوطن الأمّ. وحتى حماس المغلوبة ومن مصلحتها وقف النار فإنّ “صون وجهها” الذي لن يُصان على أيّ حال، يعني ضرورة الانسحاب الإسرائيلي وإعادة الإعمار.

 

في جنوب لبنان الضروري بالطبع وقف النار، لكن ماذا عن إعادة الإعمار وإعادة السكّان وتسوية مشكلات الحدود؟ ولن تقبل أوكرانيا بوقف النار على الخطوط الحاليّة ورُبع أراضيها أو أكثر محتلّ، وبالطبع لن يقبل الروس بوقف النار مع أوكرانيا إذا اقترن ذلك بمطالبتهم بالانسحاب.

 

هكذا ليست حروب القوّة الهائلة والغاشمة هذه حلّاً كما كانت الحروب السابقة. هي تُخلّف مظالم ومشكلات معقّدة، ويتعذّر فيها القيام بالعدالة الانتقائية. وكما تقول مارا مارتن في مقالتها بمجلّة الشؤون الخارجية (بعنوان: عودة الحرب الشاملة أو المطلقة)، فإنّه مع تأمّل سائر الاعتبارات والأبعاد والعوامل، تبدو كلّ الحروب عبثية، من حيث إنّها لا تحلّ مشكلات القويّ، وبالطبع فإنّها تزيد من مشكلات الضعيف.

 

(أساس ميديا)