موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٩ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٢

إلهنا ليس إله أموات بل أحياء

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
إلهنا ليس إلهَ أموات بل أحياء

إلهنا ليس إلهَ أموات بل أحياء

 

الأحد الثاني والثلاثون (يو 20: 27-38)

 

عن خبرةٍ علميةٍ ثابتة، يحدث في العالم في بداية فصلَي الخريف والربيع، أكثر الأموات من كبار السن. والسبب؟ الدّورة الدمويّة عندهم لا تحتمل التغيّرات والتّقلبات الطقسيّة بسهولة، فيصيبهم ضيق النَّفَس ويقلّ إنتاج الأكسجين من المخ إلى شرايين التّنفّس، فيحصد الموت منهم ما يحصد.

 

قالوا: أوّل خطوة في الحياة هي أوّل خطوة إلى الموت. والموت هو دائما نشيط وشغّال، لذا نعته يسوع باللّص، الّذي يأتي في ساعة لا تعلموها، وعلينا أن نبقى صاحين. فكم نقرأ في إعلانات الموت: فلان وافته المنيّة فجأة.

 

إنَّ موضوع الموت هو للكثيرين موضوعٌ شائك، وكثيرون لا يُحبّونُ التّطرّق إليه أو الحديث عنه علانية، أو أن يعيشوه واقعيّا، لذا يُرسِل الكثيرون مَنْ هُم على فراش الموت من أهل وأقرباء إلى الأماكن المُخصّصة، كملاجئ العجزة أو المستشفيات، مستنكرين بذلك الواقع، أي أنّه لا مناص من الموت. وأمّا الإنسان فلا يريد أن يُعكِّر حياته بحضور الموت في وسط حياته. إذ ما يهمّه بالأكثر فهو الملاهي والأفراح وروح المغامرات، التي لها دعايات تُلهيه، فلا يبقى له الوقت للتفكير في الموت. وهذا ما تؤكِّده دراسة استقصائية، حول: هل يعتقد البشر بحياة بعد الموت، بعد هذه الحياة الفانية؟ فأثبتت الأجوبة أن الأغلبية لا تؤمن بأي حياة بعد الموت، وبأن الموت هو الفناء التام لكل حياة. أمّا المؤسف، أن هذه الأجوبة جاءت من بلاد أوروبيّة كثيرة، أكثر سكانها مؤمنين ومُعمّدين، لذا يقولون، يجب تذوّق أكثر ما يمكن من الأفراح في هذه الدنيا، إذ لا حياة بعدها. من هنا نُفسّر حفلات الدفن اليوم، فأكثرها تتم مجهولة، بحضور أقرب المقربين فقط، وفي أماكن غير معهودة، مثلا في حفرة تحت شجرة في غابة، بدون اسم المائت ولا لافتة للقبر، حتى الإشارة المعروفة، أي صليبا فوق رأس القبر فلا وجود له. او ما هو اليوم مُمارس كثيراّ، أي حرق الجثة ورشّ الرماد في البحر، بحجّة أنّه لا يوجد من سيعتني بقبر المتوفى. لكن بالتّالي، إنَّ السبب الأساسي بل الرئيسي هو عدم الإيمان بحياة ثانية بعد هذه الحياة. وهذا نفيٌ لقيامة الموتى، التي تتكلم عنها التوراة مرارا وتكرارا وبالأخص، يسوع نفسه. سيقوم أخوك! اليس هذا إثبات لا جدال فيه لوجود حياة غير هذه الحياة؟

 

في زمان يسوع كان هناك فريقان. الأوّل هم الصَّدّوُقيّون، وهم فلاسفة عصرهم ورابع فئة مؤمنة بعد الفريسيّين والأسينيين والغيورين في الديانة اليهوديّة، لكن الفرق أنّهم ما كانوا يعترفون إلا بالخمس كتب الأولى من التوراة، والتي لا تأكيد ولا ذكرى فيها لقيامة الأموات، ولذا كانوا أيضا يرفضون هذا الاعتقاد. والثاني هم الفرّيسيّون، أهل الكتاب، وكانوا يؤمنون بقيامة الموتى، لكنّهم كانوا في خلاف مع الصدّوقيين في هذا الموضوع.

 

نقارنهم اليوم بموقف الكنيسة والشيوعية والتي قالت: الفردوس هو فقط على هذه الأرض.  والكنيسة الكاثوليكية تؤكِّد الفردوس في الآخرة. فقط هكذا نفهمُ غايةَ بل سببَ سؤال الصدّوقيين ليسوع، هذا الرّابي الجديد، والّذي اعتبروه الحكم بين هاتين الفئتين. سؤالهم عن هذا الموضوع، كان بمثابة قصّة، أي قصة زواج سبع إخوان من امرأة واحدة بالتوالي وعدم إنجابها بنينا، فامرأة مَن ستكون، إن كان هناك من قيامة للموتى، كما يزعم الفرّيسيّون؟؟ فربّما أنّها حالة واقعية، إذ قانون ديانتهم، يفرض ولادة خلف للزّوج الأوّل من امرأة لم تُنجب منه ولدا، فعلى أخيه أن يتزوّجها وينجب له خلفا، إذ أول ولد منها هو وريث أبيه المتوفي. فهم بهذه الحالة الخياليّة، يريدون أن يستهزؤوا بالأحزاب الدّينيّة الأخرى التي تؤمن بقيامة الموتى. فمَن هو على حق؟ وإن كان من قيامة موتى بعد هذه الحياة، فسوف تحدث فوضى كبيرة، كما في هذه الحالة، هم كانوا في نزاع وجدال دائم بين بعضهم، حول هذا الموضوع، كما الكاثوليك والبروتستانت اليوم حول موضوع خلافة يسوع. لذا سألوا: زوجة مَن ستكون؟ الطرفان كانا تجادلا مع يسوع عن مواضيع مختلفة، فالجدال معه كان دائما يُعطي حلاّ ودرساً للجميع، حتّى لنا اليوم. إذ تعليمه ووعظاته هي آخر وحي من فوق، فهو إذن ثابت ولجميع العصور والأجيال. فماذا سيقول هذه المرّة؟

 

يسوع يسمع سؤال وقصَّة الصّدوقيين بكل هدوء، ثمّ صمتوا جميعا لسماع جوابه. هذا وكانوا متأكِّدين، أنّ جوابَه سيكون من صالحهم، إذ فلسفتهم تقول لهم: من مات فقد مات. فسينالون إذن تصفيق السامعين، فيعلو شأنُهم. أمّا يسوع فيدحض سؤالهم الغريب، ويبرهن لهم ولمن هم على رأيهم، أنّهم متمسِّكون بل مُعتمِدون على أساس مغلوط. هذا وقد قَلَبَ جدالهم رأساً على عقب، فبكلمات بسيطة واضحة، شرح لهم ولكثيرين غيرهم، أن الحياة بعد الموت هي ليست امتداداً للحياة الأرضية بشكل غير منظور، بل تبدأ حياةٌ جديدة. فالأفضل إذن تسميتُها بداية ميلاد حياةٍ جديدة، أو تجلّي، كما كان يتجلّى هو لتلاميذه بعد قيامته، يدخل والأبواب مغلقة إذ الحياة تتبدّل ولا تفنى. إذن الموت لا يعني الفناء، بل هو الاشتراك بحياة الله الخالق والعلاقة الحية معه ومع جميع الخلائق. إذن الحياة بعد الموت والقيامة هي حقائق، لكن لهذه الحقائق قوانين أخرى، إذ الموت والحياة هما من مُخصّصات الله، فهو الخالق، وهو إله الأحياء لا إله الأموات. كلّ إنسان هو خليقة الله، إذن كل إنسان هو مهم، فلا يقدر أن يهفي أيّا من خلائقه، بل سيقيمهم جميعا. والقيامة أيضا هي من مُخصّصاته. فلن يكون هناك من مُناوشات ولا من اختلاف آراء أو حسد، إذ الوجود مع الله يعني الاكتمال، فلا يعوزنا شيء، مثل لو رجعنا من جديد على الأرض. إني أجعل كلَّ شيْ جديداً. فلا حاجة بعد، لا لزواج ولا لتزويج، كما لا حاجة من أكل وشرب، كما يعتقد الصّدّوقيّون، بل الحياة بعد الموت لها صفاتها الرّاقية، كما وصفها بولس: ما ينتظرنا عند الله: لم تره عين ولا سمعت به أُذنٌ (1 كور 9:2). فبجوابه، هو لا يترك شكّاً في عدم قيامة الموتى، إذ نحن لا نتعامل مع إلهٍ لا يهتم بهذا العالم، كأنه ليس عالمَه وليس خالقَه، يل مع إله، يهمه دائماً وأبداُ خلاصنا، فنخن لسنا خلائق مائته بل أحياء سنقوم لحياة جديدة. "نحن أيضا سنقوم"، يقول بولس

 

فمن يُنكِر القيامة، يُنكِرُ في الوقت نفسه اهتمام الله بعالمه بل وعهدِه مع الآباء إبراهيم وإسحاق ويعقوب، الذي هو إله أحياءٍ لا أموات. كان اعتقاد اليهود أن الحياة والقيامة هي لشعبهم فقط وللمولودين من هذه الأسباط. أمّا يسوع فأصلح هذا التفكير النّاقص، وقال من آمن به وتاب عن ماضيه هو أيضا ابنٌ لإبراهيم وسيقوم وسيخلص.

 

إنَّ قيامته هو أكّدت لنا، أن قيامة الموتى أكيدة، وأنّنا نحن أيضا سنقوم، أنا القيامة والحياة. من آمن بي وإن مات فسيحيا. وكلُّ من آمن بي لن يموت إلى الأبد (يو 25:11). سؤال يسوع لمريم يتكرر علينا: إن أخوك سيقوم. هل تؤمنين بذلك؟ وهذه هي آخر جملة في قانون الإيمان: نؤمن بقيامة الموتى والحياة الأبدية. آمين