موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٨ مايو / أيار ٢٠٢٤

الأحَد الفِصْح الثَّالث: إيمان الرُّسل وشِهادتُهم بقِيامَة المسيح

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
 الأحَد الفِصْح الثَّالث: إيمان الرُّسل وشِهادتُهم بقِيامَة المسيح (لوقا 24: 35-48)

الأحَد الفِصْح الثَّالث: إيمان الرُّسل وشِهادتُهم بقِيامَة المسيح (لوقا 24: 35-48)

 

النَّص الإنجيلي (لوقا 24: 35-48)

 

رَوَي تلميذا عِمَّاوس ما حَدَثَ في الطَّريق، وكَيفَ عَرَفاه عِندَ كَسْرِ الخُبْز.  36 وبَينَما هُما يَتَكَلَّمان إِذا بِه يقومُ بَينَهم ويَقولُ لَهم: ((السَّلامُ علَيكُم!)) 37 فأَخَذَهُمُ الفَزَعُ والخَوفُ وظَنُّوا أَنَّهم يَرَونَ رُوحًا. 38 فقالَ لَهم: ((ما بالُكم مُضطَرِبين، ولِمَ ثارَتِ الشُّكوكُ في قُلوبِكم؟ 39 أُنظُروا إِلى يَدَيَّ وقَدَميَّ. أَنا هو بِنَفْسي. إِلمِسوني وانظُروا، فإِنَّ الرُّوحَ ليسَ له لَحمٌ ولا عَظْمٌ كما تَرَونَ لي)). 40 قالَ هذا وأَراهُم يَدَيهِ قدَمَيه 41 غَيرَ أَنَّهم لم يُصَدِّقوا مِنَ الفَرَحِ وظَلُّوا يَتَعَجَّبون، فقالَ لَهم: ((أَعِندَكُم ههُنا ما يُؤكَل؟)) 42 فناوَلوهُ قِطعَةَ سَمَكٍ مَشوِيّ. 43 فأَخَذَها وأَكَلَها بمرأى مِنهُم. 44 ثُمَّ قالَ لَهم: ((ذلك كلامي الَّذي قُلتُه لكم إِذ كُنتُ مَعَكم وهو أَنَّه يَجِبُ أَن يَتِمَّ كُلُّ ما كُتِبَ في شأني، في شَريعَةِ موسى وكُتُبِ الأَنبِياءِ والمَزامير)). 45 وحينَئِذٍ فَتحَ أَذْهانَهم لِيَفهَموا الكُتُب، 46 وقالَ لَهم: ((كُتِبَ أَنَّ المَسيحَ يَتأَلَّمُ ويقومُ مِن بَينِ الأَمواتِ في اليَومِ الثَّالِث، 47 وتُعلَنُ بِاسمِه التَّوبَةُ وغُفرانُ الخَطايا لِجَميعِ الأُمَم، اِبتِداءً مِن أُورَشَليم. 48 وأَنتُم شُهودٌ على هذه الأُمور. 49 وإِنِّي أُرسِلُ إِلَيكم ما وَعَدَ بهِ أَبي. فَامكُثوا أَنتُم في المَدينَة إِلى أَن تُلبَسوا قُوَّةً مِنَ العُلى)).

 

 

مقدمة

 

يصف لوقا الإنجيلي، في الأحد الثَّالث للفصح، ظهور يسوع للرسل في العُلِّيَّةِ، والذي يُشكّل خاتمة إنجيله (لوقا 24: 35-48). إذ يُشدّد يوحنا الإنجيلي على تغلُّب يسوع على قِلَّة إيمان الاثني عشر من خلال إعطائهم علامات على حقيقة قيامته (أعمال الرُّسل 1: 3)، ويدعوهم ليكونوا شهودًا على قيامته من خلال إعلان التَّوبة والغفران وَفقًا لتوصيته لهم "ستُعلَنُ بِاسمه التوبة وغُفرانُ الخطايا لجَميع الأمم، ابتداءً من أورشَليم. وأنتم شُهودٌ على هذه الأمور" (لوقا 24: 47). فالقيامة هي فوق كل موت، هي الحياة، وهي أساس الإيمان وأساس التبشير بإنجيل الخلاص، ومن هنا تكمن أهميَّة البحث في وقائع النَّص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولًا: وقائع النَّص الإنجيلي (لوقا 24: 35-48)

 

35 روى تلميذا عِمَّاوُس للرسل ما حَدَثَ في الطَّريق، وكَيفَ عَرَفاه عِندَ كَسْرِ الخُبْز.

 

تشير عبارة " تلميذا عِمَّاوُس " إلى "أَحَدهما، واسمُه قَلاوبا (لوقا 24: 18) في الأصل اليوناني Κλεοπᾶς يرّجح أنه اختصار "كليوباترُس" ومعناه "من أب مشهور" وهو ليس هو كلوبا Κλωπᾶ (يوحنا 19: 25) كما ظَّن بعض الآباء المسيحيين المتأخرين. وهو أحد السبعون رسولًا، والآخر سمعان ابنه الذي أصبح ثاني أساقفة اورشليم كما ورد في كتاب اوسابيوس القيصري " تاريخ الكنيسة". ولما دمَّر الرُّومان اورشليم عام 70 لجأ هو وجزء من رعيته إلى أرض البيريا شرق نهر الأردن، وقد استشهد مَصلوبًا في عهد الإمبراطور تراجان سنة 107. جعل حضور يسوع الحَي من تلميذي عِمَّاوُس شهوده في الكنيسة وفي العَالَم. وتندرج ظهور يسوع لتلميذي عِمَّاوُس مع الظُّهورات الخاصة التي تدور روايتها حول التَّعرّف على شخص المسيح.  أمَّا عبارة "عِمَّاوُس" باليونانيَّة Ἐμμαοῦς المشتقَّة من العبريَّة עַמָּאוּס (معناه الينابيع الحارة) فتشير إلى موطن التِّلميذين. وتقع عِمَّاوُس" على بُعد نحو 30كم (ما يعادل غلوة 160) إلى الشِّمال الغربي من اورشليم، حيث أنَّ الغلوة مقياس يوناني الأصل σταδίων، ويبلغ 184 مترا أو 145 خطوة. وهي حاليا تتحدَّد في قرية عِمَّاوُس اللطرون التي دَمّرها الرُّومان سنة 70 م، فأصبحت قرية صغيرة حيث التقى يسوع بتلميذَيه، ثم أعاد الرُّومان بناء هذه المدينة في القرن الثَّالث الميلادي، أي نحو عام 223م، وأطلق عليها اسم "نيكوبوليس" Νικόπολις أي "مدينة النَّصر" حيث عاشت وازدهرت جماعة مسيحيَّة كبيرة بدليل بقايا كنيسة بيزنطيَّة كبيرة مغطاة أرضيتها بالفسيفساء وفيها جرن المعموديَّة. ويقول بعض الباحثين أن "عِمَّاوُس" الإنجيليَّة هي قرية عِمَّاوُس القبيبة واسم القبيبة يعني القُبة الصَّغيرة.  وهي تقع على نحو 11كم ما يعادل 60 غلوة غرب اورشليم؛ يعود تقليد ارتباطها بقرية عِمَّاوُس الإنجيليَّة إلى زمن الصَّليبيين عام 1280. وفي السّنوات العشر الأخيرة عزلت قرية عِمَّاوُس القبيبة عن القُدُس عن طريق جدار الفصل العنصري (حسب الفلسطينيين) أو الحاجز الأمني (حسب الإسرائيليين) والحواجز. أمَّا عبارة "رَوَيا ما حَدَثَ في الطَّريق" فتشير إلى مشاركة الآخرين إلى معرفة يسوع كما صرَّح بولس الرَّسول "الوَيلُ لي إِن لم أبَشِّر!" (1 قورنتس 9: 16). لم يستطعْ التِّلميذان أن يحتفظا بالفرح الذي غمر قلوبهما لوحدهما ولا يُمكن السُّكوت عنه، لأنّ المُحبّ يرغب جدًا في أن يجعل من يُحبّه مَحبوبًا؛ أمَّا عبارة "عِندَ" باليونانيَّة ἐν بمعنى بفضل كَسْرِ الخُبْز؛ أمَّا عبارة "كَسْرِ الخُبْز" فتشير إلى عشاء تلميذي عِمَّاوُس حين كسر المسيح الخبز وبارك. إنه يرمز إلى الإفخارستيا، وهي ذكرى ذبيحة يسوع على الصَّليب. فالخبز الذي كسره لتلميذي عِمَّاوُس هو سر شركة وأُلفة واتصال، حيث أنَّه عندما تناول التِّلميذين جَسَد الرَّبّ "عَرَفا يسوع الرَّبّ عِندَ كَسْرِ الخُبْز (لوقا 24: 35).

 

36 وبَينَما هُما يَتَكَلَّمان إِذا بِه يقومُ بَينَهم ويَقولُ لَهم: السَّلامُ علَيكُم!،

 

تشير عبارة "يقومُ بَينَهم" في الأصل اليوناني ἔστη ἐν μέσῳ (معناها وقف في وسطهم) إلى الظُّهور المسيح الخامس لتلاميذه بغتة، بعد لقائه مع تلميذيّ عِمَّاوُس. وقال يوحنا الإنجيلي أنَّ الأبواب كانت مغلقة في يوم قيامته (يوحنا 20: 19). فقد تراءى أولاً لمريم المِجْدليَّة (يوحنا 20: 11-18) وثانيا لبقيَّة النِّساء وهنَّ راجعات من القبر (متى 28: 9-10)؛ وثالثا لبطرس (لوقا 24: 34) ثم لتلميذي عِمَّاوُس (لوقا 24: 13؛ وخامسًا للتلاميذ كلهم مجتمعين كما ورد في هذه الآية. وهذا الظُّهور يُعد اهم ظهورات المسيح، حيث تمَّ ذكره أيضًا في إنجيل يوحنا (20: 19-23). وكان مراد المسيح القائم أقناع تلاميذه أنَّ جَسَده بعد القيامة بقي، كما هو ولم يكن شبحًا أو خيالاً أو طيفًا، حيث لمسه التَّلاميذ بأيديهم، وأكل ومعهم سمكًا مشويًا.  ومن جهة أخرى، لم يكن جَسَد يسوع مجرد َجَسَد بشري كجَسَد لعازر بعد قيامته من الموت (يوحنا 1)، إنَّما كان جَسَدا حقيقيًا مثلما كان قب موته، لكنَّه الآن ممجدًا وخالدًا. فالرَّبّ يسوع كان قادرًا على الظُّهور والاختفاء؛ وسننال نحن مثل هذا الجَسَد عند قيامة الأموات، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "هذا شَأنُ قِيامَةِ الأَموات. يَكونُ زَرْعُ الجِسْمِ بِفَساد والقِيامةُ بِغَيرِ فَساد" (1 قورنتس 15: 42-50). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم بقوله "جاء ذاك الذي كان مُشتهى جدًا، معلنًا ذاته لطالبيه ومنتظريه، لا بطريقة يمكن أن يُشك فيها، وإنَّما حّل بشهادة واضحة". وأمَّا عبارة "السَّلامُ علَيكم!" في الأصل اليوناني Εἰρήνη ὑμῖν (معناها سلام لكم) فتشير إلى امنيه سلام للتلاميذ. فيسوع لا يَعد السّلام بل يُعطيه. إنَّه سلام الانتصار على الخطيئة والموت، على الظُّلم والحقد والبُغض والعُنف.  فالسّلام هنا هو "أول ثمرة من ثمار الصَّليب" (القديس يوحنا الذهبي الفم) وهو "السّلام الحقيقي وتحيَّة الخلاص" (القديس أوغسطينوس).  سلام المسيح تحيَّة يوجِّهها السّيد المسيح لتلاميذه عند ظهوره لهم، كما سبق أن علم تلاميذه قائلًا " أَيَّ بَيتٍ دَخَلتُم، فقولوا أَوَّلًا: السَّلامُ على هذا البَيت" (لوقا 10: 5). سلامٌ يدلُّ على التَّحيَّة التي اعتاد التَّلاميذ أن يسمعوها من المسيح فعرفوه بها وتَحقَّقوا من محبته لهم وغفرانه لهم على تركهم إياه، وإنَّه سلام ينزع الخوف والشَّك. ويُعلق القديس غريغوريوس النِّيزينزي " قدَّم يسوع لتلاميذه "سلامه" الفائق، لا كعطيَّة خارجيَّة، إنَّما هبه تمس الأعماق في الداخل"؛ وبهذا حقَّق ما وعدهم به في ليلة آلامه " السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم. لا أُعْطي أَنا كما يُعْطي العَالَم. فلا تَضْطَرِبْ قُلوبُكم ولا تَفْزَعْ " (يوحنا 14: 17). تحيَّة سلام يسوع هي بركةٌ غير عاديَّة تحمل في طيّاتها قوة لطرد الخوف؛ وهي تحيَّة سلام للذين يحتاجون إليها بعد خوف يوم الجمعة العظيمة. وهذا السّلام مرتبطٌ بشخص يسوع، ويدلُّ على الخلاص الذي يمنحه يسوع لتلاميذه، فلا مكان بعد ذلك للاضطراب والخوف، بل هذا السّلام يُبدِّد كلَّ اضطراب أحدثه رحيله عنهم، كما قال لهم يسوع "لا تَضْطَرِبْ قُلوبُكم. إنَّكم تُؤمِنونَ بِاللهِ فآمِنوا بي أَيضًا" (يوحنا 14: 1)، إنَّه سلام داخلي مع الله، ومع الإنسان نفسه ومع إخوته، وهو ثمر القيامة، وهو عطيَّة مجانيَّة، وهو إتمام وعود يسوع في كلامه الأخير "سَلامي أُعْطيكم" (يوحنا 14: 27). هذا السّلام يختلف عن أي سلام أرضي يتفاوض عليه البشر، هو السّلام الذي نرجوه عندما نُرنِّم "المجد لله في العلى وعلى الأرض السّلام ". قد عَّرفَ بولس الرَّسول هذا السّلام بقوله: "سلامَ اللهِ الَّذي يَفوقُ كُلَّ إِدراكٍ يَحفَظُ قُلوبَكم وأَذْهانَكم في المسيحِ يسوع" (فيلبي4 :7). "وقَد حَقَّقَ السَّلامَ بِدَمِ صَليبِه" (قولسي 1 :20)، وبكلمة موجزة "فإِنَّه سَلامُنا، فقَد جَعَلَ مِنَ الجَماعتَينِ جَماعةً واحِدة وهَدَمَ في جَسَدِه الحاجِزَ الَّذي يَفصِلُ بَينَهما، أَيِ العَداوة" (أفسس 2 :14).

 

37 فأَخَذَهُمُ الفَزَعُ والخَوف وظَنُّوا أَنَّهم يَرَونَ رُوحًا.

 

تشير عبارة "فأَخَذَهُمُ الفَزَعُ والخَوف" في الأصل اليوناني πτοηθέντες δὲ καὶ ἔμφοβοι γενόμενοι (معناها الفَزع أي الخوف المفاجئ، والخوف هو بالاضطراب) إلى اضطراب التَّلاميذ من مشاهدتهم المسيح واقفًا حيًا بينهم بعد عِلمهم انه مات ودُفن، وهذا الأمر مُخالفٌ لكلِّ ما اختبروه في الماضي وما يتوقَّعونه في المستقبل.  أمَّا عبارة " رُوحًا" فتشير إلى خيال، كما يزعم النَّاس أنَّ الموتى يظهرون أحيانًا، لذلك ظنَّوا نفس المسيح أخذت شبه الجَسَد وظهرت لهم، كما كان زعمهم يوم رأوه ماشيًا على ماء (متى 14: 26)، لانَّ كان اليهود يميلون إلى الاعتقاد بالأشباح والأرواح.  كان صعبٌ على التَّلاميذ إدراك أن الشَّخص الذي يقف أمامهم هو نفسه يسوع الذي عاشوا معه وآمنوا به.

 

38 فقالَ لَهم: ما بالُكم مُضطَرِبين، ولِمَ ثارَتِ الشُّكوكُ في قُلوبِكم؟

 

تشير عبارة "ما بالُكم مُضطَرِبين، ولِمَ ثارَتِ الشُّكوكُ في قُلوبِكم؟" إلى إعلان يسوع لتلاميذه أنَّه عارفٌ بتشويش في أفكارهم وقلق في قلوبهم، فقام بتوبيخهم لطمأنتهم ووضع السّلام في قلوبهم، ونزع من قلوب الخوف والاضطراب من أفكارهم، إذ قال لهم بعد السّلام: ما بالُكم مُضطَرِبين، ولِمَ ثارَتِ الشُّكوكُ في قُلوبِكم؟  فغاية المسيح في هذين السُّؤالين تسكين خوف التَّلاميذ وبيان أن لا سبب لاضطراب أفكارهم والقلق في قلوبهم.  وإنَّ ذلك الاضطراب والقلق يمنعهم عن تحقيق صحَّة البراهين على قيامته.

 

39 انظروا إلى يَدَيَّ وقَدَميَّ. أَنا هو بِنَفْسي. إِلمِسوني وانظُروا، فإِنَّ الرُّوحَ ليسَ له لَحمٌ ولا عَظْمٌ كما تَرَونَ لي

 

تشير عبارة "أنظروا إلى يَدَيَّ وقَدَميَّ" إلى دعوة يسوع الحَي إلى تلاميذه لرؤية الجُراحات في يديه وقدميِّه، ليتمكنوا من لمْسها، إذ كان فيها آثار المَسَامير، فاستطاعوا أن يتيقَّنوا أنَّه يسوع، وأنَّ جَسَده هو الجَسَد الذي صُلب، فاستنتجوا يقينًا أنَّه قام وأنَّهم شاهدوه حقًا. وهكذا عاون المسيح القائم تلاميذه في العبور من الشِّك للإيمان به. ويُعلق القديس أوغسطينوس: "مع أن جُراحاته شُفيت، لكن آثارها بقيت! إذ حكم هو بأن هذا مفيد للتَّلاميذ، أن يستبقي آثار جُروحه لكي يشفي جُروح أرواحهم، جراحات عدم إيمانهم!".  أكَّد يسوع لتلاميذه أنَّه المسيح المَصلوب، لكي يُزيل مَخاوفهم، ويُثبِّت هويته، لأنَّهم كانوا يعتقدون أنهم يرون روحًا وليس شخصًا حقيقيًا من لحم ودم.  ويتساءل القديس أمبروسيوس: "كيف يُمكن أن يكون ليس في الجَسَد وقد ظهرت فيه علامات الجروح وآثار الطَّعنة التي أظهرها الرَّبّ؟".  أمَّا عبارة "إِلمِسوني وانظُروا" فتشير إلى اللَّمَس والنَّظر إلى آثار الصَّلب التي يحملها يسوع في مجده إلى الأبد (يوحنا 20: 20)؛ وأنَّه ليس روحًا بلا جَسَد، بل هو نفسُ الشَّخص الذي كان قبل موته، وذلك كان اليهود يميلون إلى الاعتقاد بالأشباح والأرواح. حرص يسوع أن يُثبِّتَ الإيمان بقيامة الجَسَد، فأراد أن يَظهر تمامًا، كما كان في السّابق، ويُعلق القدّيس كيرِلُّس، بطريرك الإسكندريّة: " حتّى لا نَظنَّ أنّ له جَسَدا آخر غير ذلك الجَسَد الذي ماتَ به على خشبة الصَّليب" (شرح لإنجيل القدّيس يوحنّا 12). لم يكن جَسَد الرَّبّ يسوع بعد القيامة شبحًا أو خيالًا، لذلك طلب يسوع من تلاميذه أن يلمسوه للإيمان به. وقد لمسوه بأيديهم. لكن لم يكن جَسَده مجرد جَسَد بشري مثل لعازر بعد إقامته من الموت (يوحنا 11)، بل جَسَد حقيقيٌ، لكنَّه خالدٌ؛ ونحن سننال مثل هذا الجَسَد عند قيامة الأموات، كما صرَّح القديس بولس الرَّسول: "وهذا شَأنُ قِيامَةِ الأَموات. يَكونُ زَرْعُ الجِسْمِ بِفَساد والقِيامةُ بِغَيرِ فَساد. يَكونُ زَرْعُ الجِسْمِ بِهَوان والقِيامَةُ بِمَجْد. يَكونُ زَرْعُ الجِسْمِ بضُعْف والقِيامةُ بِقُوَّة. يُزرَع جِسْمٌ بَشَرِيٌّ فيَقومُ جِسْمًا رُوحِيًّا" (1 قورنتس 15: 42-44). أمَّا عبارة "فإِنَّ الرُّوحَ ليسَ له لَحمٌ ولا عَظْمٌ كما تَرَونَ لي " فتشير إلى تذكير المسيح لتلاميذه بصفات الرُّوح التي هي مخالفة لصفات المادة ليُبرهن لهم أن أفكارهم فيه أوهام، وان جَسَده جَسَد حقيقيٌ، كما صرَّح يوحنا الرَّسول: " ذاك الَّذي كانَ مُنذُ البَدْء ذاك الَّذي سَمِعناه ذاك الَّذي رَأَيناهُ بِعَينَينا ذاكَ الَّذي تَأَمَّلناه ولَمَسَتْه يَدانا مِن كَلِمَةِ الحَياة" (1 يوحنا 1: 1).  وبكلمة أخرى، هدف ظهور المسيح لتلاميذه هو، قبل كل شيء، إعلان بأنّ المسيح القائم أمامهم، هو هو نفسه، الّذي صُلِبَ ومات وذلك لتقوية إيمانهم. فالإيمان لا يَلد مع الإنسان، لكنّه يَلد في الإنسان.

 

40 قالَ هذا وأَراهُم يَدَيهِ وقدَمَيه

 

تشير عبارة "أَراهُم يَدَيهِ وقدَمَيه" إلى إظهار المسيح القائم من الموت لتلاميذه أثار الصَّلب التي يحملها. ويُعلق القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ: "لقد قبل الرَّبّ يسوع المسيح هذه الآلام كلّها لأجلنا ولأجل خلاصنا. وقد تألّم حقًّا وقام حقًّا. وآلامه لم تكن مُجرّد ظهور بسيط، كما يدّعي بعضٌ من غير المؤمنين. بالنِّسبة إليّ، أعرف وأؤمن بأنّ الرَّبّ يسوع المسيح ظهر بالجَسَد حتّى بعد قيامته. وعندما كشفَ عن يديه وقدميه أراهم آثار المَسَامير، أعلنُ جليًّا أنّه أعاد بناء هيكل جَسَده بعد أن عُلّقَ على خشبة الصَّليب، وأنّه قضى على الموت الجَسَديّ لأنّه هو الحياة، وهو الله بطبيعته". إنّه إلهٌ بطبيعته، وإنّه في الوقت ذاته لا يختلفُ عن المسيح الذي كان يعيشُ سابقًا مع التَّلاميذ. والسّبب الرئيسي لإبقاء آثار الجُراحات "هو الشَّهَادة لتلاميذه أن الجَسَد الذي قام هو بعينه الذي تألم" كما يقول القديس كيرلس الكبير. لقد رأى لتلاميذ في جَسَد المسيح القدوس مَعَالم الألم والعذاب، ولمسوا آثار الحَربة والسِّياط والشَّوك والمَسَامير. فهذه المَعَالم هي الدليل الحقيقي على حقيقة شخصيَّته. ويُعلق القديس أمبروسيوس: "كان عمل السّيد المسيح بعد أن وهبهم سلامه الحقيقي أن يؤكِّد لهم أنه ليس روحًا مجردًا بل يحمل جَسَدًا، مبرهنًا على ذلك بلمسه وتناول الطَّعام معهم". لأنّه إن لم يكنْ جَسَده الميت هو نفسه الجَسَد الذي قامَ من بين الأموات، فأيُّ موتٍ هذا الذي تغلَّبَ عليه؟

 

41 غَيرَ أَنَّهم لم يُصَدِّقوا مِنَ الفَرَحِ وظَلُّوا يَتَعَجَّبون، فقالَ لَهم: أَعِندَكُم ههُنا ما يُؤكَل؟

 

تشير عبارة "أَنَّهم لم يُصَدِّقوا مِنَ الفَرَحِ" إلى عُذرِ على قِلة إيمان الاثني عشر، علمًا أنَّ النَّاس يميلون حالاً إلى تصديق ما يوافق إرادتهم. وجد يسوع لهم عذرًا، كما وجد لنومهم أثناء نزاع يسوع في الجسمانيَّة بسبب الحزن (لوقا 22: 45)، كذلك وجد لهم عذرًا بأنهم لم يصدّقوا القيامة بسبب الفرح. إنَّ هذه اللمسة السّيكولوجيَّة تكشف عن معرفة يسوع العميقة بمشاعر التَّلاميذ في تلك الظُّروف. فحضور يسوع الحَي بين تلاميذه َقَلَبَ الحزن إلى فرح، والخوف إلى شجاعة، وخيبة الأمل إلى رجاء.  إذ أنَّ الفرح ينتج عن اختبار يسوع ورؤيته، وهذا الفرح هو إتمام وعد يسوع الذي قطعه لتلاميذه في حديثه الأخير معهم: "سأَعودُ فأَراكُم فتَفَرحُ قُلوبُكم" (يوحنا 16: 22). ويؤكد ذلك يوحنا الرَّسول بقوله: " فَرِحَ التَّلاميذُ لِمُشاهَدَتِهمِ الرَّبّ" (يوحنا 20: 20). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم: "ما قاله يسوع قبل الصَّلب: "سأَعودُ فأَراكُم فتَفَرحُ قُلوبُكم وما مِن أَحَدٍ يسلُبُكم هذا الفَرَح" (يوحنا 16: 22) قد تحقق الآن عمليًا. هذا كله دفعهم إلى الإيمان الصَّادق". ونحن لا يُمكننا أن نراه أو نسمعه أو نتحدّث معه أو نتبعه من مكان إلى آخر؛ "ولكنّنا نفرح روحيًّا، بصورة غير ماديّة، بل داخليّة، وعقليّة وواقعيّة لدى رؤيته وامتلاكه؛ امتلاك يحتوي واقعيّة وحضورًا أكبر من الواقعيّة والحضور اللذين تمتّع بهما الرُّسل في الأيّام التي كان فيها حاضرًا بجَسَده، لأنّ هذا الحضور روحيّ، ولأنّه غير مرئيّ" كما يعلق الطُّوباويّ يوحنّا هنري نيومان. أمَّا عبارة "ظَلُّوا يَتَعَجَّبون" فتشير إلى اندهاش بالمسيح وبأعمال الله؛ إذ انتقلوا من أعماق اليأس إلى أُفق الرجاء والفرح، لأنهم رأوا أعظم المُعجزات، وهي أنَّ الميت قام وظهر، والمَصلوب والمَدفون وقف أمامهم يُخاطبهم وهم لا يتوقعون شيئا من ذلك.  أمَّا عبارة "أعندكم ههُنا ما يُؤكل؟" فتشير إلى سؤال شبيه بما طرحه يسوع على تلاميذه على شاطئ بحيرة طبريَّة بعد قيامته " فقالَ لَهم" أَمعَكُم شَيءٌ مِنَ السَّمَك؟ " (يوحنا 21: 5). يسعى يسوع وراء التَّلاميذ، ويحاورهم ويُقنعهم، فهو ليس بحاجة إلى الطَّعام، لانَّ سر جَسَد قيامته بعيدٌ عن إدراكنا وخبرتنا. ويُعلّق القدّيس ايرونيموس، أحد أباء الكنيسة الأولى: "كما أراهم يدين حقيقيّتين وجنبًا حقيقيًّا، فقد تناول الطَّعام معهم حقيقة؛ ومشى حقيقة مع سمعان وقَلاوبا (تلميذيّ عماوس)؛ وتحدّث مع النَّاس بلسان حقيقيّ؛ واتّكأ على مائدة العَشاء حقيقة؛ وبيدين حقيقيّتين أخذ الخبز وباركه وكسره وقدّمه لهم. فلا تضع قوّة الرَّبّ على نفس مستوى حيل السّحرة، كي يظهر بأنّه كان بما لم يكن في الواقع، وأنّ يظنّ الآخرون بأنّه قد تناول الطَّعام من غير أسنان، ومشى من غير أقدام، وكسر الخبز من غير يدين، وتكلّم من غير لسان، وعرض جنبًا ليس له ضلوع". لقد بدَّد يسوع المسيح خوف التَّلاميذ ووهمهم بأن جعلهم يلمسونه حتى يتأكَّدوا من جَسَده الحقيقي بينهم، وطلب منهم الطَّعام الذي عندهم في البيت ليأكل قدَّامهم.  كما ساد تعجّب التَّلاميذ أمام هذا ظهور المسيح كذلك لنندهش مؤمنين بالمسيح القائم.

 

42 فناوَلوهُ قِطعَةَ سَمَكٍ مَشوِيّ

 

تشير عبارة "فناوَلوهُ قِطعَةَ سَمَكٍ مَشوِيّ" إلى طعام التَّلاميذ الذي كان عندهم في البيت، والسّمك يرمز إلى الإفخارستيا. وأمَّا عبارة "سَمَك" في الأصل اليوناني ἰχθύς وبالعبريَّة דָּג فتشير إلى ما ورد في إنجيل يوحنا " فلَمَّا نَزَلوا إلى البَرّ أَبَصروا جَمْرًا مُتَّقِدًا علَيه سَمَكٌ، وخُبزًا. فقالَ لَهم يسوع: ((هاتوا مِن ذلِك السَّمَكِ الَّذي أَصَبتُموه الآن " (يوحنا 21: 10). والجدير بالذكر أنَّ رمز السّمكة من الرُّموز الهامة التي كان يستخدمها المسيحيون وقت الاضطهاد؛ إذ أنَّ كلمة ΙΧΘΥΣ وهي مختصر خمس كلمات، "يسوع المسيح ابن الله المُخَلِص"، حيث أنَّ الحرف الأول "Ι" وهو الحرف الأول لكلمة Ἰησοῦς أي يسوع. والحرف الثَّاني "Χ" وهو الحرف الأول لكلمة Χριστóς أي المسيح؛ والحرف الثَّالث "Θ" وهو الحرف الأول لكلمة Θεóς أي الله. والحرف الرابع "Υ" وهو الحرف الأول لكلمة ͑Υἱός أي ابن؛ والحرف الخامس "Σ" وهو الحرف الأول لكلمة Σωτήρ أي مخلص، وبالتالي تكون الكلمة، Ἰησοῦς Χριστóς Θεοῦ͑ Υἱός Σωτήρ.  أي يسوع المسيح ابن الله المخلص. وتحدّث العهد الجديد مرارًا عن السّمك والصَّيد (متى 4 :18-20؛ لوقا 24 :42؛ يوحنا 21 :13-14)، وذلك في إطار بحيرة طبريَّة المشهورة بأسماكها. عرف التَّلاميذ المسيح عندما ظهر في وسطهم كالمعلّم بين تلاميذه حيث رأوه وسمعوه واستطاعوا أن يلمسوه ورأوه يأكل أمامهم.  وليس هناك أكثر طبيعي وإنساني من الأكل. ومن هذا المنطلق، ليس يسوع روحًا فقط فقد ظل إنسانًا حقيقيًا مثلنا: في داخله تكمُن إنسانيتنا الكاملة. مُثِّل الصَّيد على صفائح من عاج في تل الفارعة، واعتبرت المرارة والقلب والكبد في السّمكة، دواء (طوبا 6 :3-9).

 

43 فأَخَذَها وأَكَلَها بمرأى مِنهُم

 

تشير عبارة "فأَخَذَها" إلى ما ورد سابقًا في إنجيل يوحنا عندما تراءى يسوع لتلاميذه على شاطئ بحيرة طبريَّة "دَنا يسوع فأَخَذَ الخُبزَ وناوَلَهم، وفعَلَ مِثلَ ذلك في السَّمَك" (يوحنا 21: 13). أمَّا عبارة "أَكَلَها" فنشير إلى تناول الرَّبّ القائم من بين الأموات طعام السّمك هنا (رسل 10: 41) بمرأى مِنهُم، لإقناعهم أنَّه حَي، وينزع كل شكٍّ من قلوبهم ويُبرهن لهم أنَّه قام وأنَّ جَسَده جَسَدٌ حقيقي. وقد صرًّح بطرس بهذه الحقيقة في وعظته في بيت قرنيليوس قائدُ مِائةٍ في قَيصَرِيَّة على قيامة المسيح: "هو الَّذي أَقامَه اللهُ في اليومِ الثَّالِث، وخَوَّلَه أَن يَظهَر لا لِلشَّعْبِ كُلِّه، بل لِلشُّهودِ الَّذينَ اختارَهُمُ اللهُ مِن قَبلُ، أَي لَنا نَحنُ الَّذينَ أَكَلوا وشَرِبوا معه بَعدَ قِيامتِه من بَينِ الأَموات" (أعمال الرُّسل 10: 40 -41).  وليس هناك أمر أكثر طبيعي وإنساني من الأكل كدليل على أنّ يسوع ليس روحًا فقط، فقد ظل إنسانًا حقيقيًا مثلنا. أراد لوقا الإنجيلي أن يتجاوز ما في القيامة من حقيقة جَسَديَّة تشكّل صعوبة في نظر قرائه اليونانيين وهذا ما نستشفه في خطبة بولس الرَّسول في آتينا: " فَما إِن سَمِعوا كَلِمةَ قِيامةِ الأَموات حتَّى هَزِئَ بَعضُهم (أعمال الرُّسل 17: 32). أمَّا عبارة " بمرأى مِنهُم " في الأصل اليوناني ἐνώπιον (معناها أمام) فتشير إلى طريقة لوقا في الحديث عن القيامة أمام أناس يعتقدون بالأرواح (الأشباح)، لذا يروي لوقا أنَّ يسوع انه أَكَلَ قِطعَةَ سَمَكٍ مَشوِيّا بمرأى مِنهُم وذلك لإقناع تلاميذه بأنه ليس روحًا. إنه موجود، وهو من يشاركنا الحياة دائمًا. ويُعلق القديس أوغسطينوس: "لماذا أراد يسوع أن يقنعني بهذه الحقيقة؟ لأنّه كان يَعلَم لأيّ درجة خَيْرٌ لي أن أصدّقها وكم كنتُ قد خَسِرتُ لو لم أؤمن بها. فآمنوا إذًا، أنتم أيضًا. قد رأى الرُّسل الرَّبّ يسوع المسيح وآمنوا بالكنيسة، الّتي لم يروها. أمّا نحن، فإنّنا نرى الكنيسة؛ فلنؤمن إذًا بالرَّبّ يسوع المسيح، الّذي لا نراه، وإذ نتعلّق هكذا بما نراه، نصل إلى ذاك الّذي لا نراه بعد.

 

44  ثُمَّ قالَ لَهم: ذلك كلامي الَّذي قُلتُه لكم إِذ كُنتُ مَعَكم وهو أَنَّه يَجِبُ أَن يَتِمَّ كُلُّ ما كُتِبَ في شأني، في شَريعَةِ موسى وكُتُبِ الأَنبِياءِ والمَزامير

 

تشير عبارة "ذلك كلامي الَّذي قُلتُه" إلى كلام المسيح قبل موته قيامته، كما ورد في الإنجيل "بدأَ يسوعُ مِن ذلِكَ الحينِ يُظهِرُ لِتَلاميذِه أَنَّه يَجِبُ علَيهِ أَن يَذهَبَ إلى أُورَشَليم ويُعانِيَ آلامًا شَديدة مِنَ الشُّيوخِ وعُظَماءِ الكَهَنَةِ والكَتَبَة ويُقتَلَ ويقومَ في اليومِ الثَّالث" (متى 16: 21). وأمَّا عبارة "كُنتُ مَعَكم" فتشير إلى الأربعين يوم التي أمضاها يسوع مع تلاميذه في الفترة بين قيامته وصعوده، كما ورد في سفر أعمال الرُّسل (1: 8).  أمَّا عبارة "يَجِبُ أَن يَتِمَّ كُلُّ ما كُتِبَ في شأني " فتشير إلى نبوءة يسوع " يَجِبُ على ابنِ الإِنسانِ أَن يُعانِيَ آلامًا شَديدة، وأَن يَرذُلَه الشُّيوخُ وعُظَماءُ الكَهَنَةِ والكَتَبَة، وأَن يُقتَلَ ويقومَ في اليَومِ الثَّالِث" (لوقا 9:22)، ويدخل مجده، وكما صرّح يسوع لتلميذي عِمَّاوس:" أمَّا كانَ يَجِبُ على المَسيحِ أَن يُعانِيَ تِلكَ الآلام فيَدخُلَ في مَجدِه؟ (لوقا 24: 25). كان لا بُدَّ للمسيح أن يتجرَّع ما كُتب عليه من العذاب والألم تكفيرًا عن خطايا العَالَمين. أمَّا عبارة "شَريعَةِ موسى وكُتُبِ الأَنبِياءِ والمَزامير" فتشير إلى أسفار العهد القديم كلِّها. وجمع اليهود كل أسفار العهد القديم في هذه الأقسام الثَّلاثة واضعين الأسفار التَّاريخيَّة مع "الأنبياء". واليهود يُطلقون عليها اسم "التَّناخ" תנ״ך (ت ن خ) أي مختصر إلى ثلاثة كلمات: תּוֹרָה נביאים – כתובים، أي التَّوراة والأنبياء وكتب المزامير كما جاء في إنجيل لوقا " فبَدأَ مِن مُوسى وجَميعِ الأَنبِياء يُفَسِّرُ لَهما جميعِ الكُتُبِ ما يَختَصُّ بِه" (لوقا 24: 27). ولقد أكثر التَّقليد الإنجيلي من استعمال المزامير كأنباءات بالآلام (لوقا 2: 34)، وسيستشهد لوقا الإنجيلي مرارًا كثيرة بالمزامير في أعمال الرُّسل، لأنَّها نبوءات عن سِّر المسيح. فان العهد القديم كله يُشير إلى المسيح. فمثلا وردت نبوءات عن آلامه في المزامير (مزمور 22) وفي سفر أشعيا (أشعيا 53) وكذلك عن قيامته في المزمور (مزمور 16: 9-11) وفي سفر أشعيا (53: 10-11(. فخير وسيلة للإيمان في يسوع هي تصفّح الكتب المُقَدَّسة بعمق وحرارة للاستماع إلى كلمة الله. ومن هذا المنطلق، يوضِّح العهد القديم العهد الجديد، وتوصلنا التُّوراة إلى الإنجيل.

 

45 وحينَئِذٍ فَتحَ أَذْهانَهم لِيَفهَموا الكُتُب، 

 

تشير عبارة "فَتحَ أَذْهانَهم" في الأصل اليوناني διήνοιξεν (معناها فتح) إلى قيمة معرفيَّة وشفائيَّة، إذ تستخدم في فتح أعين مؤمنيه الداخليَّة لمعاينة الرَّبّ ومعرفته، كما هو الحال مع تلميذي عِمَّاوس (لوقا 24: 30-31)، وفي فتح يسوع أذهان التَّلاميذ، أي أنار عقولهم بأفعال روحيه ليدركوا ما كُتب عنه في النَّاموس والأنبياء، خاصة عن صلبه وقيامته (لوقا 11: 52)، اخترق نور يسوع القائم، من خلال كلماته وأفعاله قلوب التَّلاميذ فحمل الفرح لقلوبهم ونزع الفَزَع والشَّك منها. وأستخدم لوقا الإنجيلي "فتح" أيضًا في معجزات الشِّفاء حيث يُرجع فيها يسوع حاسة البَصر إلى العمِّيان وحاسة السّمع للصُّم (لوقا 7: 22). وفتح قلب قائد المائة على الإيمان، ويستمر يسوع القائم من بين الأموات في فتح أذهان تلاميذه وأتباعه ليفهموا الكُتب. ويشفي يسوع هنا تلاميذه ويُعطيهم القدرة على فهم الكِتَاب المقدس، لقراءة تاريخ الخلاص من جديد لكي يروا أن أسلوب السّر الفصحى هو الروح الحقيقي للعَهد بين الله وشعبه. أمَّا عبارة "لِيَفهَموا الكُتُب" فتشير إلى فتح يسوع أذهان التَّلاميذ ليُدركوا ما كُتب عنه في النَّاموس والأنبياء، خاصة عن صَلبه وقيامته، كما يفتح الرُّوُح القُدُس أذهاننا في حياتنا اليوم.  لم يأتِ المسيح بعد قيامته بإعلان جديد ما عرفه تلاميذه من أسرار السّماء، بل اكتفى بفتح أذهانهم لإدراك الكتب الموحاة والمنزلة التي بين أيديهم. يتأمل يسوع مع تلاميذه في تاريخ الخلاص، كما ورد في الكُتب (لوقا 24: 30-31). أمَّا عبارة "المَسيحَ يَتأَلَّمُ ويقومُ مِن بَينِ الأَمواتِ في اليَومِ الثَّالِث" فتشير إلى موضوع كرازة الرُّسل، كما جاء في سفر أعمال الرُّسل (2: 23-32 و4: 10-11 و13: 28-37 و26: 26: 22-23). إنَّ المسيح يسوع، على ما جاء في الكتب، مسيحُ حَمَل، يُذبح كما يُذبح الحَمَل، تكفيرًا عن خطايا النَّاس، ليُعيد إليهم الخلاص. وإذا كانت دعوة المسيح أن يتألم ويموت، فدعوته كذلك إن ينتصر وأن يقوم.

 

46 قالَ لَهم: كُتِبَ أَنَّ المَسيحَ يَتأَلَّمُ ويقومُ مِن بَينِ الأَمواتِ في اليَومِ الثَّالِث،

 

تشير عبارة "كُتِبَ أَنَّ المَسيحَ يَتأَلَّمُ" إلى نبوءات عن آلامه التي وردت في المزامير " إِلَهي إِلَهي، لماذا تركتَني؟ هَيهاتِ أَن تُخَلِّصَني كَلماتُ زَئيري.  جَميعُ الَّذينَ يَرَونَني يَسخَرونَ بي ويَفغَرونَ الشِّفاهَ ويَهُزُّونَ الرُّؤوس ... إلى الرَّبّ سلَّمَ أَمرَه فليَنَجِّهْ ولأَنَّهُ يُحِبُّه فينقِذْه. كالخَزَفِ جَفَّ حَلْقي ولساني لَصِقَ بِفَكِّي وفي تُرابِ المَوتِ أَضجَعْتَنيكِلابٌ كثيرةٌ أَحاطَت بي زُمرَةٌ مِنَ الأَشْرارِ أَحدَقَت بي. ثَقَبوا يَدَيَّ ورِجلَيَّ.  وأَحصَوا كُلَّ عِظامي وهمِ يَنظُرونَ وَيرَونَني.  يَقتَسِمونَ بَينهم ثِيابي ويَقترِعونَ على لِباسي" (مزمور 20: 2، 8، 9، 16، 17، 18، 19). وكُتب عن آلامه المسيح أيضًا في نبوءات أشعيا "لا صورَةَ لَه ولا بَهاءَ فنَنظُرَ إِلَيه ولا مَنظَرَ فنَشتَهِيَه.  مُزدَرًى ومَتْروكٌ مِنَ النَّاس رَجُلُ أَوجاعٍ وعارِفٌ بِالأَلَم ومِثلُ مَن يُستَرُ الوَجهُ عنه مُزدَرًى فلَم نَعبَأْ بِهلقَد حَمَلَ هو آلاَمَنا وآحتَمَلَ أَوجاعَنا فحَسِبْناه مُصابًا مَضْروبًا مِنَ اللهِ ومُذَلَّلًا. طُعِنَ بِسَبَبِ مَعاصينا وسُحِقَ بِسَبَبِ آثامِنا نَزَلَ بِه العِقابُ مِن أَجلِ سَلامِنا وبجُرحِه شُفينا.  كُلُّنا ضَلَلْنا كالغَنَم كُلُّ واحِدٍ مالَ إلى طَريقِه فأَلقى الرَّبّ علَيه إِثمَ كُلِّنا. عُومِلَ بِقَسوَةٍ فتَواضَع ولم يَفتَحْ فاهُ كحَمَلٍ سيقَ إلى الذَّبْحِ كنَعجَةٍ صامِتَةٍ أَمامَ الَّذينَ يَجُزُّونَها ولم يَفتَحْ فاهُ ... لِأَنَّه أَسلَمَ نَفْسَه لِلمَوت وأُحصِيَ مع العُصاة وهو حَمَلَ خَطايا الكَثيرين وشَفَعَ في مَعاصيهم" (أشعيا 53: 2-12)؛ وهناك اتفاق تام بين حوادث حياة المسيح وموته والنَّبوءات المكتوبة، وذلك لضرورة موت المسيح لإيفاء عدل الله وحقّه لتحصيل خلاص العَالَم وَفَق تعليم بولس الرَّسول " فيَكونَ هو بارًّا وُيبَرِّرَ من كانَ مِن أَهلِ الإِيمانِ بِيَسوع " (رومة 3: 26). . أمَّا عبارة "يقومُ مِن بَينِ الأَمواتِ في اليَومِ الثَّالِث" فتشير إلى أساس الإيمان المسيحي، بآلام المسيح وموته تمّ فداء كلّ إنسان من خطاياه، وبقيامته أعطى الحياة الجديدة، وبثّ الحياة الإلهيَّة في كلِّ مؤمنٍ ومؤمنة. ومن سرّ موته وقيامته وُلدت البشريَّة الجديدة المتمثِّلة في الكنيسة، جَسَد المسيح السّرّي. وقام المسيح، كما ترنَّم صاحب المزامير " لن تَترُكَ في مَثْوى الأَمْواتِ نَفْسي ولَن تَدَعَ صَفِيَّكَ يَرى الهوةستُبَيَنُ لي سَبيلَ الحَياة. أَمامَ وَجهِكَ فرَحٌ تامّ وعن يَمينكَ نَعيمٌ على الدَّوام " (مزمور 16: 10-11)، وردت أيضًا نبوءات عن قيامة المسيح في نبوءة أشعيا (53: 10-11).

 

47 وتُعلَنُ بِاسمِه التَّوبَةُ وغُفرانُ الخَطايا لِجَميعِ الأُمَم، اِبتِداءً مِن أُورَشَليم

 

تشير "تُعلَنُ بِاسمِه التَّوبَةُ وغُفرانُ الخَطايا" إلى ثُنائيَّة التَّوبة وغفران الخطايا كنتيجة قيامة الرَّبّ.  فالغفران هو المفتاح لفهم الكتب المُقَدَّسة، ولكي نصل إلى الغفران من المهم أن نتوب ونغيّر عقليتنا.  وهذه الثُّنائيَّة بين التَّوبة وغفران الخطايا نجدها في كرازة الجماعة المسيحيَّة الأولى. بعد شفاء المُقعد، "كَلَّمَ بطرس الشَّعْبَ قائلا:" أَتَمَّ اللّهُ ما أَنبأَ مِن ذي قَبْلُ بِلِسانِ جَميعِ الأَنبِياء، وهو أَنَّ مَسيحَهُ سَوفَ يَتأَلَّم فَتوبوا وارجِعوا لِكَي تُمْحى خَطاياكم" (أعمال الرسل 3: 18-19). وكرَّر بطرس أَمامَ المَجلِس اليهودي الأعلى نفس الشَّهَادة بقوله: " إِنَّ إِلهَ آبائِنا أَقامَ يسوعَ الَّذي قَتَلتُموه إِذ علَّقتُموه على خَشَبَةوهو الَّذي رَفعَه اللهُ بِيَمينِه وجَعَلَه سَيِّدًا ومُخَلِّصًا لِيَهَبَ لإِسْرائيلَ التَّوبَةَ وغُفرانَ الخَطايا، ونَحنُ شُهودٌ على هذِه الأُمور" (أعمال الرسل 5: 31-32). التَّوبة هي التَّغيير في العقليَّة التي تجعلنا نرى خطيئتنا ورفضنا الرَّبّ ووصاياه من ناحية، وفتح قلوبنا للرّبَّ من ناحية أخرى. وبفضل الرَّبّ القائم من بين الأموات ستمتد إمكانيَّة التَّوبة والغفران إلى جميع الشُّعوب. ومن هذا المنطلق، بدأت حياة جديدة للشَّعب عن طريق التَّوبة وغفران الخطايا مع فصح يسوع وقيامته. أمَّا عبارة " التَّوبَةُ " فتشير إلى فضيلة ضروريَّة لنيل مغفرة الخطايا، والمصالحة مع الله والذات والنَّاس. إنها الولادة المُتجدّدة، بعد الولادة الثَّانيَّة من المعموديَّة بالماء والرُّوح؛ ومن هذا المنطلق، موت المسيح وحده عن خطايا الإنسان لا يغنيه عن وجوب التَّوبة والإيمان لمغفرة خطاياه ومناداته ببشرى الخلاص لغيره. ولا تعني التَّوبة كمال الأخلاق أو العيش في حالة لا نقترف فيها خطيئة، إنَّما التَّغيير في العقليَّة التي تجعلنا نرى خطيئتنا لنفتح قلوبنا الرَّبّ؛ أمَّا عبارة "بِاسمِه" فتشير إلى الدعاء إلى التَّوبة والإيمان بسلطان المسيح والعمل بإرادته، كما وعظ بطرس الرَّسول في مجلس اليهود " فلا خَلاصَ بأَحَدٍ غَيرِه، لأَنَّه ما مِنِ اسمٍ آخَرَ تَحتَ السَّماءِ أُطلِقَ على أَحَدِ النَّاسِ نَنالُ بِه الخَلاص" (أعمال الرُّسل 4: 12).  أمَّا عبارة "غُفرانُ الخَطايا" فتشير إلى مناداة التَّلاميذ لمغفرة خطايا النَّاس الذين قبلوا رسالة يسوع.  الغفران وعد لمن تاب واعترف، كما في تعليم يوحنا الرسول "إِذا اعتَرَفْنا بِخَطايانا فإِنَّه أَمينٌ بارّ يَغفِرُ لَنا خَطايانا وُيطَهِّرُنا مِن كُلِّ إِثْم" (1يوحنا 1: 9). والغفران يمحو الخطايا" الحَقَّ أَقولُ لَكم إِنَّ كُلَّ شَيءٍ يُغفَرُ لِبَني البَشَرِ مِن خَطيئةٍ وتَجْديفٍ مَهما بَلَغَ تَجْديفُهم "(مرقس 3: 28)؛ أمَّا من يرفض يسوع علانيَّة لا يُمكن إن ينال الغفران، ولا يُمكن للإنسان أن ينال رسالة الغفران إن لم يقبل مُعطي الغفران، أي يسوع المسيح.  أمَّا عبارة " الأُمَم" في الأصل اليوناني ἔθνος (معناه الأمم) فتشير في العهد القديم الشُّعوب الوثنيَّة הַגּוֹיִם التي لا تَعبد الاله الحقيقي، إله إبراهيم وإسحاق ويقوب.  فمن هنا يلمِّح لوقا الإنجيلي أنَّ بشارة الخلاص موجّهه إلى العَالَم كله، كما أوصى يسوع تلاميذه قبل صعوده إلى السّماء " اذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم" (متى 28: 19)، " فمَن آمَنَ واعتَمَدَ يَخلُص، ومَن لَم يُؤمِنْ يُحكَمْ عَليه" (مرقس 16: 16). سابقا كان يسوع قد أرسل تلاميذه إلى اليهود فقط، كما ورد في إنجيل متى:" هؤلاءِ الاثنا عَشَر أَرسلَهُم يسوع وأَوْصاهم قال: لا تَسلُكوا طَريقًا إلى الوثَنِيِّين ولا تَدخُلوا مَدينةً لِلسَّامرِيِّين، بَلِ اذهَبوا إلى الخِرافِ الضَّالَّةِ من بَيتِ إِسرائيل" (متى 10: 5-6).  لكن إرساليتهم من الآن بعد قيامته ستكون لكلِّ العَالَم. لأنَّ المسيح قام من‏ بين الأموات، لا لذاته بل لمشاركة بقيامته كلَّ ‏البشر وخلاص الخليقة بأسرها، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول " فإِنَّه يُريدُ أَن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاسِ ويَبلُغوا إلى مَعرِفَةِ الحَقّ" (1طيموتاوس 2: 4). فالمسيح هو ربُّ كل الأرض، وقد مات لأجل خطايا كل النَّاس. هل ندرك أنه لا يمكننا عيش الفرح والسّلام إلاّ من خلال غفران خطايانا الذي تمنحنا إياه الكنيسة بواسطة سلطان الكهنة الذين هم خلفاء الرُّسل والذين وحدهم ائتمنهم يسوع الحَي على هذا السُّلطان ليمنحوه باسم الكنيسة؟ أمَّا عبارة "ابتداءً مِن أُورَشَليم" فتشير إلى إظهار يسوع عظمة حلمه وعفوه بطلبه أن يُبشَّر بإنجيله في مدينة قاتليه؛ وكان من اللائق إن يبتدأ التَّبشير في تلك المدينة لأنَّها رمز الديانة اليهوديَّة التي هي مقدمة الديانة المسيحيَّة، وكان هناك الهيكل والرُّموز التي كانت تشير إليه وهي تحقيق لنبوءة أشعيا التي تنص "لأَنَّها مِن صِهْيونَ تَخرُجُ الشَّريعَة ومِن أُورَشَليمَ كَلِمَةُ الرَّبّ" (أشعيا 2: 3).

 

48 وأَنتُم شُهودٌ على هذه الأُمور

 

تشير عبارة "أَنتُم شُهودٌ على هذه الأُمور" إلى الرُّسل الذين هم شهود عيان للناس بموت المسيح وقيامته وبصعوده، وبهذه الشهادة تثبت دعواه وتعليمه، وهذا عِلَّة ظهور المسيح لهم وعدم ظهوره لبيلاطس ورؤساء الكهنة وغيرهم من اليهود. إن حضور المسيح القائم من بين الأموات وسط تلاميذه الذي غيّر نظرتهم إلى أنفسهم وإلى العَالَم وإلى المستقبل، وكان طبيعيًا بعد كل هذه المعرفة التي بدَّدت كل خوف وشك أن يطلب منهم الرَّبّ أن يشهدوا له في العَالَم أجمع. لقد شهدت الكنيسة بشكل خاص مغفرة الله حيث نلنا الشِّفاء والخلاص اللذين تحقَّق بالمسيح القائم من بين الأموات. ومن هذا المنطلق، يجب أن يكون المسيحيُّون كلهم شهودًا للمسيح بسيرتهم وتعليمهم. هل نعرف التَّكلم عن المسيح، وعما يُمثل بالنِّسبة لنا، في العائلة، ومع الأشخاص الذين يشاركونا الحياة اليوميَّة؟  فالإنجيل يجب أن يُبشر به ويُشهد له. ينبغي على كل واحد أن يسأل نفسه: كيف أشهد أنا للمسيح عبر إيماني؟

 

49 وإِنِّي أُرسِلُ إِلَيكم ما وَعَدَ بهِ أَبي. فَامكُثوا أَنتُم في المَدينَة إلى أَن تُلبَسوا قُوَّةً مِنَ العُلى

 

تشير عبارة " وإِنِّي أُرسِلُ إِلَيكم ما وَعَدَ بهِ أَبي" إلى إنباء بالرُّوح القُدُس الذي يُعطى في يوم العنصرة (الرُّسل 1: 8). وهنا يعلن يسوع مساواته للآب في إرسال الرُّوح القُدُس. أمَّا عبارة "ما وَعَدَ بهِ أَبي" فتشير إلى كلمات يسوع الوداعيَّة في العُلِّيَّةِ "وَأَنا سأَسأَلُ الآب فيَهَبُ لَكم مُؤَيِّدًا آخَرَ يَكونُ معَكم لِلأَبَد رُوحَ الحَقِّ " (يوحنا 14: 16-17)، وقد تنبا أنبياء العهد القديم بفيض الرُّوح القُدُس، كما جاء في نبوءة أشعيا "أُفيضُ روحي على ذُرِّيَّتِكَ وبَرَكَتي على سُلالَتِكَ" (أشعيا 44: 3). أمّا عبارة "امكُثوا أَنتُم في المَدينَة" فتشير إلى مدة المُكوث التي تُقارب العشرة أيام بين صعود المسيح وحلول الرُّوح القُدُس على التَّلاميذ يوم العَنْصرة، "اليَومُ الخَمْسون" (أعمال الرُّسل 2: 1)، إذ أنَّ يسوع المسيح أمضى أربعين يومًا مع تلاميذه ما بين قيامة المسيح وصعوده (أعمال الرُّسل) وعشرة أيام بين الصُّعود والعنصرة؛ ويطلب يسوع من تلاميذه أن لا يخرجوا للتبشير بالإنجيل قبل أن يَحلَّ عليهم الرُّوح القُدُس في اليوم الخَمسين (أعمال الرُّسل 1: 8).  أمَّا عبارة "المَدينَة" فتشير إلى اورشليم المكان الذي منه انطلقت رسالة الخلاص (لوقا 1: 5-25). إذ منها انطلقت رسالته وكانت اورشليم مركز انتشار رسالة الرُّسل أيضًا (أعمال الرُّسل 1: 8)، وفي اورشليم أنتهى، فأورشليم هي غاية رسالة يسوع (لوقا 9: 51).  أمَّا بحسب إنجيل متى ومرقس فالشَّهَادة الرَّسوليَّة انطلقت من الجليل (متى 28: 16، مرقس (16: 7). أمَّا عبارة "أَن تُلبَسوا قُوَّةً مِنَ العُلى" فتشير إلى الصِّلة بين الرُّوح والقوة كما نستنتج ذلك من كلمات بشارة الملاك جبرائيل لمريم العذراء "إنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ" (لوقا 1: 35)، ونجد هذه الصِّلة بين الرُّوح والقوة في وعد أنبياء العهد القديم خاصة نبوءة أشعيا "أُفيضُ روحي على ذُرِّيَّتِكَ" (أشعيا 44: 3)، ونبوءة يوئيل "وَيَكُونُ بَعْدَ ذلِكَ أَنِّي أَسْكُبُ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ" (يوئيل 2: 28). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم: "كما أن القائد لا يسمح لجنوده أن يواجهوا كثيرين ما لم يتسلحوا أولًا، هكذا لم يسمح الرَّبّ لتلاميذه أن ينزلوا للصراع ما لم يحلَّ الرُّوح أولًا". أمَّا عبارة " قُوَّةً " فتشير إلى قوة روحيَّة، وهي نتيجة حلول الرُّوح القُدُس (أعمال الرُّسل 1: 8) وهي تُمكنهم من إدراك الحقِّ، وتأثير كلامهم في قلب النَّاس وضمائرهم، والتَّكلم بالسّنة غريبة وصنع المُعجزات إثباتًا لتعليمهم. فالقوة الداخليَّة المُحرِّكة التي تبعث بالمُرسَلين حول كل العَالَم، إنَّما هي الإيمان النَّابع من قيامة الرَّبّ. مضى أربعين يوماً مع تلاميذه في الفترة ما بين قيامته وصعوده ووعشرةايام بين صعوده و يومالعتصرة .

أمَّا عبارة "العُلى" فتشير إلى السّماء، مسكن الله ومصدر كل بركة روحيَّة، وهي في اعلى مراكز القوة حيث يجري الفداء.

 

 

ثانيًا: تطبيقات النَّص الإنجيلي (لوقا 24: 35-48)

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النَّص الإنجيلي (لوقا 24: 35-48) يمكن الاستنتاج أنَّه يتمحور حول ثلاث نقاط، وهي: إيمان الرُّسل بقيامة ربنا يسوع المسيح، أهميَّة الكتب المُقَدَّسة لفهم القيامة، والشَّهَادة للقيامة.

 

1) قيامة المسيح في ضوء الإيمان (لوقا 24: 36-43)

 

يُبيّن لوقا الإنجيلي أنَّه لم يكن بإمكان التَّلاميذ أن يعطوا جوابًا كاملاً عن قيامة يسوع المسيح، قبل أن يظهر لهم حيًا في عدة ظهورات بعد موته على الصَّليب. وقد أبطَأ التَّلاميذ أنفسهم طويلًا قبل أن يؤمنوا بالقيامة، في أوقات الظُّهورات، بسبب شدة رسوخ عدم الإيمان في قلب الإنسان، كما جاء في كلام يسوع لتلميذي عِمَّاوُس: "يا قَليلَيِ الفَهمِ وبطيئَيِ القَلْبِ عن الإِيمانِ" (لوقا 24: 25). لكن يسوع استطاع أن يتغلب على قلة إيمان الاثني عشر بإعطائهم علامات على حقيقة قيامته وواقعها، كما يؤكد سفر أعمال الرُّسل "أَظهَرَ لَهم نَفْسَه حَيًّا بَعدَ آلامِه بِكَثيرٍ مِنَ الأَدِلَّة، إِذ تَراءَى لَهم مُدَّةَ أَربَعينَ يَومًا" (أعمال الرُّسل 1: 3).

 

شكَّ التَّلاميذ الشُّهود على قيامة الرَّبّ أولا، لكنَّهم اقتنعوا في آخر الأمر بحقيقة قيامة الرَّبّ.  لقد عرفوا أنه يسوع لأنَّهم رأوه وسمعوه واستطاعوا أن يلمسوه وان يروه يأكل. فليس القائم من الموت "روحًا" بل جَسَده حقيقي لكن بوضع جديد. ويُعلق البابا فرنسيس: " ليست مسألة ظهور نفس يسوع، إنَّما حضوره الحقيقي بالجَسَد القائم من الموت". يسوع القائم من الموت ليس روحًا، إنه إنسان بالجَسَد والرُّوح وعندما صار التَّلاميذ على صلة بالمسيح الحَّي، أمكنهم أن يُعلنوا أن الله أقامه من بين الأموات، كما اكَّد ذلك بولس الرَّسول: " تَنتَظِروا أَن يَأتِيَ مِنَ السَّمَواتِ ابنُه الَّذي أَقامَه مِن بَينِ الأَمْوات، أَلا وهو يسوعُ الَّذي يُنَجِّينا مِنَ الغَضَبِ الآتي" (1 تسالونيقي 1: 10)، ويعلق الطُّوباويّ غيريك ديغني "إن كان الرَّبّ يسوع حيًّا، فهذا يكفيني!".

 

الإيمان بالمسيح القائم معناه أن نختار بين حكمتين، إمَّا أن نضع الثِّقة في حكمة الله، ومعناه الثِّقة بقدرة الله القادر على كل شيء (مزمور 115: 3) وبقدرته الذي أقام يسوع من بين الأموات. وإمَّا أن نعتمد على حكمتنا الذاتيَّة (أمثال 3: 5)، لانَّ عدم الإيمان يبلغ ذروته عندما لا يستسلم العقل للحكمة الإلهيَّة التي تختار الصَّليب طريقًا للمجد، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول: " فلَمَّا كانَ العَالَم بِحِكمَتِه لم يَعرِفِ اللّه في حِكمَةِ اللّه، حَسُنَ لَدى اللّه أَن يُخَلِّصَ ألمُؤمِنينَ بِحَماقةِ التَّبشير؟  ولَمَّا كانَ اليَهودُ يَطُلبونَ الآيات، واليونانِيُّونَ يَبحَثونَ عنِ الحِكمَة، فإِنَّنا نُبَشِّرُ بِمَسيحٍ مَصْلوب، عِثارٍ لِليَهود وحَماقةٍ لِلوَثنِيِّين، وأمَّا لِلمَدعُوِّين، يَهودًا كانوا أَم يونانِيِّين، فهُو مسيح، قُدرَةُ اللّه وحِكمَةُ اللّه" (1 قورنتس 1: 21-24).

 

لا نؤمن معناه ألاَّ نقول لله "آمين"، ونرفض العلاقة التي يريد الله أن يُقيمها مع الإنسان. ويُعبَّر عن رفض الإيمان بالشَّك في وجود الله، كما يقول صاحب المزامير " لِمَ تَقولُ الأُمَم: ((أَينَ إِلهُهم))؟ " (مزمور 115: 2)، أو بالشَّك في حضوره تعالى الفعَّال في مجرى التَّاريخ " لِيُبادِرْ ولْيُعَجِّلْ في عَمَلِه حتَّى نَرى ولْيَقتَرِبْ ويَحضُرْ تَدبيرُ قُدُّوسِ إِسْرائيلَ حتَّى نَعلَم " (أشعيا 5: 19)، أو بالشَّك في حُبِّه وقدرته الكليَّة، أو بالشَّك في سيادة إرادته وخاصة في قيامته. والخط الفاصل بين الإيمان وعدم الإيمان، يظهر في داخل قلب كلِّ إنسان، كما صرخ والد الصَّبي المصاب بالصَّرع بمّا شفى يسوع ابنه: "آمنتُ، فشَدِّدْ إِيمانيَ الضَّعيف" (مرقس 9: 24).

 

يُوجد درجات مختلفة لعدم الإيمان في صفوف المؤمنين. فالبعض يظهرون أنَّهم "قليلو الإيمان"، مثل التَّلاميذ عندما اعتراهم الخوف أثناء العاصفة (لوقا 8: 25)، أو على الأمواج المندفعة (مرقس 4: 35)، وعندما لم يستطيعوا أن يصنعوا معجزة ما، في حين أنهم قد أُعْطوا هذا السُّلطان (متى 17: 17)، وعندما اهتمُّوا بالخبز الذي ينقصهم (متى 16: 8) إلا أن الصَّلاة تستطيع أن تعالج كل صعوبات قِلَّة الإيمان، كما حدث مع أَب الصَّبِيِّ المُصاب بالصَّرع عندما صاح: "آمنتُ، فشَدِّدْ إِيمانيَ الضَّعيف" (مرقس 9: 24)، وعلى هذا النَّحو كفل يسوع إيمان بطرس قائلا: "دَعَوتُ لَكَ أَلاَّ تَفقِدَ إِيمانَكَ" (لوقا 22: 32).

 

يُحدِّد الإنجيل عدم الإيمان بيسوع بموقفين أساسيين هما: التَّذمر، كما جاء في إنجيل يوحنا "تَذَمَّرَ اليَهودُ علَيه لأَنَّه قال: أَنا الخُبزُ الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماء"(يوحنا 6: 41). والموقف الثَّاني هو انقسام القلب وازدواجيته (هوشع 10: 2). وعدم الإيمان يؤدي إلى قساوة القلوب كما صرّح يسوع "وتَراءَى آخِرَ الأَمرِ لِلأَحَدَ عَشَرَ أَنفُسِهم، وهُم على الطَّعام، فَوبَّخَهُم بِعَدَمِ إِيمانِهِم وقَساوَةِ قُلوبِهم، لأَنَّهم لم يُصَدِّقوا الَّذينَ شاهَدوه بَعدَ ما قام" (مرقس 116: 14)، وقد سبق وتنبَّأ أشعيا عن قساوة القلب بقوله: "اِسمَعوا سَماعًا ولا تَفهَموا، وآنظُروا نَظرًا ولا تَعرِفوا، غَلِّظْ قَلبَ هذا الشَّعْب (إشفيا 6: 9-10).

 

يؤكِّد لنا إيمان الرُّسل والكنيسة أن حياة المسيح على الأرض لم تنتهِ بالموت. فالمسيح مات وقبر، لكنَّه قام من الموت إلى الحياة الجديدة الخالدة. ولقد عاش يسوع على الأرض بعد قيامته أربعين يومًا. وكان كل يوم يتراءى لتلاميذه ويُعلِّمهم ويأكل معهم حتى يُثبَّت لهم أنَّه هو نفسه، وقد قام من بين الأموات: "طوبى لِمَن لا أَكونُ لَه حَجَرَ عَثْرَة" (متى 11: 6). أمَّا وجود غير مؤمنين في مصاف شعب الله فيشكّل حجر عثرة للمؤمنين، ويسبّب "ألمًا ملازمًا" في قلب كل مسيحي، كما يصرِّح بولس الرَّسول لعدم إيمان الشَّعب "إِنَّ في قَلْبي لَغَمًّا شَديدًا وأَلَمًا مُلازِمًا" (رومة 9: 2).

 

2) قيامة المسيح في ضوء الكُتُب المُقَدَّسة (لوقا 24: 44-49)

 

بعد الدلالة على حقيقة قيامة المسيح، بدأ يسوع بتزويد تلاميذه بمفتاح رسالة الفصح، وهي الكُتُب المُقَدَّسة.   كان لا بُدَّ أن تتمَّ الكُتُب المُقَدَّسة كما اكّد يسوع لهم: "يَجِبُ أَن يَتِمَّ كُلُّ ما كُتِبَ في شأني، في شَريعَةِ موسى وكُتُبِ الأَنبِياءِ والمَزامير"(لوقا 24: 44). فقد وهب يسوع للرُّسل فَهَم الكُتُب المُقَدَّسة (لوقا 24:25-27). والكُتُب المُقَدَّسة تساعدنا على اللقاء بيسوع القائم وبدونها لا نملك الإيمان.

 

إنَّ "الكُتُب المُقَدَّسة" أو الكِتَاب المقدس تعبيرٌ ثابتٌ ورسمي لعمل الله ومتطلباته ومواعيده كما جاء على لسان بولس الرَّسول "تِلكَ البِشارةَ الَّتي سَبَقَ أَن وَعَدَ بِها على أَلسِنَةِ أَنبِيائِه في الكُتُبِ المُقَدَّسة" (رومة 1: 2). وقد جاء المسيح ليُحقِّق ما كُتب عنه في الكُتُب المُقَدَّسة "يَجِبُ أَن يَتِمَّ كُلُّ ما كُتِبَ في شأني، في شَريعَةِ موسى وكُتُبِ الأَنبِياءِ والمَزامير" (لوقا 24: 44) كما قال يسوع لبطرس" تَتِمُّ الكُتُبُ الَّتي تقولُ إِنَّ هذا ما يَجِبُ أَن يَحدُث؟ " (متى 26: 54). إن الله لا يتكلم عنَّا (حزقيال 6: 10)، و "لا يمكن أن تنسخ " كتابته كما ورد "لا يُنسَخُ الكِتاب" (يوحنا 10: 35). ومن هذا المنطلق، نستنتج أنّ السِّلاح القوي ضدّ تجارب الشَّك هو الكِتَاب المقدّس (متى 4: 1-10)، على شرط ألاَّ تُقرأ الكُتُب المُقَدَّسة باقتطاع آيات وتوصيلها بشكل يسيء معناها، بل يتوجب قراءتها كوِحْدة متكاملة. وهذا ما تفعله السُّلطة التَّعليميَّة في الكنيسة. 

 

إن يسوع، الذي نراه مرَّة واحدة، يكتب على الرَّمِل (يوحنا 8: 6). ولم يترك يسوع شيئًا مكتوبًا، إلا أنَّه بطريقة رسميَّة، أكَّد قيمة الكُتُب المُقَدَّسة، بل وقيمة أصغر علامة كتابيَّة وردت فيها، ولو تمثلت في "نقطة واحدة"، وحدَد معناها، بإعلانه أنها لن تزول فهي باقية: "لن يَزولَ حَرْفٌ أَو نُقَطَةٌ مِنَ الشَّريعَة حَتَّى يَتِمَّ كُلُّ شَيء، أَو تزولَ السَّماءُ والأَرض" (متى 5: 18). إلاّ أن هذه الكُتُب لا يمكن أن تبقى إلا بإتمامها.

 

إنَّ الاعتراف بالمسيح القائم، من خلال الكِتَاب المُقَدَّس، ينال النَّاس الحياة الأبديَّة، كما جاء في قول المسيح لليهود: "تَتصَفَّحونَ الكُتُب تظُنُّونَ أَنَّ لكُم فيها الحَياةَ الأَبديَّة فهِيَ الَّتي تَشهَدُ لي" (يوحنا 5: 39). أمَّا الذين يرفضون الإيمان بكلام يسوع، واضعين رجاءهم في موسى، ومعترّفين بكتاباته، فيظهرون بذلك أنَّهم لا يؤمنون بموسى، ولا يُعيرون اهتمامًا جادًا؛ وهذا ما صرّح به يسوع لليهود: "لو كُنتُم تُؤمِنونَ بِموسى لآمَنتُم بي لأَنَّهُ في شَأني كَتَب. وإذا كُنتُم لا تُؤمِنونَ بِكُتُبِه فكَيفَ تُؤمِنونَ بِكَلامي؟" (يوحنا 5: 45-47). فإنّ الرُّسل الذين شكّوا في البدء، أصبحوا عند رؤية جَسَده الحيّ "يُؤدُّونَ الشَّهَادة بِقِيامَةِ الرَّبِّ يسوع تَصحَبُها قُوَّةٌ عَظيمة" (أعمال الرُّسل 4: 33) عندما فهموا الكُتُب المُقَدَّسة.  

 

إن حدث القيامة فتح للتَّلاميذ الكُتُب المُقَدَّسة التي كشفت لهم جوهر الإيمان: آلام المسيح وقيامته التي تنبأت بها الكُتُب المُقَدَّسة، والتَّبشير بالتَّوبة لمغفرة الخطايا، ووظيفة الشُّهود للرُّسل بحمل رسالة القيامة إلى جميع الأمم ابتداء من اورشليم. إنَّ الكُتُب المُقَدَّسة هي النِّعمة الّتي يضعها يسوع القائم بين أيدينا اليّوم ليُنيرنا بنُور قيامته ويُزيل ما يعوق الإيمان به.

 

3) شهود لقيامة المسيح (لوقا 24: 50-53)

 

بعد تغلب الرُّسل على شكوكهم واستوعبوا الرِّسالة الفصحيَّة، أولاهم يسوع مسؤوليَّة الشَّهَادة على إنجيل الخلاص على الأرض حيث أنَّ هناك رابطة بين الإنجيل والشَّهَادة.  فيسوع حدَّد مُهِمَّة التَّلاميذ كشهود للقيامة. والشَّهَادة، لها جانبان. جانب له علاقة برؤية حدث ما، أي الحصول على معرفة شيء ما من خلال الخِبرة الشَّخصيَّة وليس بناءً على الإشاعات. والجانب الآخر له علاقة بالقدرة على إعطاء تقريرًا عنها للآخرين. كون تلاميذ يسوع مدعوّين لأن يكونوا شاهدين للمسيح الرَّبّ يعني أنّهم مُطالبون، في المقام الأوّل، لأن يكون لديهم خِبرة شخصيَّة مع السّيّد المسيح، ومن ثمّ مشاركة الآخرين بهذه الخبرة.

 

ماذا يفعل الرَّبّ يسوع لأولئك الّذين يختبرونه؟ أوّلًا، يضع السّلام في قلوبهم المُضَّطربة. ومن ثمّ يحاول إقناعهم بأنّ يسوع النَّاصري الّذي تألّم ومات موت عارٍ على الصَّليب هو ذاته الحيّ الآن في مجد الرَّبّ الإله. فيذهب إلى حدّ تناول السّمك المشوي، الّذي لا يحتاجه بطبيعة الحال، من أجل أن يوصل هذه النُّقطة. ومن ثمّ يفتح عقولهم على فهم الكُتُب المُقَدَّسة وكيف أنّها تُشير إليه.

 

في الختام، يُكلّف يسوع تلاميذه بأن يكونوا شهودًا له "وأَنتُم شُهودٌ على هذه الأُمور" (لوقا 24: 48). وأمَّا التَّلاميذ فلم يفعلوا الكثير في لقائهم مع يسوع القائم سوى أنهم فتحوا عيونهم كي يروه، وفتحوا قلوبهم كي يُدخلوا سلامه إليها، وفتحوا عقولهم كي يتلقّوا تعليماته. وفي النِّهاية عندما دعاهم ليكونوا " شُهودًا على هذه الأُمور" (لوقا 24: 48)، لبّوا الدعوة وخرجوا للتبشير في العَالَم كلِّه، كما جاء كتابات لوقا "كانَ الرُّسُلُ يُؤدُّونَ الشَّهَادة بِقِيامَةِ الرَّبّ يسوع تَصحَبُها قُوَّةٌ عَظيمة، وعَلَيهِم جَميعًا نِعمَةٌ وافِرة" (أعمال الرُّسل 4: 33). وبقي حدث القيامة محور التَّبشير الرَّسولي " وإِذا لم يَكُنِ المسيحُ قد قام، فإِيمانُكم باطِل ولا تَزالونَ بِخَطاياكم" (1 قورنتس 15: 17).

 

تقوم الشَّهَادة في الإقرار بحقيقة حدث ما، بالطَّريقة الرَّسميَّة التي تطلبها الظُّروف. فالرُّسل كشهود عيان مُكلَفون على هذه الأرض بأن يشهدوا لله أمام الشُّعوب الأخرى بقيامة يسوع من بين الأموات التي جاءت مصداقيَّة على سيادته المطلقة، كما صرح بطرس الرَّسول "يَسوعُ هذا قد أَقامَه اللّه، ونَحنُ بِأَجمَعِنا شُهودٌ على ذلك" (أعمال الرُّسل 2: 32). وقد أقيم بولس الرَّسول، على طريق دمشق، شاهدًا للمسيح أمام كلِّ البَشر (أعمال الرُّسل 15:22). ويجاهر بقيامة يسوع في كل مكان من البلدان الوثنيَّة (1 قورنتس 15: 15)، وينشى الإيمان في الجماعات المسيحيَّة بقبول هذه الشَّهَادة " وقد قُبِلَت شَهادَتُنا عِندَكم بِإِيمان" (2 تسالونيقي 1: 10).

 

الشَّهَادة ينبغي أن تأخذ صورة واقعيَّة لوصولها إلى النَّاس، وذلك عن طريق التَّبشير بالإنجيل (متى 24: 14). وللقيام بمُهمَّة الشَّهَادة، لا بُدَّ للرُّسل أن ينالوا الرُّوح القُدُس الذي سيرسله إليهم، كما وعدهم السّيد المسيح " فَامكُثوا أَنتُم في المَدينَة إِلى أَن تُلبَسوا قُوَّةً مِنَ العُلى" (لوقا 24: 49).

 

من هذا المنطلق، تقوم الرِّواية الإنجيليَّة على مستندات تاريخيَّة يُقدّمها شاهد عيان  كما يؤكد يوحنا الإنجيلي "والَّذي رأَى شَهِد، وشَهادَتُه صَحيحة، وذاك يَعلَمُ أَنَّه يَقولُ الحَقَّ لِتُؤمِنوا أَنتُم أَيضًا" (يوحنا 19: 35)، لكن من حيث أنّ هذه الشَّهَادة يُلهمها الرُّوح القُدُس (يوحنا 16: 13)، فإنها تنصبّ نحو السِّر الفصحي الذي يختفي وراء الأحداث، ألا وهو سرّ كلمة الحياة ، يسوع المسيح الذي جاء في الجَسَد، كما جاء في تعليم يوحنا الرَّسول " لأَنَّ الحَياةَ ظَهَرَت فرَأَينا ونَشهَد ونُبَشِّرُكمِ بِتلكَ الحَياةِ الأَبدِيَّة الَّتي كانَت لَدى الآب فتَجلَّت لَنا" (1 يوحنا 1: 2). وإنّ المؤمنين، بقبولهم هذه الشَّهَادة الرَّسوليَّة، يحصلون منذ ذلك الحين في أنفسهم على شهادة يسوع التي هي نبوءة الأزمنة الجديدة (رؤيا 17:12).

 

 

الخلاصة

 

ختم لوقا كتابة إنجيله بعرض سيادة يسوع بعد أن اعترف بها تلاميذه. تكشف قيامة يسوع عن سره: فهو المسيح الذي تبنا به الأنبياء، ومُجِّد بعد موته، وهو الرَّبّ الإلهي غير المنظور والحاضر للأبد لكنيسته، حيث يمنح التَّوبة والغفران لجميع النَّاس.

 

حضور يسوع الحَي القائم من بين الأموات يجعل من الرُّسل شهوده في العَالَم، ويمنحهم الرُّوح القُدُس (أعمال الرُّسل 9). ولقد رأى التَّلاميذ يسوع وهو يصعد إلى السّماء، ولكنهم كانوا يعلمون أنَّه يفي بوعده لهم بأن يكون معهم بالرُّوح. يسوع المسيح نفسه الذي عاش مع تلاميذه وبينهم، والذي مات وقام من بين الأموات، والذي يُحبنا، هو نفسه الذي وعدنا أن يكون معنا إلى الأبد.

 

يمكن أن نعرف يسوع بشكل أفضل من خلال مطالعتنا للكِتاب المُقدَّس والصَّلاة وإعطاء المَجال للرُّوح القُدُس أن يعمل فينا حتى نصير شهود قيامة المسيح وأشباهه، كما يؤكده يوحنا الحبيب" نَحنُ مُنذُ الآنَ أَبناءُ الله ولَم يُظهَرْ حتَّى الآن ما سَنَصيرُ إِليه. نَحنُ نَعلَمُ أَنَّنا نُصبِحُ عِندَ ظُهورِه أَشباهَه لأَنَّنا سَنَراه كما هو" (1 يوحنا 3: 2). وفي الواقع، نتألّم، لأنّنا لا ندرك حضوره... ونبتهج لأنّنا نعرف أنّنا نمتلكه: ذلك الَّذي لا تَرَونَه وتُحِبُّونَه، وإِلى الآنَ لَم تَرَوه وتؤمِنونَ بِه، فيَهُزُّكم فَرَحٌ لا يوصَفُ مِلؤُه المَجْد، لِبُلوغِكم غايةَ الإِيمان، أَلا وهي خَلاصُ نُفوسِكم" (1بطرس 1: 8-9).

 

 

دعاء

 

أيها الآب السّماوي، نطلب إليك باسم يسوع ابنك الحَي القائم من بين الأموات، أن تفتح أذهاننا كي نفهم الكُتُب المُقَدَّسة، ونُدرك حقيقة قيامته المجيدة، فنكون شهودًا له بالقول والعمل، ونعلن بِاسمِه التَّوبَةُ وغُفرانُ الخَطايا لِجَميعِ النَّاس. آمين.