موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢١ يوليو / تموز ٢٠٢١

الثورة العرابية والرهبان الفرنسيسكان بمصر

بقلم :
الراهب بولس رزق الفرنسيسكاني - مصر
الثورة العرابية والرهبان الفرنسيسكان بمصر - وثائق غير منشورة

الثورة العرابية والرهبان الفرنسيسكان بمصر - وثائق غير منشورة

 

صدر مؤخراً عن إقليم العائلة المقدسة للآباء الفرنسيسكان كتاب "مصر والفرنسيسكان - فصول من الحرب الأخيرة ]الثورة العرابية[ - وثائق غير منشورة"، الذي كان قد أعده ونشره بالفرنسية في كندا الأب "فريدريك دي غيڤيلد" (Frederic de Ghyvelde) الفرنسيسكاني سنة 1897 تحت عنوان (L'Egypte et les Franciscains)، ونقله إلى العربية الأب يعقوب شحاته الفرنسيسكاني.

 

يغطي الكتاب أحداث مهمة في تاريخ مصر، عمل الرهبان الفرنسيسكان على تسجيلها في يومياتهم الرهبانية أثناء الثورة العرابية التي اندلعت ضد الاحتلال الإنكليزي لمصر سنة 1882م. تلك الأحداث التي ربما تكون مجهولة تماماً، تركت أثارها الإيجابية والسلبية على المجتمع المصري عامة والمسيحيين الاجانب والمحليين، وبنوع خاص الرهبان الفرنسيسكان الذين قدموا الكثير من التضحيات، وشاركوا النفوس الموكولة إلى رعايتهم المعاناة والآلام التي تحملوها في ظل تلك الظروف الصعبة.  

 

يعود تاريخ وجود الفرنسيسكان وخدمتهم في مصر إلى زمن القديس فرنسيس، الذي زارها أثناء الحملة الصليبية الخامسة على دمياط ولقائه مع السلطان الملك الكامل عام 1219، في محاولة لوقف الحرب واستتباب السلام. ومنذ ذلك الحين لم ينقطع وجودهم في مصر، التي كان يحضرون إليها من الأراضي المقدسة، حيث يقومون بحراسة المزارات المقدسة في كل من القدس وبيت لحم والجليل، خاصة كنيسة القيامة وبعد قيامة المخلص كان الملاك الذي يدافع عن مدخل قبره، أما منذ القرن الثالث عشر فاصبح أبناء الأب السارؤفي هم الذين يسهرون على هذا المزار العظيم، لحمايته من أي تدنيس. وقد تعرضوا للذبح مرتين، في سنة 1244، و1368 واستبدلوا فورًا بإخوة آخرين.

 

يقدم لنا الكتاب في المقدمة وصف لطبيعة مصر الخلابة، وإعجاب معد الكتاب بطقسها وصحاريها وجبالها وهضابها ونيلها العظيم حتى طمي تربتها الخصب. وفي الفصل الأول، يأتي بفقرة اقتبسها من كتابات القديس "بونافنتورا" عن زيارة القديس فرنسيس لمصر سنة 1219، ومحاولته إثناء القوات الصليبية عن شن هجومها على قوات الأيوبيين في دمياط، واللجوء بدلاً من ذلك إلى الحوار، لكنه فشل في إقناعهم، مما أدى إلى هزيمتهم.

 

في الفصول التالية يعرض عدة تقارير، كتب بعضها هو شخصياً والبعض الأخر أعده رهبان وراهبات عن مجرى أحداث الثورة في الإسكندرية وكفر الزيات والمنصورة وطنطا والقاهرة، بالإضافة إلى الإسماعيلية والسويس. وتبدأ التقارير بالأحداث التي اندلعت في الإسكندرية احتجاجاً على ضرب الأسطول الإنكليزي لسواحل المدينة، والمذبحة التي تعرض لها الأوروبيين والمسيحيين عموماً كرد فعل على ذلك الغزو، وهروب 40 ألف شخص إلى اوروبا وسوريا. في تلك الأثناء كان الرهبان الفرنسيسكان يعملون على تقديم التعزية والتشجيع للنفوس القلقة ودعوتها إلى وضع ثقتها في الله. وكان الأوروبيون الذي لم يتمكنوا من الهروب من جانبهم يضعون ثقتهم في الرهبان الفرنسيسكان، إذ عندما كانوا يصادفونهم في الطريق كانوا يسألونهم "هل ستغادرون أنتم ايضًا؟ إن عيوننا ستظل تراقبكم، إذا رحلتم سنرحل معكم". في تلك الظروف كم كانت الصعوبات التي عاشها وتحملها الرهبان، للحفاظ على الإيمان والرسالة وبث الطمأنينة والسلام في نفوس الشعب المؤمن وسط المعاناة والحروب التي اشتعلت في تلك الأيام.

 

رغم كل الظروف التي كانت تمر بها بلادنا المصرية من الصراع إلى ان الرهبان اكتسبوا احترام السكان المحليين واحتفظوا بتعاطفهم العام في جميع مهاهم بمصر لأنهم كانوا يقومون بأعمال المحبة والمساعدات الإنسانية وتقدم لهم العون الروحي للفقراء والمرضى في المستشفيات والخدمة الإنسانية.

 

ويحكي الكتاب أيضاً عن المغامرات التي عاشها الرهبان والراهبات في الإسكندرية وهروب الجاليات الأجنبية إلى كفر الزيات والقاهرة والإسماعلية.

 

من الأحداث التي ذكرت في الكتاب مقابلة الأب رئيس الدير الرئيسي بالقاهرة لأحمد عرابي باشا قائد الثورة شخصيًا، ليطلب منه تخصيص حراسة عسكرية لبعض الأديرة والمؤسسات التي تتعرض للتهديد. واستقبال عرابي باشا له بكل لطف وترحاب ومنحه الحراسات اللازمة، كما ومحاولة طمأنته قائلاً: "أيها الأب ليس هناك مجال للخوف والقلق، فحربنا ليست ضدكم ولكنها ضد أعدائنا الحقيقيين الإنكليز". بالإضافة إلى ذلك قدم عرابي باشا كميات كبيرة من الدقيق لتوزيعها على الجماعات الرهبانية المختلفة.

 

ويحكي مُعدّ الكتاب خبرته في مدينة الإسكندرية عقب انفجار أحداث العنف والقتل، ويقول:" ...كنا ومازلنا نمشي في الشوارع على انقاض الخزف والأعمال الفنية والزهريات الثمينة التي كسرتها جحافل اللصوص، والتي لم يمكنهم جشعهم، من الاستيلاء عليها كلها الذين قرروا تدميرها كرهًا منهم للأجانب، سعيت بكلّ جهدي للاستفسار عن الحقائق، حتّى أتمكن من تسجيل فكرة دقيقة على الأقل عنها في يومياتنا. لم يكن الأمر سهلًا: اتفق الجميع على حقيقة المجازر: دم الضحايا ما زال يسيل في الشوارع، لكن لم يكن بمقدور أحد أن يشير لي إلى نقطة البداية لهذه الدراما الدمويَّة، أو إلى الشرارة التي تسببت في هذه الحرائق الشاسعة؛ لكن العنايَّة الإلهيَّة. وكان الصمت كئيب يسود في الأزقة المظللة وحول مساكنها الفاخرة التي هرب ملاكها وتخلوا عنها وتركوا كل شيء وأصبح كله منهوب من المنازل الجميلة. وعاشت مدينة الإسكندرية خبرة آلم وضرب وخراب وقتل الأوربيين في شارعها وساحاتها العامة ولم نستطع تحديد عدد الضحايا ويرفض القلم أن يصفها من شدة البشاعة".

 

في التقرير الذي يتناول أحداث كفر الزيات يتناول الموقف الإنساني والنبيل والشهم لأحد زعماء القبائل العربية، الذي تعهد بحماية الرهبان والراهبات مع بعض المسيحيين الآخرين واستضافتهم في منزله ومنازل قريته. وفي الفصل الذي يليه يتحدث عن رد الجميل من جانب الرهبان والراهبات لهذا الرجل الكريم، ونجاحهم في إطلاق سراحه بعد أن قبض عليه بعد نهاية الثورة والحكم عليه بالإعدام.

 

الفصلان الأخيران في الكتاب يتناولان تاريخ الفرنسيسكان في الأراضي المقدسة، والتضحيات الجمة التي بذلوها من دمائهم وأموالهم للحفاظ على حقوق المسيحيين الأوربيين في المزارات المقدسة. بعد ذلك يتطرق إلى رحلة العائلة المقدسة إلى مصر والمغامرات التي مروا بها أثناء تلك الرحلة، ويختم بالحديث عن شجرة العذراء بالمطرية والتقاليد التي تتعلق بها.

 

في العموم يبين مُعدّ الكتاب كيف ان الرهبان والراهبات الفرنسيسكان اكتسبوا احترام وتقدير السكان المحليين تجاه كل ما يقومون به من أعمال إنسانية واجتماعية، وتقديم العون للفقراء والمرضى في المستشفيات وملاجئ الأيتام والمدارس.