موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ١٥ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٥

"إختراق قلب الله" بين كاتبي سفر الخروج والإنجيل الثالث

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (خر 17: 8- 13؛ لو 18: 1- 8)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (خر 17: 8- 13؛ لو 18: 1- 8)

 

الأحد التاسع والعشرون (ج)

 

مُقدّمة

 

يقدما لنا نصيّ العهديّن بالكتاب الـمقدس، شخصيتين: الأوّلى شخصيّة رجل قائد إختاره الله ليقود الشعب في تحريره من العبوديّة، وهو موسى بحسب سفر الخروج (17: 8-13). بالنسبة للشخصيّة الثانيّة هي أرملة فقيرة بل مظلومة يقدمها لنا كاتب الإنجيل الثالث (لو 18: 1-8) الّتي بلجاجتها وإلحاحها تدعونا لإختراق قلب قاضي مدينتها. كلا الشخصيتيّن بالرغم من إختلاف زمانهما ومكانهما وحتى جنسهما إلّا إنها نجحا بقدارة في إختراق قلب الله من خلال الـمُداومة على أمر بدأ فيه.

 

هذا هو سرّ الله إّذ يفاجأ هاتين الشخصيّتين بحضوره الحيّ والفعال في حياتهما كما سنرى، ونجد أنّ فعل ما وهو فعل موسى أو تكرار جملة ما، كما ستفعل الأرملة، بما سنناقشه لاحقًا، على أُذني الرّبّ. سواء الفعل أم الجملة  تركا أثر كبير ليس على أذنيّ الرّبّ فقط بل أيضًا في قلبه. وهذا ما نهدف إليه في مقالنا هذا، من خلال أفعالنا وأقوالنا تظهر جديّة علاقتنا بالله وتكشف عن حقيقة ما يحمله قلب الرّبّ، الّذي نعبده، تجاهنا. هل يترك الرّبّ قلبه يُخترق منا نحن البشريّين؟ لـماذا؟

 

 

1. عصا الله ويديّ موسى (خر 17: 8-13)

 

بعد طرح بني إسرائيل الكثير من تساؤلاته، في حقبة موسى، عن هويّة الرّبّ إلهه ومدى حضوره الغير الـمرئي بينهم بالـمقطع السابق للمقطع الّذي سنتناوله بالتفصيل قائلين: «هَلِ الرَّبُّ في وَسْطِنا أَم لا؟» (خر 17: 7). مما يشير إلى فقدان الشعب هويته الحقّيقية، فهو لازال، مع الأسف، بعد عبوره بيد الله القديرة، من العبوديّة إلى الحريّة، لازال لا يعرف إلهه! فقدان الهويّة تصيبنا جميعًا في فترات حياتنا إذ نشك في الرّبّ وفي حضوره بحياتنا. إذ لم نسمع صوت الله ورده على قائمة إحتياجاتنا الّتي قدمناها له، إما نتجاهله أو نشكك في حضوره. في هذا الوقت، يأتينا مع بني إسرائيل جواب الرّبّ، ليس بالكلام من خلال موسى، بل بالفعل. إذ يجدوا أنفسهم في وجه أعدائهم وهم العماليق في رفيديم. وأمام هذه الحرب الّتي لا مفر منها، فقد يخرج بني إسرائيل منتصراً أم مهزومًا أمام عدوه. وهنا يبدأ موسى بتنفيذ خطته بمعاونة يشوع وتحت قيادة الرّبّ. يأمر موسى يشوع تلميذه قائلاً: «اِختَرْ لَنا رِجالاً واخرُجْ لِمُحارَبةِ العَمالِقَة، وغَداً أَنا أَقِفُ على رأسِ التَّلِّ وعَصا اللهِ في يَدي» (خر 17: 9). وبالفعل قام يشوع بتنفيذ ما أمره به موسى.

 

إلّا أنّ الغريب في هذا الحدث وأثناء الحرب مع العمالقة يروي كاتب سفر الخروج بدور موسى الجوهري وهو قوة إتحاده بالله معلنًا بأنّه: «إذا رَفَعَ موسى يَدَه، يَغلِبُ بَنو إِسْرائيل، وإِذا حَطَّها، تَغلِبُ العَمالِقَةولَمَّا ثَقُلَت يَدا موسى، اخَذا حَجَراً وجَعلاه تَحتَه. فجَلَسَ علَيه وأَسنَدَ هارونُ وحُورُ يَدَيه، أَحَدُهما مِن هُنا والآخَرُ مِن هُناك. فكانَت يَداه ثابِتَتَينِ إِلى مَغيبِ الشَّمْس» (خر 17: 11-12). صلاة الشفاعة الّتي يرفع فيها موسى يديه الضارعتّين للرّبّ بقوة حضوؤه الغير الـمرئي من خلال عصاه، فهي جوهر إنتصار بني إسرائيل. يصارع موسى مع جسده بينما يصارع بني إسرائيل أعداته. صراع موسى برفع يديه ولا يغيب عليه بأنّ عصا الرّبّ هي السرّ الحقيقي الّذي يرمز لحضوره وسط شعبه ويحقق الإنتصار له. بهذا الإنتصار نجد إجابة على تساؤل الشعب بالـمقطع السابق بشكل فعليّ من جانب الرّبّ. وهنا يختتم هذا الـمقطع بتأكيد إنتصار الرّبّ بقول الكاتب: «فهَزَمَ يَشوعُ عَماليقَ وقَومَه بحَدِّ السَّيف» (خر 17: 13). هنا موسى لا يصلي بالكلمات، بل تتجلّى صلاته برفع يديّه متكلاً على عصا الله الّتي ضرب بها البحر الأحمر فانشق وتحرر بني إسرائيل من العبوديّة. هذه الثقة في حضور الرّبّ من خلال العصا الإلهيّة تشير إلى ثقة موسى الّتي تخترق قلب الله. ثقة قلب موسى، من خلال رفع يديّه واثقًا بأنّ الّذي قاده لتحرير لشعب سيقوده للإنتصار في أي حدث آخر. مدعوين أنّ نرفع صلاتنا ليس بالكلام بل بالجسد وبرفع قلوبنا وأيدينا وبالسجود على أمام الرّبّ إلهنا ليس ليستجيب لطلباتنا بل لنسجده ونسبحه حبًا وإكرامًا له.

 

 

2. الإستمرار في الصّلة (لو 18: 1-8)

 

في مسيرة يسوع نحو أورشليم، الّتي أشار إليها لوقا في 9: 51 حيث يتبعه بعض من التلاميذ ويلتقي ببعض الفريسيّين بل يتحاور معهم (راج لو 17: 20-37). يستمر يسوع في الإجابة على أسئلة الفريسيّين مما يفتح الإنجيلي نقطة لّاهوتيّة جوهريّة لإنجيله الإزائي وهي قيمة الصّلاة. يعود لفظ "الصّلاة" إلى جذرها وهو "الصّلة". أي العلاقة الّتي تربط طرفين ببعض. بالرغم من عدم التساوي بين الطرفيّن، الرّبّ من جانب والإنسان من الجانب الآخر. إلّا أنّ هناك علاقة بادر الله بها منذ خلقه للإنسان. وهذه الصّلة تتواصل من الله الآب الخالق لله الابن، الّذي يتواصل باخوته أثناء مسيرته الأرضيّة.

 

بحسب الإنجيلي بعد أنّ اعطى يسوع تعليمًا عن الـملكوت يقدم على لسانه مثلاً تعليميًا جديداً حيث: «سأَلَه الفِرِّيسِيُّونَ [...] وضرَبَ لَهم مثَلاً في وُجوبِ الـمُداوَمةِ على الصَّلاةِ مِن غَيرِ مَلَل» (لو 17: 20؛ 18: 1). هذا هو هدف يسوع قبل أنّ يكشف عن جوهر الـمثل التعليميّ الّذي يُبسط، من خلاله، سرّ إلهيّ يصعب فهمه عن الصّلة بالله. يتواصل مع إخوته الّذين لا يقبلوه بل يرفضوه. هذا الـمثل يحمل رموز كثيرة ولكن يرغب يسوع كما وضح الإنجيلي من مقدمته على دعوتنا للتدريب في التواصل مع الله دون ملل وبشكل مستمر. لدينا بهذا الـمثل قاض يتسم بالظلم، وهو إٍسم على غير مسمى، وأرملة يدور بينهم الحوار التالي (لو 18: 2-5):

 

الراويّ:  كانَ في إِحدى الـمُدُنِ قاضٍ لا يَخافُ اللهَ ولا يَهابُ النَّاس. وكانَ في تلك الـمدينَةِ أَرمَلَةٌ تَأتيهِ فتَقول:

 

الأرملة: "أَنصِفْني من خَصْمي"،

 

الراويّفأَبى علَيها ذلِكَ مُدَّةً طَويلة، ثُمَّ قالَ في نَفْسِه:

 

القاضي: "أَنا لا أَخافُ اللهَ ولا أَهابُ النَّاس،  ولكِنَّ هذِه الأَرمَلَةَ تُزعِجُني، فسَأُنصِفُها لِئَلاَّ تَظَلَّ تَأتي وتَصدَعَ رَأسي".

 

من هذا الحوار نجد صفات القاضي وهي الرفض وندرك كقراء إنّه قاضي فقط كوظيفة دون أنّ يراعي الله ولا يهابه في عمله ، تتكرر صفاته مرتين. ومع ذلك داومت هذه الأرملة تطرق بابه بالرغم من إنّه لم يستجب لها سريعًا. بالرغم ما توصي به الشريعة حول مراعاة الأرامل والأيتام بشكل خاص، إلّا إنّه لم يسمع سواء للشريعة القانونيّة ولا حتى للشريعة الدينيّة بالرغم من عمله الّذي يتسّم بالعدالة، فهو لا يعكس شيء من عمله كقاضي.

 

بالنسبة للأرملة الـمُزعجة، لم تكفّ عن التواصل والذهاب وتقديم طلبها إلى قاضي مدينتها صارخة: "أَنصِفْني من خَصْمي". طلبها هذا يتكرر بشكل مستمر على مسمع القاضي الّذي يسمع ولا يستجيب! كم من الـمرات دام هذا الحوار بين الأرملة والقاضي، عدة مرات. الأرملة لم تمل بالرغم من عدم الإستجابة والقاضي لم يصغي لطلبها.

 

في هذه الرموز الّتي يبالغ يسوع في تعليمه ليشجعنا على الـمُداومة في التواصل مع الرّبّ، فنحن لسنا بأرامل بل أبناء. حينما يبدو لنا بأنّه ظالم وبأنّه لا يسمع ولا يستجيب حتى إنّه لا يأتي لينصفنا من خصومنا سواء الروحييّن أم الجسديّين، وهذا فكر خاطيء من إلهنا الحقيقي. يطبق يسوع على الله صورة الـقاضي الظالم، لأنّه تشبيه قد نصف نحن الله به بزيفنا وبعدم علاقتنا الحقيقيّة به. فنحن نعاني من العلاقة الـمستمرة بالله. هذه الأرملة الّتي يحامي عنها كلّ مَن يعرفها، فبالأولى قاضي مدينتها! فلنتعلم من الأرملة الإستمرار ودون ملل، لهذا السبب إخترقت قلب القاضي بالرغم من ظُلمهلحبّ الله لنا يترك قلبه يُخترق بصلاتنا النابعة عن إيمان به وبقوته.

 

 

3. إختراق قلب الله (لو 18: 6-8)

 

بناء على إلحاح الأرملة ومداومتها في تقديم طلبها لقاضي مدينتها دون كلل أو ملل، يأتي جوهر تعليم يسوع بهذا الـمثل، حيث نخترق قلب الله بصلاتنا الـمستمرة، مُعلقًا: «اِسمَعوا ما قالَ القاضي الظَّالِم: "أَنا لا أَخافُ اللهَ ولا أَهابُ النَّاس،  ولكِنَّ هذِه الأَرمَلَةَ تُزعِجُني، فسَأُنصِفُها لِئَلاَّ تَظَلَّ تَأتي وتَصدَعَ رَأسي"» (لو 18: 6-7). القاضي الّذي لا يتسم برّوح العدالة، الآن في شكل مونولوج يكشف حقيقته، يستجيب لهذه الأرملة ليس لعدالته بل ليستريح من إلحاحها. كم من المرات نقدم للرّبّ صلاتنا ثم ننسى أو نتناسى بأننا أبناء علينا باستمرار العلاقة بالله لأنّه أبينا وليس مَن يستجيب فقط لقائمة طلباتنا. لنستمر، بتعبيرنا البشري، في إزعاج الله بصلاتنا فهو ينتظرنا وسيستجيب بالرغم من الصور الـمزيفة الّـتي نطبقها عليه! الصّلاة الحقّة هي الّتي تخترق قلب الله وتتطلب الصراع معه والإستمرار دون ملل من تقديم طلباتنا أمامه.

 

في هذا الـمقطع نجد نواعًا من الصراع بين الأرملة والقاضي الظّالم، الّذي يرفض منحها حقّها. هو ما يشبه صراعنا كمؤمنيّن مع الله في الصّلاة الّتي نرفعها إليه. يُقيم يسوع هذه المقارنة الـمُتناقضة ليُظهر أنّ تجاربنا في طلب العدالة من الشخصيات البشريّة لا علاقة لها بالصّلاة الّتي نُوجّهها إلى الله. نلجأ إلى الشخصيات البشريّة لفعل شيء لصالحنا، ولإصلاح حالات الظّلم الّتي نُعاني منها، وغالبًا ما نتصرف بدافع الـمصلحة الذاتيّة البحتّة. لكن الأمر ليس كذلك مع الله. فنحن كمؤمنيّن نتواصل بالله ليلًا نهارًا ليس لأنّه مُلزم بإصلاح وضعنا، بل لكي لا نيأس من إستجابته لنا خاصة في أوقات التجربة والشدةصّلتنا بالله الآب العادل هي جوهر صلاتنا الـمُلحّة والـمستمرة هي تلك العلاقة مع الرّبّ أبونا الّتي تُمكّننا من الصّمود أمام مِحن الحياة، مُنتظرين إنصاف الرّبّ لنا. علينا أنّ نقتنع بإنّ إصغاء الله، على عكس الإصغاء البشرييّن، فإصغائه ليس أنانيًا أبدًا، بل حرٌّ دائمًا. مدعويّن مع التلاميذ والفريسيّين أنّ نسمع جيداً لتأكيد يسوع من كشف هدفه التعلّيمي بهذا الـمثل: «أَفما يُنصِفُ اللهُ مُختاريهِ الَّذينَ يُنادونه نهاراً ولَيلاً وهو يَتَمهَّلُ في أَمرِهم؟  أَقولُ لَكم: إِنَّه يُسرِعُ إِلى إِنصافِهم. ولكِن، متى جاءَ ابنُ الإِنسان، أَفَتُراه يَجِدُ الإِيمانَ على الأَرض؟» (لو 18: 7-8). إيماننا بالرّبّ أبونا هو أساس علاقتنا به وهو جوهر الإستمرار بصِلتنا به. يختتم يسوع هذا التعلّيم بتساؤل منتظراً إجابة مِن كلّ منا فهل إيماننا بالرّبّ هو سبب تواصلنا به وصلاتنا الـمرفوعة الّتي تستمر، دون ملل، بالرغم من التجارب ليستسلم وتخترق صلاتنا قلبه الإلهيّ.

 

 

الخلّاصة

 

واجهنا، في قرائتنا لنص سفر الخروج بالعهد الأوّل (17: 8-13)، أزمة بني إسرائيل في رحلته عبر الصحراء بعد خروجه من مصر باتجاه جبل سيناء. احدى العقبات الّتي واجهته هي العماليق كعدو أوّل، الّذي يسعى لعرقلة مسيرة شعب الله نحو أرض الـموعد. هذه العقبة الحربية لم تُقهر بقوة إسرائيل، بل تمت بقوة العصا الإلهيّة. وناقشنا كيف أنّ صلاة موسى صارت علامة لإنتصار بني إسرائيل في مسيرته نحو الأرض، الّتي هي في الواقع، هبة من الله. خاض موسى صراعًا مُثابراً في صّلاته حتى إخترق قلب الله وتمّ إنتصار الشعب بقوة العصا الإلهيّة وبإستمراره في رفع يديه. تُصوّر هذه الصورة الأوّلى تجربة الصّلاة على أنّها تُمكّننا من تجاوز العقبات التي تعترض طريقنا في مسيرتنا نحو الـملكوت.

 

بالنص الثاني بحسب لوقا، رأينا كيف إخترقت رغبة الأرملة قلب القاضي الّذي بنهاية الأمر إستجاب لطلبها وأنصفها من خصمها. هذه الأرملة، تحمل صورة الـمؤمن الحقيقي الّذي لا يتوقف عن الصراخ وبدون ملل ترفع طلبها، لهذا يُستجاب لها بل تخترق قلب قاضي مدينتهاهكذا صلاتنا الـمُستمرة والنابعة عن إيمان بأنّها ستخترق قلب الله أبونا. مدعويّن للتحرر من الوهم وهو إعتقادنا بأنّنا نستطيع هزيمة خصومنا بحياتنا كأعداء ظالـميّن لحقوقنا. فتجربة الصّلاة تُخبرنا بأننا في الله نجد سندنا الحقيقيّ وقاضينا العادل. دُمتم في صلة وصلاة، تخترق قلب الله، أساسها الإيمان بالرّبّ أبونا.