موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٨ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٣

"إنحناء الوصيّة الكُبرى" بين كاتبي سفر الخروج والإنجيل الأوّل

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (خر 22: 20- 26؛ مت22: 34- 40)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (خر 22: 20- 26؛ مت22: 34- 40)

 

مُقدّمة

 

القراء الافاضل، في هذا المقال سنقرأ مقطع خاص من العهد الأوّل بسفر الخروج (22: 20-26) يأتي الصوت الألهي في حواره مع موسى مشيراً للوجه العلمي لتطبيق موضوع هام لكل عبري وهو الشريعة. أما بالعهد الثاني (مت 22: 34- 40) يستعيد محاوي يسوع مجادلاتهم إذّ يُسأل يسوع عن الوصية الأوّلى والكُبرى، وليس الثانية. ومع ذلك، يقدم يسوع تعليم خاص سواء للوصيّة الكُبرى الّتي هي بمثابة أوّل الوصايا، إلّا إنّه يفاجأنا بالجديد، ونسمع يسوع مُفسر الله والكاشف عن وجهه الإلهي بنور جديد من خلال تجسيد الوصايا الّتي تصلح لكل عصر ولكل إمرأة ورجل معًا. إخترنا عنوانًا لهذا المقال لنتعرف معًا على طريقة جديدة ينقلنا فيها يسوع من نظرية الشريعة الكُبرى الّتي تنحني وتجسد بشكل عملي في حياتنا اليّوميّة من خلال الإنتباه لوصيّة أخرى تعطي قيمة للعُظمى.

 

 

1. الوجه العمليّ الشريعة (خر 22: 20-26)

 

نعلم أن سفر الخروج هو سفر أساسي بكتب الشريعة، ويشير للموضوعات الجوهريّة الّتي تكتمل في رسالة يسوع بالعهد الثاني. يحتوي سفر الخروج على جزء خاص يطلق عليه "كتاب العهد" ويحتوي على ثلاث إصحاحات منه (21: 22 - 23: 33). لذا ينتمي المقطع الّذي نقرأه اليّوم بسفر الخروج 22: 20-26، إلى جزء له أهميّة خاصة في لّاهوت الكتب المقدسة من كتاب العهد بين الله والإنسان. ففي هذا المقطع نسمع الصوت الإلهي في حواره مع موسى بعد خروجهم من العبوديّة وتسليمه الكلمات العشر مشيراً لبعض من الفئات من البشر والّتي أمامها كقراء القرن الحادي والعشرون نتأمل كيف تنحني الشريعة الكُبرى في الكلمات الإلهيّة إذ يحدد الرّبّ بففي حواره مع موسى شكل للتعامل مع بعض الفئات الّتي تجعل الشريعة الكُبرى وهي حب الله يتفتفت ويتجزأ بشكل عملي مع شخصيات خاصة قائلاً: «النَّزيلُ فلا تَظلِمْه ولا تُضايِقْه [...] ولا تُسِئْ إِلى أَرمَلَةٍ ولا يَتيم [...] فإِنِّي أُصغي إِلى صُراخِه [...] لِفَقيرٍ عِندَكَ [...] إِذا إستَرهَنتَ رِداءَ قَريبِكَ، فعِندَ مَغيبِ الشَّمْسِ رُدَّه إِليه [...] فإِن هو صَرَخَ إِلَيَّ اَستَجَبتُ له لإِنِّي رَؤُوف» (22: 20- 26).

 

بنهاية هذا المقطع يشير كاتب سفر الخروج عن شخصية "القريب" أيّ "مَن هو في إحتياج". يحصر الكاتب كل أنواح المحتاجين الّذين عددهم قبلاً في هذا اللفظ "القريب". ويختتم الكاتب المقطع بالعهد الأوّل بتأكيد إله؛ وهو عند صراخ "القريب" مَن هو في إحتياج للرّبّ، لّا يوجد حلّ إلّا أن الرّبّ بجلالته، يتدخل وينحني بشرائعه الإلهيّة ويستجيب له كاشفًا أن مَن يحبه حقًا لابد وأن يجسد حبه للرّبّ في محبته للشخصيات الّتي في إحتياج. يكشف هذا النص عن وجه جديد لإله العهد الأوّل، الّذي يخرج من مجده وينصف الصارخ إليه وهنا تنحني الشريعة الإلهيّة لتنصف الصارخ للرّبّ.

 

 

2. يسوع مُفسر الله (مت 22: 34-40)

 

بناء على إصغاء الرّبّ للـ "القريب" وهو الضعيف، بحسب شرائع الفكر اليهوديّ الّذي ينتمي إليه يسوع كعبري، كاشفًا عن معنى جديد للفظ القريب بتفسير من يسوع بحسب إنجيل متّى بناء على إنحناء الشريعة الإلهيّة وإصغاء الرّبّ له. في مقطع العهد الثاني نجد تعبير يسوع المزدوج للفريسّين والصدوقيّين مُجيبًا على تساؤلهم: «أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ وكُلِّ نَفْسِكَ وكُلِّ ذِهِنكَ. تِلكَ هي الوَصِيَّةُ الكُبرى والأُولى. والثَّانِيَةُ مِثلُها: أَحبِبْ قريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ» (مت 22: 37-39). يكشف لفظ "أحبب" في الكتاب المقدس تطابق بين حالتين فقط، الأوّلى في إشارة إلى الله (راج تث 6: 5؛ 11: 1) والثانية في إشارة إلى القريب (راج لا 18: 19، 34). تكمن إجابة يسوع لعالم الشريعة تُخبرنا شيئين مهمين للغاية عن هويّة يسوع وعن تعليمه وهما ما سنتوسع في شرحهما لاحقًا.

 

تتعلق الحالة الأوّلى بحقيقة أنه لا توجد وصية أوّلى أو عُظمى فحسب، بل هناك وصية ثانية أيضًا. يُسأل يسوع فقط عن ماهيّة الوصية الكُبرى، ولا يُسأل إذا كان هناك ثاني! الحالة الثانية الّتي يرتكز فيها تعلّيم يسوع مؤكداً إنّه في الحياة لا توجد أشياء أوّلى وكبرى فقط، ولكن هناك أيضًا الأشياء تأتي في المرتبة الثانية ويمكننا قول إنها ثانويّة، وفي بعض الأحيان، الأشياء الثانويّة في وجهة نظرنا هي تلك الّتي تشهد على حقيقة الأشياء العظيمة.

 

قد يبدو لنا الأمر وكأنه صقل عديم الفائدة، لكنه ليس كذلك. في كثير من الأحيان، في حياتنا البشريّة، حتى أكثر الأشخاص العاديين، المختبئين وراء الأسئلة المبدئية، قادرين على ارتكاب أبشع الجرائم للدفاع عن مبدأ ما يهتمون به، فيكونوا على استعداد للتضحية بالآخرين أيضًا في سبيل إثبات مصداقيتهم. لكن في الواقع، ما هي إلّا أعذار، فالوصية الكُبرى "حب الله" تصبح ذريعة للدفاع عن المصالح الشخصية، وللتغلب عليها يتم دهس حقوق الآخرين وكرامتهم، وتجعل أيّ بشري يعتقد بأنّه رجل أو إمرأة يتسمّون بالإلتزام.

 

يكشف يسوع، وهو الإنسان الحقيقي، الّذي يعرف إنه لا يمكن للمؤمن أنّ يعيش فقط على التمسك بالوصية الكُبرى الـمُتثملة في "حب الله" فقط، ولكن لكي نحب الله حقًا، هناك ضرورة إلى أن تتفتفت هذه الوصية الكُبرى في وصية أخرى وما عليها إلّا أنّ تنحنى وتتفرغ من ذاتها لتصل إلى قمتها.

 

 

3. إنقاذ الوصية الكُبرى (مت 22: 39)

 

المعنى الّذي أشار إليه متّى على لسان يسوع في قوله: «أَحبِبْ قريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ» (مت 22: 39). هو ما يؤكده كاتب رسالة يوحنا الأوّلى: «إِذا قالَ أَحَد: "إِنِّي أُحِبُّ الله" وهو يُبغِضُ أَخاه كانَ كاذِبًا لأَنَّ الَّذي لا يُحِبُّ أَخاه وهو يَراه لا يَستَطيعُ أَن يُحِبَّ اللهَ وهو لا يَراه. إِلَيكُمُ الوَصِيَّةَ الَّتي أَخَذْناها عنه [يسوع]: مَن أَحَبَّ اللهَ فلْيُحِبَّ أَخاه أَيضًا» (1يو 4: 20- 21). بإدخال يسوع الوصية الثاني يُزودنا بإنقاذ الوصية الكُبرى والدفاع من معايشتها بشكل زائف. تُذكرنا تلك الوصيّة بأن الحياة الواقعيّة لا يمكن أنّ تتكون فقط من الأشياء الأخيرة، ولكن أيضًا من الأشياء قبل الأخيرة. نحن لا نعيش فقط على مبادئ عظيمة، ولكن أيضًا على مبادئ ثانوية، يوميّة، يتم فيها الوفاء بالمبادئ الأوّلى وجعلها ملموسة مع القريب.

 

 

4. إنحناء الشريعة الكُبرى (مت 22: 34-40)

 

الأمر الثاني المهم الذي يخبرنا به النص المتّاوي يتعلق بطريقة يسوع في قراءتنا للعهد الأوّل. يأتي يسوع بديانته العبريّة ليشير إلى الوصية الكبرى المرتبطة بالوصية الثانية لأنه يأخذ كلام الله بالشريعة (خر 22: 20-26) على محمل الجد. لا يقدم يسوع تفسيرات مجردة لنص سفر الخروج، ولا يستخدمه كذريعة ليقول ما يريد، لكنه يعرف كيف يقرأ بعناية ويعطي تفسير جديد للآيات المحفوظة فقط من قبل المعلّمين دون أن تتجسد في الواقع العلمي. يمكننا أن نقول أن يسوع قبل التحدي المتمثل في المرور بـ "تجسد" الكتاب المقدس الّذي يحتوي كلمة الله، بحيث يمكن أنّ يترك صدى في الحياة اليوميّة ويضيء حياتنا بشكل واقعي. فيصير حب المؤمن لله ليس بالكلام بل بالعلاقة مع القريب الّتي تعكس علاقته وحبه لله.

 

 

الخُلّاصة

 

كيف للوصية الكُبرى وهي "حبّ الله" أنّ تنحني في وصية أخرى صغيرة وقد تكون ثانويّة ولا قيمة لها وي "حبّ القريب"؟ كما تحررت الشريعة من الشكل النظري في يسوع الّذي جسّد قلب الشريعة بالعهد الأوّل من خلال حبه للبشرية كاشفًا عن حبه لله.  في مقطع سفر الخروج (22: 20- 26) توقفنا أمام الصوت الألهي الّذي يأمر بتجسد شريعة حبّ شعبه له في إستقبال النزيل والإهتمام بالأرملة واليتم،... حتى وصل للقريب. ففي هؤلا الشخصيات تتجلى محبة الإنسان لله. وعلى هذا المنوال سمعنا يسوع في تعليهم وهو يفسر هذا المقطع لنا كتلاميذه اليوم مُعلنًا بأنّ نصوص العهد الأوّل يجب أنّ نأخذها كمؤمنين على محمل الجد إذا أردنا أنّ نعيش علاقة حبّ لله فلابد أنّ نكشف عن حبنا هذا في حياتنا حقًا مع القريب.

 

نختتم مقالنا هذا بفكرتين يمكن أنّ نستلهمهما من نصيّ هذا الاسبوع، يقدم لنا يسوع من خلال تعلّمين ملموسيّن ليجعلنا حقًا تلاميذه. يعلمنا أولاً، في اللقاء به، في تأكيده بأنّ آخر الأشياء "حب الله" كُشفت في الوصايا قبل الأخيرة "حب القريب"، وأننا نستطيع أن نعيش الوصية الأوّلى والكُبرى، إذّ لمّ نتجاهل الثانية؛ يعلمنا يسوع أن كلمة الله يمكن أن ترد لنا في الكتب المقدسة متى عرفنا كيف نأخذ النص على محمل الجد ليتجسد في حياتنا. وأيضًا إذا عرفنا كيف نُدخل إلى تلك كلمتنا البشرية، وهي مجرد، كلمة قبل الأخيرة، كلمتنا يمكن أنّ يتردد صداها في نهاية المطاف لكلمة الله الأخيرة الّتي تسود بقوة في حياتنا فهي تنبع من الرّبّ وليس من إنسان. دُمتم في حبّ لله متجسداً في حبّ للقريب.