موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٢ مايو / أيار ٢٠٢١

إضاءة من وحي القيامة المجيدة

حنا ميخائيل سلامة

حنا ميخائيل سلامة

حنا ميخائيل سلامة :

 

قبل ما يربو على ألفي عام استقبلت جماهير القدس الشريف، بيت المقدس، «بيت السلام» السيد المسيح وارتفعت السواعد تلوِّح بسَعَف النخل رمزاً للنصر وبأغصان الزيتون رمزاً للسلام، وألقى الكثيرون منهم ثيابهم الخارجية على الطريق أمام موكبه ابتهاجاً برجاء الملكوت. وما أن رصد الكتبة والرؤساء والأحْبار ذلك الاحتفال العفوي حتى التهبت قلوبهم غيظاً فجعلوا يتساءلون: «مَن هو هذا الرجل"؟ متجاهلين صوت الماضي وما جاء في نبوءات العهد القديم الكثيرة عنه. ومع ازدحام الجماهير من حوله، تعالت صَرخاتهم: «هوَ ذا العَالَمُ قد ذهب وراءَهُ? ثم أخذوا يحُثونَ لإغلاق أفواه الجماهير إلا أن المسيح له المجد انتهرهم قائلاً «إن سكت هؤلاء فالحجارة ستصرخ». لكن الاستقبال والتهليل تلاهُما بعد أيام قليلة نُكرانٌ وتنكُّرٌ ما عرف التاريخ نظيراً لهما!

 

هنالك على صخور» الجُسْمانية» في بستان الزيتون كانت ليلة النزاع، وبفعل قوَّة الصلاة تساقط عَرَقه كقطراتِ دمٍ وانهمرت دموعه لأجل من جفت المحبة التي نادى بها من قلوبهم، ولكبريائهم وتنكُّرِهم للحق، الحّقّ الذي يُحرِّر ويرحم ويغفر. أما تلاميذه ومن شدة الإعياء والتأثر فقد سقطوا نياماً حتى أنهم لم يسمعوا صَوتَه يستحثهم «أما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة». غير أن تلميذاً واحداً اسمه » يهوذا» كان أتم خطة أن يدُلّ على معلمه وكان حماسه بالغاً باتفاقية الثلاثين من الفضة المشهورة ثمناً لخيانته، فإذا به يُطل من بعيد مع حملة المشاعل والسيوف لإتمام صفقة التسليم والتسلم!

 

وتتابعت الأحداث، حتى إذا لاح الفجر، اقتادوه إلى الوالي الروماني» بيلاطس» ليحكم عليه، فلم يجدَ فيه عِلةً وأعلن لثلاث مراتٍ براءَة مَن احضروه إليه. وكانت امرأته حَذرته قائلةً «إياك وذاك البار لأني تألمت اليوم كثيراً من أجله في الحُلم» لكنه لم يمتلك الشجاعة ليواجه فوضى الرافضين لتعاليم المسيح والمتعطشين لقتله لِقوله لهم: "لا تستطيعون ان تكونوا عبيداً لله والمال معاً، اكنزوا كنوزاً في السماء لا على الأرض، أحبوا أعداءَكم أحسِنوا إلى مبغضيكم"، "لا تخافوا الذين يقتلون الجسد ولا يستطيعون قتل النفس، بل خافوا الذي يق?ر أن يهلك النفس والجسد جميعاً في جهنم". ومع ازدياد صَخَبِهم قرر أن يستخدم حقه في إطلاق سراحه بمناسبة عيد فِصْحِهم.. غير أنهم هددوه إن فَعَلَ فـليس موالياً لقيصر روما، عندها أصدر حُكمه بعد أن غسل يديه قائلاً «أنا بريء من دم هذا الصدِّيق، ولا أرى فيه عِلة تستوجب الموت، هُوذا الرجل خذوه أنتم لإرادتكم".

 

"مَن أنت أيها الآتي من آدوم بثيابٍ قِرمزية من بصرة، ما باُل لباسك أحمر وثيابك قانية كدائس عنب المعصرة، عصيرهم على ثيابي لطخ ملبوسي كله"، هذا ما تنبأ به «أشعياء» من قبل وهذا ما كان في ذلك النهار، إذ ألبسوه ثوباً أرجوانياً وظفروا إكليلاً من شَوكٍ غرسوه على جبينه الطاهر، فانهمر الدم على وجهه وصار كما تنبأ «أشعياء": «لا صورة له ولا بهاء فتشتهيه العيون» لكن من وراء هذا كله تجلى بهاءٌ خفيٌ وَضَّاءٌ مُشِعٌ كان تحقق على «جبل طابور» في حادث التَجَلـِّي المشهود لأعْيُنِ التلاميذ ساعة تخاطب مع النَّبِيَّين موسى وإيلي? كما يقول النص المقدس.

 

سُمِّر المسيح بالجَسَد على خشبة بين الأرض والسماء فداءً لرسالة المحبة التي هي «أعظم الوصايا» وهي محور بُشرى الخلاص الذي تجسَّد لإعلانه وتفعيله، ثم رفع نظرَه إلى السماء قائلاً "اغفر لهم أبتاه لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون"، فذات يومٍ "سينظرون إلى الذي طعَنوا وينوحون".. وصرخَ "قد تـَم كلّ شيء" عندها اتشحت الشمس بظلمة كثيفة فأظلمت الأرض وتزلزلت الأرض وانشق حِجاب الهيكل الذي حَرَّم دُخول قُدُس أقداسِهم إلاَّ للكاهن والمُحْرَقات، فصار مُشرَّعاً للجميع فالعهد عهد محبة ورحمة تهيئة لعالم الملكوت السماوي كما علمَّ وأوصى.

 

وَحسبما قال لمراتٍ عدةٍ وقوله حقٌ فقد تحقَّق، إذ بعد ثلاثة أيام ومع بزوغ فَجر أحد القيامة نفض الحيُّ من بين الأموات الأكفان وزحزح الحجر عن القبر فاتحاً العهد الجديد الأبدي، وراداً حِرابَ قَتَلَة المحبة والحق والمغفرة إلى نحورهم نفسِها، فالظَّفَرُ للمحبة، والرحمة، والسلام، والمغفرة.

 

مع إطلالة عيد القيامة المجيدة نسأل المنتصر على شوكة الموت أن يمنح عالمنا السلام والاستقرار والازدهار، وأن تجِفّ بؤر التوتر والاقتتال وأسباب البغضاء، وأن يرفع الوباء الفتاك عن عالمنا كله. فيمَّحي الخوف والقلق من النفوس، ويتبدل حزن الثكالى ودموع اليتامى وأنين المرضى والمشردين لفرحٍ وترانيمَ، كفَرَح نَصْر القيامة وترانيمها مُحْيِيَة النفوس في صباحِها المجيد.

 

وكلُّ عام وهذا الحِمى الأمين وقيادتنا الهاشمية الحكيمة وسائر أجهزتنا الباسلة وعيونها الساهرة، وشعبنا الواعي المتضامن المتكافل بألف خير ومَنَعَةٍ وسلام.

 

(الرأي الأردنية)