موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النص الإنجيلي (متى 15: 21-28)
21 ثُمَّ خَرَجَ يسوعُ مِن هُناكَ وذهَبَ إلى نَواحي صُورَ وصَيدا 22. وإِذا امرأَةٌ كَنعانيَّةٌ خارِجَةٌ مِن تِلكَ البِلادِ تَصيح: ((رُحْماكَ يا ربّ! يا ابنَ داود، إِنَّ ابنَتي يَتَخَبَّطُها الشّيطان تَخَبُّطاً شديداً)). 23-فلَم يُجِبْها بِكَلِمَة. فَدنا تَلاميذُه يَتَوسَّلونَ إِليهِ فقالوا: ((اِصْرِفْها، فإِنَّها تَتبَعُنا بصِياحِها)). 24 فأَجاب: ((لَم أُرسَلْ إِلاَّ إلى الخِرافِ الضَّالَّةِ مِن بَيتِ إِسرائيل)). 25-ولَكِنَّها جاءَت فسَجدَت لَه وقالت: ((أَغِثْني يا رَبّ!)) 26 فأَجابَها: ((لا يَحسُنُ أَن يُؤخَذَ خُبزُ البَنينَ فيُلْقى إلى صِغارِ الكِلاب)). 27 فقالت: ((نَعم، يا رَبّ! فصِغارُ الكِلابِ نَفْسُها تأكُلُ مِنَ الفُتاتِ الَّذي يَتساقَطُ عَن مَوائِدِ أَصحابِها)). 28-فأَجابَها يسوع: ((ما أَعظمَ إِيمانَكِ أَيَّتُها المَرأَة، فَلْيَكُنْ لَكِ ما تُريدين)). فشُفِيَتِ ابنَتُها في تِلكَ السَّاعة.
مقدمة
يُسلط إنجيل الأحد الأضواء حول مُعجزة شِفاء ابنة المرأة الكَنعانيَّة (متى 15: 21-28) التي حدثت على أرض أممية وثنية. وهذا تلميح لوصول ملكوت يسوع ليس إلى العَالَم اليهودي فحسب، إنَّما أيضًا إلى العَالَم الوَثني أيضًا. فالوثنيُّون هم أيضا إذا آمنوا بالمسيح، مثل المرأة الكَنعانيَّة، يَخلصون، لانَّ كان قلبها قريب حقّاً من الله بالرغم من أنَّها كانت من ارض غريبة وثنية، من نَواحي صُورَ وصَيدا. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته.
أولا: وقائع النص الإنجيلي (متى 15: 21-28)
21 ثُمَّ خَرَجَ يسوعُ مِن هُناكَ وذهَبَ إلى نَواحي صُورَ وصَيدا.
تشير عبارة "خَرَجَ يسوعُ مِن هُناكَ" إلى خروج يسوع من ارض جِنَّاسَرِت قرب كفرناحوم (متى 14: 34)، وهي المرَّة الوحيدة المعروفة، التي فيها غادر يسوع حدود فلسطين خلال خدمته تَجنُّبا لاحْتكاكه باليهود المُقاومين لرسالته قبل الأوان. أمَّا عبارة "يسوعُ" فتشير إلى اسم المسيح الشّخصي. وهي الصِّيغة العربية للاسم العبري יֵשׁוּעַ " يشوع" ومعناه "الله يخلص". وقد تسمّى "يسوع" حسب قول المَلاك ليوسف (متى 1: 21) ومريم (لوقا 1: 31)، وقد وردت لفظة "يسوع" على الأكثر في الأناجيل، وأمَّا لفظة "يسوع المسيح" و"الرب يسوع المسيح" فقد وردت أكثر في سفر أعمال الرُّسل والرِّسائل. أمَّا عبارة "ذهَبَ إلى نَواحي صُورَ وصَيدا" فتشير إلى خارج حدود إسرائيل، وهي دعوة جميع الأُمَم الوَثنية إلى الملكوت حيث أنَّ للأمم نصيبًا في مجيئه، وإن كانت خدمته الأرضية لليهود خاصة (متى 15: 24: 26). ومن خلال هذه الدعوة كسر الحلقة العُنْصرية بين اليهود والأُمَم. أمَّا عبارة "نَواحي صُورَ وصَيدا " فتشير إلى مدينتين حيث كانت صُور وصَيدا من أشهر المَوانئ على ضِفاف البحر الأبيض المُتوسط لسوريا الواقعة على الحدود الشّمالية لفلسطين، وهما من أعظم المُدن في فينيقية. وفينيقية هي أرضٍ وثنية فيها مزيج من السكان: يهود وأغلبية وثنية، وعُرفت صُورَ وصَيدا بالثَّراء وازدهار التِّجارة والعلاقة الطيِّبة مع إسرائيل أيام داود الملك (2صموئيل 11: 2)، ولكن بالرُّغم من هذه الميزة غرقت المدينة في الشّر والفَساد. وللمدينتين هنا معنى لاهوتي أي الأُمَم الوثنية التي سيكون لها نصيبٌ في بشارة يسوع خلال حياته على الأرض، ولم تنتظر الرُّسل ليُبشِّروها. ويُحدِّد إنجيل مرقس أنَّ يسوع لم يدخل صُورَ وصَيدا، إنَّما وصل حدودهما (مرقس 7: 24)؛ إذ تمّ تبشير الوَثنيِّين في جهة الغرب، وفي جهة الشّرق مع الرَّجل الممسوس في الجراسييِّن على ضِفاف بُحيرة طبرية (مرقس 5: 1). وأعلن يسوع أنَّ مسؤولية مدن صُورَ وصَيدا الوثنية هي اقل من مسؤولية المدن حول بحيرة طبريا، لأنها كانت دومًا تسمع بشارته، وتُشاهد عجائبه قائلا: "الوَيلُ لَكِ يا كُورَزين! الوَيلُ لَكِ يا بَيتَ صَيدا! فلَو جَرى في صُورَ وصَيدا ما جرى فيكُما مِنَ المُعجزات، لَتابَتا تَوبةً بِالمِسِح والرَّمادِ مِن زَمَنٍ بَعيد. على أَنِّي أَقولُ لكم: إِنَّ صُورَ وصَيدا سيَكونُ مَصيرهُما يَومَ الدَّينونَةِ أَخفَّ وَطأَةً مِن مَصيرِكما" (متى 11: 21-22).
22 وإِذا امرأَةٌ كَنعانيَّةٌ خارِجَةٌ مِن تِلكَ البِلادِ تَصيح: ((رُحْماكَ يا ربّ! يا ابنَ داود، إِنَّ ابنَتي يَتَخَبَّطُها الشّيطان تَخَبُّطاً شديداً)).
تشير عبارة "امرأَةٌ كَنعانيَّةٌ " إلى امرأة أممية من سُلالة الكَنعانيِّين الذين سكنوا سورية وفلسطين قبل غزوها على يد يشوع بن نون. والكَنعانيُّون في التَّاريخ الكتابي هم الأعداء التَّاريخيون للشعب اليهودي، وهم الغرباء بامتياز. وربما هذه المرأة الكَنعانيَّةٌ هي أول شخص أممي يؤمن بالمسيح. وصفها إنجيل مرقس أنَّها "كانت وَثَنِيَّةً Ἑλληνίς (أي غير يهودية) مِن أَصْلٍ سوريٍّ فينيقيّ" (مرقس 7: 26). فهي بالتالي يونانية الثَّقافة ووثنية العِبادة. إذ هي فينيقية الجِنسية من سورية وليس من لبنان، لانَّ الأرض التي سكنتها المرأة الكَنعانيَّة كانت محسوبة عند الرومانيين جزءًا من ولاية سورية وتحت حكم واليها. وكان الفِينيقيون يسمّون أنفسهم كَنعَانيُّون بسبب انحدارهم من الكَنْعَانيِّين. ولقد دلّ اسم كَنعان على مرّ التاريخ على مناطق مُتعددة غير واضحة المعالم، كأرض الميعاد التي أقام فيه بنو إسرائيل الأقدمون، والشّعب الكَنعاني ملعون من قبل إسرائيل، فهم من أكثر شعوب الأرض شرًا، ولعنهم أبوهم نوح، إذ قال "مَلْعونٌ كَنْعان! عَبْدًا يَكونُ لِعَبيدِ إِخوَتِه "(تكوين 9: 25). وكان الكَنْعانيُّون يعبدون آلهة كثيرة من بينها: إيل وبعل وعشيرة وعشتاروت وعنات وغيرها، ومن بين عاداتهم القبيحة التي يمارسونها في معابدهم الزِّنى والسُّكر وذبح الأطفال لتقديمهم للآلهة، لذلك كان اليهود يلعنون الكَنعانيِّين وينعتوهم بالكلاب بسبب شهواتهم الحيوانية ونجاستهم وقسوتهم. وهناك نصوص تلموديه كثيرة في هذا الاتجاه تحمل في طيَّاتها نصٌ يقول أنَّ "الوثنيين قطعان من المواشي"، "ويجب احتقارهم وبغضهم" (زوهار، فيشلاخ 177). أمَّا عبارة "خارِجَةٌ مِن تِلكَ البِلادِ" في الأصل اليوناني τῶν ὁρίων ἐκείνων ἐξελθοῦσα (معناها خرجت من تلك التخوم) فتشير إلى خروج المرأة الكَنعانيَّة من بيت أو قرية في تلك الأرض قاصدة يسوع لشفاء ابنتها، لأنَّها سمعت بشفقته على المرضى. ويدلُّ خروجها على تخطِّي حدود وثنيتها ومُحيطها المُنغلق على ذاته وترْكِ نجاسات تلك البلاد لتلتقي بالمسيح. إذ أنَّ مدينة صُورَ غرقت في الشّر والفساد حتى إن ملكها أدعى الألوهية، كما جاء في الكتب "قُلْ لِرَئيسِ صُورَ: هكذا قالَ السَّيِّدُ الرَّبّ: لأَنَّ قلبَكَ قد تَشامَخَ فقُلتَ: إِنِّي إِله وعلى عَرشِ إِلهٍ جَلَستَ في قَلبِ البِحار وأَنتَ بَشَرٌ لا إِله ولست جَعَلتَ قَلبَكَ كقَلبِ إِله (حزقيال 1:28). ويعلق العلامة أوريجانوس "عندما يبتعد الخاطئ عن الشّرّ ويعود إلى الخير، فإنّه يخرج من تلك الأراضي التي تسود فيها الخطيئة، ويُسرع نحو الأراضي التي تعتبر حصّة الله". أمَّا عبارة "تَصيح " فتشير إلى صيحة الإيمان والثِّقة. ويُعلق القديس أوغسطينوس " كانت دائمة الصراخ، وكأنَّها سبقت فسمعت قوله: "إِسأَلوا تُعطَوا، أُطلُبوا تَجِدوا، إِقرَعوا يُفتَحْ لكُم " (متى 7: 7). أمَّا عبارة "رُحْماكَ يا ربّ! يا ابنَ داود" فتشير إلى مُناشدة المرأَةٌ كَنعانيَّةٌ ليسوع بصلاة مؤمنة يهودية "رُحْماكَ يا ربّ! يا ابنَ داود". والمرأة لم تعرف النبوءات ولكنها سمعت عن المسيح من اليهود فآمنت. ونادته كما يناديه اليهود. وهذه الصَّلاة هي صدى لطلب الأعميين " رُحْماكَ يا ابْنَ داود! "(متى 9: 27) أو طلب أعمى أريحا " رُحْماكَ، يا ابنَ داود، يا يَسوع " (مرقس 10: 47)؛ أمَّا عبارة "رُحْماكَ يا ربّ!" فتشير إلى طلب الرَّحمة، وليس الشّفاء من المسيح. يعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم " هي لم تقل "ارحم ابنتي"، ولكنّها قالت: "ارحمني"، "ابنتي لا تعي مرضها ولكن أنا أتألّم ألف مرّة، وأشعر بالعياء لرؤيتها في هذه الحالة وحالتي تقارب الجنون لرؤيتها على ما هي عليه"(عظات عن إنجيل القديس متّى، العظة 52). أمَّا عبارة " يا ابنَ داود" فتشير إلى تعبير يهودي يخصُّ المسيح المنتظر، وأصبح اللقب الشّعبي الخاص بالمسيح (متى 15: 22و 20: 30-31 و21: 9). ويبدو أنَّ بعض معاصري يسوع اعترفوا به " ابنا لداود" (مرقس 10: 47-48) فأعلن الرُّسل عن "ابن داود" في كرازتهم (أعمال الرُّسل 2: 29-32) وفي شهادة إيمان بولس الرَّسول (رومة 1: 3-4). لمّا آمنت المرأة الكَنعانيَّة بيسوع، ابن داود، الذي يُجسّد محبّة الله ورحمته لها، لم تُعط ابنتها فقط حياة جديدة، بل سمحت ليسوع أيضًا أن يُعلن أنّه ربّ الحياة والراعي الصالح لكلّ إنسان. أمَّا " يا ابنَ داود " إلى لقبٍ مسيحاني خاص باليهود. عرفت هذه المرأة أن تدخل في حياة يسوع بطريقة جريئة، وتهدم على الفور الحواجز التاريخية الراسخة، وتدخل فعليًا إلى حيز مستبعد وممنوع عنها. أمَّا عبارة "يَتَخَبَّطُها الشّيطان تَخَبُّطاً شديداً" في الأصل اليوناني κακῶς δαιμονίζεται. (معناها ممسوسة شرًا) فتشير إلى "روح نجس" (مرقس 7: 25)، وهي تعبير عن صيحة استغاثةٍ في الشّفاء تخرج من قلب الأمّ المُحبّة، لانَّ ابنتها تتعذّب عذابًا أليمًا. يعلق القدّيس هيلاريوس "لم تَعدْ هذه الكنعانيّة الوثنيّة بحاجة إلى الشفاء، بما أنّها اعترفت بأنّ المسيح هو رَبّ وابن داود، ولكنّها طلبت المعونة لابنتها، أي للجماعة الوثنيّة الّتي تسيطر عليها الأرواح النجسة"(تعليق على إنجيل القدّيس متّى). أمَّا عبارة "الشّيطان" فتشير إلى ارتباط المرض بالرُّوح النَّجس (مرقس 7: 25). والدَّليل على ذلك، أنَّه لمّا طُرد يسوع الشّيطان شُفيت ابنة المرأة الكَنعانيَّة. وقد تكرَّر لفظة شيطان 23 مرة في العهد الجديد. كثيرًا ما تكون مصائب الإنسان بركة له بانها تقود إلى المسيح، فلولا مرض تلك البنت ما عرفت هي وأمَّها المسيح. صمِت يسوع ولم يتفوَ بكلمة وبالتالي لم يقبل طلبها لشفاء ابنتها، لأنَّها كانت غريبة عن العهد، إلاَّ انه يمكن اعتبار صمتته اختبارًا لإيمانها، وما الاختبار إلاَّ طريقة الله في مبادرته بالخَلاص (أفسس 2: 11-18)؛ وكان هدف صمته أيضًا أن تستمر المرأة في لجاجتها فتطهُر. وبالرُّغم من عدم استجابة يسوع إلى توسّلات المرأة المسكينة وعدم إجابته لها بكلمة، لم تيأس ولم تتراجع، بل زادت صياحًا وعزْمَا وتصميمًا، لأنّ ألمها كان شديدًا لا يُطاق. ويُعلق القديس أوغسطينوس "صرختْ وكأن المسيح لا يسمعها، مع أنه كان يُدبّر الأمر بهدوء، إنّما ما حدث كان هدفه أن يُلهب رغبتها ويُظهر تواضعها". وكان هدف صمته أيضًا أن تستمر المرأة في لجاجتها فتطهُر. نستطيع القول أنَّ للمسيح طرق مختلفة مع كل إنسان ليجذبه للخلاص. صمت يسوع، لأن الخلاص يأتي دائمًا من خلال كلمة تقال في الوقت والمكان المناسبين.
23 فلَم يُجِبْها بِكَلِمَة. فَدنا تَلاميذُه يَتَوسَّلونَ إِليهِ فقالوا: ((اِصْرِفْها، فإِنَّها تَتبَعُنا بصِياحِها)).
تشير عبارة" لَم يُجِبْها بِكَلِمَة" إلى صمْت يسوع وعدم تفوّه بشيء وبالتالي عدم قبول طلبها لشفاء ابنتها، لأنَّها كانت غريبة عن العهد، إلاَّ انه يمكن اعتباره اختبارًا لإيمانها، وما الاختبار إلاَّ طريقة الله في مبادرته بالخَلاص (أفسس 2: 11-18)؛ وكان هدف صمته أيضًا أن تستمر المرأة في لجاجتها فتطهُر. وبالرُّغم من عدم استجابة يسوع إلى توسّلات المرأة المسكينة وعدم إجابته لها بكلمة، لم تيأس ولم تتراجع، بل زادت صياحًا وعزْمَا وتصميمًا، لأنّ ألمها كان شديدًا لا يُطاق. ويُعلق القديس أوغسطينوس "صرختْ وكأن المسيح لا يسمعها، مع أنه كان يُدبّر الأمر بهدوء، إنّما ما حدث كان هدفه أن يُلهب رغبتها ويُظهر تواضعها". نستطيع القول أنَّ للمسيح طرق مختلفة مع كل إنسان ليجذبه للخلاص. صمت يسوع، لأن الخلاص يأتي دائمًا من خلال كلمة تقال في الوقت والمكان المناسبين. أمَّا عبارة " فَدنا تَلاميذُه يَتَوسَّلونَ إِليهِ " فتشير إلى توسُّط التَّلاميذ للمرأة شفقةً عليها أو ضجرًا من لجاجتها أو إحراجًا من صراخها، طالبين من يسوع أن يتدخل في حل المسألة، إن لم يكن بدافع الرحمة، على الأقل لتحرير النفس من ألمها. أمَّا عبارة "اِصْرِفْها" فتشير إلى طلب التَّلاميذ من يسوع أن يعطي المرأة ما تطلب ويصرفها، للتخلُّص من صياحها ولجاجتها، لأنّ كثيرين يسمعونها فتُلفت انتباههم إلى هذه المجموعة اليهوديّة. وفي الواقع لعب الرُّسل دور الوساطة بين يسوع وهذه المرأة لكي يساعدوا الوثنيين على الدخول إلى خلاص الله. أمَّا عبارة "بصِياحِها" فتشير إلى لجاجتها وإزعاجها؛ من الأرجح أنَّها أظهرت حزنها وإيمانها، فلذلك سأل التَّلاميذ المسيح أن يستجيب طلبها. وصِياحها يُذكرنا ما ورد في تعليم يسوع حول الإلحاح في الصَّلاة "وإِن لم يَقُمْ ويُعطِه لِكونِه صَديقَه، فإِنَّه يَنهَضُ لِلَجاجَتِه، ويُعطيهِ كُلَّ ما يَحتاجُ إِلَيه" (لوقا 11: 8)، كما فعل أيضا القاضي الظالم في تلبية طلب الأرملة "َهذِه الأَرمَلَةَ تُزعِجُني، فسَأُنصِفُها لِئَلاَّ تَظَلَّ تَأتي وتَصدَعَ رَأسي" (لوقا 18: 4-5). يعلق الراهب البندكتي غييوم دو سانت تييري " أشعر أحيانًا يا إلهي بأنّك تمرّ بالقرب منّي، لا تتوقّف من أجلي، بل تتعدّاني؛ غير إنّني أصرخ إليك مثل المرأة الكنعانيّة"(صلوات تأمليّة، الرقم 2).
24 فأَجاب: ((لَم أُرسَلْ إِلاَّ إلى الخِرافِ الضَّالَّةِ مِن بَيتِ إِسرائيل)).
تشير عبارة "لَم أُرسَلْ إِلاَّ إلى الخِرافِ الضَّالَّةِ مِن بَيتِ إِسرائيل " إلى جواب يسوع بالرَّفض الصَّريح للمرأة باعتباره ابن داود. أراد يسوع في البداية أن يثبّت الحواجز ويركّز على المسافات التي يجب أن تحترم بين اليهود والوثنيين، لانَّ يسوع بصفته ابن داود أتى من اليهود، ولليهود فقط، كما ورد في الكتاب المقدس " جاءَ إلى بَيتِه" (يوحنا 1 :11). وكما أمر تلاميذه " لا تَسلُكوا طَريقاً إلى الوثَنِيِّين"(متى 10 :5)، لكن يسوع لم يأت كي يفصل ويثبت الحواجز بل ليوحِّد بين الشّعوب، هكذا بموته صار كفَّارة للعَالَم أجمع فطلب من تلاميذه عندئذٍ "إِذهَبوا في العَالَم كُلِّه، وأَعلِنوا البِشارَةَ إلى الخَلْقِ أَجمَعين (مرقس 16 :15)، ومن هذا المنطلق، قصد يسوع أن يُفهمها أنَّها بصفتها أممية ليس لها نصيب فيه كابن داود. ويعلق القدّيس هيلاريوس "وهنا لا يُقصد بأنّ الوثنييّن لن ينالوا الخَلاص أيضًا، ولكنّ الرَّبّ "جاء إلى بيته وإلى خاصّته" (يوحنا 1: 11)، وكان ينتظر باكورة الإيمان من الشّعب الّذي أتى منه، بما أنّ الآخرين سينالون الخَلاص بفضل بشارة الرُّسل"(تعليق على إنجيل القدّيس متّى). وهذا هو صدى تعليمه للرسل، كما جاء في إنجيل متى "هؤلاءِ الاثنا عَشَر أَرسلَهُم يسوع وأَوْصاهم قال: لا تَسلُكوا طَريقاً إلى الوثَنِيِّين ولا تَدخُلوا مَدينةً لِلسَّامرِيِّين، بَلِ اذهَبوا إلى الخِرافِ الضَّالَّةِ من بَيتِ إِسرائيل" (متى 10: 5-6). ولا يعني هذا أنَّ بقية الشّعوب غير مشمولة في رسالة الرب يسوع الخَلاصية. فهذه الرسالة لا بُد أن تبدأ أولا بين شعبه، لأن الله وعد آباء اليهود: إبراهيم واسحق ويعقوب بمجيء المسيّا لليهود، فلو ذهب السيد المسيح للأمم لرفضه اليهود لشدة تعصبهم، لذلك قال بولس الرسول: " "إِنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ قَدْ صَارَ خَادِمَ الْخِتَانِ، مِنْ أَجْلِ صِدْقِ اللهِ، حَتَّى يُثَبِّتَ مَوَاعِيدَ الآبَاءِ. وَأمَّا الأُمَم فَمَجَّدُوا اللهَ مِنْ أَجْلِ الرَّحْمَةِ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «مِنْ أَجْلِ ذلِكَ سَأَحْمَدُكَ فِي الأُمَم وَأُرَتِّلُ لاسْمِكَ" (رومة 15: 8-9). ولا يُعقل أن ُيبشر الرَّبّ يسوع الأُمَم الذين لا يعرفون الله أولاً، ثم يلتفت للشَّعب الذي انتظر مجيء المسيح آلاف السنين. أجل! إن الوعد بمجيئه كان لبني إسرائيل، لكن الخَلاص الذي قدَّمه يشمل العَالَم اجمع فهو القائل " ولي خِرافٌ أُخْرى لَيسَت مِن هذِه الحَظيرَة فتِلكَ أَيضاً لابُدَّ لي أَن أَقودَها وسَتُصغي إلى صَوتي فيَكونُ هُناكَ رَعِيَّةٌ واحِدة وراعٍ واحِد" (يوحنا 10: 17). فكان لا بُدَّ أن تبدأ رسالته أولا بين شعبه، لأن الله وعد آباء اليهود إبراهيم واسحق ويعقوب بمجيء المسيح لليهود. فليس هناك تعارض بين كلمات يسوع هذه مع نبوءات العهد القديم خاصة أشعيا " بَيتي بَيتَ صَلاةٍ يُدْعى لِجَميعِ الشّعوب" (أشعيا 56: 7) من ناحية، ولا مع حقيقة رسالة الله الموجَة لجميع الناس" فاذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم"(متى 28: 19) من ناحية أخرى. فكانت مُهِمَّة يسوع مختصة باليهود، ولكن أُنبأ عن هذا الشّعب بانَّه تتبارك به كلُّ قبائل الأرض (تكوين 22 18). يجب أن تكون اليهود الفرصة الأولى لقبوله مسيحًا، لانَّ الله اختارهم لتقديم رسالة الخَلاص لسائر العَالَم، كما قال الله لإبراهيم "وَيتَبَارَكُ بِكَ جَميعُ عَشائِرِ الأَرض" (تكوين12: 3). وبعبارة أخرى، اعتبر يسوع نفسه مُرسلا بالدرجة الأولى إلى بيت إسرائيل، ثم بعد موته وقيامته يُبشَّر الوثنيين بالخَلاص (متى 8: 5-13). ويعتبر التخصيص مرحلة من المراحل نحو توسّع عالمي اشمل في خطة خلاص الله. لانَّ الله يريد الخَلاص لأكبر عدد ممكن لا أقل عدد ممكن. وهناك نصوص كثيرة في إنجيل متى تؤيد هذا التفسير كشِفاء خادم قائد المئة (متى 8: 5) ومثل الكرّامين " إنَّ مَلكوتَ اللهِ سَيُنزَعُ مِنْكُم، ويُعطى لأُمَّةٍ تُثمِرُ ثَمرَه" (متى 21: 43). ونستطيع القول إن هذه المرأة عجّلت بفتح باب الخَلاص للوثتين. أمَّا عبارة " الخِرافِ الضَّالَّةِ مِن بَيتِ إِسرائيل" فتشير إلى إسرائيل كلّه الذي ضلَّ الطَّريق، ولم يعرف يسوع الذي هو "الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة (يوحنا 14: 6) أو إلى الخاطئين في إسرائيل، كما جاء في تعليم يسوع من خلال الخروف الضال" إِذا كانَ لِرَجُلٍ مِائةُ خَروف فضَلَّ واحِدٌ مِنها، أَفلا يَدَعُ التِّسعَةَ والتِّسعينَ في الجِبال، ويَمضي في طَلَبِ الضَّالّ؟ "(متى 18: 12). يعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم " ما الذي يمكن أن تقوم به الكنعانيّة بعد سماعها هذه الكلمات؟ هل تصمت وترحل؟ هل تفقد من عزيمتها؟ لا، أبدًا! لأنّها أصرّت أكثر. وهذا ما لا نقوم به؛ عندما لا تتمّ تلبية طلباتنا، ننصرف محبطين في حين أنّه علينا أن نصرّ بزخم أكبر" عظات عن إنجيل القديس متّى، العظة 52).
25 ولَكِنَّها جاءَت فسَجدَت لَه وقالت: ((أَغِثْني يا رَبّ! ))
تشير عبارة "جاءَت فسَجدَت لَه " إلى تتبع المرأة يسوع حتى دخوله البيت (مرقس 7: 24)، فدخلت على أثره، ودنت منه وسَجدت، كما سجد الرُّسل بعد العاصفة (متى 14: 33)، وكما فعل أحد الوجهاء " أتى بَعْضُ الوُجَهاءِ فسجَدَ لَه وقال: ((ابنَتي تُوُفِّيَتِ السَّاعة، ولكِن تَعالَ وَضَعْ يَدَكَ عَليها تَحْيَ (متى 9: 18). لقد حقّقت هذه المرأة بهذا ما ترنّم به صاحب المزامير "اسمَعي يا بِنتُ واَنظُري واَميلي أُذُنَكِ إِنسَي شَعبَكِ وبَيتَ أَبيكِ فيَصْبُوَ المَلِكُ إلى حُسنِكِ إِنَّه سَيِّدُكِ فلَه اْسجُدي" (مزمور 45: 10-11). والجدير بالذكر أنَّ كلَّما شدَّد يسوع على المسافة، اقتربت المرأة منه أكثر، بل تجرأت على أن تكون قريبة، دون خوف. يا له من إيمان عظيم! المِحَن التي يتعرض لها إيماننا هي التي تنقِّي الإيمان، وتُبرز قوة الصَّلاة الحقيقية. أمَّا عبارة "يا رَبّ!" في الأصل اليوناني Κύριε, ( معناها السَّيد) فتشير إلى تسمية المرأة الكَنعانيَّة ليسوع باسم الرب اعتبارا ان رب الجميع وليس اليهود فقط كما نادته سابقا "ابن داود". أمَّا عبارة "أَغِثْني يا رَبّ! " فتشير إلى صلاة وجيزة في طلب النجدة والمعونة. وهذه الصلاة تذكرنا بصلاة صاحب المزامير" إِسْتَمِعْ لِصَوتِ تَضَرُّعي حين أَصرُخُ إِليكَ أَرفَعُ يَدَيَّ إلى قُدْسِ أَقْداسِكَ" (مزمور 28: 2). فعندما تطلب الأمّ مساعدة من أجل ابنها لا تستسلم أبدًا؛ فماذا ينقصها بعد لتكون من الأبناء، وتنعم تمامًا بما هم ينعمون؟
26 فأَجابَها: ((لا يَحسُنُ أَن يُؤخَذَ خُبزُ البَنينَ فيُلْقى إلى صِغارِ الكِلاب)).
تشير عبارة "لا يَحسُنُ أَن يُؤخَذَ خُبزُ البَنينَ فيُلْقى إلى صِغارِ الكِلاب" إلى مثل شعبي منتشر بين اليهود الذين كانوا يعتبرون أنفسهم "البنين"، وينعتونهم باقي الأُمَم بالكلاب بفعل نجاستهم؛ ويُعلق القديس أوغسطينوس أن "الذين ظنّوا في أنفسهم أبناء، حرموا أنفسهم من مائدة المَلكوت خلال جحودهم، والذين كانوا في شَرّهم ودنسهم كالكلاب، صاروا بالحق أبناء يدخلون وليمة أبيهم السَّماوي"؛ أمَّا عبارة "لا يَحسُنُ" فتشير إلى جواب يسوع انه غير لائق أن يؤخذ الطعام من البنين (اليهود) ويُعطى للأمم. أمَّا عبارة "خُبزُ البَنينَ" فتشير إلى الخبز المُعد للبنين، المُراد به بركات الإنجيل من معجزات وغيرها مما خصَّ الله بها اليهود أولاً باعتبارهم أبناء الملكوت (متى 8: 12) وورثة المواعيد، وتدل هذه العبارة هنا بصورة خاص على المسيح نفسه. فالكل مدعو إليه مجانًا. أمَّا عبار "يُؤخَذَ خُبزُ البَنينَ" فنشير إلى جواب يسوع في غاية القسوة متحدِّيًا المرأة الكَنعانيَّة، ويعلق القديس أوغسطينوس "بلا شك لا يحتقر السيّد خليقته، ولكنَّه ربّما قال هذا مردِّدًا ما كان يردِّده اليهود لكي يمجِّد من ظنَّهم اليهود كلابًا، معلنًا كيف صاروا أعظم إيمانًا من البنين أنفسهم". أمَّا عبارة "البَنينَ" فتشير إلى أبناء البيت وهم اليهود الذين هم في البيت، والذين لهم المواعيد، وعندهم الأنبياء ومنهم المسيح وبهم يبدأ الخَلاص. أمَّا عبارة "صغار الكِلاب " فتشير إلى حيوان نجس يُذكر أحيانا مع الخنزير " لا تُعطُوا الكِلابَ ما هَو مُقدَّس، ولا تُلْقوا لُؤلُؤَكُم إلى الخَنازير"(متى 7: 6)، وكان اليهود يلقِّبون به الوثنيين أي الأُمَم الذين هم في خارج البيت، الذين لا يعرفون الله، ولا ينتمون إلى إبراهيم. فكان اليهود يعتبرون الغرباء كلِابًا من جهة نوال بركة الله وبسبب عدم طهارتهم حسب الشّريعة، ولأنَّهم لا يعبدون الإله الواحد. فهناك مقارنة بين البنين (الذين في البيت وهم الشّعب اليهودي) والكِلاب (الذين هم في الخارج، أي الوثنيُّون). الكِلاب يأكلون بعد البنين والوثنيون ينتظرون دورهم إلى المائدة. وكان موقف المسيح يقصد امتحان إيمان المرأة عالِمًا أنَّها قادرة على احتمال الموقف، كما جاء في الكتاب المقدس "ما تُصِبْكُمْ تَجرِبَةٌ إِلاَّ وهي على مِقدارِ وُسْعِ الإِنسان. إِنَّ اللهَ أَمينٌ فلَن يأذَنَ أَن تُجَرَّبوا بما يفوقُ طاقتَكم، بل يُؤتيكُم مع التَّجرِبَةِ وَسيلةَ الخُروجِ مِنها بِالقُدرةِ على تَحَمُّلِها" (1 قورنتس 13:10). ويسوع بهذه الإجابة أعطى درسًا لليهود السَّامعين أن الأُمَم ليسوا كِلابًا بل فيهم من هم أحسن من اليهود. أمَّا عبارة " الكِلاب " فتشير إلى استعارة في الكتاب المقدس للإهانة إذا قُصد بها كلاب الأزقَّة (تثنية الاشتراع 23: 8 ومتى 7: 6)، واستعار اليهود الكِلاب لإهانة الأُمَم بدعوى أنّ الجامع بينهم تنجيس الآخرين. أمَّا عبارة "صِغارِ الكِلاب" فتشير إلى كِلاب البيت التي تجلس تحت مائدة أربابها. لم يقل يسوع للمرأة الكَنعانيَّة أنتِ كلبة، حاشا للرَّبِّ يسوع المسيح أن يشتم، وهو البَار والقُّدوس " إنَّه لم يَرتكِبْ خَطيئَةً ولَم يُوجَدْ في فَمِه غِشّ" (1 بطرس 2: 22). استخدم يسوع هذه الكلمات امتحانًا للتواضع المرأة الكَنعانيَّة وإيمانها علمًا أنَّ قلب يسوع مملوءٌ حنوًا ورحمة لتلك المرأة؛ وهذا الأمر يُذكِّرنا بيوسف في مصر من القَساوة لإخوته مع أن قلبه مملوء محبة لهم (التكوين 42: 7، 24). لكن ما قاله يسوع للمرأة "لا يَحسُنُ أَن يُؤخَذَ خُبزُ البَنينَ فيُلْقى إلى صِغارِ الكِلاب" (متى 15: 26، 28) لا يمكن فهمه إلاّ امتحانًا لإيمان تلك المرأة الوثنية، ويُعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم "لم يقصد بأجوبته إلحاق الأذى بها، إنّما كشف الكنز الكامن بداخلها"(عظات عن إنجيل القديس متّى، العظة 52). ويمكن أن نلخِّص هذه الآية بان جواب المسيح للمرأة أنَّ السَّاعة لإظهار الرحمة للأمم لم تأتِ بعد. إنّ الخَلاص يبدأ أولاً باليهود ثمّ يعمّ العَالَم، ولذلك دعا يسوع تلاميذه للتحرُّر من التزمّت العنصري اليهودي والذهاب إلى العَالَم الوثني بعد موته وقيامته.
27 فقالت: ((نَعم، يا رَبّ! فصِغارُ الكِلابِ نَفْسُها تأكُلُ مِنَ الفُتاتِ الَّذي يَتساقَطُ عَن مَوائِدِ أَصحابِها)).
تشير عبارة " نَعم، يا رَبّ " إلى موافقة المرأة الكَنعانيَّة على كلام يسوع كجواب لإيمانها معترفة باختيار الله لشعب إسرائيل وأولويته في الدخول إلى الخَلاص. كانت المرأة واعية بعدم وجود لها حقوق للحصول على ما تريد، لأنّها كنعانية، لكنها أدركت أن باستطاعتها الانتظار لوفرة عطايا الله التي تفيض من مائدة الضيوف وتكفي الجميع. ويعلق القديس أوغسطينوس "إنكَ تنطق بالحق، لكن ينبغي ألا أُحرم من البركة بسبب هذا". وتِكرِّر المرأة الكَنعانيَّة نداء يسوع بهذا اللقب ثلاث مرات للدلالة على أنَّ مستوى الإيمان صعد في قلبها وعقلها للقول عن إنسان لا تعرفه: "يا رَبّ! أمَّا عبارة "فصِغارُ صِغارُ الكِلابِ نَفْسُها تأكُلُ مِنَ الفُتاتِ الَّذي يَتساقَطُ عَن مَوائِدِ أَصحابِها" فتشير إلى جوابها التي ينص عل انه لا يجوز أن يُحرم البنين خبزهم لتأكله الكلاب، ولكن للكِلاب تأكل الفتات السَّاقطة من مائدة البنين. والمقصود بذلك أنَّ المرأة الكَنعانيَّة لا تطالب المُقاسمة ولا المُناصفة، ولكن المُشاركة في الفائض. لأنَّ المائدة التي يُدعى إليها الشَعب المختار تكفي للجميع كما تشير عبارة " فصِغارُ الكِلابِ " في الأصل اليوناني καὶ γὰρ τὰ κυνάρια (معناها حتّى صغار الكلاب). يؤمن هذه المرأة أن الخبز الذي يعطيه الرّبّ سيكون كافيا، وان الفتات سيكون وفيرا. وأقرَّت أن الله اختار شعبًا جعل منه يسوع نقطة انطلاق لرسالته، فالاختيار يتضمن امتياز، ولكنَّه يتضمن أيضا مسؤولية. وقَبل يسوع، بناء على طلب المرأة الكَنعانيَّة، أن يوزّع خبز البنين (المخصص لليهود) على صغار الكِلاب" (الأُمَم) معلنًا أنَّ الخبز الذي كان مُخصَّصاً لإسرائيل، يوزّع يومًا على الجميع. إن اختيار الله مجاني، لا اعتباط ولا عنصري بل نعمة من أجل العَالَم. أمَّا عبارة "صِغارُ الكِلابِ" باليونانية τὰ κυνάρια (معناها الكلاب الصغيرة المنزلية الأليفة لا الكِلاب الشّاردة) فتشير إلى الازدراء والاحتقار، كما استخدمها بولس الرسول في رسالته "إِحذَروا الكِلاب" (فيلبي 3: 2). أمَّا عبارة " أَصحابِها " فتشير إلى تعدُّد أرباب العائلات مع انه أرادت المرأة واحدا هو الله، لأنَّه ربُّ كل عائلة. إنها مثال لنا بان نطلب الحياة من يسوع مهما ظهر لنا من موانع. نجحت المرأة في أن تواصل الحِوار مع المسيح، بالرُّغم من كلامه الجارح، فمنحها الشفاء لابنتها والخلاص لها بفضل إيمانها وتواضعها. يُعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم "لقد رفضَ طلبَها، ليُبرِزَ قوّة إيمانها. فلو لم يشأ الاستجابة إليها، لما كان أعطاها ما طلبَتْ في نهاية المطاف... ولم تكنْ الغاية من إجاباته أن يسبّبَ لها الألم، بل أن يجذبَها إليه وأن يكشُفَ عن هذا الكنز المحجوب" (عظات حول إنجيل القدّيس متّى، 52).
28 فأَجابَها يسوع: ((ما أَعظمَ إِيمانَكِ أَيَّتُها المَرأَة، فَلْيَكُنْ لَكِ ما تُريدين)). فشُفِيَتِ ابنَتُها في تِلكَ السَّاعة.
تشير عبارة "ما أَعظمَ إِيمانَكِ أَيَّتُها المَرأَة" إلى مخاطبة يسوع أخير للمرأة وتشجيعها وتعزيتها بكلمات تشفي وتخلص فحسب بل مدحها أمام الجميع على إيمانها وتواضعها بعد الإصْغاء إلى إيمانها ورؤية ألمها. فالله لا يُعلن عمله في إنسان إلاَّ بقدر ما يُعلن هذا الإنسان عن إيمانه. الإيمان يحقّق المستحيل، ويجعل الله يحقّق للإنسان ما يريد. الإيمان الذي طالما بحث يسوع عنه عبثاً داخل حدود إسرائيل، حتى في الأمَّاكن التي اجترح فيها معظم معجزاته. وفي الواقع، لم يمدح يسوع هذا المدح سوى قائد المائة " أُعْجِبَ بِه وقالَ لِلَّذينَ يَتبَعونَه: ((الحَقَّ أَقولُ لَكم: لَم أَجِدْ مِثلَ هذا الإِيمانِ في أَحَدٍ مِنَ إِسرائيل " (متى 8: 10). وكلاهما من الوثنيين. وهكذا أوجدت المرأة الكَنعانيَّة بإيمانها مكانا لنفسها بين أبناء إبراهيم وإسحق ويعقوب، واستحقت أن تجلس على المائدة مع البنين، وأن تحصل على خبز البنين، وبالتالي انضمت هذه المرأة للملكوت الذي أتى المسيح ليؤسسه كما جاء في تعليم بولس الرسول " المِيراثُ يَحصُلُ بِالإِيمان لِيَكونَ عَلى سَبيلِ النِّعمَة ويَبقى الوَعْدُ جاريًا على نَسْلِ إٍبراهيمَ كُلِّه، لا على مَن يَنتَمونَ إلى الشّريعةِ فَحَسْبُ، بل على مَن يَنتَمونَ إلى إِيمانِ إِبراهيمَ أَيضًا. وهو أَبٌ لَنا جَميعاً" (رومة 4: 16)؛ أراد بهذا المدح أن يقول لليهود إن هذه المرأة الكَنعانيَّة أظهرت إيمانًا بالله أكثر منهم بسبب مقاومتهم لكلامه وتعاليمه. أمَّا عبارة " فَلْيَكُنْ لَكِ ما تُريدين" فتشير إلى استجاب طلب الكَنعانيَّة بشفاء ابنتها، فكان لها ما أرادت بإيمانها بعدما اظهر لها في بادئ الأمر انه لا يريد أن يعطيها أدنى شيء. الحّت المرأة الكَنعانيَّة على يسوع كثيرًا، ونالت ما تمنّت. يعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم " تأخّر الرّب يسوع المسيح في تلبية صلاة المرأة لأنّه عرف جوابها مسبقًا... لم يقصد بأجوبته إلحاق الأذى بها، إنّما كشف الكنز الكامن بداخلها"(عظات عن إنجيل القديس متّى، العظة 52). أمَّا عبارة " فشُفِيَتِ ابنَتُها في تِلكَ السَّاعة" فتشير إلى خروج الشّيطان من ابنة الكَنعانيَّة بكلمة الرَّبّ عن بُعد كما كان الأمر في شفاء ابن رئيس المجمع في كفرناحوم (يوحنا 4: 50، وخادم قائد المائة (متى 8: 13). ويُعلق القديس أوغسطينوس "أن شفاء ابنة هذه المرأة دون أن يذهب المسيح إليها معناه أن الأُمَم سيخلصون بالكلمة دون أن يذهب المسيح إليهم بالجسد". ليس المسيح الذي ينتظره الشّعب اليهودي، بل هو المُخلص الذي ينتظره جميع البشر. انه يستطيع أن يُحرِّر من جميع قوى الشّر تُهيمن عليهم. ويُعلق القديس أوغسطينوس "ما حُرم منه اليهود أصحاب الوعود بسبب كبريائهم نالته الأُمَم المحرومة من المعرفة بسبب تواضعها".
ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 15: 21-28)
بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (متى 15: 21-28)، نستنتج انه يتمحور حول كيفية وصول الوَثنيين إلى الخَلاص. الجواب هو إنهم إذا آمنوا مثل المرأة الكَنعانيَّة يخلصون، لانّ الإيمان مفتوح لجميع الشّعوب. ومن هنا نبحث في نقطتين: إيمان المرأة الكَنعانيَّة وشمولية رسالة يسوع الإنجيلية.
1) إيمان المرأة الكَنعانيَّة
كان إيمان المرأة الكَنعانيَّة عظيمًا بيسوع، إذ التجأت إلى يسوع بكل ثقة وتواضع متوسلة إليه أن يحل مِحنتها في مرض ابنتها، وهذه المِحنة ثبَّتت إيمانها عبر المراحل التالية:
المرحلة الأولى: الدعاء
بدأ إيمان المرأة الكَنعانيَّة بصراخها إلى يسوع التي جاءت لمقابلته وهي تصيح: "رُحْماكَ يا ربّ! يا ابنَ داود، إِنَّ ابنَتي يَتَخَبَّطُها الشّيطان تَخَبُّطاً شديداً" (متى 15: 22). ويُعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم " عندما اقتربت المرأة الكَنعانيَّة من الرّب يسوع، كان مشهدًا مؤثّرًا رؤية امرأة تبكي بهذا القدر من المشاعر، أمٌّ تتوسّل من أجل ابنتها، وهي طفلة في حالة جسديّة يُرثى لها. هي لم تقل "ارحم ابنتي"، ولكنّها قالت: "ارحمني"، "ابنتي لا تعي مرضها، ولكن أنا أتألّم ألف مرّة" (عظات عن إنجيل القديس متّى، العظة 52).
آمنت المرأة الكَنعانيَّة أنَّ يسوع هو ابن داود، "رُحْماكَ يا ربّ! يا ابنَ داود" (متى 15: 22)، ابن داود هو اللقب الشّعبي الخاص بالمسيح (متى 15: 22و 20: 30-31 و21: 9)؛ ويبدو أن بعض معاصري يسوع اعترفوا به "ابن داود" (مرقس 10: 47-48). ولقد أُعلن يسوع في لقب "ابن داود" في كرازة الرُّسل (أعمال الرُّسل 2: 29-32) وفي شهادة إيمان بولس الرَّسول "في شَأنِ ابنِه الَّذي وُلِدَ مِن نَسْلِ داوُدَ بِحَسَبِ الطَّبيعةِ البَشَرِيَّة، وجُعِلَ ابنَ اللهِ في القُدرَةِ، بِحَسَبِ روحِ القَداسة، بِقِيامتِه مِن بَينِ الأَموات، أَلا وهو يسوعُ المسيحُ ربّنا" (رومة 1: 3-4).
قَبِلَ يسوع لقب "أبن داود " (متى 21: 9)، انه ذاك الذي كلّفه الله بإعلان مجيء الملكوت وافتتاحه بآلامه وموته، لكنه لم يحقق هذا الملكوت بالطريقة الحربية والمجيدة، لانَّ فئة من معاصريه كانوا ينظرون إليه نظرة بشريّة سياسيّة في جوهرها. غير أنَّ يسوع أتى "ليخدم" كما صرّح: "هكذا ابنُ الإِنسانِ لم يأتِ لِيُخدَم، بَل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفسِه جَماعَةَ النَّاس" (متى 20: 28). أنَّه أتى لا ليتسلط على الشّعب بالعنف والكبرياء، بل ينشر ملكوته بالتواضع والخدمة (يوحنا 18: 37). ولذلك أبناء مملكته، في ذلك الزمن، كانوا من فئة الأطفال الذيم كانوا "يَهتِفونَ في الهَيكَل: هُوشَعْنا لابنِ داود!" (متى 21: 15) ومن فئة مساكين الله، والرُّعاة... (لوقا 2: 14).
المرحلة الثانية: السُّجود
ابتدأ يسوع بعدم الجواب كما لو أنّ المرأة الكَنعانيَّة غير موجودة! "فلَم يُجِبْها بِكَلِمَة" (متى 15: 23) ويعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم " فصمته وحده كان يمكن أن يكون كافيًا لإطفاء بصيص الأمل... لكنّ هذه المرأة لم تفقد من عزيمتها، بل على العكس اقتربت أكثر " جاءَت فسَجدَت لَه وقالت: ((أَغِثْني يا رَبّ! " (متى 15: 25)" (عظات عن إنجيل القديس متّى، العظة 52).
لم يردّ يسوع على صراخ المرأة الكَنعانيَّة بكلمة بل صمت. بناءً على توسُّل التَّلاميذ، أَجابها يسوع "لَم أُرسَلْ إِلاَّ إلى الخِرافِ الضَّالَّةِ مِن بَيتِ إِسرائيل" (متى 15: 24) وعندما لم يُثنيها كلامه عن عزمها، واصلت طلبها، قدّم لها الضربة القاضية قائلُا "لا يَحسُنُ أَن يُؤخَذَ خُبزُ البَنينَ فيُلْقى إلى صِغارِ الكِلاب" (15: 26)؛ فقد أستعمل يسوع هذه المرّة كلمات جافة، إذ يُشبّهها بالكِلاب التي لا يجوز لها أن تأكل من خبز البنين. ويعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم " إن كنت كلبًا صغيرًا في هذا المنزل، فأنا لست بغريبة بعد الآن. وأنا أعرف جيّدًا أنّ الطعام ضروري للبنين، لكن يجب ألاّ تمنع عنّي الفتات... يجب ألاّ ترفض إعطائي الفتات، فإنّي أنا الكَلب الصغير الذي لا يمكن إزاحته" (عظات عن إنجيل القديس متّى، العظة 52).
لم تيأس المرأة الكَنعانيَّة بل "جاءَت فسَجدَت لَه وقالت: ((أَغِثْني يا رَبّ! " (متى 15: 25) فاستجاب يسوع لصلاة إيمانها "أَغِثْني يا رَبّ!" مثلما استجاب "صراخ الأبرص (مرقس 1: 40: 41)، ويائيرس (مرقس 5: 16) واللص اليمين (لوقا 23: 39). وقد كشفت هذه المرأة عن عمقَ إيمانها أمام تحدِّيات يسوع. واخذ التقليد يردِّد دعاء "يا يسوع المسيح، ابن الله الحي، ارحمني أنا الخاطئ!" الذي هو صدى إلى صلاة المرأة الكَنعانيَّة "رُحْماكَ يا ربّ! يا ابنَ داود". إن يسوع، يستجيب دائما للصلاة التي تتوسل إليه بإيمان سواء كان الأمر شفاء من الأمراض، أو مغفرة خطايا، كما حدث مع المرأة الخاطئة " إِيمانُكِ خَلَّصَكِ فاذهَبي بِسَلام" (لوقا 7: 50).
تخطَّت المرأة الكَنعانيَّة الصُّعوبات والتَّحديات، وتمكَّنت أن تكون قوية ً مُحتملة المُعاناة بعزم ثابت وقوة وإصرار، ولم تضعف ابدأ، ولم تيأس ولم تتراجع، بل ازدادت صياحًا وتصميمًا وعزمًا بالرغم من وجود تجارب الشّيطان الذي كان يصارع ابنتها المريضة. واستطاع أخيرا إيمانها إن ينتزع معجزة شفاء ابنتها من يسوع، وهذ ما لم يعمله في الناصرة " ولَم يُكثِرْ مِنَ المُعجِزاتِ هُناكَ لِعَدَمِ إِيمانِهِم"(متى 13: 58). وإيمان الكَنعانيَّة تلميح إلى وصول خدمة الإنجيل في كل العَالَم. يضع الناس حواجز وحدود، أمَّا الله فنظرته واحدة إلى كل أنسان، إنه يرغب في خلاص جميع البشر، يكفي الإيمان، والإيمان يُحطِّم الحواجز بين الشّعوب.
المرحلة الثَّالثة: الإيمان
عبَّرت المرأة الكَنعانيَّة عن إيمانها بتواضعها قائلة "نَعم، يا رَبّ! فصِغارُ الكِلابِ نَفْسُها تأكُلُ مِنَ الفُتاتِ الَّذي يَتساقَطُ عَن مَوائِدِ أَصحابِها" (متى 15: 27). إن يسوع أراد أن يُلبّي طلب المرأة الكَنعانيَّة، ليس لأجل جنسها بل لأجل إيمانها. فقال لها "لا يَحسُنُ أَن يُؤخَذَ خُبزُ البَنينَ فيُلْقى إلى صِغارِ الكِلاب" (متى 15: 26)، لأن اليهود كانوا ينعتون هؤلاء الناس بالكِلاب، وغاية كلام يسوع أن يُسمع اليهود والتَّلاميذ أن من تعتبرونهم أنجاساً ومُزعجين، يستحقُّون أيضاً الرحمة وخاصةً إذا آمنوا به ووثقوا فيه. لقد فهمت المرأة الفينيقية الكَنعانيَّة كلام المسيح، فكان جوابها حكيمًا جدًا. لقد تأكَّدت المرأة أنَّ المسيح لا يقصد إهانتها على الإطلاق، بل أراد أن يوصل رسالته إلى من يسمعه بأن الأُمَم أيضاً لهم نصيب في محبته وخلاصه. وهكذا تحقَّقت فيها نبوءة أشعيا " رَأَوا ما لم يُخبَروا بِه وعايَنوا ما لم يَسمَعوا بِه" (أشعيا 52: 15).
يُعلن بولس الرسول أنّه في حين رفض الشّعب المُختار خبز البنين، يكون قد فتَحَ رفضهم الباب للوثنيِّين (الكلاب) كما جاء في تعليمه "نِلتُمُ الآنَ رَحمَةً مِن جَرَّاءِ عِصْيانِهم" (رومة 11: 30). ويعلق القديس أوغسطينوس "الذين لم يُرسل إليهم الأنبياء هم الذين سمعوا الأنبياء أولا وفهموا، الذين لم يسمعوا من قبل، لما سمعوا تعجّبوا وقبلوا. والذين أرسل إليهم الأنبياء بقَوا يحملون الكتُب ولا يفهمون الحقيقة التي فيها". فصارت هذه المرأة الكَنعانيَّة المُلحدة الوثنية ابنة لإبراهيم ومثالاً للمُؤمنين في العَالَم الوثني، كما كان زكا العشار، ابن إبراهيم، مثالا للتائبين في الشّعب اليهودي. وقد أصبحت هذه المرأة الوثنية ابنة لإبراهيم لا بما مارسته من شريعة، بل من أجل إيمانها. إذا كانت القضية قضية إيمان فهي تؤمن، ولن تنتظر أن يأتي دور الوثنيين بعد أن يهتدي اليهود. فهي تعتبر نفسها من منذ الآن من الأبناء. نحن أيضًا، إن كانَ إيماننا عظيمًا فعَّال بالمحبّة، لن نحصلَ على الشّفاء التامّ لنفوسنا فحسب، بل سيكون باستطاعتنا أن ننقلَ الجبال أيضا.
المرحلة الأخيرة: المدح والمكافأة
لم يتردد يسوع إزاء إيمان المرأة الكَنعانيَّة إلاّ أن يمدح إيمانها: " فأَجابَها يسوع: ((ما أَعظمَ إِيمانَكِ أَيَّتُها المَرأَة، فَلْيَكُنْ لَكِ ما تُريدين)). يُعلق العلامة القدّيس بيدُس المُكرَّم " يظهر لنا هذا الإنجيل إيمان المرأة الكنعانيّة العظيم وصبرها ومثابرتها وتواضعها... كانت هذه المرأة تتحلّى بصبر لا مثيل له. عند مناشدتها الأولى، لم يجبْها الرّب يسوع المسيح بكلمة واحدة. بالرغم من ذلك، لم تكفّ للحظة عن الصلاة وتوسّلت إليه بإصرار شديد أن ينقذ ابنتها بمحبّته. عندما يرى الرّب يسوع المسيح عمق إيماننا وجديّة مثابرتنا على الصلاة، لا بدّ من أن يشفق علينا ويمنحنا كلّ ما نتمنّاه" (عظة عن الأناجيل، الجزء الأوّل، العظة 22). واستجاب طلبها وقال كلمة خاص بها، لم يقلها لأحد:" فَلْيَكُنْ لَكِ ما تُريدين". فشُفِيَتِ ابنَتُها في تِلكَ السَّاعة" (متى 15: 28). اكتشف يسوع كنز الإيمان المدفون أيضا خارج حدود إسرائيل في المرأة الكَنعانيَّة.
امتدح يسوع إيمان المرأة الكَنعانيَّة كما امتدح إيمان قائد المئة. ولم ينظر يسوع فقط إلى جرحها الحقيقي في عذابات ابنتها، بل نظر أيضا إلى صَبْرها أمام صمت الله، إلى رجائها في انتظار كلمة الله، إلى ثقتها بمشيئة الله بعكس الفِريسيِّين. فهناك تناقض عجيب بين موقف الفِريسيِّين الذين يقاومون المسيح وبين هذه المرأة الكَنعانيَّة الأُمَمية الوثنية التي تحيا في النَّجاسة. لقد تحوّل الكتبة والفِرّيسيّون بعمى قلوبهم عن يسوع، وقاوموه (متى 15: 10-20) ولم يكتشفوه بسبب كبريائهم ومحبتهم للمال، بالرُّغم من أنَّهم مدافعون عن النَّاموس، في حين سعت المرأة الكَنعانيَّة الأُمَمية الوثنية التي تحيا في النَّجاسة أن تكتشف في يسوع مسيحًا شافيًا قادرًا أن يصنع المُعجزات، فجأت تطلب الشّفاء لابنتها التي يتخبطها الشّيطان (متى 15: 22)، فالتقت بيسوع وكلها إيمان. ويعلق القدّيس هيلاريوس "وأصبحت هذه المرأة الكَنعانيَّة صُورَة الشّعب الوثنيّ، أذ أتت جموع بأناس مُصابين بمختلف الأمراض إلى الرَّبّ على الجبل (متى30:15). هم أشخاص غير مؤمنين، أي مرضى، ولكنّ المؤمنين اقتادوهم إلى العِبادة والسُّجود فنالوا الخَلاص ليُدركوا الله ويعاينوه ويُسبّحوه ويتبعوه" (تعليق على إنجيل القدّيس متّى). بهذا تحدى يسوع هنا الأفكار والأحكام المُسبقة عن فئات الوثنية. فالجميع مدعوُّون للخلاص.
ونستنتج مما سبق أربعة أمور تستحق المرأة الكَنعانيَّة الاعتبار: الأول محبَّتها الوالدية، وإظهار تلك المحبَّة بطلب معونة المسيح لابنتها. وهنا تعزية عظيمة للوالدين الذين يسألون المسيح البركات الرُّوحية لأولادهم. والثاني تواضعها. والثالث لجاجتها في الصلاة والمُداومة عليها؛ فإن من يُحسبون أدنى الناس وانهم محرمون يجب أن لا ييأسوا من النَّعمة إذا طلبوها من الله بإيمان لا يعرف الكلل وإلياس، لأنه إلهٌ مُحبٌ وحنونٌ: "فإِنَّه يُريدُ أَن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاسِ ويَبلُغوا إلى مَعرِفَةِ الحَقّ "(1 طيموتاوس 2: 4). والاعتبار الرابع هو إيمانها ومدح المسيح هذا الإيمان. فالإيمان هو أصل الشّجرة التي أغصانها التواضع والصبر والمداومة على الصلاة. هل لدينا إيمان المرأة الكَنعانيَّة؟
2) شمولية رسالة يسوع الإنجيلية
تكمن أهمية معجزة شفاء ابنة المرأة الكَنعانيَّة ليست فقط في إيمانها، بل أيضا في مكان حدوثها. إنَّها حدثت على ارض وثنية واقعة نَواحي صُورَ وصَيدا (متى 15: 21)، وهي تلميح لوصول ملكوت يسوع ليس فقط إلى العَالَم اليهودي، بل إلى العَالَم الوثني أيضًا. فالوثنيون إذا آمنوا مثل المرأة الكَنعانيَّة يُفُتح أمامهم باب الخَلاص، لانَّ علامات مجيء ملكوت الله تصل أيضا إلى الوثنيين الذين يفتحون قلوبهم لتعليم يسوع ويؤمنون به. إن آمنوا كما آمنتْ تلك الكَنعانيَّة، فالإيمان يؤدي إلى الانتماء إلى الشّعب المُختار في الملكوت التي نادى به يسوع.
وقيام المسيح بخدمة قصيرة بين الأُمَم هو تلميح لخدمة الإنجيل التي ينادي بها المسيح في كل العَالَم. وبهذا يؤكد لنا يسوع انه هو مُؤسِّس رسالة الأُمَم التبشيرية وَفقًا وصيته إلى تلاميذه " اِذهَبوا في العَالَم كُلِّه، وأَعلِنوا البِشارَةَ إلى الخَلْقِ أَجمَعين." (مرقس 16: 16). ويؤكد ذلك بولس الرسول بان يسوع جاء يبشّر جميع الأُمَم "بِه نِلْنا النِّعمَةَ بِأَن نَكونَ رسلاً، فنَهدِيَ إلى طاعَةِ الإِيمانِ جَميعَ الأُمَم الوَثَنِيَّة، إكرامًا لاسمِه" (رومة 1: 5).
صحيح أن يسوع كان مرسلا في البداية إلى الخِراف الضالة من بني إسرائيل، لكنَّه أصبح بعدهم مُرسلا إلى كل أمة تحت السماء. فلا ينبغي أن نرى المسيح مسيحًا قوميًا، ومنحصرًا خلاصه في اليهود. إن البشارة ستنتقل من اليهود إلى اليونانيِّين، كما جاء في رسائل بولس الرُّسول" فإِنِّي لا أَستَحيِي بِالبِشارة، فهي قُدرَةُ اللهِ لِخَلاصِ كُلِّ مُؤمِن، لِليَهودِيِّ أَوَّلا ثُم لِليُونانِيّ " (رومة 1: 16). ومن هذا المنطلق، إنَّ النَّاس كلهم مدعوون إلى ملكوته، كما جاء في تعليم بولس الرسول" فَلا فَرْقَ بَينَ اليَهودِيِّ واليُونانِيّ، فالرَّبّ رَبُّهم جَميعًا يَجودُ على جَميعِ الَّذينَ يَدعونَه" (رومة 10: 12). وخلاصة القول، هدم يسوع الحائط الفاصل بين اليهود والوثنيِّين.
والواقع، إن إنجيل متى منفتح على الوثنيين، فأول من سجدوا ليسوع هم المَجوس (متى 2: 1-12). وأعلن يسوع أنَّ "بِشارَةُ المَلكوتِ هَذه في المَعمورِ كُلِّه شَهادَةً لَدى الوَثَنِيِّينَ أَجمَعين، وحينَئِذٍ تَأتي النِّهاية" (متى 24: 14) "سَوفَ يَأتي أُناسٌ كَثيرونَ مِنَ المَشرِقِ والمَغرِب، فَيُجالِسونَ إِبراهيمَ وَإِسحقَ ويَعقوب على المائِدةِ في مَلَكوتِ السَّمَوات" (متى 8:11). وهناك "جموع كثيرة" ورد ذكرها 40 مرة في إنجيل متى تتبع يسوع، معلنة دخول الوثنيين بكثرة في الكنيسة (متى 4: 25) أو أفراد تتبع يسوع كقائد المئة (متى 8: 5-13) أو قائد المئة والذين يحرسون معه يسوع عند قدمي الصليب (متى27: 54)، جميعهم يعترفون بإيمانهم، ويرون في يسوع العبد المتألم لجميع الأُمَم كما تنبا عنه أشعيا النبي: "هُوَذا عَبْدِيَ الَّذي اختَرتُه حَبيبيَ الَّذي عَنهُ رَضِيت. سَأَجعَلُ رُوحي علَيه فيُبَشِّرُ الأُمَم بِالحَقّ " (متى 12: 18-21).
كانت الجماعة المسيحية الأولى في إنجيل متى مـتأهبة لوصية يسوع الأخيرة " فاذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم" (متى 28: 19)، لانَّ المسيح جعل من تلاميذه " رُسُلا"، كما جاء في إنجيل متى "وهَذِه أَسْماءُ الرُّسل الاثنَي عَشَر" (متى 10: 2) أرسلهم أولا إلى اليهود "اذهَبوا إلى الخِرافِ الضَّالَّةِ من بَيتِ إِسرائيل " (متى 10: 6). فكانت تلك المرحلة أولى ثم أوصاهم في المرحلة الثانية بعد قيامته إلى تبشير العَالَم كله: "ستُعلَنُ بِشارَةُ المَلكوتِ هَذه في المَعمورِ كُلِّه شَهادَةً لَدى الوَثَنِيِّينَ أَجمَعين" (متى 24: 14).
نستنتج مما سبق أنَّ الملكوت ليس محصورًا على العَالَم اليهودي، بل إنه مفتوح ٌ على الوثنيين الذين وثقوا بيسوع وفتحوا قلوبهم على تعليمه. وهكذا يعلمنا هذا النص الإنجيلي بان لا نحصر الخَلاص لليهود، بل نفتح أبوابنا للوثنيِّين. فالإيمان متاح لجميع النَّاس، وهو يحطِّم الحواجز بين الشّعوب. الناس يضعون الحواجز والحدود، أمَّا الله فيضع الجسور ويتخطَّى الحواجز لانَّ نظرته واحدة إلى كل إنسان، وهو يرغب في خلاص جميع البشر. لذا واجب الكنيسة أن تفتح أبوابها للجميع الذين يلتجئون إليها بإيمان خاصةً مثل إيمان المرأة الكَنعانيَّة، وان أن تسعَى حتى لا يبقى أحدٌ خارجًا عن الله.
أخير يُعلمنا يسوع ألاَّ نتعامل مع الآخرين بالاستعلاء ولا أن ننظر إليهم نظرة عنصرية بالكراهية والعداء، ولا أن نتعامل معهم بالقسوة والجَفاء. فالآخرون هم اخوه لنا، وشركاء في الدعوة والمَصير، هم مدعوُّون أيضًا مثلنا إلى الملكوت. ويُعلمنا السَّيد المسيح أيضًا من خلال المرأة الكَنعانيَّة ً أن نهتم بكل متألمٍ، ونصلى لأجله كما يطلب من الرَّسول يعقوب " ْيُصَلِّ بَعضُكم لِبَعضٍ كَي تُشفَوا" (يعقوب 5: 16). ويعلمنا أيضا أن نتخذ دور الرُّسل في الوساطة بين يسوع وبين الناس ونكون منفتحين لروعة رسالة الله لجميع الناس، ولا نُبعد ا حاو نستثني أحدًا عن الملكوت. وبما إننا جميعا بحاجة إلى رحمة لله لنصرخ مع المرأة الكَنعانيَّة بإيمان "رُحْماكَ يا ربّ! أَغِثْنا يا رَبّ!".
الخلاصة
يشكل لقاء يسوع مع المرأة الكَنعانيَّة ثلاث عبر. العبرة الأولى الإيمان وهو ذروة ثمار الرسالة الإنجيلية بين الوثنيين. وهذا ما تجلى في إيمان المرأة الوثنية بيسوع، إذ استجاب لإيمانها العظيم، وقال كلمة لم يقلها لاحد:" فَلْيَكُنْ لَكِ ما تُريدين" (متى 15: 28). لقد أعدّ إيمان هذه المرأة الوثنية الطريق لانفتاح رسالة الإنجيل على جميع الأُمَم والشّعوب، لانَّ أبوّة الله تشمل جميع البشر ومحبّة يسوع تتّسع لكلّ إنسان. ليس هناك أبناء من جهة، وكِلاب من الجهة الأُخرى. يسوع جاء لخلاص الجميع، حتى أنّه أعطى الأفضلية لأولئكَ الذين يؤمنون به، كما صرّح " ما أَعظمَ إِيمانَكِ أَيَّتُها المَرأَة" (متى 15: 28). وحوار يسوع مع المرأة الكَنعانيَّة له أهميته بخصوص دخول أول الشُّعوب الوثنية في حظيرة كنيسة يسوع المسيح.
والعبرة الثانية هي المواظبة على حياة الصلاة المستمرة من أجل خلاص الذات وربح الآخرين الأقرباء والأحباء الذين تربطنا بهم صلات قرابة، وحتى من لا توجد معهم أي قرابة. إن انسحاق هذه المرأة أمام المسيح هو عبرة لنا لننال القبول أمام الرب كما جاء في نبوءة أشعيا: "أَسكُنُ ومع المُنسَحِقِ والمُتَواضِعِ الرُّوح لِأُحيِيَ أَرْواحَ المتواضِعين وأُحيِيَ قُلوبَ المُنسَحِقين" (أشعيا 57: 15)؛ وبالتالي أصبحت المرأة الكَنعانيَّة بصلاتها خير مثال لشفاعة القديسين. إنّ شفاعة القدّيسين تكون ضمن وساطة المسيح الإنسان بين الله والنّاس، لأنّ عنده وحده الطّبيعتَين الإلهيّة والبشريّة. فهو الوسيط بين الله والإنسان، ولا مانع من وسطاء بيننا وبين يسوع، كما أشارت المرأة الكَنعانيَّة في شفاعتها لابنتها عند يسوع: "رُحْماكَ يا ربّ! يا ابنَ داود، إِنَّ ابنَتي يَتَخَبَّطُها الشّيطان تَخَبُّطاً شديداً" (متى 15: 22)، وكما أشارت القصة في دور الرُّسل في الوساطة بين يسوع وبين المرأة الكَنعانيَّة. وأشار سابق يسوع إلى شفاعة مريم العذراء لأهل عرس قانا الجليل (يوحنا 2: 3).
والعبرة الثالثة: المسيح في مفهومنا ليس فقط "ابن داود" كي يبشر الشّعب اليهودي فقط، كما عبَّرت عنه في المرأة الكَنعانيَّة في بداية حوارها "رُحْماكَ يا ربّ! يا ابنَ داود" (متى 15: 22)، لكنه أيضًا المسيح الرب، كما اعترفت به عندما نضج إيمانها في نهاية حوارها قائلة "َغِثْني يا رَبّ! " (متى 15: 25). فهل نحن قد مَلَّكْنا المسيح على قلوبنا حقيقة، أو أننا نريده مسيحًا بحسب المفهوم اليهودي، مسيحًا أرضيًا وسياسيًا يصنع المُعجزات، مسيحاً يُرضى رغباتنا.
العبرة الرابعة والأخيرة، تعلمنا قصة المرأة الكَنعانيَّة أننا نستطيع أن نأخذ من الله ما نتمناه من خير، عن طريق الإلحاح والمثابرة بالصلاة والطلب دون كللٍ أو ملل، لأنَّه إلهٌ مُحبٌ وحنونٌ: " فإِنَّه يُريدُ أَن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاسِ ويَبلُغوا إلى مَعرِفَةِ الحَقّ"(1 طيموتاوس 2: 4) فلولا إلحاح المرأة ولجاجتها لما شُفِيت ابنتها.
دعاء
أيها الرَّبّ يسوع، يا ابن داود، يا من خرجت للقاء المرأة الكَنعانيَّة، وخرجت هي أيضا للقائك، ولم تردَّها خائبة، هبْنا إيمانًا وتواضعًا على مثالها في طلب رحمتك من أجلنا، والشّفاء من اجل جميع مرضانا فنحصل على خلاصك ونكون أبناء الله في ملكوتك شاكرين لك ومُردِّدين بإيمان صلاتها "رُحْماكَ يا ربّ! يا ابنَ داود، أغِثْنا يا رَبّ! يا سيدنا يسوع المسيح". آمين