موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١٩ مارس / آذار ٢٠٢١

إن لم تمت حبّة الحنطة

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
إن لم تمت حبّة الحنطة

إن لم تمت حبّة الحنطة

 

الأحد الخامس من الصوم (الإنجيل يو 12: 29-33)

 

رسائل قدّاسيٍ الأحدين، اليوم الخامس، والماضي الأحد الرابع، مأخوذتان من كتاب نبي بارز بين أنبياء الله، إسمه إرميا، أحد الأنبياء اللامعين في آخر الفرن الثامن وأول السابع قبل المسيح، إذ كان الحساب رجعي، أي نزولا إلى الوراء. أشهر رسّام  ونحّات في التّاريخ حتى اليوم هو المعروف باسم مايكل أنجلو، أجمل رسوماته ونحوته في إيطاليا وبالأخص في كنيستي الفاتيكان: كاتدرائية مار يطرس، الحاوية على تمثال الأم الحزينة وجثمان ابنها يسوع على حضنها (La Pieta) وكنيسة البابا الخاصة داخل الفاتيكان السيكستين. على سقف هذه الكنيسة فوق الهيكل من الدّاخل، نرى صورة النبي إرميا، صاجب المراثي، التي كانت تلعب دورا مُهما في صلوات أول أيام الأسبوع المقدس، قبل المجمع الفاتيكاني الثاني. نرى على هذه الصورة، النّبي الحزين، جالسا على آثار هيكل أورشليم المتهدم، حانيا رأسه على يده اليسرى، وفي اليد اليُمنى ماسكا كتاب المراثي والبكاء والتنويح على أورشليم وهيكلِها. وهل ننسى أُغنية On the river of Babylon التي هي ترجمة لحالة الشعب الذي كان قِيد أسيراً إلى العراق أي بابيلون. ولمّا طال المنفى كان هذا الشعب يخرج إلى الشاطئ ويجلسون هناك، مُنوِّحين باكين على فقدان أورشليم وهيكلِها. هذا هو باختصار محتوى المراثي.

 

إرميا كان راعيا بسيطا، حمّله الله بعمر الثامنة عشرة من عمره، رسالة كبيرة. "قبلما صوّرتُك في بطن أُمِّك عرفتك، وقبلما خرجتَ من الرّحم قدّستك. جعلتك نبيّاً للشّعوب" (إرم 4:1). ألا نقدر أن نقول هذا، عن كلِّ واحدٍ منا في وظيفته، أنها من الله مُقرّرة له قبل مولده؟ "إنه نظر إلى تواضع أمته".

 

نعم دعاه الله ليلحق بشعبه المذلول المُستعبَد من نبوكدنصّر في سوريا والعراق، ليبشِّرَه بعهدٍ جديدٍ غير العهد، الذي كان قطعه الله معهم على جبل سيناء، لكنهم لم يحاقظوا عليه، فجاء نبوكدنصّر من سوريا واحتّل السامرة المحاذية للجيوش الأشّوريّة وشمال فلسطين عام 721 قبل المسيح، واقتاد شعبها أسيرا، بينما جنوبُها، أعني أورشليم وبيت لحم وعبرون، فأجبرهم على دفع الجزية. هذا وبعد إذلالهم قرّر يهوى أن يُرسل لهم إرميا، نبيّاً من شعبهم، ليبشِّرهم بقرب تحريرهم، ورجوعهم إلى أرض الميعاد، إذ يهوى نفسه سيتدخّل: "يقول الرب ، إني أنظر إلى سبي يهوذا، وسأرجعهم إلى هذه الأرض. وأعطيهم قلباً ليعرفوني. إني أنا الرّب، فيكونوا لي شعباً، وأنا أكون لهم إلهاً، لأنّهم يرجعون إليّ بكلِّ قلوبهم" (إرميا 6:24).

 

لكن إرميا شعر بالهلع أمام المهمة الكبرى واعتذر بحجّة: إني وَلَد، ولا أعرف أن أتكلم ... فتابع الله: - لا تقل إني وَلَد... إني أنا أُرسلك، كي تذهب وتتكلّم بكل ما آمُرك به. لا تخف من وجوههم، لأني أنا معك". هذا هو الله. ومن مثل الله؟ أنَّ إلهاً يُلاحق شعبه ويخبره بأنه يريد أن يسامحه، هو إله مسامح، كما هو في البرنامج اللبناني الشعبي: المسامح كريم، لمقدِّمه جورج قرداحي. تُرى مّن أكرمُ ومَن أقدر من الله بالتسامح؟ هذه الصفة يالله برز النبي إرميا بوصفها للشعب، وبعثَ فيه الأمل بانتهاء منفاه عن أرضه ومدينته وهيكله. كم نحن بحاجة لنبي بهذه الروح والشخصيّة لعصرنا الحاضر؟ ولو ما يزعجنا من مشاكل هو من عيار غير عيار الشعب آنذاك. فنحن نتألم من حروب وأمراض وفقر ومظالم وأزمات، يبدو أنّه لا حلَّ لها بين أيدي إبنِ بشر، بل  حلُّها بين يدي الله فقط (إذ السياسيون يخدعونا ولا يفتشون إلا على مصالح بلادهم المالية والإقتصادية: هل نسينا كلمة ترامب لانتخابه: first America أمريكا أوّلاً؟

 

أولوية الله هي الإنسان. وهذا ما نجده في العهد الجديد. فمن ظنَّ أن الله سيتعامل معنا بغير ما تعامل به مع شعبه، فهو مُخطئ. ورغم أن الشعب، الذي قطع معه عهود صداقة وتسامح، ولكنّه كان يُخِلُّ، ومع ذلك كان الله دائما يسامح. بل في العهد الجديد هو قام بأكبر عمل مصالحة، لا عن طريق الأنبياء، بل على يد ابنه، الذي جعله الوسيط الدّائم والمخلِّص الأبدي، لا لشعب خاص، بل لكل الشعوب وكل الأزمنة. "إذ ليس بأحدٍ غيرِه الخلاص، وليس إسمٌ آخر تحت السّماء، قد أُعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص" (أعمال 12:4).

 

إنجيل اليوم يضع صورة الموت الحقيقة أمام أعيننا، إذ الموت لا يعني كما يفتكر البشر، أي الفناء وإنّما الحياة الأبدية. نعم يوضح لنا سبب الموت: إن ساعة خلاصنا قد أتت، وهي الساعة، التي فيها يُمجَّد ابن الإنسان" (يو 23:12). هذه الساعة التي عناها يسوع في عرس قانا الجليل، وما كانت بعد قد أتت. فها هي الآن قد أتت. فنقدر أن نقول، إنَّ يسوع يقف  أمام مِرآة، ويشاهد فيها فيلم آلامه الثقيل، التي سيمرّ بها. من هنا اضطراب نفسه الدّاخلي. هو لا يرفض هذه الساعة، ولو أنه يقول: الآن نفسي مضطربة! يا أبتَ! نجّني من تلك السّاعة، لكنني ما أتيت إلاّ لتلك السّاعة! فيا أبتِ محِّد إسمك.

 

لقد وصف يوحنا بهذه العبارات المقتضبة،  سبب مجيء يسوع وماذا ينتظره بعد أيام. فهي لا تتكلم لا عن انتصار ولا عن فرح، بل للحظات نشعر بضعف الطبيعة البشريّة، أمام خطوة القرار النهائي. الأناجيل الثلاثة الأولى، بمحتواها، وصفت جوانب عديدة، لِما سيحدث ليسوع في هذه الساعة الشبه آخيرة في جبل الزيتون وعلى الجلجلة. بينما إنجيل يوحنا فيقول: يا أبتِ! مجّد إسمك!

 

وهذا يعني لنا، أنه ناوي أن يدخل في هذه الساعة، ويُتمِّم إرادة أبيه، أي أن يموت عن الشعب. هذه الساعة سينتج عنها خلاص البشر، هذا الخلاص الّذي بُهِتَت أمامه كل الوسائل الأخرى، من ذبح العجول والخرفان وتقادم الثيران وعُشْر الأملاك وصلوات الشكر وتقادم المحصولات. برجل واحد تمّ الخلاص: (ليس بدم تيوس وعجول، بل بدم يسوع، الذي دخل مرّةً واحدة إلى الأقداس، فوجد فداءً أبدياً (عبر. 12:9). نعم بموته ما عاد ينقصُ العالمَ شيء لكي يخلص. الخلاص بالمسيح، إذ استحقاق هذه الساعة لا ينضب. إنه بموته على الصليب قد ختم كل العهود، لا مع شعبه فقط، بل مع كلِّ الشّعوب. بعهد الصليب قضى على سلطة رئيس هذا العالم. هذه إذن كانت ساعة يسوع، التي بها مجّد محبّة أبيه وخلّص العالم.

 

بلا شك إن  فساد قلب الإنسان، هو كان السبب لهذه الساعة. وإذا كنا نعرف التوراة، فموت يسوع كفارة عن الخطايا، كانت أول وعد من الله تعالى "أضع عداوة بين نسلك (حواء) ونسلها(الحية). هو يسحق رأسك (تكو 15:3). إذن الكلمة الآخيرة هي ليست للشر أو لسلطته أو للموت، لكن للقيامة. فبموته وقيامته، جلب يسوع حياة جديدة في العالم: إن لم تَمُت حبّة الحنطة، التي تقع في الأرض، تبقى وحدها. وإذا ماتت، أخرجت ثمراً كثيرا" (يو. 24:12). نعم ساعة موت هي ساعة خلاصنا. وبها أصبحت ساعة الله ساعَتَنا. وهذه بشارة الأحد القادم، أحد الشعانين.

 

 

المسيحي وأعمال الرحمة السبعة

 

الرَّقْمُ سَبْعَةٌ هو رَقْمُ الكمالِ والإكتمال

وَهْوَ مَذْكورٌ في التّوراةِ يَميناً وشِمال

 

حتّى مِنها هذي المَقْولَةُ وَقَدْ تكونُ مُضحكة

فالصَّالِحُ يُخطِئُ سَبْعَةً يَومِيّاً رَغْمَ المعركة

 

المسيحيُّ ليسَ شَواذاً ولوْ كانَ بِالدَّينِ مُبدع

على تعليمِ ربِّهِ يَبني حياتَهُ وبوصاياهُ مقتنع

 

الدِّينُ ليسَ عِلْماً للعَقْلِ ونظرِيَّةً لا دَوْرَ فيه للبسيط

بَلْ هُوَ خِدْمَةٌ مَجَّانِيَّةٌ دائِمَةٌ تتوسَّعُ طولاً كالشريط

 

نُبَرْهِنُ أنَّ دَوْرَ الله كبيرٌ في حياتِنا وإنْ كانَتْ قصيرة

فالقِيامُ بِها ليسَ مُقْتَصَراً على عُمْرٍ أوِ اهتمامٌ بالكبيرة

 

فالله مَحبَّةٌ ويَقْبَلُ ما نقومُ بهِ مَحَبَّةً بِهِ حتَّى للأعداء

فالعدُوُّ أمامَهُ يَسْتَحِقُّ الرّحْمةَ وما يَنْقُصُهُ هو الفداء

 

إنْ بَنَيْنا حَياتَنا على الثِّقَةِ بالله فنحنُ لسنا خاسرين

بَلِ النَّجاحُ حَلِيفُنا إذا ما بَقينا على الدَّرْبِ سائرين

 

مُحْتوى الدِّينِ أَوْضَحَهُ يسوعُ للنّاسِ بخطابات

وعجائِبٍ وقِصَصٍ واقِعِيَّةٍ فَهِمَتْهُ كُلُّ الطبقات

 

في هذا التَّعليمِ بَرَزَتْ أعمالُ الرَّحْمَةِ وَهْيَ سبعة

أوّلُها إيواءُ الغَريبِ وكُسْوَةُ العُريانِ عندنا مُحبَّبة

 

وإطعامُ الجائِعِ وإسْقاءُ العَطْشانِ ماءً مِنَ النَّبعة

كما وزيارَةُ السَّجينِ هِيَ عندنا مَعْروفةٌ ومتَّبعة

 

دَفْنُ الأمواتِ عَمَلٌ مُمَيَّزٌ ومطلوبٌ حتّى للغريب

فَهْوَ عَمَلٌ كَريمٌ ومُقَدَّسٌ يَجْعَلُ مِنَ الغريبِ قريب

 

وتضميدُ جِراحِ المريضِ أليعازرِ حَتَّى مِنَ الغَنِي

أمّا هذا فتحاشاهُ فَماتَ أليعازرُ بَعْدَ قَصيرِ الزمنِ

 

هذي الأعمالُ تبدو بَسيطَةً والكُلُّ يُمارِسُها بحياته

لكنْ كَمْ مَنْ يَفْتَكِرُ إنْ قامَ بِها فعلى حِسابِ سعادته

 

أليعازرُ هَبَطَ في الجَنَّةِ المفقودَةِ واسْتَعادَ الكرامة

فَعادَ الفُقْرُ عليهِ غِنَى لهُ وما عادَ عَليهِ مِنْ ملامة

 

ماتَ الغَنِيُّ صاحبُ الأرجوانِ فاقْتادوهُ إلى الجحيم

وعندَ الاحتجاج أفْهَمَهُ إبراهيمُ أَنَّهُ ليسِ أَهْلاً للنعيم

 

فقالَ رُحْماكَ أَبَتي أرْسِلْ ملاكاً إلى إِخْوتي للإنذار

فَقِيلَ لهُ عِنْدَهُمْ مَنْ يُنْذِرُهُمْ وعليهِمْ هُمُ أَخْذُ القرار

 

لا قالَ لَوْ جاءَهُمْ رَسولٌ مِنْ هُنا وأَخْبَرَهُمْ بأحوالنا

لَارْتَدعوا وتابوا وعامَلوا أليعازرَ بِغَيْرِ ما حلا لنا

 

فالسُّؤالُ إِذَنْ مَنْ هُوَ المسيحيُّ في ذا العالَمِ الفاني

هُوَ ليس ذاكَ الّذيْ في الشَّرِّ بَلْ في الخيرِ متفاني

 

ولا ذاكَ الَّذي يَتَباهى بِأَنَّهُ اعْتَمَدَ على اسْمِ يسوع

وبَيْتُهُ مملوءٌ بالصُّوَرِ والرُّموزِ وإِضاءَةِ الشموع

 

بل ذاكَ الَّذي يَفْتَحُ بابَ قَلْبِهِ قَبْلَ بابِ بَيْتِهِ للمتألم

وذاكَ الّذي لإرادةِ الله وخِدْمَةِ النّاسِ هُوَ مستسلم

 

البابا فرنسيسُ أَوْجَدَ عِيدَ الرَّحْمَةِ لِيُذَكِّرَنا بِمَحبَّةِ الله

إذْ العملُ بِها رِبْحٌ للحياةِ الأبَدِيَّةِ بَلْ لِنَقُلْ سُلَّمُ النّجاه